التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء ، ويخلق منه ما يشاء .. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة ، التي يفيضها الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء فى الوجود كله ..

ـ وفى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ .. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ..) إشارة إلى تنوع صور المخلوقات ، وتعدد أشكالها ، وهى جميعها من مادة واحدة ، لا لون لها ، ولا طعم ، ولا رائحة .. إنها شىء واحد ، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر ، وصنعة الخبير الصانع ـ على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء ، على اختلاف صورها ، وتباين أشكالها ، وتعدد ألوانها ..

وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية ، هو تقسيم عام ، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال ، تنضوى تحت كل قسم ، وتندرج تحت كل صنف ..

فأنواع الزواحف ، من ديدان ، وحيات ، وحشرات .. وما شاكلها ـ هى مما يمشى على بطنه ..

والناس ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم .. والطير ، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله .. ذلك كله ممن يمشى على رجلين ..

والبهائم والدوابّ ، والأنعام ، والوحوش .. فى تعدّد عوالمها ، واختلاف أجناسها .. ممن يمشى على أربع ..

ـ وقوله تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) ـ هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة ، التي تبدع وتصور وتخلق ، هذه الصور ، وتلك الأجناس والأنواع ، من عنصر واحد .. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم ، يتصرف كيف

٤٦١

يشاء .. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة ، لجاءت جميع المخلوقات فى قالب واحد ، وعلى صورة واحدة ..

ـ وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير لهذه الحقيقة ، وتأكيد لها ، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شىء قدير .. لا يعجزه شىء

وهذا كلّه فى عالم الأرض .. ومن قطرة الماء ..

وأين الأرض ، وما فيها ، ومن فيها ، من ملك الله العظيم؟

ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير الله ، وألا خسئ وخسر المبطلون! ..

قوله تعالى :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المراد بالآيات المبينات ، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور الله ، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات ، تسرى فى كيان الموجودات ، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له ، وتوجهه وجهته المقدرة له .. ثم كان من نور الله ، تلك الآيات القرآنية ، التي كشفت للناس طريقهم إلى الله ، وأطلعتهم على دلائل قدرته ، وآثار رحمته .. وذلك فيما جاء فى الآيات التي تحدثت عن بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ، ويذكر فيها اسمه .. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم ، ثم فى هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة الله ، وسعة علمه ونفوذ سلطانه .. من السحاب والمطر ، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء ..

ففى هذا كله ، آيات مبينات ، أي موضحات ، وكاشفات ، لطريق الحق ، والهدى ، والإيمان بالله ، والولاء له ، والتسبيح بحمده.

٤٦٢

ـ وفى قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). إشارة إلى أن هذه الآيات المبينات ، وتلك الشموس الساطعة ، لا يهتدى بها ، ولا يبصر الحق على ضوئها ، إلا من أراد الله أن يفتح عيونهم إليها ، ويكشف لبصائرهم الطريق إلى الله من خلالها .. وذلك شأنه فى عباده : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩ : الأنعام) .. (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١٢٥ : الأنعام).

____________________________________

الآيات : (٤٧ ـ ٥٢)

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

٤٦٣

من هم هؤلاء الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول؟

إنه لم يجر لهم ذكر فى الآيات السابقة .. ولكنهم مذكورون ضمنا فى قوله تعالى (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فهناك أناس ، قد دخلوا فى الجماعة الإسلامية ، وحسبوا فى المؤمنين ، وأضافوا أنفسهم إلى تلك الجماعة وتزيّوا بزيّها ، وأخذوا سمتها .. واطمأنوا إلى ما هم فيه ـ ولكن الله فضحهم ، وكشف عن نفاقهم ، وأنهم ليسوا من الإيمان فى شىء ..

إن الإيمان ولاء ، وطاعة ، وانقياد .. ثم هو قبل هذا حبّ ، وإن تجرّع المحب فى سبيله جرع البلاء!

