التّفسير القرآني للقرآن - ج ٥

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٥

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤١

١

____________________________________

الآيات : (٨٨ ـ ٩٣)

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

____________________________________

التفسير : بلّغ شعيب قومه رسالة ربّه ، ونصح لهم ، واستقبل إساءاتهم بالحسنى ، وسفاهاتهم بالصفح والمغفرة ـ هكذا الأنبياء والمرسلون ، ينظرون إلى من أرسلوا إليهم نظرة الطبيب الحكيم إلى مريض ، استبدّ به مرضه ، فأفقده صوابه أو أفسد تفكيره ... وإن مهمة الرسل لهى أشقّ من هذا ، وأكثر حاجة إلى الرفق والملاطفة ، وإلى الحكمة والكياسة فى اتصالهم بأقوامهم ، وفى تألّفهم واستئناسهم ، حتى يسمعوا لهم ، ويقبلوا منهم ، إن كان فيهم بقيّة من خير ، أو إثارة من عقل ... وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه

٢

الكريم : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٢٥ : النحل).

وها هم أولاء سادة القوم ، وأصحاب الكلمة فيهم ، والسلطان عليهم ، يتصدّون لشعيب ، ويقفون لدعوته بالمرصاد ، إذ كانت هذه الدعوة تنزلهم من النّاس منزلة الآدميين ، لا الآلهة المتسلطين ، وتغلّ أيديهم عن هذا الكسب الحرام الذي يغتالون به حقوق الضعفاء ، ويمتصون به دماء الفقراء ...

وإنه لو قدّر لشعيب أن يمضى بدعوته إلى غايتها ، لسدّ على هؤلاء السّادة منافذ البغي والعدوان ، ولما بقي لهم في الناس هذا السلطان المبسوط لهم على رقاب العباد.

ولا يكتفى هؤلاء السادة أن يعرضوا عن شعيب وعن دعوته ، بل إنهم يجاوزون هذا إلى تهديده ووعيده بأن يخرجوه من بينهم ، هو ومن آمن معه ، إن لم يرجع عمّا هو فيه ، وإن لم يعد إلى حاله الأولى قبل أن يطلع عليهم بتلك الدعوة التي يدعوهم إليها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :

* (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ..

إنها لقريتهم! هكذا يقولونها صريحة في غير مواربة .. «قريتنا» بحالها التي هى عليها ، وبكل ما كان يموج فيها من ظلم وفساد .. أما شعيب والذين آمنوا معه ، فهم شىء غريب ، دخل على هذا الكيان الفاسد ، وهم دواء مرّ يأبى أن يقبله هذا الجسد العليل ..

وينكر شعيب على هؤلاء السفهاء من قومه أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة .. إنه يدعوهم إلى الحق والخير ، وهم يدعونه إلى الضلال والهلاك ،

٣

وشتّان بين دعوته ودعوتهم .. وإنه إذا لم تكن منهم استجابة له ، فلا أقلّ من أن يدعوه وشأنه ، وأن يدعوا النّاس وما يختارون لأنفسهم من موقف إزاء دعوته ودعوتهم ، وألا يحولوا بينه وبين من يستجيب له منهم ، وألا يتسلطوا على الذين آمنوا معه ، ويحملوهم على السير معهم في هذا الطريق الذي ارتضوه ، وأبوا أن يتحولوا عنه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان شعيب : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟) أي أيكون هذا موقفكم منّا ، ووعيدكم لنا بالإخراج من القرية ، إن كنا مصرّين على موقفنا ، متمسّكين بعقيدتنا ، كارهين لما تدعوننا إليه من العودة إلى ملّتكم؟ إنّ الدّين لا يكون عن إكراه ، وإن العقيدة لا تقوم على التسلط والقهر .. فكيف تكرهوننا إكراها على دين لم نقبله ، وعلى عقيدة لم نرضها؟ إنّه لا إكراه فى الدين ، وإننا لن نكرهكم على ما ندعوكم إليه ، فكيف تكرهوننا على ما تدعوننا إليه؟ ثم تهددوننا بالطرد من قريتنا إن لم نستجب لكم؟ ذلك ظلم مبين ، وعدوان آثم. (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) .. أي إننا وقد عرفنا الحق ، وآمنا به عن فهم واقتناع ، فإن الحيدة ـ بعد هذا ـ عن طريق الحق ، هى افتراء على الله ، وكذب صراح في وجه تلك الحقيقة المشرقة ..

