التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

«سبحانك .. لا أحصى ثناء عليك .. أنت كما أثنيت على نفسك» .. والثناء على الله سبحانه ، من ذاته ، أو من مخلوقاته ، في هذا المقام ، إنما هو شعور بعظم المنّة العظيمة ، التي كانت بنزول القرآن ، وما في هذا القرآن من رحمة ، وهدى للعالمين ..

ـ وقوله تعالى : (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) ـ هو وصف لله سبحانه وتعالى ، يكشف عن بعض إحسانه وفضله ، الذي استحق به التمجيد ، والتبريك ..

ـ وفي قوله تعالى : (نَزَّلَ) بدلا من «أنزل» إشارة إلى أن ما نزل على النبىّ من آيات ربّه ، لم ينزل جملة واحدة ، وإنما نزل نجوما مفرّقة .. وذلك لحكمة عالية ، كشف عنها سبحانه وتعالى في ردّه على الكافرين والضالين ، الذين قالوا : «لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة؟» فقال سبحانه : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٢ ـ ٣٣ : الفرقان).

وفي تسمية القرآن «فرقانا» إشارة إلى أن ما يحمل القرآن من هدى ونور ، يفرق به العاملون به ، بين الحقّ والباطل ، والخير والشر ، والهدى والضلال ..

ـ وفي قوله تعالى : (عَلى عَبْدِهِ) تكريم للنبىّ الكريم ، وإدناء له من ربّه ، بإضافته إلى ذاته سبحانه وتعالى .. ووصفه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالعبودية لله ، رفع لمقامه وتشريف لقدره ، وأنه هو الإنسان الذي يستحقّ هذه الصفة وحده من عباد الله ..

فلم يذكر القرآن الكريم عبدا من عباد الله ، أو رسولا من رسله ،

٥٠١

مضافا إلى الذات العليّة إلا «محمدا» صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه ..

لقد جاء وصف العبد لعيسى عليه‌السلام ، ولكن غير مضاف إلى ذات الله ، فقال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩ : الزخرف) وجاء وصف زكريا بأنه عبد ، وقد أضيف إلى ضمير الذات ، ولم تطلق هذه الإضافة ، بل قيّدت بذكر اسم زكريّا .. فقال تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢ : مريم).

وبهذا لم تخلص له الإضافة على إطلاقها ..

كذلك أضيف كثير من الأنبياء بصفة العبودية ، إلى ضمير الذات ، ولكن قيّدت هذه الإضافة بذكر أسمائهم ، بعدها ، كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) (٤١ : ص).

وقوله سبحانه : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٤٥ : ص).

وأكثر من هذا ، فإن «محمدا» صلوات الله وسلامه عليه قد تكرر ذكره في القرآن الكريم ، مضافا إلى ذات الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية ، ولم تقيّد هذه الإضافة في أية مرة ، بذكر اسمه ، أو صفته بعدها ، بل ترسل الإضافة ، هكذا في كل مرة ، على إطلاقها ، وذلك مما يؤكّد المعنى الذي ذهبنا إليه ، وهو إفراد «محمد» صلوات الله وسلامه عليه ، بهذه المنزلة بين عباد الله جميعا .. وأنه عبده ، الخالص من بين العبيد جميعا.

ومما يؤيد هذا المعنى ، ويؤكده ، أن إضافة محمد إلى ربّه ، بصفة العبودية ، لم يكن إلا في أحوال خاصة ، وصل فيها النبىّ إلى أعلى مقامات القرب من ربّه.

٥٠٢

ففى الإسراء .. يوصف «محمد» صلوات الله عليه بصفة العبودية ، مضافا إلى الذات العلية .. فيقول سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (١ : الإسراء).

وفي المعراج ، تخلع على «محمد» ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تلك الخلعة السنيّة ، وهو في أعلى عليين .. فيقول سبحانه وتعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠ : النجم).