وهؤلاء الذين لبسوا الإيمان ظاهرا ، إذا وضع إيمانهم على محكّ التجربة ، ظهر زيفه ، وبان ما فيه من دخل ، وفساد .. (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢ : العنكبوت).

ـ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ..) ما أكثر الأقوال ، وما أيسرها على الأفواه .. وإن القول الذي لا يصدقه العمل ، هو زور وبهتان .. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ..) أفهذا شأن المؤمنين؟ أو تلك هى سبيل المطيعين؟ ـ ذلك ما لا يكون من أهل الإيمان أبدا ..

والتولّى : هو النكوص على الأعقاب ، والعودة إلى حيث ما كانوا عليه من ضلال وكفر ..

ـ وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ..) أي من بعد قولهم هذا القول بألسنتهم ، والدخول بهذا القول مدخل المؤمنين ، وهو قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) ..

وقوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) هو حكم على هؤلاء الذين قالوا هذا

٤٦٤

الذي قالوه بأفواههم ، ولم يتصل بعقولهم ، وقلوبهم ، ولم يؤثر فى مشاعرهم ووجداناتهم .. وهم فريقان : فريق دخل فى التجربة ، فكشفت التجربة عن نفاقه .. وفريق ما زال ينتظر التجربة التي تفضحه وتعرّيه من هذا الثوب الزائف الذي استتر به ، وهو لا بد أن يتعرى ويفضح فى يوم من الأيام :

ثوب الرياء يشفّ عما تحته

فإذا التحفت به فإنك عار

قوله تعالى :

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ..) هو بيان لما فى قلوب هؤلاء المنافقين من نفاق .. فهم مؤمنون ، إذا كانت ريح الإيمان تدفع سفينتهم إلى الوجهة التي يريدونها .. وهم غير مؤمنين ، إذا تعارضت ريح الإيمان مع أهوائهم وشهواتهم ..

إنهم لا يرضون حكم الله ورسوله فيهم ، ولا يقبلون ما قضى به كتاب الله فى شأن من شئونهم ، إذا كان ذلك الحكم مما لا يرضيهم.

وفى الحديث عن هؤلاء المنافقين عموما ، ثم الإشارة إلى فريق منهم ـ فى هذا إشارة إلى أنهم كيان واحد ، من الضلال ، والفساد .. وأنه لا فرق بين من يمتحن منهم ، ومن لا يمتحن ، وبين من يدعى إلى حكم الله ومن لا يدعى. إنهم جميعا عصابة لصوص ، دخلت فى حظيرة الإسلام ، فإذا ضبط الإسلام بعضهم متلبسا بجرمه ، فليس ذلك بالذي يبرىء ساحة هؤلاء الذين لا يزالون بعيدين عن قبضة الإسلام ، حيث لم يفتضح نفاقهم بعد! إنهم على طريق الفضيحة .. إن لم يكن اليوم ، فغدا ، أو بعد غد!

وقوله : (إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ).

فى عطف الرسول على لفظ الجلالة (اللهِ) سبحانه وتعالى ، تشريف لمقام الرسول ورفع لقدره .. وأنه إنما يقضى بما قضى الله به ، فحكمه من حكم الله ، وطاعته ، طاعة الله.

٤٦٥

قوله تعالى :

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) ـ أي إن هؤلاء المنافقين ، إذا كان حكم الإسلام فى أمر من الأمور العارضة لهم ، مما يتفق مع مصلحتهم ، جاءوا إلى الرسول مذعنين ، أي مطيعين ، معلنين الولاء لله ، ولرسوله ، يطلبون أن يأخذهم بحكم الإسلام ، لأنه يجرى مع مصلحتهم ، ويلتقى مع حاجتهم ..

قوله تعالى :

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ .. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

الاستفهام هنا هو تقريرى ، يكشف عن العلل ، التي تموج بها صدور أولئك المنافقين .. فليس داء واحدا هو الذي يخامر المنافق .. وإنما هو يعيش فى أكثر من داء ، مما فى قلبه من مرض.