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا).

إذ كيف يقبل عاقل أن يرد موارد الهلاك بعد أن خلص منها ، وسلك مسالك النجاة؟

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

إنّنا لن نعود أبدا إلى ملتكم بعد أن نجانا الله منها ، إلّا أن يكون ذلك عن مشيئة سابقة لله فينا ، وعن قدر قدّره علينا ، فذلك من شأن الله وحده ،

٤

هو الذي يملك من أنفسنا ما لا نملك ، فإذا كان الله قد شاء لنا أن نعود القهقرى إليكم ، ونردّ على أعقابنا معكم ، فنحن مستسلمون لأمر الله ، راضون بحكمه ، أما نحن فى ذات أنفسنا ، فعلى عزم صادق ألّا نعود فى ملتكم أبدا ، إلا أن ينحلّ هذا العزم بيد الله ، لأمر أراده الله ، وقضاء قضى به .. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) .. فهو ـ سبحانه ـ وحده الذي يعلم مصائر الأمور ، ولا يدرى أحد قدره المقدور له ، ولا مصيره الذي هو صائر إليه ، فذلك علمه عند علام الغيوب .. أما نحن فمطالبون بأن نستقيم على الحق ، وأن نفوّض الأمر لمالك الأمر .. (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) .. والفتح هو الحكم ، وتلك قضية بين شعيب وقومه ، هو يدعوهم إلى الهدى ، وهم يدعونه إلى الضلال ، وهو يلقاهم بالحسنى ، وهم يتهدّدونه بالبغي والعدوان ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين الفريقين ، ويدين من هو أهل للإدانة ، ويأخذه بما يستحق من عقاب.

وقول شعيب : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) ـ مع أن فتح الله أو حكمه لا يكون إلا بالحق ـ هو تقرير للواقع ، وإشعار للخصوم بأنهم لا يؤخذون بغير الحق ، وأنهم وشعيب على سواء بين يدى من يفصل بينه وبينهم فيما هم مختلفون فيه.

ومع هذا الموقف العادل الذي يقفه شعيب من قومه ، وفى موقفه معهم فى ساحة القضاء الذي يقول كلمة الحق بينه وبينهم ـ فإنهم لم يقبلوا هذا منه ، ولم ينتظروا ما ينجلى عنه هذا الموقف ، بل جعلوا إلى أنفسهم أمر القضاء فى هذا الخلاف ، وأعطوا لأنفسهم كلمة الفصل فيه ، وأنهم هم وحدهم أصحاب الحق .. فأدانوا شعيبا ، وحكموا عليه بالخروج من القرية هو ومن آمن معه ، واستعجلوا إنفاذ هذا الحكم فيه وفيهم ..

٥

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

هذا هو محتوى الحكم الذي حكموا به. من اتبع شعيبا فهو من الخاسرين ، لأن شعيبا على باطل ، وهم على حق ، وإذن فلن يخلص من أيديهم إلا بأن يخرج من القرية ، ويمضى حيث يشاء .. هكذا قدّروا ، وهكذا حكموا.

وما أن همّوا بإنفاذ هذا الحكم ، حتى جاء الحكم الذي لا يردّ ، الحكم الذي حكم به أحكم الحاكمين ..

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

إنه الحكم الذي أدين به من قبل أشباه لهم ، كذبوا رسول الله ، وعقروا ناقة الله .. إنهم قوم «صالح» ، الذين أخذتهم الرجفة من قبلهم فأصبحوا فى دارهم جاثمين .. والرجفة هى الاضطراب والزلزلة ... فلقد زلزلت بهم الأرض ، ودمدم عليهم ربهم بذنبهم ، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين ، أي جثثا هامدة ، لاحراك بها ..

