التّفسير القرآني للقرآن - ج ٤

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٤

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٧

١
٢

____________________________________

الآيات (٨٢ ـ ٨٦)

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٨٦)

____________________________________

التفسير : الخطاب فى قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ) موجّه إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هو خطاب من بعده لكل من هو أهل لأن يخاطب ، من المؤمنين ، وغير المؤمنين.

فاليهود والنصارى ، هم فيمن دخل فى هذا الخطاب.

وفى قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هو كشف لهذا الموقف العدائى ، الذي يقفه اليهود من الدعوة الإسلامية وأهلها .. فهم .. كما يقول الله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...) ثم يأتى من بعدهم فى العداوة للمؤمنين ، الذين أشركوا ..

٣

وهذا وضع مقلوب بالنسبة لليهود ، إذ كانوا ـ وهم أهل كتاب ـ أولى الناس بأن يناصروا أهل الكتاب ويوادّوهم ، لا أن يكونوا فى الجبهة الأولى من الجبهات المعادية للمؤمنين ، إذ يتقدمون فى هذا الموقف اللئيم أهل الكفر والشرك ، فيكونون قادة الحملة الموجهة لحرب الله والمؤمنين بالله!

وفى قوله تعالى (لَتَجِدَنَّ) إشارة إلى أن هذا الحكم الذي فضح الله به اليهود ، ليس حكما معلّقا على أي شرط ، بحيث يقع إذا وقع هذا الشرط ، أو هو حكم خفىّ لا تظهر آثاره للعيان .. وإنما هو حكم مطلق ، واقع دائما ، ظاهر لا خفاء فيه ، ولهذا جاء التعبير عنه بلفظ «تجد» بمعنى ترى ، وتبصر ، وتتحقق ، ثم جاء هذا اللفظ مؤكدا بالقسم ، وبنون التوكيد «لتجدنّ» .. فهو أمر واقع ، مؤكد الوقوع ، لا احتمال فيه لشك أو ريب.

هذه هى وجهة اليهود فى الحياة ، وهذا هو حكم الله عليهم .. فماذا يرى الراءون منهم؟ وما مدى انطباق هذا الحكم عليهم؟

إن مسيرتهم فى الحياة تشهد شهادة ناطقة بأنهم حرب على الأديان وعلى المؤمنين .. بل هم حرب على الإنسانية كلّها ، قبل أن يكونوا حربا على الأديان التي يدين بها الناس.

ولكن لمّا كان الدّين هو ملاك أمر المجتمعات الإنسانية ، ومنطلق خياتها الرّوحية والاجتماعية ـ كان الميدان الذي يعمل فيه اليهود ، لإفساد المجتمعات ، وإصابتها فى مقاتلها ، هو ميدان الدين ، فإذا تحلّل الناس من الدّين ، وتقطعت بينهم وبينه الأسباب ، تحوّلوا إلى حيوانات ضارية ، يقتل بعضها بعضها ، بلا حساب من عقل أو ضمير ..

وهذا ما يفعله اليهود فى كل مجتمع يعيشون فيه ..

لقد دخلت الدعوة المسيحية أو ربّا ، فأحيت كثيرا من معالم الإنسانية التي

٤

كانت قد افتقدتها زمنا طويلا ، ولكن ما إن كادت هذه الصحوة الإنسانية تسفر عن وجهها ، حتى تصدّى لها اليهود ، فدخل كثير منهم فى المسيحية كذبا ، واجتهد كثير منهم فى الدعوة ، زورا وبهتانا ، حتى إذا بلغ مكانة بين المسيحيين ، لعب بالدين ، ومسخ تعاليمه ، وجاء إلى الناس بالمفتريات والأباطيل ، حتى كانت تلك الحروب التي اشتعلت فى أوربا بين العلم والدين ، وإذا العلم فى مواجهته للدّين يجد الطريق مهيأة له ، للنّيل منه ، بل والقضاء عليه ، فأجلاه عن موطنة من القلوب التي كانت تجد فيما احتفظت به من دين ، شيئا تمسك به ، وتحرص عليه!