وهذا المرض الذي فى قلبه ، من شأنه أن يفسد كلّ معتقد .. فلا يعتقد المنافق فى صحة رأى أو فساده إلا بالقدر الذي يجنى منه نفعا عاجلا .. إنه لا ميزان عنده لخلق ، أو رأى. أو دين .. إنه يدين بالدين الذي يمشى مع هواه .. ومن هنا ، فهو فى ارتياب من كل شىء .. يلقاه مترددا متشككا ، ويقلّبه ، كأنما يراه لأول مرة ، ولو كان قد مرّ به ألف مرة .. لأن له فى كل مرة حالا معه ، ورأيا فيه ..

ومن هنا جاءت العلة الثالثة التي تسكن فى قلوب المنافقين ، وهى تخوفهم من أن يحيف الله عليهم ورسوله ، إذا هم احتكموا إلى كتاب الله .. فكتاب الله ميزان واحد .. وهم إنما يجرون أمورهم على موازين لا حصر لها .. وكل حكم لا يتفق مع أهوائهم ، هو عندهم جور وحيف .. فهم يضعون أحكام الله موضع الاختبار والامتحان ، ولا يجيئون إليها مستسلمين راضين بما يقضى

٤٦٦

به الله ، سواء أكان لهم أم عليهم .. بل إنهم إن وجدوا فى حكم الله ، ما هو لهم ، أخذوا به ورضوا عنه ، وإن وجدوه على غير ما يريدون ، أعرضوا عنه ، وتنكروا له ..

ـ وفى قوله تعالى : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ..) إشارة إلى أن هذه الأمراض الخبيثة التي يعيش فيها المنافقون ، إنما تنتهى بهم إلى أخسر صفقة ، وهى الظلم الذي هم أول ضحاياه .. إنهم ظلموا أنفسهم ، وساقوها إلى هذا المرعى الوبيل ، الذي لن يطعموا منه إلا الخزي والخسران فى الدنيا ، والعذاب الأليم فى الآخرة ، وحسبهم أنهم كفروا بآيات الله .. وللكافرين عذاب مهين ..

قوله تعالى :

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ..

هذه هى الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين ، وما فى قلوبهم من صدق ويقين .. إنهم إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، أجابوا بالسّمع والطاعة ، ورضوا بما يقضى به الله ورسوله فيهم ، سواء أكان ذلك لهم ، أم عليهم .. هكذا الإيمان ، وهكذا شأن المؤمنين : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ .. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦ : الأحزاب) إنه السمع والطاعة لما يأمر به الله ورسوله ، دون تردد أو ارتياب .. إذ لا إيمان مع تردد فى أمر من أمر الله أو شك فى حكم من أحكامه ..

قوله تعالى :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ).

هذا هو جزاء المؤمنين حقا .. الفوز برضوان الله ، بعد أن أفلحوا حين

٤٦٧

أخلصوا دينهم لله ، ودانوا بالطاعة لله ولرسوله ، وامتلأت قلوبهم خشية وتقى لله ، فلم ينافقوا فى دينهم ، ولم يتّجروا بإيمانهم ، بل كانوا على حال ، سواء مع الله ورسوله ، فى السراء والضرّاء وفى الشدة والرخاء .. إنه الحب لله ، والرضا بحكم الله .. والحب الصادق لا يجىء منه أبدا ما يغير موقف المحب ممن أحب. هكذا الحب بين الناس ، فكيف يكون الحب بين الناس ورب الناس؟

يقول الشاعر لمن أحب :

أسيئي بنا أو أحسنى .. لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

____________________________________

الآيات : (٥٣ ـ ٥٧)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧)

____________________________________

٤٦٨

التفسير :

قوله تعالى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا .. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

عادت الآيات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين ، ولتعرض صورة أخرى من صور نفاقهم مع الله ، بعد أن عرضت تلك الصورة المخزية الفاضحة منهم ، وأنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله فيهم ، ولا يرضون بكتاب الله حكما عليهم ..