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)

تلك هى عاقبة المكذبين .. لقد أقفرت منهم الديار ، حتى كأنهم لم يكونوا من عمّارها يوما.

يقال : غنى بالمكان ، أي أقام فيه ، وسكن إليه ، بما اجتمع له من وسائل تغنيه عن التحول عنه ..

ويتلفّت شعيب إلى ما حلّ بقومه ، وما صار إليه أمرهم بعد أن أصبحوا جثثا هامدة وأشلاء مبعثرة ، فيأسى عليهم ، ويحزن لهم ، ولكن سرعان ما يدفع عنه مشاعر الأسى والحزن ، حين يراجع حسابه مع قومه ، وما كان منه ومنهم ، فيجد أنهم ليسوا أهلا لدمعة رثاء تدمعها عينه عليهم ..

٦

(يا قَوْمِ ... لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)؟.

إنه ليس أرحم من الله بهم ، ولقد أرسل الله إليهم غيوث رحمته على يد رسول كريم ، فأبوا أن يقبلوها ، وتهدّدوا من حملها إليهم ، وآذنوه ومن آمن معه بالطرد من القرية ، فكان ما أخذهم الله به ، هو الجزاء العادل الرحيم ..

____________________________________

الآيات : (٩٤ ـ ٩٩)

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩)

____________________________________

التفسير : بعد أن عرضت الآيات السابقة بعضا من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، وما كان من هؤلاء الأقوام من كفر وضلال ، ومن تطاول على رسول الله ، وتحدّ وقاح لهم ، ثم ما أخذ الله به هؤلاء الأقوام من نكال وبلاء فى الدنيا ، وما أعدّ لهم من عذاب شديد فى الآخرة ـ بعد هذا جاءت آيات الكتاب لتقرر هذا الحكم العام ، الذي يجريه الله على الظالمين ، الذين يقفون

٧

فى وجه الحقّ ويتصدّون لدعاة الخير ، وهذا الحكم هو الخذلان للظالمين ، والتنكيل بهم ، حيث لا يردّ عنهم بأس الله ما لهم من جاه وسلطان ، وما بين أيديهم من بأس وقوة.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).

فتلك هى سنة الله فى الأمم الخالية ، قبل بعثة النبي «محمد» خاتم الأنبياء ، عليه وعليهم الصّلاة والسلام.

فما كان يبعث نبى إلى قرية من القرى ، أو جماعة من الجماعات إلا كذّبوه ، وبغوا عليه ، وأنكروا مقامه فيهم ، وهمّوا بإخراجه من بينهم ، أو قتله ، إن هو ظلّ على موقفه منهم .. وهنا تجىء الخاتمة ، ويقع بهم ما أنذروا به من قبل إن هم أبوا إلا كفرا ، وإلا عنادا وإصرارا على الكفر ، وما هى إلا عشية أو ضحاها حتى يصبح القوم أثرا بعد عين ، (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها) وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥ : غافر)

وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تعليل لهذا العقاب الذي أخذهم الله به ، من بأساء وضراء ... والبأساء ما يقع على الأموال من ضرّ ، والضراء ما يصيب النفوس من بلاء ... والتضرّع : الخضوع ، والتذلل والاستسلام.

والسؤال هنا : كيف يتضرّعون ، وقد أصبحوا فى الهالكين ، بهذا الأخذ المستأصل الذي أخذهم الله به؟

