التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

تلك هى ملاك دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ، وهم بشر مثل هؤلاء البشر .. ودعوتهم جميعا هى أنه لا إله إلا الله ، وأنه وحده المستحق لأن يفرد بالألوهية والعبادة .. فكانت دعوة كل رسول إلى قومه مفتتحة بهذا النداء : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ..

قوله تعالى :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً .. سُبْحانَهُ .. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

هو إشارة إلى أهل الكتاب ، الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى فى قوله : (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) فأهل الكتاب هؤلاء ، من اليهود والنصارى ، قد جاءهم رسولان ، كريمان ، بشران ، من عباد الله هما : موسى ، وعيسى ، عليهما‌السلام ، فدعواهم إلى الإيمان بالله وحده ، ولكنهم قلبوا وجه هذه الدعوة ، فجعل النصارى المسيح ابنا الله ، وجعل اليهود عزيرا ابن الله. كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وفى هذا يقول الله تعالى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون:) (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي أن المسيح وعزيرا والأحبار والرهبان ، هم من عباد الله ، أكرم بعضهم واصطفاه لرسالته ، كما أكرم واصطفى كثيرا من عباده ورسله بالنبوّة والرسالة ، وكما أكرم كثيرا منهم بالإيمان.

٢١

وقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) هو صفة لهؤلاء العباد المكرمين ، الذين اتخذهم الضالون آلهة من دون الله ، فهؤلاء الرسل ، هم على طاعة مطلقة لله .. لا يسبقونه بالقول ، فلا يقولون إلا ما يقال لهم من قبل الحق ، ولا يعملون عملا إلا ما يأذن الله لهم به .. فكيف يكون من هذا شأنه إلها مع الله؟ وهل يكون إلها من لا يملك من نفسه الكلمة ، ولا العمل؟

قوله تعالى :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

أي أن هؤلاء العباد المكرمين من رسل الله ، لا يعلمون إلّا ما علمهم الله ، ولا يملكون إلا ما يأذن الله لهم به .. وهو سبحانه يعلم من أمرهم ما لا يعلمون ، فيعلم (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما لم ينكشف لهم من مسيرة حياتهم بعد ، ويعلم (ما خَلْفَهُمْ) أي ما انكشف لهم من ماضى حياتهم قبل أن يتلبسوا به .. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي ولا يملكون الشفاعة لأحد ، إلا لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى لهم أن يشفعوا فيه ، تكريما لهم ، ومضاعفة لإحسانه إليهم. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي وهم ـ مع هذا الإيمان ، وهذا الولاء ـ على خشية وإشفاق من الله ، ومن بأس الله وعذابه ..

ـ وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ .. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ـ هو استبعاد لأن يكون من رسل الله قول كهذا القول الذي يقوله فيهم الضالون ، الذين اتخذوهم آلهة .. ولو فرض ـ وهو فرض محال ـ أن يقول أحد منهم إنى إله من دون الله ، فلا يعصمه قربه من الله ، وإكرامه إياه ، من أن يؤخذ بما يؤخذ به أي عبد من عباد الله ، يقول هذا

٢٢

القول .. فهو ظالم من الظالمين ، ولا مصير له غير مصيرهم ..

فإذا كان هذا هو شأن المقربين إلى الله ، فكيف يكون شأن غيرهم؟ إن ميزان العدل واحد للناس جميعا .. لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بالعمل الصالح ..

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) (٦ : ١١ : القارعة).

____________________________________

الآيات : (٣٠ ـ ٣٥)

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ..

مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه

٢٣

الضالين ، من الكافرين والمشركين ، وعرضت تصوراتهم المريضة ، لجلال الألوهية وكمالها ، حتى لقد بلغ بهم الإسفاف فى ضلال العقل ، وسخف النظر ، ما أوردهم هذا المورد الذي ينزلون فيه إلى هذا المنحدر من الضلال ، فيعبدون أحجارا ، وحيوانات ، وأناسىّ ، ويجعلونها آلهة ، تخلق ، وترزق ، وتحيى ، وتميت ..!

فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن الله ، الواحد ، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان ..

وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا ، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا ، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود ، وتفكير متصل فى أسراره وعجائبه ، فهم كما وصفهم الله سبحانه فى قوله :

(يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١ : آل عمران) ..

وفى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى ، وإلى ما أبدع وصور فى هذا الوجود ..

فالسموات والأرض ، كانتا شيئا واحدا ، وكتلة متضخمة من المادة .. (كانَتا رَتْقاً) أي منضما بعضهما إلى بعض ، فلا سماء ، ولا أرض .. بل كون لا معلم فيه .. ثم كان من قدرة الله ومن علمه ، وحكمته ، أن أقام من هذا الكون المتضخم ، هذا الوجود ، فى سمائه وأرضه ، وما فى سمائه من كواكب ونجوم ، وما على أرضه من إنسان ، وحيوان ، ونبات ، وجماد .. (كانَتا رَتْقاً

٢٤

فَفَتَقْناهُما) أي فصلنا بعضهما عن بعض .. فكانت السماء ، وكانت الأرض. ثم كانت من السموات ما فيهن من عوالم ، وكان من الأرض ما فيها من مخلوقات ..

كانت السموات والأرض كتلة ، أشبه بالنطفة التي يتخلّق منها الجنين .. فمن هذه النطفة كان هذا الإنسان ، بل هذا الكون الصغير ، وكان هذا الخلق السوىّ الذي هو عليه ..

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ـ إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة ، وهو الماء .. فهو أصل كل حىّ ، وبذرة كل حياة فى عالمنا هذا الذي نعيش فيه .. فالإنسان ، والحيوان ، والنبات ، قوامها جميعا الماء ، الذي به لبست ثوب الحياة ، ومنه تستمد بقاءها ، ووجودها .. فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات ..

وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث ، الذي أثبت أن نشأة الحياة على هذه الأرض قد ظهرت أول ما ظهرت على شواطئ الأنهار .. فكانت أول أمرها ظلالا باهتة للحياة ، وإشارة خافته إليها ، ثم أخذت تنمو شيئا فى بوتقة الزمن على مدى ملايين السنين ، حتى ملأت هذه الدنيا ، فى صور متعددة ، وأشكال مختلفة ، لا تكاد تقع تحت حصر.

ـ وفى قوله تعالى : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) نخسة لهؤلاء الضالين ، أن يتنبهوا ، وأن يوقظوا عقولهم ، ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود ، وما أبدع فيه الخالق وصوّر ..

فلو أنهم أداروا عقولهم على هذا الوجود ، بقلوب سليمة ، ومشاعر متفتحة لا نكشف لهم من أسراره ما يحدّثهم أبلغ الحديث عن قدرة الله ، وعلمه ، وحكمته ، المبثوثة فى كل ذرة من ذرات هذا العالم .. وإذن لآمنوا بالله ،

٢٥

وأخبتوا له ، ولا متلأت قلوبهم خشية ورهبة لسلطانه العظيم ، الآخذ بناصية كل شىء ، ولأفادوا من ذلك علما كثيرا يمكّن لهم فى الأرض ، ويسخر لهم من قواها مازال متأبيا عليهم ، بعيدا عن متناول أيديهم ..

فالإيمان لا يقع من القلب موقع الاستقرار والاطمئنان ، إلا إذا جاء عن علم بالله ، وبما لله من صفات الجلال والكمال ..

قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

هو إلفات إلى ما صنع الله سبحانه وتعالى بالأرض ، بعد أن فصلها عن مادة الوجود ، وصورها على تلك الصورة .. فقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها جبالا راسية ثابتة ، تشدّها ، وتمسك بها أن تميد وتضطرب ، وجعل فى هذه الجبال فجاجا ، أي فجوات ، وهى سبل يسلكها الناس فى انتقالهم من جهة إلى أخرى. ويجعلون منها معالم يتعرفون منها إلى الأماكن والجهات ، حتى لا يضلّوا فى أسفارهم ..

قوله تعالى :

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ).

وكما أوجد الله سبحانه الأرض على هذه الصورة ، وجعل فيها رواسى ، وفجاجا سبلا ، كذلك أقام السماء كما نرى ، سقفا محفوظا بيد القدرة ، فلا يقع علينا ..