فتراهم هنا فى هذه الصورة ، لا يستجيبون لدعوة الجهاد إذا حان وقت الجهاد ، ودعا داعية .. وقد كانوا من قبل يقسمون الأيمان أغلظ الأيمان وأوكدها ، لئن أمرهم الرسول بالخروج إلى القتال ليخرجنّ من غير تردد أو مهل .. فهم فى مجال القول ، أبطال حروب ، وفرسان قتال ، فإذا جدّ الجدّ ، كانوا أجبن الناس ، وأحرص الناس على حياة ..

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنّزالا

والحلف ، هو أول سمة من سمات النفاق ، وكثرة الحلف وتوكيده ، هو الإدام الذي يأتدم به الكلام فى أفواه المنافقين ، فلا يسوغ لأفواههم كلام ، ولا يجدون لقول طعما إلا إذا غمسوه فى تلك الأيمان الكاذبة ، وأكدوه بهذا الحلف الفاجر ، واليمين الغموس ..

ـ وقوله تعالى : (لا تُقْسِمُوا) هو ردع لهم ، وردّ لأيمانهم المؤكدة ، ومبادرة بالتكذيب لما وراء هذه الأيمان ، وذلك لما هو معروف من أمرهم ، وأنهم ليسوا أهل صدق ووفاء ، لأن من لا إيمان له ، لا أيمان له ..

٤٦٩

ـ وفى قوله تعالى : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) استهزاء بهم ، وسخرية منهم ، وبطاعتهم تلك التي يحلفون عليها ، ويقدّمون بين يديها أوكد الأيمان .. إنها طاعة معروفة ، طاعة بالقول ، وعصيان بالعمل .. وهذا مثل قوله تعالى فى المنافقين : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا .. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ .. قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ .. وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٤ : التوبة).

قوله تعالى :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

هو دعوة إلى المنافقين ، أن يخرجوا من نفاقهم هذا ، وأن يستقيموا على طريق الإيمان ، ويأخذوا وجهتهم مع المؤمنين ، ولن يكون ذلك إلا بأن يطيعوا الله والرسول ، وأن يمتثلوا ما أمر الله به على لسان نبيه الكريم ، فإن فعلوا رشدوا ، وإن تولوا فإنما على الرسول «ما حمّل» من أمانة ، وهى تبليغ رسالة ربه ، وقد بلّغها .. «وعليهم ما حملوا» وهو الاستجابة للرسول ، والإيمان به ، وبما معه من آيات الله .. وقد ألقوا هذه الأمانة من أيديهم ، وخلعوها من أعناقهم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله «تتولوا» .. حذفت تاء المضارعة للتخفيف ..

ـ وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ـ هو مطلوب الأمانة التي حمّلوها ، والتي أشار إليها قوله تعالى : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ..)

ـ وقوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ـ هو مطلوب الأمانة التي حملها النبىّ ، والتي أشار إليها ، قوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ ..)

٤٧٠

وقد كان مقتضى النظم أن يردّ فيه ختام الآية على مطلعها ، مراعى فيه الترتيب الذي جاء عليه المطلع .. بمعنى أن يكون نظم الكلام هكذا :

فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، وما عليكم إلا أن تطيعوه ..

ولكن هذا كلام ، وذاك قرآن .. وشتان بين القرآن ، وبين الكلام! ..

فقد جاء القرآن على هذا النظم ، فحمّل المنافقين الأمانة ، ثم دعاهم فورا إلى الوفاء بها ، لأنهم هم المطلوبون ، المنادى عليهم بالخيانة .. على حين أن الرسول قد أدى أمانته ، وليس فى حاجة إلى تنبيه أو طلب .. وعلى هذا يكون قوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) توكيدا وشرحا لقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) وليس دعوة جديدة للنّبى أن يبلغ البلاغ المبين ، على حين أن قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) هو أمر مطلوب من المنافقين أداؤه.

