التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٩

١
٢

____________________________________

الآيات : (٤٧ ـ ٥٤)

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).

٣

مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هى أن الآية السابقة قد توعدت المشركين بقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وهؤلاء المشركون لا يصدقون بيوم القيامة ، ولا يؤمنون بالبعث ، وكانوا يسألون النبيّ عن يوم البعث سؤال المنكر بقولهم : متى هو؟ .. فكانت هذه الآية جوابا عن سؤال يدور فى رءوسهم ، منكرا هذا اليوم .. وقد جاء الجواب على سبيل القصر ، وجعل علم السّاعة من أمر الله وحده ، لا يعلمها إلا هو ، كما يقول الله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي .. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) (٨٧ : الأعراف) ..

فقوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) حكم قاطع بأن علم الساعة ، وتحديد وقتها ، هو من أمر الله وحده ، لا يعلمها إلا هو ..

وقوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) هو توكيد لعلم الله الشامل الذي يقع فى محيطه كلّ شىء فى هذا الوجود ، لا علم الساعة وحده ..

فهذه الثمرات التي تخرجها الأرض ، هى فى علم الله .. ثمرة ثمرة ، بل قبل أن تكون ثمرة .. فهو سبحانه الذي أخرج نبتها من الأرض ، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر ، وهو سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر ، الثمر ، وأنضجه ..

والأكمام ؛ جمع كمّ ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح ..

هذا فى عالم النبات ، وكذلك الشأن فى عالم الحيوان والإنسان .. فما حملت أنثى حملا ، ولا وضعته ، إلا والله سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى ، وما تضع من حمل ، كما يقول سبحانه فى آية أخرى : (اللهُ

٤

يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ .. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨ : الرعد).

وعلم الله بما تحمل كل أنثى وما تضع من حمل ، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم ، ما يقع لحواسهم ، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان .. فعلم الله سبحانه علم قديم ، واقع قبل أن يقع الحمل وبعده ، وهو علم شامل لكل ذات حمل ، ووضع .. على خلاف علم العلماء ، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل ، ثم هو علم محدود ، لا يقع إلا على ما يكون تحت حواسهم ، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم ، مما فى عالم البحار ، والطير ، والوحش ، والهوامّ والحشرات .. وغيرها كثير كثير .. فالعلم الشامل الكامل ، هو علم الله وحده.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين الضالين : أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب ، ويقوم شركاؤهم الذين عبدوهم من دون الله ، فينطقون عنهم قائلين : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي تبرأنا إليك يا الله منهم ، من قبل أي فى الدنيا ، وليس الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا ، ويقف إلى جوارهم .. وهذا هو بعض السر فى التعبير بالفعل الماضي : (قالُوا) بدلا من يقولون ، الذي يعبّر به عما يتوقّع ..

يقال : آذنه بكذا .. أي أعلمه وأخبره.

قوله تعالى :

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).

أي وغاب عنهم ، أي عن هؤلاء العابدين الضالين ، ما كانوا يعبدون

٥

من دون الله ، حيث يتلفتون فلا يجدون لهم أثرا فى هذا اليوم الذي يرجونهم له .. وأيقنوا أن لا محيص لهم ، ولا نجاة من العذاب الواقع بهم ، وقد تخلى عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ..

والظّنّ هنا بمعنى العلم واليقين.

والمحيص : المفرّ ، والخلاص من هذا المأزق.

قوله تعالى :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ).

تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها ، النفس الإنسانية ، وتكشف عن داء الطمع والشّره ، وحب الاستكثار من المال والمتاع ، المتمكن منها ، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ القناعة ، أو الشبع .. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع ، ازدادت جوعا وطلبا ..

كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه

يصبح ظمآن وفى البحر فمه

 ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من طلب الخير لنفسه ، من مال ومتاع ، وولد ، وجاه وسلطان .. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس ، ويتنافسون فيه ..

وسميت هذه المطالب خيرا ، لأنها فى أصلها من نعم الله ، وهى فى ذاتها خير ، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة ، تكون فتنة وبلاء.

والمراد بدعاء الخير ، هو طلبه واستدعاؤه ، والسّعى الجادّ لتحصيله ، لأنّ هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان ، لأنها غائبة عنه ، فهو يستدعيها إليه ، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه ، وتدنو منه.

