التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

ومنها ما يفحّ فحيح الأفاعى .. فيتألف منها ومن كثير غيرها من كل صوت منكر ـ إعصار مجنون ، يكاد يخنق هذا الصوت الكريم ، ويغطى سماءه الصافية ، بما يثير من غبار ودخان!

فهذه هى أمنية الرسول أو النبىّ ، وتلك إلقاءات الشيطان فيها .. إذ ليست كلّ هذه الأصوات المنكرة إلا صنيعة الشيطان ، وإلا غرسا من غرسه النكد ، وثمرات من ثمر هذا الغرس الخبيث ..

ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ .. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ..)

وواضح مما رأيت ، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ ، كانت أبدا هى هداية قومه جميعا إلى الله ، وأن إلقاء الشيطان فى هذه الأمنية ، هو ما يوسوس به للسفهاء ، والحمقى ، والجهلاء من القوم ، ليقفوا فى وجه الدعوة التي يدعون إليها ، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم .. فالشيطان لا يظهر عيانا ، ولا يلقى الرسول أو النبىّ مواجهة ، وإنما يلقاهما فى أتباعه وأوليائه ، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان ، وأمسك بهم من مقاودهم ، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء الله ، ورسل الله ، وأولياء الله ..

ولكن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبىّ ، وما يلقى به الشيطان فيها؟

الشيطان كما أخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنه ، ليس له سلطان على الذين آمنوا ، كما يقول سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩ : النحل) فكيف بالرسل والأنبياء ، الذين عصمهم الله ، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه ، وتوفيقه ، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته ، ويحمى وجوده من أن

٢٢١

يكون مطيعة ذلولا له .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦ : النساء) إن هؤلاء الضالين الآثمين ، الذين يقفون فى وجه الحق ، هم صنائع الشيطان ، وهم كيده الذي يكيد به لأولياء الله ، وأنبياء الله ، ورسل الله .. وهذا «الكيد» الذي هو من أولياء الشيطان .. هو كيد ضعيف ، وسراب خادع ، لا يقف للحقّ ، ولا يحتمل صدمته! ..

وعلى هذا ، فإن ما يلقى به الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ ، من ضلالات وأباطيل ، وما يستنبت به فى منابت الحق من شوك وحسك ـ هو سحب صيف ، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس ، وإذا شعاعها يملأ الآفاق ، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام ، وإذا حرارتها تتمشّى فى أوصال الكائنات .. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ .. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٧ : الرعد)

وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان فى أمنيّة الرسول أو النبي .. هباء ، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه ، وهم صفوة المجتمع ، والثمرات الطيبة فيه ، على حين يستولى الشيطان على أتباعه ، ويسوقهم إلى حظيرته ، حيث هم حصب جهنم وحطبها!

واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول ، وبين الشيطان وأولياء الشيطان .. لقد أحكم الله سبحانه وتعالى آياته ، فنسخ أي أبطل .. ما ألقى الشيطان ، ثم أحكم سبحانه آياته ، وثبّت قواعدها ..

ولا يعترض على هذا القول ، بأن الرسول أو النبىّ كانت أمنيّته هى هداية

٢٢٢

قومه ، أو معظم قومه ، ولكن الذين خلص بهم من هذا المعترك ، هم قليل من كثير .. فكيف يقال مع هذا إن أمنيته تحققت ، وإن الله سبحانه وتعالى قد أحكم آياته ـ على هذا المفهوم الذي فهمت عليه الآية ـ ونسخ ما ألقى الشيطان؟.

والجواب على هذا ، قريب من قريب .. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا ، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد ..! كما ترى.

إن أمنية الرسول أو النبىّ. كانت فى أول الأمر هى هداية قومه ، فردا ، فردا .. وهو فى سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده ، ولا يضنّ بشىء من راحته .. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء ، من فحش القول ، وشنيع العمل .. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم ، وأن لا ثمرة تحصّل منهم ، مهما بذل من جهد ، أو ضوعف من عمل ـ إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبىّ ، وحجب ضوءها .. وعندئذ يتولى الله سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرّاء ، فيضربهم ضربة قاضية ، فإذا هم فى الهالكين .. وهكذا ينسخ الله كل ما ألقى الشيطان ويبطله ، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبىّ أو الرسول من هذا البلاء .. إن الرسول أو النبىّ فى تلك الحال ـ وإن كان وحده ـ هو آية الله ، أو آيات الله التي أحكمت ، فثبتت ، وبقيت .. أما ما ألقى الشيطان ، فقد نسخ وبطل ، وذهب هباء!

واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .. فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ .. ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ .. وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وأحسب ـ بعد هذا ، بل وقبل هذا ـ أن الآية الكريمة ، واضحة

٢٢٣

الدلالة بيّنة القصد ، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير ، وهمسات الإسرائيليات ، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار ، فيتلقاها عنهم المفسرون ، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!!

فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها ، وتحدّث بمفهومها ، ولكن الخيال الأسطورى ، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة .. كما سنعرضها عليك بعد قليل ..

وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول ، وعن النبىّ ، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة ، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم ، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبىّ بإعادة حرف النفي ، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبىّ ذاتيته .. فكأنّ نظم الآية يقول : «وما أرسلنا من قبلك من رسول ، وما أرسلنا من قبلك من نبىّ» .. وهذا يعنى أن الرسول غير النبىّ ..

والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء ، أن كلّا من الرسول والنبىّ يوحى إليهما من الله ولكن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من الله ، ويدعو إليها الناس .. بخلاف النبىّ الذي لا شريعة معه ، وإنما هو على شريعة رسول سبقه ، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول .. فكل رسول نبىّ .. وليس كل نبىّ رسولا ..

وعلى أىّ ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية .. أما النبىّ فلا كتاب ولا صحف معه ..

وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبىّ عن الرسول ، له دلالة كبيرة فى المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة ، وهو أن قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي

٢٢٤

الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة ، المنزلة وحيا من السماء ..

وذلك لأن النبىّ ـ مجرد النبىّ ـ لا يدخل فى هذا الحكم ، إذ لا كتاب معه ، ولا صحف ، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!!

وإذن ، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما ، هو أن معنى النسخ فى هذه الآية ، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات الله المتلوة ، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق ، الذي فسره عليه المفسرون ..

وهذه الحقيقة ، هى فى الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة ، والذي جاءت منه قصة ـ أو خرافة ـ «الغرانقة العلا» التي ستعرف نبأها عما قليل ..

وقبل أن نعرض لهذه الخرافة ، ننظر فى الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها ، منذ أخذنا فى هذا الحديث .. فهذه الآيات مكملة لها ، ومعقبة عليها ..

يقول الله تعالى بعد هذه الآية :

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ..

وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ ـ هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب ، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش. بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء ، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء ـ هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب ، وهم الذين فى قلوبهم مرض ، وعلى المشركين من

٢٢٥

العرب ، وهم القاسية قلوبهم ، إذ كانوا بعملهم هذا ـ من أهل كتاب ومشركين ـ دعوة إلى الضلال ، تواجه دعوة الهدى التي يدعو بها الرسول والنبىّ .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (٢٠ : الفرقان) ويقول سبحانه على لسان المؤمنين : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٥ : الممتحنة).

وفى قوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان فى طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبىّ ـ هم متلبسون بظلم عظيم ، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق ، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء ، فى إنكار البديهيات ، وفى عدم التسليم بها والانقياد لها :

ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ .. وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبىّ ، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان فى وجه هذا الحق ـ فى هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة ، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل ، فتزداد معرفتهم بالحق ، ويقوى تعلقهم به ، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له .. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل ، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون فى وجهه ، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق ، ويضاعف من جلاله وروائه .. كالشمس ، يحجبها السحاب ، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها ، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء .. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده .. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا ، والحلو يكون بعد مذاق

٢٢٦

المرّ أحلى مذاقا وألذّ طعما .. والعافية بعد السّقم ، تكون أهنأ وأطيب منها فى جسد لم تصادفه علة ، أو يلحّ عليه مرض .. وفى المثل : «بضدها تتميز الأشياء».

ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).

الضمير فى «منه» يعود إلى القرآن الكريم ، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق ، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ..

أما القاسية قلوبهم ـ وهم مشركو العرب ـ فستلين قلوبهم آخر الأمر ، وسيؤمنون بالله ، وينقادون للحق ..

وأما الذين فى قلوبهم مرض ـ وهم أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القرآن ، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه .. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة ، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب الله فى هذا اليوم العظيم ..

وفى وصف هذا اليوم بأنه عقيم ، إشارة إلى أنه لا يوم بعده ، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس ، ويصلح المفسد منهم ما أفسد .. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده ، كما تلد أيام الدنيا ، أياما بعدها ..