قوله تعالى :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

الخطاب هنا للمؤمنين جميعا ، فى مواجهة المنافقين .. وأن هؤلاء المؤمنين موعودون من الله ـ إذا هم صدّقوا إيمانهم بالعمل الصالح ـ أن يستخلفهم فى الأرض ، أي يجعلهم خلفاءه عليها ، ويجعل إلى أيديهم السلطان المتمكن فيها .. فالإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض ، ولن يكون أهلا لهذه الخلافة إلا إذا صحّت إنسانيته ، وسلمت فطرته.

٤٧١

أما إذا انحرف ، وفسد ، فإنه ينزل عن هذه الخلافة ، ويخلى مكانه منها ، ليأخذ مكانه بين حيوانات الأرض ودوابّها.

ـ وقوله تعالى : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ إشارة إلى من استخلفهم الله من عباده المؤمنين الصالحين ، بعد أن أهلك القوم الظالمين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٣ ـ ١٤ : إبراهيم) .. وكذلك قوله سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥ : الأنبياء).

فالمؤمن بالله ، المستقيم على طريق الحق والهدى ، هو أقوى الناس قوة ، وأقدرهم على جنى أطيب الثمرات مما على هذه الأرض .. وبهذا يكون له السلطان المتمكن فيها ..

ـ قوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي أن المؤمنين الذين عرفوا حقيقة الإيمان ، وأدوا ما يقتضيه الإيمان منهم ، من عمل صالح ـ هم أهل لأن يجمعوا إلى أيديهم الدنيا ، والدين جميعا ، فتكون لهم العزة ، ويكون لدينهم الغلب والتمكين.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..) فالمؤمنون الذين لهم العزة هنا ، إنما يستمدون عزتهم من عزة الرسول ، الذي يستمد عزته من ربه ..

فهم بهذا موصولون بالله ، باتباعهم رسول الله ، وما أنزل إليه من ربه.

وهيهات أن يكون لإنسان ذليل ضعيف ، دين ، أو أن يقوم دين لدولة فى مجتمع مريض هزيل!

٤٧٢

والدّين الذي ارتضاه الله للمؤمنين ، هو الإسلام ، كما يقول سبحانه وتعالى فى آخر آيات القرآن نزولا : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٣ : المائدة).

فالإسلام ، هو الدين الذي قامت فى ظلّه الشرائع السماوية ، كما يقول تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ..) هو الدين الذي خلص كلّه للأمة الإسلامية .. كما يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ..) وكما يقول سبحانه : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (١٩٣ : البقرة) ..

وفى قوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) إشارة إلى ما يكسبه الإيمان الحق أهله ، من عزّة ومنعة وقوة ، وأنهم بهذا الإيمان قد أمنوا أن يزيحهم الكافرون والمشركون والمنافقون عن دينهم ، وأن يفتنوهم فيه .. ومن ثمّ فإنهم يعبدون الله بقلوب خلصت من المداهنة والنفاق ، والشرك .. فلا يلتفتون إلى غير الله ، ولا يعطون ولاءهم لسلطان غير سلطان الله.

وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ..) أي من حدّثته نفسه بالإقلاع عن الإسلام ، والعودة إلى الكفر ، بعد أن لبس ثوب العزّة ، وأمن الفتنة فى دينه من جور الجائرين ، وظلم الظالمين ـ فهو من الفاسقين .. أي الخارجين طوعا عن دينهم ، وليس لهم ثمّة عذر .. فهم كافر وفاسق معا ..

وهذه الآية ، تواجه المنافقين .. كما قلنا ـ بما يسوءهم ويكبتهم ، وذلك بهذا الوعد الكريم من الله بإعزاز المؤمنين ، والتمكين لهم ، واستخلافهم فى الأرض .. وأن المنافقين إذ كانوا ينظرون إلى حال المؤمنين يومئذ ، وإلى

٤٧٣

ما يعجبهم من كثرة المشركين وغلبتهم ، فإن الدولة وشيكة ، أن تكون للمؤمنين .. فليبادروا إلى هذا المغنم ، وليأخذوا مكانهم بين المؤمنين منذ اليوم ، وإلا فلن يكون لهم مكان بعد أن يفوتهم الركب ، وهم بمنقطع الطريق.