٦

ـ (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن ألمّ به الشرّ ـ مجرد إلمام ، مع هذه النعم الكثيرة التي بين يديه ـ جأر بالشكوى ، وعلا صياحه بالسخط والضيق ، وكاد يؤدّى به ذلك إلى إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة الله ، سيىء الظن بفضل الله وإحسانه ..

فهذا موقف من لا يؤمن بالله ، ولا يحسن الظن به ، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه .. إنه يقيس الأمور ويقدّرها ، حسب مجرياتها بالنسبة له ، وحسب الأسباب التي بين يديه منها ، غير ناظر إلى قدرة الله ، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته ..

أما للؤمن الذي يعمر الإيمان بالله قلبه ، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة ، يتقبّل فى رضى واستسلام ، كلّ ما يقع له من خير أو شر .. فهو مع الخير قانع ، راض ، شاكر ، ومع الضّر صابر ، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب ، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل ، فى رحمة من ربه تكشف هذا الضرّ الذي نزل به .. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧ : يوسف).

قوله تعالى :

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).

أي أن هذا الإنسان الذي مسه الضر ، فبات يائسا قانطا من رحمة الله ـ إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه ، وكشف عنه الضر الذي مسه ، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه ، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه ، بل يزيّن

٧

له ضلاله وغروره ، أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضرّ ـ هو من عمله ، وحسن تدبيره ، فيقول : (هذا لِي) أي هذا من كسبى ، وحسن تدبيرى ، فهو لى ، وليس لله فيه شىء ، فلا يكون منه حمد لله ، ولا ذكر لفضله وإحسانه .. ثم يمضى فى غروره وضلاله ، فيدخل على نفسه الشكّ فى أمر البعث والحساب والجزاء ، كى يطلق العنان لشهواته ونزواته ، غير عامل أي حساب ليوم الحساب : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً)!.

ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك فى يوم القيامة ، وغرسها فى مشاعره ، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة ، والأمانىّ الباطلة ، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها ، ثم أزهرت وأثمرت .. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)! هكذا ينتقل به الضلال ، من وهم إلى وهم ، ومن خداع إلى خداع ، حتى يرد موارد الهلاك!.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً)!.

إنه مجرد ظنّ! يحتمل أن تقوم الساعة ، أو لا تقوم!.

وماذا لو قامت الساعة!.

إنه لا خوف عليه منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند الله فى الآخرة ـ إن كانت هناك آخرة ـ مثل ما كان له فى الدنيا أو أكثر!! ..

وهكذا يزين الضلال لأهله!

وقد أبطل الله سبحانه هذه الأمانى الباطلة ، وردّها على أهلها حسرة وندامة ،

٨

فقال سبحانه : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) .. فهذا ما يلقاه الكافرون فى هذا اليوم .. إنهم سيلقون أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم ، وسيحاسبون عليها ، ثم يقضى عليهم بالعذاب الغليظ ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، خالدين فيه أبدا.

قوله تعالى :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).

وهذه صورة من صور الإنسان ، ومكره بنعم ربه .. وكفره بإحسانه إليه ..

فهذا الإنسان ـ وله فى الإنسانية أشباه كثيرون ـ إذا أنعم الله عليه نعمة منه ، شغل بالحياة مع هذه النعمة عن الله ، ونسى ما لله من حقوق عليه ، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا ، فاتخذ من هذه النعمة سلاحا يحارب به الله سبحانه ، ليفسد فى الأرض ، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل ..

فإذا مسّ هذا الإنسان ضرّ ، عاد إلى الله ، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما ، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق ، لئن أنجاه الله من هذا البلاء ، وكشف عنه هذا الضرّ ، ليكونن من المؤمنين الشاكرين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى الله ، والإنابة إليه .. إنه لا يذكر الله ولا يعرفه إلّا فى الشدّة .. أما فى الرخاء. فهو معرض عن الله ، أو محارب لله ..

قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ).