ثم يجىء قوله تعالى :

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ .. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) :

٢٢٧

أي فى هذا اليوم ، يكون الملك لله وحده ، لا يملك أحد لنفسه أو لأحد شيئا ..

وفى هذا الموقف يفصل الله بين عباده ، ويقضى بالحقّ بينهم .. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم ، ينعمون برضوان الله ، ويخلدون فى رحمته .. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، وجادلوا بالباطل فيها ، فأولئك لهم عذاب مهين ، يذلّهم ويخزيهم.

وفى تخصيص الملك لله فى هذا اليوم ، مع أن الملك لله أبدا ، فى هذا اليوم وفى كل يوم ، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه ، وكل ذى قوة من قوته ، وكل ذى مال من ماله ، فلا تصريف لأحد ، فى الظاهر أو الباطن ، كما للناس تصريف ـ فى الظاهر ـ فيما خوّلهم الله من سلطان ، وأموال .. فى هذه الدنيا

ثم يجىء قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ..)

هو إشارة إلى إحكام الله لآياته ، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها .. فهؤلاء الذين هاجروا فى سبيل الله ، فرارا بدينهم ، ثم قتلوا استشهادا فى سبيل الله ، أو ماتوا ميتة طبيعية ـ هم من الذين أحكم الله آياته فيهم ، فنجاهم من الافتتان فى دينهم ، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء فى أموالهم وأنفسهم ، أجرا عظيما ، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه ، وهو الحق الذي معهم ، والإيمان الذي عمر قلوبهم ، ثم النّصر على عدوّهم ، والتمكين لهم فى الأرض. ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم فى الآخرة .. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ومن عطائه الجزيل الجليل ، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون فى

٢٢٨

جنات الخلد ، لهم فيها ما تشتهى أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون .. نزلا من غفور رحيم .. وهذا هو المدخل الذي يدخلهم الله فيه ، ويملأ قلوبهم به غبطة ورضا .. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بمن هم أحق برضاه ومغفرته وإحسانه من عباده .. (حَلِيمٌ) لا يعجل مقوبته ، بل يمهل الظالمين ، حتّى يكون لهم نظر فى أمرهم ، ورجعة إلى ربّهم .. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢٦ : الزمر).

هذه الآية الكريمة : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ .. وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ، وما سبقها أو تلاها من آيات ـ هى التي نسحت جولها قصة «الغرانقة» التي آن أن نحدثك عنها

وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع ، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره ، بين النبىّ ، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض .. وهى فى صورتها تلك ليس فيها شىء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء الله ورسله ، مع أقوامهم ..

فمن أين إذن جاءت خرافة «الغرانيق العلى»؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن ..

كان موضوع الناسخ والمنسوخ فى القرآن ، من القضايا البارزة ، التي شغل بها علماء التفسير ، والفقه .. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص فى الجزء الأول من هذا التفسير .. وكان من رأينا ـ ومازلنا عليه ـ أن لا نسخ فى القرآن ..

وقد نظر المفسّرون فى قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ .. ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ

٢٢٩

آياتِهِ) ـ نظر المفسرون فى قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) فرأوا هذا الخبر بالنسخ ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية ، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه الله ، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم ، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها ، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة ، وبتحقق بها ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان .. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان ، ثم نسخه الله ..!

هناك إذن أمران ، كان على المفسّرين الكشف عنهما فى هذا الموقف :

ما هى أمنية النبي؟

ثم ماذا ألقى الشيطان فى أمنية النبىّ؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه الله؟

وقد كان!

فألقى المفسّرون بشباكهم فى هذا البحر المتلاطم ، الذي يفيض من يدى القصاص ، ورواة الأخبار .. فجاءت بأكثر من صيد.

فمن ذلك ما روى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ مرة سورة «النجم» والمشركون يستمعون إليه ، وحين بلغ إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أتبع ذلك بقوله : «تلك الغرانيق (١) العلا» وفى رواية : «إن شفاعتها لترتجى ، وإنها لمع الغرانيق العلا» وفى رواية ثالثة : «والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى» .. وفى رواية رابعة ؛ «إن شفاعتهن لترتجى» من غير ذكر الغرانقة العلا.

__________________

(١) الغرانيق : جمع غرنيق ، أو غرنوق (بضم الغين) أو غرانق (بضم الغين أيضا) وهو طائر مائى يشبه الكركي ، ويشبه به الشاب الأبيض الجميل كما يشبه به الملائكة.

٢٣٠

فهذه أربع روايات فى هذه الواقعة ، وكلّها ذات أسانيد متصلة ..