وفى قوله تعالى : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) إشارة إلى ما فى السماء

٢٦

من آيات ناطقة بقدرة الله ، شاهدة على علمه وحكمته .. ببنائها القائم ، وبما تتزين به من كواكب ونجوم .. ولكن هؤلاء الضالين ، المشركين ، فى غفلة عن تلك الآيات الباهرة ، لا يلقون إليها نظرا ، ولا يديرون نحوها عقلا ..

وفى إضافة الآيات إلى السماء ، إشارة إلى عظمة هذا العالم العلوي ، وأن السماء كون عظيم ، وأن كل ما لاح فى هذا الكون ، هو آية من آيات هذا الكون العظيم ..

وفيما كشف العلم عنه من هذا العالم العلوىّ ، ما يبهر العقول ، ويعجز الخيال .. وهو إلى جانب ما لم ينكشف أشبه بذرة من عالم الرمال ، أو قطرة من عالم الماء فأين العقول التي تنظر؟ وأين البصائر التي تستبصر؟

قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله ، التي أشارت الآيات السابقة إلى بعض منها .. ومن مظاهر القدرة الإلهية خلق الليل والنهار ، والشمس والقمر ، وإجراء كل منها فى فلك خاص به ، ومدار لا يتعداه ..

وفى التعبير عن حركة الليل والنهار ، بالخلق ، إشارة إلى ما لهما من وجود ذاتىّ غير عارض ، وأن وجودهما مقصود لذاته ، حيث يأخذان من الوجود ويعطيان ، شأنهما فى هذا شأن الإنسان المكلّف ، المطلوب منه رسالة يؤديها فى الحياة .. وشأنهما كذلك شأن الشمس والقمر ، فهما أي الليل والنهار ، وإن كانا مظهرا من مظاهر حركة الأرض حول نفسها ، إلا أنهما صاحبا سلطان على كل ما يقع

٢٧

فى فلكهما ، كما للشمس سلطان على كل ما يقع فى فلكها ،. ولهذا جاء قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) مسندا فيه الفعل إلى هذه المخلوقات بضمير العاقل ، ليشير بذلك إلى أنها كائنات تسير على هدى ، فلا تزلّ ، ولا تنحرف ، حتى لكأنها موجهة بإرادة عقل رشيد حكيم .. فهى وإن بدت لنا أنها غير عاقلة ، فإن نظامها الذي تجرى عليه ليدلّ على أنها تتحرك بتوجيه قوة عاقلة حكيمة ، إن لم تكن فى ذاتها فهى قائمة عليها ..

أما حين لا تراد هذه المخلوقات لذاتها ، وإنما تراد آثارها ، أو بعض آثارها ، فإن التعبير القرآنى عن ذلك يجىء بلفظ «الجعل» لا «الخلق» .. مثل قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (٩٦ : الأنعام) وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (١٢ : الإسراء) ..

وفى ضمير الجمع العاقل فى (يَسْبَحُونَ) إشارة إلى أنه وإن كان لكل مخلوق من هذه المخلوقات فلك يسبح فيه ، فإنها جميعا ينتظمها فلك عام ، هو فلك الوجود كله ، الذي يحوى كل فلك!

قوله تعالى :

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ).

كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم ، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه ، وألوان الأذى ، النفسي والمادي ، فى نفسه ، وفى أصحابه ، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل .. فلما ضاقوا به ذرعا ، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى الله ـ كان ممّا يعزّون به أنفسهم ، ويمنّونها الأمانىّ فيه ، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره ، وقد ذهب أكثره ،

٢٨

ولم يبق إلا قليله ، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين ، وها هو ذا صلوات الله وسلامه عليه ، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين ، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض ، حتى يأتيه النون!

وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠ : الطور).

فجاء قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) مسفّها هذا المنطق السقيم ، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم .. فالموت حكم قائم على كل نفس .. فإذا مات النبىّ ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير ، وإنما الناس جميعا ، صائرون إلى هذا المصير .. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده ، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟ ولهذا ردّ الله عليهم بقوله : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) .. فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا ، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ .. (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠ : الزّمر) .. إن المعركة بين حق وباطل ، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان؟ إنه الباطل ، وإنه لمهزوم مخذول : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)

قوله تعالى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ؛ ويشهد له الواقع.