٩

هو رد على تلك الأمانى الباطلة ، التي يعيش فيها أهل الغواية والضلال ، ممن يقيمون أمرهم فى الإيمان باليوم الآخر ـ على حرف .. فيقولون إن كانت هناك آخرة ـ ولا نظن ـ فإن لنا عند الله هناك ما كان لنا فى الدنيا ، من مال وجاه وسلطان .. وإن لم تكن آخرة ـ وهو ما نظن ـ فقد أخذنا أمرنا على هذا ، فلا يضيرنا أنه لم يجىء هذا اليوم ، فليس لنا شىء فيه ، ولا متعلّق لنا به.

وهنا فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول الله ، ومن كتاب الله الذي بين يديه .. فهم فى شك من رسول الله ، وفى حيرة من أمرهم فيه ، بين التصديق والتكذيب ، أشبه بهذه الظنون التي تدور فى رءوس المشركين عن يوم البعث ، وقد جاءهم القرآن ، وهم على هذا الشعور ، يحاسبهم به ، ويسفّه منطقهم فيه.

فهم قد وقفوا من الرسول موقف الشك والارتياب ، بين التصديق والتكذيب ، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم الآخر .. فليكن هذا.!

ولكن لما ذا يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل ، يريد الهجوم عليهم ـ هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك ، فى هذا الخبر ، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط ، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو .. فإن كان هناك عدو ، كانوا قد أعدوا العدة للقائه ، فلم يبغتهم بخيله ورجله .. وإن لم يكن هناك عدوّ ، فلا خسران عليهم فيما فعلوا ..

وهنا ، إنسان يقول لهم : إنه رسول الله ، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم

١٠

يدعوهم فيه إلى الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، وينذرهم عذاب يوم عظيم ، هو يوم القيامة ..

وهذا الرسول ، إما أن يكون صادقا ، أو كاذبا.

فإن هم أقاموا أمرهم معه على أنه صادق ، وآمنوا بالله وباليوم الآخر ، وأعدّوا العدة للقاء هذا اليوم ، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا ، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم .. وإن كان كاذبا ، فما خسروا شيئا .. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه ، على لسان مؤمن آل فرعون : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (٢٨ : غافر).

وفى هذا المعنى يقول أبو العلاء المعرى.

قال المنجّم والطبيب كلاهما

لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صحّ قولى فالخسار عليكما

وقوله تعالى : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ).

الاسم الموصول (مِنْ) مفعول به لقوله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ) أي أعلمتم من أضل منكم ، إن كان هذا الرسول من عند الله ، ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى : (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) جملة اعتراضية شرطية ، وجواب الشرط محذوف ، دلّ عليه السياق.

وقد جىء بهم مع ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب فى قوله تعالى : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ليروا بأعينهم العبرة فى هذا الذي يعرض عليهم من أهل الشقاق ، وهو صورة منتزعة منهم .. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا فى وجه هذا الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه ، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم فى شخصه.

١١

ولو جاء النظم هكذا : قل أرأيتم من أضل منكم إن كان هذا الرسول من عند الله ، ثم كفرتم به ـ لنفروا نفار الحمر الوحشية ، ولما استقبلوا هذه الدعوة التي يدعون إليها ، إلا بالصد والإعراض ، أو بالسب والشمّ ، فيفوت بذلك الغرض المقصود من الإمساك بهم فى هذا الموقف ، لينظروا فى تلك المرآة ، التي يرون شخوصهم مائلة فيها!

قوله تعالى :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ..)

أي أن هؤلاء المشركين ، الذين شكّوا فى رسول الله ، وفى آيات الله التي بين يديه ـ سيريهم الله آياته فى الآفاق البعيدة عنهم ، وفى ذات أنفسهم ، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها ، أن هذا الرسول حق ، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ.

والآيات التي رآها المشركون فى الآفاق وفى أنفسهم كثيرة .. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة الإسلام فى المدينة ، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار .. ومنها ازدياد قوة الإسلام ، وشوكة المسلمين ، يوما بعد يوم .. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة ، وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب .. ومنها جلاء اليهود عن المدينة ، وإنزالهم من صياصيهم .. ومنها فتح خيبر .. ثم منها فتح مكة .. ففى هذه الآيات رأى كثير من المشركين أن هذا الدين هو دين الله ، وأن الرسول رسول الله ، وأن الكتاب كتاب الله ، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام ، ويدخلون فى دين الله أفواجا.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

١٢

هو دعوة للنبىّ الكريم أن يصبر على أذى قومه ، وعلى موقفهم المتعنت منه ؛ وحسبه فى هذا أن الله شهيد على ما يعملون ، وسيجزيهم عليه ..