ومن هنا كان هذا الإلحاد الذي طغى على المجتمع الغربي كله فى أوربا وأمريكا .. وإذا الحياة هناك حياة ماديّة طاغية ، تعصف بالناس عصفا ، وتسوقهم سوقا عنيفا إلى هذا الصراع المرير ، الذي أشعل نار الحرب ، فشملت العالم كلّه ، ودارت دورتها مرتين فى أقل من ربع قرن من مطلع هذا القرن الذي نعيش فيه ـ القرن العشرين الميلادى ـ دون أن يكون هناك وازع من الدّين يحمى الناس من هذا الضّياع المستولى عليهم ، ودون أن يكون لدعوة المسيح عليه‌السلام أي أثر فى إقامة الناس على الأمن والسلام اللذين جاء مبشرا بهما.

واليهود ، هم تجار هذه الحروب الدائرة فى كل صقع من هذا العالم ، يجنون منها مكاسبها ، ويجمعون من مخلّفات رمادها الشيء الكثير!

فهم ـ أولا ـ يشبعون نقمتهم من الإنسانية ، بهذه الأنهار المتدفقة من الدماء المراقة من الناس ، على اختلاف أجناسهم وأديانهم!

وهم ـ ثانيا ـ يقطعون علائق المودة والإخاء بين الناس ، بهذه الحروب التي لا تنقطع أبدا.

وهم ـ ثالثا ـ يشترون الذّمم والضمائر ، التي تروج سوقها أعظم رواج ،

٥

فى هذه الأجواء العاصفة ، التي تشتمل على الناس ، وتستولى على عقولهم وقلوبهم .. فلا ثمن لضمير ـ حيث لا ضمير ـ ولا حساب لشرف ، حيث الموت راصد يخطف النفوس!

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) .. ففتش وراء كلّ شر يهبّ على المجتمعات الإنسانية من أي أفق ، تجد أن مطلعه اليهود .. قديما وحديثا .. اليوم ، وما بعد اليوم ..

ونكاد نقف عند قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) .. أما (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فهم من صنع اليهود ، إذ هم الذين أفسدوا على كثير من المؤمنين دينهم ، وساقوهم إلى الشرك ، كما أنهم ـ وقد سبقوا إلى الإيمان بالله ، بما أرسل الله إليهم من رسل ، وما أنزل عليهم من كتب ـ لم يفتحوا للمشركين طريقا إلى الإيمان بالله ، ولم يدعوهم إليه ، بل ضنّوا بما فى أيديهم ، وحجبوه عن كل عين .. بل وأكثر من هذا ، فإنهم زيّنوا الشرك للمشركين ، ويسّروا لهم سبله ، بما أذاعوا فى المجتمعات الإنسانية من مفاسد وشرور.

وقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) هو وجه مشرق من وجوه الدّين وما يفعله فى المتدينين ، يقابل هذا الوجه الكريه الذي بدا من بعض أصحاب الدين ، وهم اليهود .. ففى دعوة المسيح التي يدين بها النصارى دعوة كريمة إلى التواضع ، والتسامح ، والإخاء .. مع الإنسانية كلها ، بل والتآلف مع الوجود كلّه ، ناطقه وصامته!

وإذا كانت المسيحية اليوم قد تغيّر وجهها عند المتدينين بها ، فذلك من جناية اليهود عليها ، وعلى المتدينين بها.

والنصرانىّ المتمسك بنصرانيته ، الموالي لعقيدته. هو إنسان وديع رقيق ، يتأسّى بالسيد المسيح فى وداعته ، ورقته ، ورحمته ، وإنسانيته.

٦

وأىّ نصرانى يستمع إلى قولة المسيح : «أحبّوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» ـ أي نصرانى يستمع إلى تلك القولة الكريمة ، ثم لا يمسّ قلبه شعاعة من نورها الألق ، أو قبسة من نفحاتها المباركة؟ ولكن اليهود أدخلوا على المسيحية ما غيّر وجهها ، وأفسد طبيعتها .. وحسبنا أن نذكر هنا «بولس الرسول» وما كان له ـ هو اليهودي ـ من شأن فى هذا المقام!

وقوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) إشارة إلى أن علماء النصارى ، وأصحاب الرياسة والتوجيه الديني فيهم ، هم جماعة يمثلون الوجه المشرق للمسيحية ، فى وداعتهم ، ولطفهم ، وحبهم للإنسانية .. على حين يقابل هذا : الربانيون والأحبار ، الذين هم قادة اليهود وأصحاب الرياسة الدينية عندهم ، والذين هم العقل المفكر واليد العاملة للمجتمع اليهودي ، وما يرمى به الناس من شر وبلاء بأيديهم! ..