وفى قوله تعالى : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) إشارة إلى أن للموت طعما ، تجده النفوس حين تفارق الأجساد ..

وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس .. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده ،

٢٩

وتستسيغ طعمه ، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد ، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي ، حيث تروى ظمأها ، وتبرّد نار أشواقها ، وتنعم فى جنات النعيم التي وعد الله المتقين ..

أما النفس الضالة الآثمة ، فإنما يحضرها عند الموت ، حصاد ما عملت من آثام ، وما ارتكبت من منكرات ، وتشهد ما يلقاها من غضب الله وعذابه ، فتكره الموت ، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) (٩٣ : الأنعام) وقوله سبحانه : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥ : التوبة).

وفى قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا .. فذلك كله ابتلاء لهم ، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع ، ومع الخير من شكر أو كفر ..

فما تستقبله النفوس مما يكره ، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء الله ، والتسليم له .. وما تستقبله مما يحبّ ، هو امتحان لها كذلك ، على الشكر والحمد لما آتاها الله من فضله وإحسانه ..

فالنفوس المؤمنة ، لا تجزع من المكروه ، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب ، لأن كلّا من عند الله ، وما كان من عند الله فهو خير كله ، محبوب جميعه .. هكذا تجده النفوس المؤمنة بالله ، العارفة لجلاله ، وعظمته ، وحكمته ..

أما النفوس الضالة عن الله ، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ ، جزعت ، وزادت كفرا وضلالا ، وإن مسّها الخير ، نفرت نفار الحيوان الشرس ، واتخذت من نعمة الله سلاحا تحارب به الله ، وتضرب فى وجوه عباد الله ..

٣٠

وفى هذا يقول الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (١٩ ـ ٢٧ : المعارج).

ونحبّ أن نقف هنا وقفة ، مع قضية «الخير والشرّ» .. نعالج فيها ما يدور فى بعض الرءوس من تساؤلات عن «الشرّ» وعن الحكمة فى أن يقع فى هذه الحياة ، وعن ابتلاء الناس به ، وعن نسبته إلى الله .. إلى غير ذلك مما سنعرضه مفصلا فى المبحث التالي :

[الخير .. والشر]

التّلازم بين الخير والشر :

ينزع العقل دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له ، وتدور فى محيط تفكيره .. فلا يكاد أمر من الأمور يقع فى مجال النظر العقلي ، حتى يستثير له العقل من عالم الواقع ، أو عالم الخيال ، كائنا آخر ، يقف منه موقف التضادّ والعناد ، ليرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه .. فإذا ذاق المرء طمعا حلوا ، ذكر الطعم المرّ ، وإذا لمس اللّبن استشعر الخشن ، وإذا فكر فى الحق ، تذكّر الباطل .. وهكذا تعيش الأشياء ، من المعاني والمحسوسات ، فى عالم الحسّ والفكر ، مثنى .. مثنى .. الأمر وضدّه.

ومحال أن يعترف العقل فى عالم الواقع ، بالوجود الفردىّ لشىء من الأشياء ، أو معنى من المعاني .. حتى لكأن الأشياء والمعاني كائنات حيّة ، لا يضمن بقاءها ووجودها ، إلا هذه المزاوجة! التي تجمع بين الشيء ومقابله ، كما تجمع فى عالم الأحياء بين الذكر والأنثى ..!!

٣١

إن الحقيقة الفردية لا وجود لها فى منطق العقل ، فهو لا يعرف الشيء ، ولا يعترف به ، إلا إذا عرف المقابل له ، ولو كان هذا المقابل عدما وسلبا .. فهو إن عجز عن أن يجد فى عالم الواقع ما يقابل أو يضاد الشيء الذي بين يديه ، انتزع من صفات العدم والسلوب لهذا الشيء ، مشخّصات يقيم منها شخصية تقابله مقابلة التضاد والعناد .. فالوجود يقابله العدم ، والحياة يقابلها الموت .. وهكذا ..

يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم چيمس» : «إننا لا ندرك تمام الإدراك ؛ القضية الصادقة ، حتى نعلم مضمون ما يناقضها من قضايا كاذبة .. فالغلط ضرورى ليظهر الحقيقة على أحسن منوال ، كما أن ظلام الجانب الخلفى ـ فى آلة التصوير ـ ضرورى ليظهر صفاء الصورة ونضارتها».

ولعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ كلمته المأثورة : «من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه».

وعن طريق هذه الثنائية للأشياء ، استطاع العقل أن يبعث الحياة فى الكائنات الجامدة ، وأن يقيم من المعاني المجرّدة مشخصات ، حين يجمع بين المتضادات ، ويقابل بين المتناقضات ، فتتعاند ، وتتصادم ، ويتولد من تعاندها وتصادمها واحتكاكها ، شرارات المعرفة ، التي تكشف للعقل عن حقيقتين فى وقت معا ، عند معالجته لحقيقة واحدة .. هما : الشيء وضده ، أو الشيء ومقابله.

وعن هذه الثنائية ، نشأ هذا التلازم بين الخير والشر .. فإذا ذكر الخير ، ذكر معه الشرّ ، وظهرا معا فى مجال الفكر متقابلين ، تقابل الصورة وسالبها فى عمل للصورة «الفتوغرافية».

والسؤال هنا هو : هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع فى الحياة؟

٣٢

أم أنه مجرد عملية من عمليات العقل ، وطريقة من طرائقه فى فهم الأشياء ، وكشف الحقائق؟

وسؤال آخر .. هل هناك خير؟ وإذا كان .. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان .. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟

الخير والشر .. وواقع الحياة :

ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس ، كلمتا الخير والشر .. فما عرض لإنسان أمر ، أو وقع له شىء ، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر ، وإلّا أخذه بأحد الوصفين : الخير والشر .. إن هاتين الكلمتين ، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شىء يأخذه أو يدعه .. الخير فى كفة ، والشرّ فى الكفة الأخرى .. هكذا تجرى حياة الناس ، وهكذا تجىء تصرفاتهم وبقع سلوكهم ، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان ، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى .. فإذا تعادلتا ، توقف الإنسان ووقع فى حيرة بين ما يأخذ وما يدع!

إننا جميعا نقول بالخير والشر .. نعرفهما ، ونعمل ونتعامل فى حدودهما ، ونزن حظوظنا من كلّ شىء بهما ..

ومع هذا ، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما ، ولا يعترف بأن فى الحياة خيرا أو شرا ..

فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود ، إذعانا لهذا الرأى ، ونزولا على حكمه؟

ولكن .. مهلا ..

ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟

٣٣

إننا نتحدث منذ أخذنا فى هذا الحديث ، عن الخير والشر ، كأنهما حقيقتان واقعتان ، متفق على ماهيتهما ، متعارف على الحدود القائمة بينهما .. مع أن الواقع غير ذلك ..

فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم فى تحديد الصورة ، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا ..

ما هى الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت فى أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟

إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل ، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس ، وحسب ما يرون ، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون ، ولا فيما يحمدون أو يكرهون ، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.

ما الخير إذن؟

يكاد يكون الخير أمرا بدهيا ، لكثرة إلف الناس له ، وإحساسهم به .. فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود .. إنه مشاع فى الناس ، واقع فى إحساسهم .. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه .. فيبدو لبعض الناس فى صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب ، ولباس ، وغير هذا مما هو من حظ الجسد ، على حين يراه آخرون فى ألوان من الأدبيّات ، التي تعلو بالروح ، وتسمو بالوجدان .. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة ، درجات لا تكاد تحصى ، وتكاد تكون على تعداد الناس .. فردا فردا ..

ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس فى الخير ـ وهذا أمر طبيعى ـ لاختلاف رغباتهم ، وتنوع مطالبهم ، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير ،

٣٤

وإنما هذا الاختلاف فى ذاته ، دليل على وجوده!