قوله تعالى :

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).

بهذه الآية تختم السورة الكريمة ، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين ، ويفسد عليهم رأيهم فى رسول الله ، وفيما يدعوهم إليه ، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث ، واستبعادهم إعادة الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا ..

وفى قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) إخبار من الله سبحانه وتعالى بما فى نفوس هؤلاء المشركين من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا فى شك من لقاء ربّهم ، ومن محاسبتهم ومجازاتهم على ما يعملون فى دنياهم ..

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) .. تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم فى لقاء ربّهم يوم القيامة ، حيث يرون أعمالهم ، وقد أحصاها الله عليهم ، وحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة منها .. فالله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء علما.

١٣

٤٢ ـ سورة الشورى

نزولها : مكية .. بإجماع.

عدد آياتها : ثلاث وخمسون آية.

عدد كلماتها : ثمانمائة وست وستون كلمة ..

عدد حروفها : ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون حرفا.

مناسبتها لما قبلها

تكاد سور الحواميم تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها .. فهى جميعها مكية النزول ، وقد خلت من القصص ، ومن التشريع ، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم ، وتكذيبهم لرسول الله ، وشكّهم فى البعث ، وفى لقاء ربهم .. ولقد لقيهم القرآن الكريم فى هذه السّور بكل طريق ، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب ، فلم يدع خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها ، وأراهم باطلها وضلالها .. ثم نصب لهم معالم الهدى ، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه .. وإلا فالنار موعدهم ..

وهذه السورة ـ سورة الشورى ـ تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا ، فتعيد على أسماع المشركين عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم بالله ، وتكذيبهم لرسول الله ، وارتيابهم فى البعث ، والحساب والجزاء .. وفى هذا العرض المتجدّد ، يرى المشركون تلك القضايا ، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة ، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء معتقداتهم الفاسدة ، حتى لتكاد تسقط عليهم ، وتدفنهم تحت أنقاضها ..

١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

____________________________________

الآيات : (١ ـ ١٢)

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

____________________________________

١٥

التفسير :

قوله تعالى :

(حم عسق.)

هذه أحرف خمسة بدأت بها السورة الكريمة .. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة ، على حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل (ص) و (ق) و (ن) كما بدئت بعض السور بحرفين مثل : (طه) و (طس) و (يس) و (حم) وبعضها بثلاثة أحرف مثل : (الم) و (الر) و (طسم) وبعضها بأربعة أحرف مثل (المص) و (المر) ..

ومما يلفت النظر فى هذا ، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد ، مثل «ق» فعل أمر من «وقى» أو حرفين مثل «قل» فعل أمر من قال ، أو ثلاثة أحرف .. مثل «قرأ وسجد» أو أربعة أحرف مثل «بعثر» وزلزل أو خمسة أحرف مثل «تلعثم» ..

وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال ، أو أسماء ، ذات دلالات خاصة ، يعرفها النبىّ ؛ ويرى فى أضوائها ما لا يراه غيره ؛ وقد يشاركه فى هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين فى العلم منهم .. وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف ، التي تحويها هذه الأحرف فى كيانها .. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز من الأسرار والمعارف ، يأخذ منها النبىّ ما شاء ، على حين لا تأذن بشىء منها إلا لذوى البصائر من عباد الله الصالحين المقرّبين ، ثم تظل مغلقة على أسرارها ؛ دون من ليسوا من أهلها ..

وعلى هذا الفهم ، نستطيع أن نردّ الإشارة فى قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. إلى هذه الأحرف ، وأن

١٦

الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل فى كيانها دلالات يعرف النبىّ تأويلها ، بما آتاه الله من علم ، شأنه فى هذا شأن الأنبياء من قبله ، الذين أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف ، التي هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها ، ويشاركهم بنسب مختلفة فى المعرفة بعض أتباعهم وحواريهم ، من الراسخين فى العلم.