فالقسيسون والرهبان .. رأس سليم ، معافى من الأمراض الخبيثة .. يقوم على جسد المسيحية ، ويعمل على حمايته من الآفات ، التي يرمى بها اليهود فى كيانه ..

والربانيون والأحبار .. رأس فاسد ، تدور فيه عواصف الشر والبغي .. يقوم على جسد اليهود ، فيغذى بذور الشر والبغي الكامنة فيه!

وشتان بين رأس ورأس ، وجسد وجسد!

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) إشارة أخرى إلى ما بين رؤساء المسيحيين ورؤساء اليهود ، وبين المسيحيين وبين اليهود ، من تفاوت بعيد!

فهؤلاء ـ أي النصارى ـ لا يستكبرون ، ولا يعزلون أنفسهم عن المجتمع الإنسانى ، ولا يرون ما يراه اليهود فى أنفسهم من أنهم شعب الله المختار ..

ولهذا اختلط المسيحيون بالعالم كله ، ودعوا الناس جميعا إلى ما معهم من دين الله ..

٧

أما اليهود ، فقد عزلهم الكبر والغرور عن أن يختلطوا بالناس ، وأن يدعوهم إلى دين الله الذي معهم ..

وقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) .. هو شاهد ثالث على الإنسانية المنطلقة التي تنشد الخير ، وتطلب الحق ، وأنها حين تستمع إلى كلمات الله ، تستمع إليها فى غير كبر أو استعلاء ، فإذا اهتدت إلى طريق الحق ، استقامت عليه ، ولزمته .. وإن لم تهتد ، توقفت وأمسكت فى رفق ولطف.

ولهذا دخل كثير من أتباع المسيح فى الإسلام عن اعتقاد صحيح ، وإيمان وثيق : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي اجعلنا من الذين شهدوا النبي واستمعوا إليه وآمنوا به.

وليس كذلك شأن اليهود ، قد أعماهم التعصب ، وأصمّهم الكبر ، عن أن يستمعوا لكلمة حق ، أو يستجيبوا لدعوة رسول ..!

وقوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) .. إنه لسان الحال ، لكل طالب حق ، حين تبدو له أماراته ، وتلوح لعينيه دلائله ، لا يتردد أبدا فى قبوله ، والأخذ به ، ليرشد وليكون فى عباد الله الصالحين ..

وقوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) .. هو الجواب المسعد لهذا التساؤل المتعاطف مع الحق ، المستجيب له ..

فقد تلقاهم الله ـ سبحانه ـ بهذا اللطف الكريم ، وملأ أيديهم من هذا

٨

الرزق الطيب .. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ..

وفى قوله تعالى : (بِما قالُوا) إشارة إلى أن قولهم هذا لم يكن مجرد قول ، وإنما هو ترجمة عن إيمان صادق ، خفق به القلب ، واهتزت له المشاعر ، وفاضت به العيون ، دمعا خاشعا .. لو ظفرت الأرض بقطرة منه لاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) يطلع على الناس فى الموقف بصورة ذات دلالتين : دلالة يرى منها أولئك الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، ما أعد لهم من نكال وعذاب ، جزاء كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ، ورسل الله ، وعداوتهم للمؤمنين بالله وبرسل الله .. والوجه البارز فى هذه الصورة هم اليهود ومن ورائهم كل كافر ، وكل مكذب .. والدلالة الأخرى يراها المؤمنون الذين أضافهم الله فى رحابه ، وأنزلهم منازل إكرامه ، وعافاهم من هذا البلاء ، الذي يتقلب فيه الكافرون المكذبون ـ فيضاعف بهذا نعيم المؤمنين ، وتردّد ألسنتهم قول الحق جل وعلا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ). (٣٥ : فاطر)

____________________________________

(الآيات : ٨٧ ـ ٨٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨)

____________________________________

٩

التفسير : هؤلاء المؤمنون الذين يستجيبون لله ولرسوله ، ويدخلون فى دين الله ، سيجدون دينا سمحا ، وشريعة رفيقة رحيمة ، تأسو جراح الإنسانية ، وتطبّ لأدوائها ، وتقوم على أمنها وسلامتها ..