والجواب : أن هؤلاء الذين هلكوا ، هم عبرة ومثل لمن بعدهم ... والتضرّع

٨

واللّجأ إلى الله إنما هو ممن يجىء بعدهم ويخلفهم من ذريتهم .. إذ أن هلاك الهالكين وإن كان عامّا شاملا ، إلا أن هناك بقية باقية ، من حواشى القوم ، المنتشرين هنا وهناك بعيدا عن المجتمع ، كما أن هناك أعدادا قليلة من المؤمنين ، الذين نجاهم الله من هذا البلاء ... فهؤلاء وهؤلاء هم البقية الباقية من القوم ، وهم الذين ينبت منهم وينمو ، هذا الجيل الذي يخلفهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) .. أي أن الله سبحانه وتعالى قد رفع هذا البلاء الذي نزل بالسّلف ، وجعل مكانه نعمة وعافية تلبس الخلف ، ليكون فى نعمة الله عليهم ، حجة بين يدى الرسول الذي يجيئهم ليدعوهم إلى الله ، وليلفتهم إلى فضله عليهم كما قال هود لقومه ، وهو يدعوهم إلى الله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وكما قال صالح لقومه : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ..

فهذه النعم التي يلبسها الخلف ، بعد النقم التي حلّت بالسلف ، هى حجّة بين يدى الرسول ، يذكرّ بها قومه ، ليذكروا ما كان لله عليهم من فضل ، وأنه لم يأخذهم بما جنى آباؤهم ..

وقوله تعالى : (حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أمهل هذه البقية الباقية من القوم الهالكين ـ أمهلهم حتى «عفوا» أي نموا ، وكثروا ، ومسّتهم العافية .. فالعفو أصله من العافية ، التي يتبعها النماء والزيادة ، كما جاء في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا

٩

يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «احفوا الشوارب واعفوا اللّحى» أي قصّروا الشوارب ، وأطيلوا اللّحى ، أي اتركوها حتى تنمو أصول الشعر ، وتطول.

وفى قوله تعالى : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) إشارة إلى أنهم أدركوا ورشدوا ، وعرفوا ما حلّ بآبائهم من شر وخير .. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن الله قد أمهلهم حتى تتابعت أجيم ، وكثرت مواليدهم ، ونمت أموالهم ، وكان لهم بعد الآباء آباء .. وهذا هو السرّ فى تقديم الضّراء على السّرّاء هنا .. فالضراء هى ما أصيب به القوم الهالكون من آبائهم الأولين ، والسرّاء هى النعم التي أفاضها الله على آبائهم الأقربين .. فهم فى نظرتهم إلى الوراء يرون على مسيرة الماضي وجهين من وجوه الحياة ، تغايرا على موطنهم الذي هم فيه .. يرون آباء لهم كانوا فى نعمة من الله ، وعافية من البلاء ، فكفروا بأنعم ، وعصوا رسله ، فأخذهم الله بالبأساء والضرّاء ، وآباء خلفوا هؤلاء الآباء فألبسهم الله لباس النعمة والأمن ؛ ولم يبلهم بعد حتى يعلم ما عندهم من إيمان أو كفر ..

وهؤلاء الآباء ، هم وأبناؤهم هؤلاء ، لم ينتفعوا بهذه المثلات التي حلّت بآبائهم الأولين ، إذ حين ابتلاهم الله ، وبعث فيهم رسله ، كفروا بنعم الله ، ومكروا بها ، وأخذوا الطريق الذي أخذه أسلافهم مع رسل الله الذين بعثهم الله فيهم.

وهذه هى سنّة الله فيهم ، كما هى فى آبائهم .. الهلاك والدمار للقوم الظالمين .. وفى هذا يقول الله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ..)

وفي النظم القرآنى إعجاز الحذف ، الذي دل عليه ما سبق .. والتقدير : (حَتَّى) (إذا) (عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) (أرسلنا إليهم رسولا كما أرسلنا إلى آبائهم رسولا ، فكذبوه ، وسخروا منه ، وتوعدوه) (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

١٠

وفى قوله تعالى : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم حتى كانت لهم فسحة من الوقت ينظرون فيها ، ويتأملون فيما بين أيديهم وما خلفهم ، ويرون ما حل بآبائهم ..

وقد بسطنا القول فى شرح هذه الآية ، إذ لم نر أحدا من المفسرين أقامها على وجه نرضاه ونطمئن إليه.

قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

هو تعقيب على ما حل بالظالمين من بلاء ونكال .. ثم هو وعيد المشركين من أهل مكة وما حولها من القرى ..