فالمراد ـ والله أعلم ـ بما يوحى به الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا ، هو بعض ما يوحى إليه ، لا كلّه ، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور ، لا كلّ ما أوحى به إليه.

وفى قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) .. إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات الله وسلامه عليه هذه الأحرف ، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه ، فيتلقّى منه ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته. وإنما كان كلاما من ربّه ، على تلك الصفة التي أشار إليها سبحانه فى قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) .. أي إلهاما منه سبحانه ، حيث يجد الرسول كلمات ربّه قائمة فى صدره ، مستولية على كيانه كلّه .. وهذا ما يشير إليه الرسول فى قوله : «إن روح القدس نفخ فى روعى» ..

ومن هنا كان لهذه الأحرف هذا المقام الكريم ، فى كتاب الله الكريم ، فكانت تلك الأحرف على رأس السّور التي نزلت معها ..

هذا ، وسنزيد الأمر بيانا فى آخر السورة ، عند تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).

١٧

قوله تعالى :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .. إشارة إلى ما لقدرة الله سبحانه وتعالى ، من سلطان قاهر ، يخضع له كل موجود فى هذا الوجود .. فهو ـ سبحانه ـ الخالق المالك المدبّر لكل ما فى السموات وما فى الأرض .. وهو (الْعَلِيُّ) الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان ..

العظيم الذي تذل لعظمته كل عظمة ، وكل عظيم ..

قوله تعالى :

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أي إنه لجلال الله سبحانه ولعظمته ورهبوته ، تكاد السماوات يتفطرن من (وْقِهِنَّ) أي يتشققن ويسقطن من علوّهن ، فيقع بعضهن على بعض.

فالضمير فى (فَوْقِهِنَّ) يعود إلى السموات .. أي أنها تكاد تسقط من عليائها ، هيبة وجلالا لله سبحانه .. وان الانفطار ، وهو التشقق ، هو من الخشية والجلال لهذا القرآن الموحى به إلى النبي ، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون ، أصحاب القلوب القاسية .. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات ، لا يقع ـ وحسب ـ من الجهة المواجهة للأرض ، لما نزل عليها من كلام الله ، بل يبلغ أقطارها العليا ، وينفذ إلى أعلى سماء فيها ..

وقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي أن الملائكة وهم من عالم السماء. ـ عالم النور والطهر ـ. يسبحون بحمد ربّهم ، ويتقربون إليه ، ويبتغون مرضاته ، بالعبادة والتسبيح : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) .. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).

١٨

وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) .. أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم لله ، استغفارهم لمن فى الأرض .. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب .. فهم النقطة السوداء فى هذا الوجود النورانى ، المشّع ولاء وخضوعا لله رب العالمين ..

والمراد بمن فى الأرض هم المؤمنون ، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٥ : الشورى) وكما يقول سبحانه : (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (٧ : غافر)

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .. أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم من المؤمنين ، فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم ، فهو سبحانه (الْغَفُورُ) أي كثير المغفرة (الرَّحِيمُ) ، أي واسع الرحمة ، تسع رحمته كل شىء.

قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..

هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ـ أي أنه سبحانه يغفر للذين تابوا وآمنوا ، وأما الذين أشركوا بالله ، واتخذوا من دونه أولياء ، ولم يدخلوا فى دين الله ، ولم يتوبوا إليه ـ فالله (حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي ممسك بهم ، قائم عليهم ، متول حسابهم وجزاءهم .. وليس النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه .. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٤٠ : الرعد).

١٩

قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ .. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

فى هذه الآية إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر ، غير الوحى الأول الذي جاء فى مطلع السورة فى قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وقد قلنا ـ حسب فهمنا ـ إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو وحي من الله بدون وساطة ملك ، وأنه المشار إليه فى قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) فهذا الوحى ، وحي من الله بدون وساطة .. وقلنا إن هذا الوحى من الله سبحانه ، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم .. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) .. وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه ، عدا تلك الحروف المقطعة .. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى ، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها .. ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن ، وهى التبليغ والإنذار : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أهل مكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي ومن حولها من أهل القرى والخيام ..

ووصف مكة بأنها أم القرى ، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين فى صلاتهم ، ومجتمعهم فى حجّهم ..

٢٠