قوله تعالى :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وهذا بيان للأعمال المطلوبة من المؤمنين ، حتى يكونوا على الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به ، ووعدهم عليه الاستخلاف ، والتمكين .. وهو أن يقيموا الصلاة ، وأن يؤتوا الزكاة ، وأن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه ، ويندبهم له ، من الجهاد فى سبيل الله ..

قوله تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

هو خطاب للنبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مشار به إلى المؤمنين ، الذين استمعوا إلى وعد الله سبحانه وتعالى لهم ، بالاستخلاف فى الأرض ، والتمكين لدينهم .. وأنهم إذا نظروا فوجدوا ما هم عليه من قلّة وضعف ، وما عليه الكافرون والمشركون من كثرة وقوة ـ إذا نظروا فوجدوا هذا ، فلا يهولنّهم الأمر ، ولا يدخل على ثقتهم بوعد الله وهن أو شك .. فهؤلاء الكافرون وإن بلغوا ما بلغوا من كثرة وقوة ، فإنهم لا شىء أما قدرة الله سبحانه وتعالى .. فلن يعجزوه ، ولن يفلتوا من المصير الذي هم صائرون إليه ، من ذلّة وخزى فى الدنيا ، وعذاب أليم فى الآخرة ..

فليمض المؤمنون على إيمانهم ، وليستقيموا على ما أمرهم الله .. فإن هم صدقوا الله ، صدق وعده لهم ، إذ يلقاهم على تلك الصفة التي وعدوا عليها ..

٤٧٤

____________________________________

الآيات : (٥٨ ـ ٦٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

____________________________________

التفسير :

جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة فى المجتمع الإسلامى ، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان ، والحجاب والتحصن فى الزواج .. وكان من تدبير الحكيم العليم فى هذا ، أنه لم يجىء بهذه الأحكام جميعها فى معرض واحد ، حتى لا تزحم العقل ، وحتى لا يفلت منها شىء فى هذا المزدحم .. فهى جميعها دستور متكامل ، وعقد منتظم ، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها.

٤٧٥

ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات ، التي عرضت مالله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة ، وأنه سبحانه نور السموات والأرض ، وما فيهن ، وأن كلّ من فى السموات والأرض يسبح بحمده ، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء ، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم .. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع ، اختلف الناس عقلا وسفها ، وإيمانا وضلالا .. فكان فيهم المؤمنون المتقون ، وكان منهم الكافرون الجاحدون ، وكان فيهم المنافقون ، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان ..

وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع ، تجىء هذه الآيات الثلاث ، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة ، بين الناس والناس ..

وفى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ـ فى هذا أمر للمؤمنين ـ من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم ـ من عبيد وإماء ـ ألا يدخلوا عليهم خلواتهم ، إلا بعد إذن .. وذلك فى ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى .. وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين ـ من أحرار الرجال والنساء ـ ألا يدعوا الصغار ـ من بنين وبنات ـ الذين ، لم يبلغوا الحلم بعد ، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة ، ويعرفون العورة وغير العورة ـ ألّا يدعوهم يدخلون عليهم فى هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان ، وإذن ..

وهذه الأوقات ، قد بينها الله سبحانه وتعالى فى قوله :

ـ (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ .. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ .. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ..)

٤٧٦

ففى هذه الأوقات الثلاثة ، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم ، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه فى ستر عورته ، لأنه على شعور بأنه فى خلوة مع نفسه ، أو مع زوجه ..

ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي ـ عبيدا أو إماء ـ على سادتهم ، من رجال أو نساء ، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات ـ لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم ، أو غيرهم ، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم. وذلك سترا للعورات ، وحفظا للحياء ، وسدّا لذرائع الفتنة.

ـ وقوله تعالى : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هذه الأوقات ، هى أشبه بثلاث عورات لكم ، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن ، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم ، ولا تتحرجون كثيرا منهم ، وهم الموالي والصغار ..