فهؤلاء الذين أخذوا بظلمهم ، لو أنهم آمنوا بالله ، وصدقوا رسله ، واتقوا محارم الله ، وأقاموا شريعته ، لكانوا فى عافية من أمرهم ، وفى سعة من رزقهم ، ولفتح الله عليهم بركات من السماء التي رمتهم بالصواعق ، وبركات من الأرض التي زلزلت بهم ، ورجفت ، وفغرت أفواهها لابتلاعهم .. أفلا يكون فى هؤلاء القوم عبرة لمعتبر ، وذكرى لمن يتذكر؟ وماذا تنتظر أمّ القرى ومن حولها ، وقد استغلظ فيها الشرك ، وعاث فيها المشركون؟

والسؤال هنا : هل من مقتضى الإيمان والتقوى أن تفتح على المؤمن التقىّ بركات من السماء والأرض؟ أو بمعنى آخر : هل المؤمنون الأتقياء هم أكثر الناس رزقا وأوفرهم مالا؟ وكيف؟ والمشاهد أن الذين يجتمع إلى أيديهم الغنى والجاه والسلطان ، هم الذين لا يؤمنون بالله ، أو الذين يؤمنون به ولكن لا يتقونه ولا يوقرون حرماته؟

١١

فما تأويل قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ..؟)

والجواب : أن المؤمن بالله ، المتقى لحرماته ، هو أكثر الناس غنى فى قلبه ، وقناعة فى نفسه ، ورضى بقدره ... فالقليل فى يد المؤمن التقىّ هو كثير مبارك فيه ، يسدّ حاجته ، ويجلّى عن نفسه هموم الدنيا ، ويقيمه على رضى دائم ، واطمئنان متصل ، وسلام مقيم مع نفسه ، ومع الناس ، ومع الوجود كله ..

وهذا هو السرّ فى وصف الرزق المنزل من السماء ، والنابت من الأرض ـ بالبركة .. فهو رزق ممسوس بنفحات البركة التي تجعل القليل كثيرا ، ينمو على الإنفاق ، كما تنمو النبتة المباركة فى الأرض الطيبة.

فالمجتمع المؤمن التقىّ ، مجتمع مثالىّ فى حياته ، وما يرفّ عليها من أرواح السلام ، والأمن ، والاستقرار ، حيث لا ظلم ، ولا بغى ، ولا عدوان ، وحيث الناس إخوان على طريق الله ، وعلى التناصح والتواصي بالحق والخير ..

فأى بركة أعظم من تلك البركة ؛ وأي حياة أطيب وأكرم من هذه الحياة ، التي يجتمع فيها الإنسان إلى الإنسان ، بقلب سليم ، ونفس مطمئنة ، لا يحمل لأحد شرا ، ولا يتربص له أحد بسوء؟

وفى هذا يقول الشاعر العربي :

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها

ولكن أخلاق الرجال تضيق

فحيث كان الإيمان والتّقى ، كان الإخاء ، والأمن والسلام ، والعافية ..

قوله تعالى :

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ* أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

١٢

إنه نذير للمشركين من أهل مكة ومن حولهم .. إنهم قد أشركوا بالله ، وبغوا فى الأرض ، ولم يكن لهم نظر ينظرون به إلى ما حل بالبغاة الظالمين .. وها هو ذا رسول الله يدعوهم إلى الله ، ويمدّ يده إليهم بالهدى .. وها هم أولاء يكذبونه ، ويسخرون منه ، ويأتمرون به .. فماذا ينتظرون غير سنّة الأولين؟ ..

وفى هذا يقول الله تعالى عنهم : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥ : ص).

وعلام يعوّل هؤلاء القوم فى تماديهم فى الضلال ، واطمئنانهم إلى ما هم فيه؟ أهناك من يدفع عنهم عذاب الله ، ويردّ عنهم بأسه؟ ذلك ضلال إلى ضلال ، وعمى بعد عمى ، وفتنة مع فتنة ..