فهذه طيبات الحياة مما أحلّ الله ، هى مباحة للمؤمنين ، ينالون منها ما تبلغه أيديهم ، وتشتهيه أنفسهم ، غير مضيّق عليهم فى شىء منها .. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (٣٢ : الأعراف).

والله سبحانه ينهى عباده أن يحرموا شيئا مما أحل الله لهم .. إذ أن ذلك ـ وإن كان منهم مبالغة فى تأديب النفس بالحرمان ـ هو اجتراء على الله ، وتبديل فى شرعه ، وخروج على أحكامه .. وللإنسان أن يقتصد فى الطيّب الحلال ، أو أن يؤدب نفسه بالحرمان من بعض الطيبات ، ولكن على اعتقاد أن ذلك الذي حرم نفسه منه ، هو حلال مباح .. فذلك مما لا بأس به ، فهو أشبه شىء بالإمساك عن الطعام والشراب ، بالصيام.

وكما نهى الله المؤمنين عن الجوز على أنفسهم بتحريم ما أحل الله لهم من طيبات ـ نهاهم عن متابعة أهواء النفس ، باستباحة ما حرم الله. فذلك عدوان على شريعة الله ، ونسخ لأحكامه.

والذي تغلبه نفسه ، فتحمله على ارتكاب مأثم من المآثم ، وهو على علم من أنّ ما يفعله هو منكر ، حرّمه الله على المؤمنين ، ورصد لمقترفه العقاب الأليم ـ هذا الإنسان هو خير من ذلك الذي يتأوّل فى شرع الله ، فيحل الحرام ، ويفتح له من التأويل بابا يدخله منه إلى ما أحل الله من طيبات.

إن الأول مؤمن عاص ، يعلم من أمر نفسه أنه منحرف عن الطريق القويم ، خارج على أوامر الله ونواهيه .. وهذا العلم من شأنه أن يزعج مرتكب المنكر ، وينخس ضميره ، فلا يستمرىء هذا المنكر ، ولا يستسيغه على إطلاقه .. وقد

١٠

يجىء اليوم الذي يرجع فيه إلى الله ، وينتهى عما نهى الله عنه ..

أما الآخر ـ وقد تأول للحرام ، وأدخله مداخل الحلال ـ فإنه لن يجد لهذا الحرام مرارة فى نفسه ، ولا وخزا فى ضميره .. ومن هنا فلن تكون له إلى الله رجعة عن هذا المنكر ، الذي خادع به نفسه ، وخدع به عقله ، وخالف ربه ، وأفسدو وجدانه ومشاعره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .. والمعتدون هم من يخرجون على شريعة الله ، بتحريم ما أحل الله من طيبات ، وإباحة ما حرم من خبائث ومنكرات.

وقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) هو دعوة إلى الإقبال على الحياة ، وترك الزهد فيها ، والعزوف عنها .. فما قام الإنسان خليفة لله على هذه الأرض ، إلا ليعمرها ، ويفتح مغالقها ، ويستخرج الطيب الكريم منها ، ثم يكون له من هذا الثمر الذي غرسه ما ينعم به ، من رزق الله الذي بثّه فى كل مكان فى هذه الدنيا .. فى أرضها وسمائها ، وبحرها وجوّها ..

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) هو الميزان الذي تنضبط عليه تصرفات المؤمنين ، فيما بين أيديهم من رزق ، وفيما حصّلوه من ثمرات سعيهم وجدّهم .. فما دام معهم هذا الميزان ـ وهو تقوى الله ـ وما دامت تصرفاتهم قائمة على هذا الميزان ، فإنه لا جناح عليهم فى أي شىء يعملونه أو يطعمونه.

وفى قوله تعالى : (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) هو تذكير للمؤمنين ، بالله الذي آمنوا به ، واتقوه ، وجعلوا تقواه وخشيته ملاك أمرهم فيما يأخذون أو يدعون من أمور ..

١١

فالتقوى إذا لم تسكن إلى قلب مؤمن بالله ، ذاكر له ، كانت عرضة لأن يهتز ميزانها إذا طلعت عليها أهواء النفس ، ونزغات الشيطان .. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣ : المائدة) فقد رفع الله عن المؤمنين الحرج فى كل ما يطعمون ، بعد أن شدّهم إليه بالتقوى ، ثم ربط التقوى بالإيمان ، والعمل الصالح ، والإحسان.