ـ وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ..) أي لا حرج عليكم ولا عليهم ، بعد هذه الأوقات الثلاثة ، فى أن يدخلوا عليكم من غير استئذان .. إذ كان أمركم غالبا فى غير تلك الأوقات ، أقرب إلى التصوّن والتحفظ .. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار ، فى جميع الأوقات ، كثير من الحرج ، الذي تأباه هذه الشريعة ، وتعفى أتباعها منه ..

وقوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ). جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض .. فهذا شأنكم وشأنهم ، بحكم المخالطة والمعاشرة .. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج ، فى غير هذه الأوقات الثلاثة .. فلكم أن تطوفوا عليهم ، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان!

٤٧٧

ـ وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح ، يبين الله لكم الآيات ، ويجىء بها محكمة ، لا تحتاج إلى تأويل ، حتى تأخذوا بها ، وتستقيموا عليها .. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصلح حياتكم (حَكِيمٌ) فى وصف الدواء لكل داء ، يعطى منه بالحكمة ، دون إفراط أو تفريط ..

قوله تعالى :

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أي أن هؤلاء الأطفال ، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان فى كل وقت ، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة ـ هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة ، وبلغوا الحلم ، ودخلوا مدخل البالغين ـ من رجال ونساء ـ أخذوا بحكمهم ، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا فى جميع الأوقات ، لا فى هذه الأوقات الثلاثة وحسب ..

ـ وفى قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا ، من حيث أن الطفولة هى التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان فى غير هذه الأوقات الثلاثة ، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها ـ إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة ، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا ، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم .. فكان هذا البيان الحكيم ، وضعا للأمر فى موضعه الصحيح ، وقاطعا الطريق على كل تأويل ، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة ، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء ..

٤٧٨

ولا بدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع ، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن ، والتعفف ، والحياء ، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات ، وذلك لا يكون إلا فى مجتمع كملت إنسانيته ، ورقت مشاعره ، فعرف لنفسه قدرها ، ولكرامته حقها ..

إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها الله سبحانه وتعالى به .. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هى ستر عورته ، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه ، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها .. إنه هنا كائن ذو إرادة .. إنه إنسان ..! ولن يكون إنسانا وهو فى هذا العرى الحيواني .. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما ، فرأيا سوءتيهما ، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه .. وقد أسعفتهما الحيلة ، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر ، ما ستر العورة.

هذا هو الإنسان فى أصل فطرته .. الحياء أول شعور وجده فى كيانه ، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان ..!

ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام ، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين ، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم ، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب ، فى المخالطة والمعاشرة ، والاستئذان وستر العورة ، حتى يظل ماء الحياء ساريا فى كيانهم ، تتغذّى منه مشاعرهم ، وتسمو به إنسانيتهم .. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : «الحياء خير كله» .. «والحياء شعبة الإيمان» .. «الحياء من الإيمان» ..

فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد فى نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ ، مستولية على زمام المدنية

٤٧٩

والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها ، وتجسّد ما وراءها .. ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء فى الأندية والطرقات ، والبيوت .. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات ، ووضعا مستقرا من أوضاعها .. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس ، له فلسفته ، وله آدابه وأحكامه .. تجد ذلك فى أندية العراة ، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها .. مما تضج به حياة الغرب ..

والعجب ، هو أن يكون للفوضى منطق ، وأن يكون للعرى أدب!

قوله تعالى :

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ..)

وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.). الآية».

فالقواعد من النساء ، وهن المتقدمات فى السنّ ، اللاتي لا إربة لهن فى الرجال ولا أرب للرجال فيهن ـ هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم .. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن ، التخفيف مما أخذ به النساء عموما ، من ألا يبدين زينتهن ، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا فى الآية من الأزواج وغيرهم ..

فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ـ ليس عليهن حرج فى أن يتخففن من ثيابهن ، فى جميع الأوقات ، مع المحارم ، وغير المحارم ..

٤٨٠