وكيف يأمنون مكر الله ، ومعاجلتهم بالعذاب من حيث لم يحتسبوا؟ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) .. وأي خسارة أكثر من أن يرى الإنسان نذر الشر والهلاك مقبلة إليه ، ثم يخدع نفسه ، ويخيّل إليها أن هذه النذر لن تتجه إليه ، ولا تنال منه .. ثم يظل هكذا يرتوى من هذا السراب الخادع حتى تقع به الواقعة ، وينزل بساحته البلاء .. فلا يجد له مهربا .. ولو أنه تنبه لهذا الخطر المشير إليه ، وأخذ حذره منه ، واتخذ له طريقا غير هذا المؤدى به إلى مواقع الهلاك والتلف ـ لو أنه فعل ذلك فلربما سلم ونجا ، فإن لم يسلم ولم ينج ، كان قد أعذر لنفسه ، وأدّى المطلوب منه نحو ذاته ..

وفى توقيت العذاب الواقع بهؤلاء الظالمين من أهل القرى .. بالبيات ، وهو الليل ، وبالضحى ، وهو ضحوة النهار وشبابه ـ فى التوقيت بهذين الوقتين إشارة إلى أن بلاء الله ينزل فى أي وقت .. فى غفلة من الناس وهم نيام ، قد استولى عليهم النعاس ، ولفّهم الليل بردائه الأسود الكثيف .. أو فى ضحوة

١٣

النهار ـ عند الضحى ـ وقد اكتملت أسباب الحياة ، واليقظة للناس ، وللحياة من حولهم ، وعندئذ يشهدون الهلاك عيانا ، وهم في أحسن أحوالهم من الاتصال بالحياة ، والأخذ بكل قواهم ، مما يطلبون ويشتهون منها ..

وكلا الضربتين من ضربات النقمة والبلاء ، تجىء فى وقت يجعل أثرها مضاعفا ، ووقعها مزعجا ، بالغ الغاية في الإزعاج.

إن النائم الذي استغرق فى النعاس ، لتزعجه الهمسة تطوف به ، حتى ليخيل إليه منها أنها صوت رعد قاصف ، أو هدير إعصار ثائر .. فكيف إذا كان ذلك بلاء نازلا من السماء يرمى بحجارة من سجيل ، أو عذابا فائرا من الأرض يرمى باللهب ، ويقذف بالحمم.

وإن الإنسان الذي لبس ثوب النهار ، واستروح أنسام الصباح ، واستحضر كل وجوده ليتصل بالحياة ، وليقيم وجهه على ما يشتهى منها ، ويمسك بكلتا يديه على ما يقدر عليه من لهوها وجدّها ـ إن مثل هذا الإنسان ليكرب أشدّ الكرب أن يعرض له فى تلك الحال ما يقطع عليه حبل اتصاله بالحياة ، أو يلفته عن طريقه الذي أخذه معها ـ فكيف إذا كان ذلك بلاء مدمرا يهلك الحرث والنسل ، ويطوى السهل والوعر ، ويأتى على كل ما جمع الجامعون ، وملك المالكون؟

واستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ* أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

وانظر إلى أهل القرى ، وهم نائمون .. ثم انظر إليهم وقد جاءتهم الضربة القاضية ، فإذا هم بين يديها قيام ينظرون ، وكأنهم أصحاب القبور ، يوم ينفخ فى الصور فيقولون : يا ويلنا .. من بعثنا من مرقدنا؟

١٤

وانظر إلى أهل القرى ، وهم فى ضحوة النهار يلعبون .. ثم انظر إليهم وقد جاءهم أمر ربك على حين غفلة ، فقطع عليهم ما هم فيه من لهو ولعب ، وقلب بين أيديهم مائدة الحياة وما عليها من أدوات اللعب واللهو!

وصدق الله العظيم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢ : هود).

____________________________________

الآيات : (١٠٠ ـ ١٠٢)

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

____________________________________

التفسير : هذه الآيات والآيات التي قبلها هى تعقيب على ما حلّ بالقوم الظالمين ، الذين عصوا رسل الله ، واسترهبوهم بصور مختلفة من الوعيد.