فالرواية الأولى تقول : إن النبي قرأ الآيات هكذا : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) .. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى»!

والرواية الثانية تقول : إن قراءة النبي كانت هكذا : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) * إن شفاعتها لترتجى ، وإنها لمع الغرانيق العلا»!

وفى الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى».

والرواية الرابعة كانت هكذا : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، إن شفاعتهن لترتجى».

أما القرآن الكريم ، فيقول : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (١) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

ومدلول هذه الروايات ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد ذكر فى تلاوته لسورة النجم ، آلهة قريش بخير ، وجعل لها عند الله مكانا عليّا ، حتى إنها لتشفع عنده ، لمن يلتمس الشفاعة عندها ، ويستحقها منها.

وتقول الرواية : إن النبىّ حين بلغ آخر السورة ، سجد ، وسجد معه المسلمون ، والمشركون ، عند ما سمعوه ، وقد أثنى على آلهتهم!!

__________________

(١) قسمة ضيزى : أي جائرة ظالمة ، إذ جعلوا لله الإناث ، ولهم الذكور .. والذكور فى عرفهم أكرم من الإناث.

٢٣١

وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخرى ، وكأنها تريد أن تفسر هذه الواقعة ، وتجد لها وجها تقبل عليه.

فتقول بعض الروايات : إن الشيطان ألقى على لسان النبىّ هذا القول ، الذي قاله فى حق الآلهة ـ اللات والعزى ومناة ـ وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد ، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم ، «فتمنى» فى تلك الحال أن لو نزل عليه شىء من القرآن يقارب بينه وبين قومه ، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم ، ولهذا فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين تلا سورة النجم ، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم ، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات ، التي ترفع من شأنها ، وتجعل لها مكان الشفاعة عند الله .. ثم تستطرد الرواية فتقول : «إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ جاء إلى النبىّ ، فلما عرض عليه النبىّ السورة بما أدخله الشيطان عليها ، قال له جبريل : «ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبىّ لذلك ، فنزل قوله تعالى ـ تسلية له ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ..) ثم قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٣ ـ ٧٥ : الإسراء).

ونقول : إن هذه الروايات ، وتلك النقول ، كانت موضع إنكار ، واستنكار عند بعض المفسّرين ، وأصحاب السير .. إذ كانت ـ فى صورتها تلك ـ عدوانا صارخا على مقام النبوّة ، ونسخا صريحا لعصمة النبىّ.!

وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة ، وفضح مستورها

٢٣٢

وعقد لذلك فصلا فى كتابه : «الشفا .. بتعريف حقوق المصطفى ..» نرى من الخير أن نعرض جانبا منه ..

يقول القاضي عياض :

«إن لنا فى الكلام على شكل هذا الحديث ـ يقصد حديث الغرانقة ـ مأخذين.

أحدهما : توهين أصله .. [أي فى سنده ومتنه] ..

والثاني على تسليمه .. [أي على فرض التسليم بصحته]

[المأخذ الأول]

(ا) توهين أصل الحديث :

يقول القاضي عياض :

«أما المأخذ الأول ، وهو توهين أصل الحديث ، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، وإنما أولع به وبمثله ، المفسّرون ، والمؤرخون ، والمولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف ، كلّ صحيح وسقيم .. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي ، حيث قال : «لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع ، وتعلق بذلك الملحدون ، مع ضعف نقلته ـ يقصد هذا الحديث ـ واضطراب رواياته وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته .. فقائل يقول إنه فى الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم فى الصلاة) .. وآخر يقول : قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة .. وآخر يقول : بل حدّث نفسه فسها .. وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، وأن النبىّ لما عرضها على جبريل قال له : ما هكذا أقرأتك .. وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله

٢٣٣

عليه وسلم ، قرأها ، فلما بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، قال : «والله ما هكذا نزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة ، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ، ولم يرفعها إلى صاحب (أي صحابىّ). وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ..

(ب) توهين معنى الحديث :

ثم يقول القاضي عياض : «هذا توهينه ـ أي الحديث ـ من جهة النقل .. «وأما من جهة المعنى ، فقد قامت الحجة ، وأجمعت الأمة على عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة ، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا ، من مدح آلهة غير الله ، وهو كفر ، أو من أن يتسوّر ـ أي يعلو ـ عليه الشيطان ، ويشبّه عليه القرآن ، حتى يجعل فيه ما ليس منه ، ويعتقد النبىّ أن من القرآن ما ليس منه ، حتى ينبهه جبريل عليه‌السلام ..