____________________________________

الآية (٨٩)

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

____________________________________

التفسير : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أن ما قبلها كان بيانا لحدود الله ، وأن فى هذه الحدود سعة تسمح للإنسان أن يتحرك فيها كيف شاء ، غير مضيّق عليه فى شىء ، مادام قائما على تقوى الله .. هنالك يجد المؤمن دينا سمحا ، وشريعة ميسّرة ، تفتح له أبواب العمل فى كل مجال ، وتملأ يديه من كل خير ..

وهنا فى هذه الآية باب من أبواب اليسر والسماحة فى دين الله ، الذي يؤمن به المؤمنون ..

١٢

فما أكثر ما يجرى ذكر الله على ألسنة المؤمنين ، وما أكثر ما يستحضرونه فى كل أمر يعرض لهم ، ثم ما أكثر ما يزكّون هذه الأمور بالقسم عليها باسم الله ، دون أن يكون ذلك بقصد الحلف لإجازتها ، وعقد اليمين بها ..

فهناك فرق بين القسم ، والحلف .. إذ القسم لتعظيم الشيء وتزكيته ، ورفع قدره ، وقد أقسم الله سبحانه ببعض مخلوقاته .. من شمس ، وقمر ، ونجم ، وليل ، وضحى.

أما الحلف فهو إقرار يشهد به الإنسان على نفسه ، أو غيره. وقد جعل الله كفيلا عليه ، بالحلف به .. ومن هنا كان لزاما عليه ـ ديانة ـ أن يحترم هذه الكفالة ، ويقوم على الوفاء بما التزم به ، وإلا أثم ، بجرأته على الله ، والاستخفاف بكفالته له ، والله تعالى يقول : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٩١ : النحل).

وكان من رحمة الله بعباده ، ورفقه بهم ، وإسباغ نعمه عليهم ، فى تعاملهم مع اسمه الكريم ـ ما حملته هذه الآية الكريمة من لطف ، ورحمة ، وحكمة :

فأولا : قد عفا الله سبحانه عن الأيمان التي لا يقصد بها الحلف ، والتي تجرى على الألسنة خارجة عن هذا القصد .. (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وتسمية هذه الأيمان لغوا ، لأنّها لا تحلّ حراما ، ولا تحرّم حلالا ، ولا تجلب خيرا ، ولا تدفع ضرّا ..

والأيمان جمع يمين ، وقد سمّى اليمين يمينا ، لأنه مشتق من اليمن والبركة ، إذ كان الذي يقسم به ـ عادة ـ اسم كريم عزيز ، عند من أقسم به ،

١٣

وهو عند المؤمنين اسم الله جلّ وعلا .. فما أكرم هذا الاسم الكريم ، وما أيمنه.

وثانيا : الأيمان التي يراد بها الحلف ، وينعقد بها أمر من الأمور ، بين الإنسان ونفسه ، أو بينه وبين غيره ـ هذه الأيمان كما قلنا ـ هى أيمان وثّقت عهدا ، وجعلت الله ـ سبحانه ـ شاهدا على هذا العهد وكفيلا له .. فإذا حنث الحالف بيمين الله هنا ، فإنه يكون قد اقترف ذنبا عظيما فى حق الله سبحانه وتعالى ، وفى حقّ الناس ، بما استباح من حقوقهم ، بنقض العهد معهم.

أما حقّ الله المتعلق بالحانث فى يمينه ، فقد جعل فيه للحانث ما يكفّر به ذنبه ، ويغسل به حوبته ، وهو أن يطعم عشرة مساكين ، من أوسط ما يطعم هو وأهله ، أي مما يغلب أن يكون طعامهم ، فى حياتهم ، فى غير أيام السّعة أو الضيق .. فإن لم يكن طعام ، فكسوة عشرة مساكين ، مقدرة هذه الكسوة بحال الحانث فى يمينه .. فإن لم يكن طعام أو كسوة ، فتحرير رقبة ، أي عتق رقبة من الرّق .. فإن كان الحانث معسرا ، لا يستطيع أن يطعم أو يكسو أو يعتق ، فصيام ثلاثة أيام.