ولعل أول إحساس بالخير ، جاء عن طريق إحساس مادىّ ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية ، التي تمسك عليه الحياة ، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى ، ويشبع جوعته ـ أيا كان هذا الشيء ـ هو خير وخير كثير ..

من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد ، معبودات للإنسان الأول ، حيث ظهرت له ، فى صورة نافعة أو ضارة ، وذلك ليرجو خيرها ، ويدفع شرها ..

ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة .. فعبد كل شىء ، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به ، فى مجال النفع والضر على السواء ..

ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة ، وتعرف على وجوه الأشياء ، وأخضعها لسلطانه ـ ترك عبادتها شيئا فشيئا ، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين : دائرة تسع كل ما هو خير ، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر ..

فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا ، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك ، تناظر قوة الخير ، وتقابلها ..

وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير ، والشر ، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة ، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا .. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر ، وأن الذي يصنع الخير ، لا يصنع الشر!

٣٥

فلسفة المثنوية :

وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد ، واجتمعت له فيه ، نفسه المشتتة ، وعاد إليه فكرة اللاهث ، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها ..

ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل ، وأن يطيل التأمل فى هذين الإلهين ، اللذين احتويا جميع الآلهة ، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود ..

ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق فى هذين الإلهين ، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي ، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال ..

ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة فى العقيدة «المثنوية» هو نظر حكماء الفرس ، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم ، ويتحكمان فى مصيره ، وهما : إله الخير ، وإله الشر .. وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن».

وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر فى هذين الإلهين ، وسلطان كل منهما فى هذا العالم ، وفى الصدام والصراع الذي لا بد أن يقع بينهما ، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.

فذهب فريق منهم إلى أن «يزدان» ـ وهو النور ـ أزلىُّ قديم ، وأما «أهرمن» ـ وهو الظلام ـ فحادث مخلوق ..

وفى زمن متأخر جاء «زرادشت» بمذهب يخالف هذا المذهب ، فقال : إن الله واحد قديم ، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ .. وهو الذي خلق النور والظلام ، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة .. ولكن الخير والشرّ ، والصلاح والفساد ، والطهارة والخبث ، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة ، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!

٣٦

وهما ـ أي النور والظلام ـ يتقاومان ، ويتغالبان ، إلى أن يغلب النور الظلام ، والخير الشرّ ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه ..

والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها فى التركيب .. ويرى «زرادشت» أن النور هو الأصل ، وأن وجوده وجود حقيقى ، وأمّا الظلمة فتبع له .. كالظل بالنسبة إلى الشخص .. ولما كان الباري يرى أنه موجود ، وليس بموجود ، فقد أبدع النور ، وحصل الظلام تبعا .. لأن من ضرورة الوجود التضادّ» (١).

ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة فى سفر التكوين .. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له!

كما يلاحظ أيضا أن قول «زرادشت» بأن الخير والشرّ ، والصلاح والفساد ، والطهارة والخبث ، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة ـ يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول ، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين .. فالخير ممتزج بالشر ، والشرّ معه الخير .. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ..

الخير والشر فى معابير الفلسفة الحديثة :

ولا بد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا ، وإلى نظرته إلى الخير والشر ، عند العلماء ، والفلاسفة ، ورجال الدّين والأخلاق ..

فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى ، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر فى منهجها.

كان ما وراء الطبيعة فى الفلسفة القديمة ، هو كل ما يشغل الفلاسفة ، ويسيطر على تفكيرهم .. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على

__________________

(١) انظر الملل والنحل للشهرستانى .. ج ٢ ص ٦٩ وما بعدها.

٣٧

التصورات والفروض .. وطبيعىّ ألا يكون للإنسان حظ بارز فى هذه الفلسفة.

وكانت دعوة «أرسطو» إلى النظر فى عالم الواقع والحسّ ، فى كلمته المشهورة : «اعرف نفسك» ـ كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها ، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة .. ولكن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر فى السماء ، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان .. من روح ، ونفس ، وعقل ، ولم توجّه النظر إلى المادة ، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها ، بل ويعيش منها وعليها ..