وذلك كله ممتنع فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. أو أن يقول ذلك فى نفسه من قبل نفسه .. عمدا ، وذلك كفر ، أو سهوا ، وهو معصوم من هذا كله .. وقد قررنا بالبراهين والإجماع ، عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه ، لا عمدا ولا سهوا .. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان ، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمدا ولا سهوا ، ما لم ينزل عليه .. وقد قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٤ ـ ٤٦ : الحاقة).

ثم يقول القاضي عياض ، فى عرض وجوه الرأى فى توهين معنى الحديث :

ووجه ثان :

وهو استحالة هذه القصة ، نظرا وعرفا ، وذلك أن هذا الكلام لو كان

٢٣٤

كما روى ، لكان بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم ، ولما كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا من بحضرته من المسلمين ، وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمّل ، فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع فى بيان البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟

ووجه ثالث :

أنه قد علم من عادة المنافقين ، ومعاندى المشركين ، وضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين ، نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة ، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام ـ لأدنى شبهة.

ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا ، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ، ولو كان ذلك ، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا ، مكابرة ـ فى قصة الإسراء ، حتى كان فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة .. ولا كذلك ما روى فى هذه القصة ـ قصة الغرانقة ـ ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت ، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!! .. فما روى عن معاند فيها كلمة ، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدلّ ـ ذلك ـ على بطلانها واجتثاث أصلها .. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين ، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.

ووجه رابع :

ذكره الرواة لهذه القضية ، أن فيها نزلت الآية : (وَإِنْ كادُوا

٢٣٥

لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٣ ـ ٧٤ : الإسراء) ـ وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى ، وأنه لو لا أن ثبّته الله ـ لكاد يركن إليهم.

«فمضمون هذا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفترى ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا؟ وهم ـ أي الرواة ـ يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء ، بمدح آلهتهم ، وأنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : افتريت على الله وقلت ما لم يقل ، وهذا ضدّ مفهوم الآية ، وهى تضعف الحديث ، لو صحّ ، ولا صحة له .. وهذا مثل قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) (١١٣ : النساء).

وقد روى عن ابن عباس : «كل ما فى القرآن «كاد» فهو لا يكون» قال الله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ولم يذهب ـ به ـ بصر أحد .. (أَكادُ أُخْفِيها) ولم يفعل!

قال القشيري القاضي : «ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ، ووعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، وما كاد ليفعل».

[المأخذ الثاني]

التسليم بصحة الحديث :

ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية ، من جانبها الآخر ، وهو فرض التسليم بصحة الحديث ، فيقول : «وأما المأخذ الثاني ، فهو مبنى على تسليم الحديث ، لو صحّ ، وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال ، فقد أجاب

٢٣٦

عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغثّ والسمين .. فمنها :

أولا : ما روى عن قتادة ومقاتل : «أن النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة ، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم» ..

وهذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبىّ مثله ، فى حالة من أحواله ، ولا يخلقه الله على لسانه ، ولا يستولى الشيطان عليه ، فى نوم ولا يقظة ، لعصمته فى هذا الباب ، من جميع العمد والسهو.

ثانيا : وفى قول : «أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه ..» وفى رواية «ابن شهاب» عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال : «وسها ـ أي النبي ـ فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان».

ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله : «كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبىّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا سهوا ولا قصدا ، ولا يتقوله الشيطان على لسانه .. ثالثا : وقيل : «لعلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ـ أي هذا القول ـ أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار ، كقول إبراهيم ـ عليه‌السلام : (هذا رَبِّي) على أحد التأويلات (١) (وأن النبىّ إذ قال ذلك قاله) بعد السّكت ، وبيان الفصل بين الكلامين ، ثم رجع إلى تلاوته ..»

يقول القاضي عياض : «وهذا ممكن ، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلوّ ، أي ليس من القرآن» .. اه.

* * *

__________________

(١) من التأويلات التي يذهب إليها المفسرون فى قول إبراهيم (هذا رَبِّي) عن الكوكب والقمر والشمس ، أنه قال ذلك على طريق الاستفهام المراد به السخرية والاستهزاء ، أي : «أهذا ربى»؟ استصغارا لشأنه.

٢٣٧

تلك هى القصة ، أو الأكذوبه ، كما جاءت فى كتب السير ، وعلى ألسنة القصاص ، ونقلها المفسّرون ، وتداولها اللاحق منهم عن السابق ، وذلك أسلوب من أساليب دفعها ، وتكذيبها.