وقد اختلف فى تتابع هذه الأيام ، وفى إفرادها ، فرأى بعضهم الأخذ بما أطلقه القرآن ، حيث لم يقيد الصوم بالتتابع ، ولا حجة عنده فى قراءة من قرأ «ثلاثة أيام متتابعات» .. لأن الإطلاق هنا والتقييد فى قوله تعالى : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) يقوّى الأخذ بمنطوق الآية ، وعدم التعويل على هذه القراءة التي لم تتأكد بالتواتر .. على حين يرى البعض الأخذ بالقراءة «ثلاثة أيام متتابعات» حيث وجدت مثبتة فى مصحف السيدة عائشة رضى الله عنها ، فيوجب التتابع فى الصوم.

ويقوّى هذا الرأى عندنا : أن صيام ثلاثة الأيام هذه فى تتابعها ، هى التي تعدل إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، مع أن إطعام مسكين واحد ،

١٤

يجزى عن إفطار أي يوم من أيام رمضان لمن لا يقدر على الصوم ، كما يقول الله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فتتابع أيام الصوم هو الذي يجعل صيام الأيام الثلاثة على هذا الوجه ، موازنا لإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

والتكفير عن الحنث فى اليمين يجزى بأيّ من هذه الكفارات الثلاث : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة .. فمن كفّر بأى منها أجزأه ذلك ، دون نظر إلى ترتيب فيها ، حيث كان الحكم بالتخيير بينها بحرف العطف «أو» .. ولا يصار إلى الصيام إلا عند فقد القدرة على الوفاء بالإطعام ، أو الكسوة ، أو تحرير الرقبة.

وقد اختلف فى صفة الرقبة التي تحرّر هنا ، وهل يلزم أن تكون مؤمنة ، أم أن تحرير أي رقبة أعتقها الحانث يجزىء فى التكفير عن اليمين؟

يرى بعض الفقهاء أن يكون العتق لرقبة مؤمنة ، وكونها لم توصف هنا بأنها مؤمنة ، ولم يجعل الإيمان شرطا لعتقها ـ إحالة على ما وصفت به فى قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (٩٢ : النساء).

ونرى ـ كما يرى بعض الفقهاء ـ الوقوف عند منطوق الآية ، والأخذ بالحكم على إطلاقه ، دون قيد للرقبة بأنها مؤمنة أو غير مؤمنة.

ففى فكّ الرقبة وعتقها إحياء لنفس ميتة ، أيّا كانت تلك النفس ، مؤمنة أو كافرة .. وإحياء النفس ـ أي نفس ـ شىء عظيم ، لا يحتاج إلى وصف آخر يرفعه ويعلى من قدره ..

وكيف والله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)؟ (٣٢ : المائدة).

١٥

وأما قيد الرقبة بوصف الإيمان فى دية القتل الخطأ ، فهو لموافقة النفس المؤمنة التي قتلت خطأ .. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ..) (٩٢ : النساء) .. وذلك مما يوجبه القصاص .. النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسنّ بالسنّ .. وقياسا على هذا يكون من دبة المؤمن فى القتل الخطأ إحياء نفس مؤمنة .. أما هنا فهو إحياء لنفس أيّا كانت هذه النفس ، ففى إحيائها كفارة لأى ذنب وإن عظم ، إنه إحياء للإنسانية كلها .. ومع هذا ، فإن المسلم حين ينظر فى أي الرقاب يعتق ، فإنه يتجه أول ما يتجه إلى الرقبة المؤمنة ، امتثالا لقول الله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ولا شك أن الرقبة المؤمنة أحب إلى مالكها من الرقبة غير المؤمنة .. وقد روى مسلم أن أبا ذر رضى الله عنه ، سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الرقاب أفضل؟

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا» .. والرقبة المؤمنة أنفس عند المسلم وأكثر ثمنا.

وفى قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ) إشارة إلى اليمين بلفظ المفرد ، لأن هذه الكفارة هى كفّارة عن اليمين الواحد .. فإذا حنث الإنسان فى أكثر من يمين كان لكل يمين كفارته ، على هذا النحو .. وهذا هو السرّ فى إفراد الضمير .. وكان النظم يقضى بأن يجىء هكذا : «فكفارتها» إذ كان الحديث عن الأيمان ..

وقوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) إشارة إلى أن هذه الكفارة هى دواء الداء ، جلبه الإنسان إلى نفسه ، وكان أحرى به أن يتجنب هذا الداء ، وأن يظل سليما معافى .. إذ أن الوقاية دائما خير من العلاج .. أما إذا كان

١٦

الحلف على منكر ، فإن الحنث فيه واجب ، ولا كفارة فيه ، كمن حلف أن يشرب خمرا .. مثلا ، فعليه أن يحنث فى يمينه ، ولا كفّارة عليه.

أما من حلف على غير منكر ، ثم بان له أن الحنث فى اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره ، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه ، ولكن عليه كفارة الحنث .. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما ، ثم بدا له أن فى السفر خيرا يعود عليه منه ، وكمن حلف ألا يتعامل فى تجارة مع فلان .. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر ـ فالحنث هنا خير من البرّ باليمين ، وفى ذلك يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه».

أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين ، فلن تشفع لها هذه الكفارة ، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه. فذلك له حسابه عند الله ، وله العقاب الراصد له.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إشارة إلى ما تحمل آيات الله إلى عباده ، من رحمة ، ولطف ، إذ تقيلهم من عثراتهم ، وتقيمهم على طريقه القويم .. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر لله رب العالمين.

____________________________________

(الآيات : (٩٠ ـ ٩٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)

١٧

وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢)

____________________________________

التفسير : الخمر : ما خامر العقل ، وستره ، كما يستر الخمار وجه المرأة .. فكلّ ما ستر العقل ، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء ، ويتصور حقائقها ـ هو خمر ، سواء أكان شرابا أو طعاما ، وسنعرض لهذا ، بعد قليل.

والميسر : هو القمار ، والمخاطرة بالمال.

والأنصاب : هى حجارة كانت تنصب حول الأصنام ، لتذبح عليها الذبائح ، تقربا إليها.

والأزلام : جمع زلم ، وهى قداح الميسر ، يلعب بها على الذبائح ، مقامرة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو خطاب عام للمؤمنين ، واستدعاء لما فى قلوبهم من إيمان ، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها .. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات فى قلب مؤمن .. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم فى كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر ، ويدفع كل ضلال.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن ، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه .. وهى : الخمر ، والميسر ، والأنصاب ، والأزلام .. وقد وصفها الله سبحانه بصفتين : أنها رجس .. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها ، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه ، ويحذّرها منه ، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته ، وشاهت فطرته ..

والصفة الأخرى لهذه المنكرات : أنها من عمل الشيطان .. وإضافة

١٨

هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر .. فالرجس فى ذاته ، على أي وجه ظهر ، ومن أي أفق طلع ، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه ، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان ، ومن صنعة يده ، ومن الطعام الممدود على مائدته ، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا .. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجىء من قبل الشيطان ، وعلى يده .. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو «الرجس»؟

أرأيت إلى طعام طيب هنىء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟ .. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا ، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شىء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته.

فالرجس ـ وتلك صفته من السوء ـ فى غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه ، ويحال بين الناس وبينه.

والرجس الذي هو من عمل الشيطان ، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه ، إشارة أو عبارة .. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم ، وتنطمس معالم فطرتهم ، وتفسد طبيعتهم ، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة ، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا.

ولهذا كان من فضل الله على الناس ورحمته بهم ، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين ، ليصلحوا ما فسد منهم ، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت.

ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا (فَاجْتَنِبُوهُ) تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، ووصفها بأنها رجس ، وأنها من

١٩

عمل الشيطان .. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات ، هو فى الواقع توكيد لما تحمل فى أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان ، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات .. وضمير الغائب فى «فاجتنبوه» يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها فى كيانه.

أما الأنصاب ـ وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها ـ ، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب ، مما يثير غبار الشرك ، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة .. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة ، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها ، فيربح من يربح ، ويخسر من يخسر.

وفى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ترغيب فى الاستجابة لهذا الأمر ، الذي فى الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة ، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات ، والولاء لها.

وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس ، فى معارض مغوياته ، ومفسداته .. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر ، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر ، فلا يدارى قولة سوء ، ولا يمسك كلمة شر ، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس ، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا ، وهم ـ فى الواقع ـ مأكولون جميعا ، فيقع بينهم الشر ، وتشتعل نار العداوة والبغضاء .. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع ، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا ، لا يبيت على أمن ، ولا يستقرّ على حال ..

ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام ، مع ما تزرع

٢٠