أما فى هذا العصر ، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى ، فقد فتن الناس بالواقع التجربي ، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها ، ميدان الصراع العقلي بين العلماء .. فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية ، وتغير منهج الفلسفة .. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء ، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض ـ أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض ، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء ..!

وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين .. إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم ، وكان الإنسان هو أعلى ، وأعظم ظاهرة فيها ..

ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين فى تكفير الإنسان ، وفى سلوكه ، فقد عنيت بهما الفلسفة ، فيما عنيت به من شأن الإنسان ، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد «القيمة» لكل من الخير والشرّ ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما ..

٣٨

وتصور .. كيف يكون الحال ، لو عرف الناس ميزانا دقيقا يزنون به تصرفاتهم ـ قبل أن تقع ـ وتتبيّنوا جانب الخير ، وجانب الشر منها؟ إن إنسانا لن يمدّ يده ، أو يسعى برجله ، إلى شر أبدا .. وكيف وقد استبان له وجه الخير والشرّ ، على الصورة التي يقعان بها؟.

وقد تقول : إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها ، ومع هذا ، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه ، ومع هذا فإنه واقع فى سلوك الناس .. قد تقول هذا!

ونحن نوافقك على هذا الاعتراض ، ولكن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب «بالحتمية» التي تجعل وقوعه أمرا لازما ، لا مفرّ منه ، عند الذين يتلبّسون به على الأقل .. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما فى وجه ما يبدو أنه شرّ محض!

وهذه «الاحتمالية» هى الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ ، فيما هو شر ، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان ، ويغربه بفعل ما هو شر ، وإن كان يراه رأى العين!!

ولا شك أن رغباتنا ، وعواطفنا ، تلعبان دورا هاما ، فى مجال العمليات الاحتمالية ، فتقوبها أو تضعفها ، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه ، وما عندنا من إرادة ، وعزم ، وثورة ، على ضبط هذه الرغبات ، وكبح جماح تلك العواطف!!

ومع هذا ، فإننا نقول : إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ فى هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها ، فيكون «للاحتمالية» ومكانها فى الخير أن يكون شرا ، وفى الشرّ أن يكون خيرا ـ وبذلك تقوم دواعى العمل ، ويكون للحياة

٣٩

دورانها ، وللناس سعيهم فى كل وجه ، فيعملون فيما يحسبون أنه خير ، وإن جاء بالشر!! (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

ولو استبان للناس وجه الخير صريحا ، لكان ركب الحياة كلّه متجها إلى هذا الوجه وحده ، ولكان الناس على طريق واحد!!

ولكن أي ركب هذا الذي يأخذ طريقا واحدا؟ إنه ركب جامد صامت لا حركة فيه .. إنه أشبه بالتيار الموجب فى القوة الكهربائية .. لا يعمل ، ولا يتحرك ، ولا تصدر عنه فاعلية فى إحداث حرارة أو ضوء ، إلا إذا اتصل بالتيار السالب ، وتفاعل معه!.

إن معالجتنا للأمور ، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها ، ونخرج من أيدينا ، ولو استدارت لنا عواقب الأمور ، فرأيناها قبل أن نعالجها ، لكان شأننا فى الحياة غير هذه الشأن ، فما أخطأ مخطئ ، ولا خسر خاسر ، ولا أصيب مصاب .. وهكذا ، مما يقع للناس ، مما يسوؤهم .. ولكان شاعرا كاين الرومىّ على غير ما كان عليه ، من الخوف ، والتردد ، والعجز ، عن لقاء الحياة .. ولما قال هذا القول ، مصورا به نفسه :

أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة

وأمسك أخرى رهبة للمعاطب

ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى

ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب!

* * *

ونعود فنقول إن الفلسفة الحديثة ، وإن بدأت بالنظر إلى الإنسان ، ممثلا فى المجتمع الإنسانى ، فإنها انتهت بالإنسانية ممثلة فى الإنسان .. بمعنى أن الإنسان من حيث هو كائن له ذاتيته ، وله مدركاته ، ومشاعره ـ هذا الإنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة .. وإذا كان لها نظر إلى

٤٠