والقصة أو الأكذوبة ـ كما ترى ـ مهلهلة النسج ، واهية البناء ، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها ، ويداروا هزالها ، فألقوا إليها كثيرا من الرقع ، حتى لكاد يختفى الأصل ، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها!

فالمادّة التي تخلّقت منها القصة ، مادة فاسدة ، لا يتخلّق منها شىء يصلح أن يعيش فى الحياة ، وأن يكتب له بقاء فى عالم الأحياء.

ونسأل : ما مضمون هذا الخبر فى قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ).

أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ فى حياته ، وإنما هى أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها ، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.

فكيف لا يلقى الشيطان فى أمنية النبىّ إلا فى هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى فى كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان ، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.

وأكثر من هذا ، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا ، يذهبون إلى أن التّمنى ، ليس معناه من الأمانىّ ، وإنما معناه القراءة ، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر ، وهو من قول حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنه.

تمنّى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

٢٣٨

وهو ـ لو عقلوا ـ حجة عليهم .. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبىّ قرآنا ، دخل عليه الشيطان ، وألقى فيما يقرأ بما يريد ، حتى يفسد مادة القرآن ، ويغيّر وجهها ، ويطفىء نورها ..

والذين يروون هذه القصة ، لم يجيئوا بحادثة أخرى ، كان للشيطان فيها إلقاء فى قراءة النبىّ ، على نحو ما رووه فى هذه القصة المفتراة!

ثم إن الذين قالوا : إن النبىّ سها فوقع هذا الخاطر فى قلبه ، أو جرى سرّا على لسانه ، ثم التقطه الشيطان فأذاعه .. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته ، بحكم النوم ـ هذا يعنى أن النبي ، صلوات الله وسلامه عليه ـ كان فى حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر ، ويراود نفسه بها ، وأن عقله اليقظ ـ كما يقول علماء النفس ـ كان يأبى عليه أن يصرّح به ، فلما نام أو سها ، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج ، فكانت حديثا مسموعا .. وهذا يعنى أيضا أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام ، وبأنها غرانقة علا ، وأن شفاعتها ترتجى ، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك ، وهو فى حال اليقظة ، فقد صرّح به سهوا ، أو حين أخذته سنة من النوم! .. وهذا يعنى ثالثا ، الكفر ، والنفاق معا ..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم ، تقع فى نفسه أية شبهة من الشبه تحوم فى سماء النبوّة الصافية ، المشرقة بنور ربّها.

وبعد هذا كله ، وقبل هذا كلّه ، فإن فيصل الحكم فى هذا الموقف هو كلمة واحدة : نبى ، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟

فإن كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه ، غير نبىّ ، وغير رسول ، فهذا موقف له حسابه وتقديره ، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير ..

٢٣٩

فكل ما ينسب إليه من أخطاء ، وما يرمى به من تهم ، ممكن الوقوع ، ويمكن التسليم به ، إذ هو ـ والحال كذلك ـ إنسان ، مجرد إنسان ، يجوز عليه ما يجوز على الناس ، من صدق وكذب ، ومن إيمان وكفر!

أما إن كان «محمد» ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نبيا ورسولا ، فإن الذي يعتقد فى نبوته ، ويؤمن برسالته ، ثم يلحق به ما يقع فى حياة الناس من أخطاء ، وعثرات ، وتخبطات ، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة ، فإن الرسول مبلّغ عن ربه ، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان ، فيما يتصل برسالة ربّه ، وما تحمل من شريعة وعقيدة ، إذ أن أي انحراف أو تحريف فى هذا ، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة ، مليئة بالعثرات والحفر ، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم ، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط ، وهذه المتناقضات ، التي تلتقى بالناس ، وهم سائرون فيه.

ذلك ما يجب أن يتأكد ، ويتقرر ، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء .. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة ، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.

وإذن فمن الضلالة والجهل ، أن يقول قائل : إن النبىّ ـ ويقولها هكذا النبىّ ـ حين قرأ سورة النجم ، نسى ، أو سها ، أو أخذته سنة ، أو غلبه خاطر قوىّ فى نفسه ، أو ألقى الشيطان إليه ، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه ، وأثنى عليها ، ورفع منزلتها ، وجعل لها عند الله شفاعة!

أهذا قول يقال ، ويلتقى أوله مع آخره؟

نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء .. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ ، فتغير من آيات الله ، وتبدل من شريعته ، وهو على لسانه ، بل وبلسانه؟

٢٤٠