وهذه التعقيبات هى مما يمكن أن يرد على الخواطر ، ويتردد على الألسنة ممن يمرّ من عقلاء الناس بمصارع القوم الظالمين ، ويجوس خلال الديار التي عمروها ، أو يقصّ عليه خبرها ، وتكشف له أنباؤها ، ففيها العبرة ، وفيها العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..

وقوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

١٥

وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) .. إنه يكشف عن وجه من وجوه العظة والاعتبار .. فهؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا ، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم .. ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم أو بصائرهم أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم؟ ولساق إليهم نذر الدّمار والهلاك كما ساقها إلى الهالكين من قبلهم؟ فما حجتهم على الله حتى يدفع عنهم هذا البلاء الذي هم جديرون بأن يؤخذوا به؟ وما وجه فضلهم على من أهلكوا قبلهم حتى لا يصيروا إلى مثل مصيرهم ، وقد فعلوا فعلهم ، وأخذوا طريقهم؟

إنه لا لحجة لهم على الله ، ولا لفضل ظاهر فيهم ، أن عافاهم الله من هذا البلاء ، وأن صرف عنهم عذابه ، ولكن لمقام رسول الله بينهم ، ولفضل الله على نبيه الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم ، كما وعده ربّه هذا الوعد الكريم : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣ : الأنفال) وهذه خصيّصة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه ، من بين رسل الله جميعا ، ألّا يرى عذاب السّماء ينزل على قوم هو منهم ، أو يصيب بلادا هو فيها ..

وفى قوله تعالى : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) إشارة إلى أن العذاب الذي سيقع بهؤلاء الظالمين ليس عذابا ظاهرا ، ينزل من السماء ، أو يخرج من الأرض ، ولكنه بلاء خفىّ ، يغشى قلوب الظالمين ، فيحجب عنها الهدى ، فلا تتهدّى إليه ، ويصرف عنها الخير ، فلا تعرف له وجها ..

وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه المقام ، والتقدير : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (وأخذناهم بما أخذنا به القوم الظالمين قبلهم من بلاء ونكال ، ولكنا لا نفعل بهم هذا ، تكريما للنبي الكريم ، (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) كلام الله ، ولا ينتفعون به)

١٦

وهذا عقاب خفىّ ، لا يراه الرسول ، حتى لا يحزن ولا يأسى ..

وفى قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) إشارة إلى أن المعجزة التي بين يدى هؤلاء القوم ، والتي تكشف لهم الطريق إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به ـ ليست معجزة منظورة تراها العين ، ولكنها معجزة مقروءة تسمعها الأذن ، ويعيها القلب .. وتلك المعجزة هى القرآن الكريم ، والمستمعون لها هم هؤلاء القوم المشركون ، ولكنهم لا يسمعون السمع الذي ينفذ إلى القلب ، ويتصل بالعقل ..

قوله تعالى :

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ).

القرى المشار إليها للنبىّ ، هى تلك القرى التي قصّ الله سبحانه وتعالى أخبارها من قبل ، وما حلّ بأهلها ، بعد أن كذّبوا الرّسل ..

وهؤلاء مشركوا أمّ القرى ومن حولها ، قد سمعوا ما قصّ الله من أنباء القرى التي أهلكها الله حين كذبوا رسل الله ، وهاهم أولاء يكذبون النبيّ ويمثّلون معه الموقف نفسه الذي وقفه من سبقهم من أهل القرى التي أهلكها الله ـ هؤلاء المشركون وتلك حالهم ، هم بين أمرين :

إما أن ينتظروا البلاء الذي حلّ بمن سبقهم ، وإما أن يؤمنوا بالله ، ويستجيبوا للرسول.

أما البلاء ، فلن يقع بهم والنبيّ فيهم ..

وأما الإيمان ، فلن يؤمنوا ، لأن الله قد طبع على قلوبهم ..

وإذن فليس لهم إلا الخزي فى الدنيا ، وعذاب السعير في الآخرة ..

١٧

والمراد بهؤلاء القوم هو رءوس الكفر ، من مشركى مكة ، الذين علم الله أنهم لن يؤمنوا ، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً* وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً.) (٥٧ ـ ٥٨ : الكهف).

فقوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) مراد به هؤلاء العتاة من رءوس المشركين من قريش .. إنهم لا يؤمنون أبدا بهذا الرسول الذي كذّبوا به ، وبما أنزل إليه من آيات ربّه ، فما ينزل من آيات الله بعد هذا ، وما يساق إليهم فيها من عبر وعظات فى قصص الأولين ـ كل هذا لن يزيدهم إلا نفورا .. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) ذلك الطبع الذي لا ينفذ منه إلى القلب لمعة من نور الحق أبدا.

وقوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) هو وصف كاشف لهؤلاء الرءوس من أهل الشرك فى قريش. وأمّا العهد الذي نقضوه مع الله فهو قولهم الذي حكاه القرآن عنهم : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١٥٦ ـ ١٥٧ : الأنعام) فهم قد عاهدوا أنفسهم أن لو جاءهم كتاب كما جاء أهل الكتاب كتاب ، لآمنوا بالله ، وكانوا أهدى سبيلا من أهل الكتب السابقة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) .. : «إن» هنا هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة ، واللام فى قوله تعالى : «لفاسقين» هى اللام

١٨

المؤكدة ، الداخلة على الخبر ، والمعنى ، وإنّا وجدنا أكثرهم لفاسقين ، ينقضون العهد الذي وثقوه مع أنفسهم ، وذلك خيانة منهم لوجودهم.

____________________________________

الآيات : (١٠٣ ـ ١١٦)

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦)

____________________________________

التفسير :

فى الآيات التي مضت ، ذكر فيها قصص الأنبياء : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيبعليهم‌السلام ، وقد تخللت هذه القصص لمحات وإشارات إلى مشركى

١٩

مكة ، تلفتهم إلى مصارع القوم الظالمين ، الذين كذبوا رسل الله وأعنتوهم ، وأن هؤلاء المشركين من قريش إذا أصروا على ما هم عليه من عناد وشرك ، بعد هذا الهدى الذي جاءهم من عند الله ، على يد رسول الله ـ فلن يكونوا بمأمن من هذا المصير المشئوم الذي صار إليه الظالمون من قبلهم.

ولم تذكر الآيات السابقة قصة موسى ، مع فرعون ، ثم قصته مع قومه بنى إسرائيل ..

وهذا ما عرضت له تلك الآيات التي نحن بين يديها الآن ..

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .. أي ثم بعث الله سبحانه وتعالى ، من بعد هؤلاء الرسل الذين ذكرتهم الآيات السابقة ـ بعث موسى بآيات معجزات إلى فرعون وملائه ، أي الوجوه البارزة من قومه ، من وزرائه وقواده ، وأصحاب الرأى والكلمة عنده ، فلم ينتفع هو ولا قومه بهذه الآيات ، ولم يروا فيها طريقا يصلهم إلى الله ويدعوهم إليه ، بل ظلوا على ما هم عليه من ظلم ومن بغى ، بل لقد كانت تلك الآيات باعثة لهم على المبالغة فى الظلم والبغي ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَظَلَمُوا) أي اتخذوها أداة من أدوات الظلم ، وذريعة من ذرائعه ، كما سنرى ذلك فى موقف فرعون بعد أن التقى به موسى ، وعرض عليه ما بين يديه من معجزات.

وفى قوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .. فى هذا ما يسأل عنه ؛ وهو : كيف يجىء الأمر بالنظر إلى ما صارت إليه حال القوم المفسدين ، ولم تأت عاقبتهم بعد؟ وماذا ينظر الآن من عاقبة هؤلاء المفسدين؟

والجواب : أن المبادرة إلى هذه الدعوة بالنظر إلى مصير المفسدين ، هى لإثارة التطلعات إلى تلك الخاتمة المثيرة التي ستختم بها هذه القصة ، وما ينتهى

٢٠