وأكثر من هذا أيضا .. فإن «محمدا» ـ صلوات الله وسلامه عليه ، لم تخلع عليه صفة العبودية مضافة إلى ضمير الذّات ، وحسب ، بل أضيفت إلى الذات ذاتها ، في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩ : الجن) .. وهذه خصوصية أخرى ، تعطى هذه العبودية وضعا ليس لغيرها من عباد الله جميعا ..

ومع هذا التفرّد ، الذي للنبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بين خلق الله جميعا ، ومع هذا القرب الذي ليس لأحد غيره من عباده ، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لن يخرج عن قيد العبودية ، ولن يكون إلا عبدا لله ، وإن كان أكرم العبيد .. وإلّا خلقا من خلقه ، وإن كان أفضل الخلق .. وأن هذه المنزلة الرفيعة العالية ، التي لم تكن ولن تكون لبشر ، هى تكريم للإنسان من حيث هو ابن الماء والطين ، والذي يرقّ ، ويصفو ، ويعلو ، حتى يتقدم الملأ الأعلى ، ويدنو من ذى العرش ، حتى يكون قاب قوسين أو أدنى ..

ومع هذا كلّه ، فإن ما يتحدث به المتحدثون عن الحقيقة المحمدية ، يريدون بهذا الحديث أن يقطعوه عن البشرية ، وأن يعزلوه عن هذا الوجود البشرى ،

٥٠٣

إنما يسيئون من حيث لا يدرون إلى مقام النبىّ الكريم ، بهذه الألوان الصارخة من الخيال ، الذي يلقونه على صورته الكريمة ، فيطمسون معالمها ، ويشوّهون حقيقتها ، فلا يمسك منها النظر ، أو العقل ، أو الخيال ، إلا بظلال باهتة متراقصة ، يموج بعضها في بعض ، فلا تستبين فيها حقيقة لمخلوق ، من أهل الأرض ، أو عالم السماء ، وإنما هى أمشاج مختلطة ، من خيالات وأوهام ...! (١)

إن عظمة «محمد» فى أنه بشر كامل البشرية .. ولد من أب وأم .. وحملت به أمه تسعة أشهر ، وأرضع في البادية كما يرضع الأطفال ، وعاش كما يعيش أطفال قومه ، وصبيانهم ، وشبّانهم ، ورجالهم .. وإن كان ذلك على أحسن صورة يراها الناس في إنسان ، ويتمنّونها لهم ، ولأبنائهم ..

فلما كرّم الله سبحانه وتعالى محمدا بالرسالة ، لم تقطعه هذه الرسالة عن حاله الأولى ، ولم ير فيه الناس غير ما يرون ، بل إنه لم يأتهم بخارقة من الخوارق ، أو معجزة من المعجزات ، يملكها في يده ، وإنما جاءهم بآيات هى كلمات الله ، مضافة إلى الله سبحانه ، ومنسوبة إليه جلّ شأنه .. وما محمد إلا مبلغ لهذه الكلمات ، وليس له منها إلا ما للناس جميعا ، من الاهتداء بنورها ، والامتثال لأمرها ونهيها .. فكان ذلك أعظم توكيد وأبلغه ، للدلالة على بشرية الرسول من جهة ، وعلى أن ابن الماء والطين يحمل في كيانه من قوى الخير ، ومشاعل النور ، ما يرتفع به إلى أعلى عليين ، وأن الطريق مفتوح إلى مالا حدود له من الكمالات ، أمام الإنسان .. وأمامه المثل الأعلى للإنسان .. في محمد ـ «صلوات الله وسلامه عليه» ..

__________________

(١) انظر بحثنا في هذا عن «الحقيقة المحمدية .. وما يقال فيها» في الكتاب الثامن من هذا التفسير.

٥٠٤

وما أحسن ما يقول «البوصيرى» في رسول الله ، وفيما يقال ، وما لا يقال ، فيه ، إذ يقول :

دع ما ادّعته النصارى في نبيّهم

وقل ما شئت مدحا فيه واحتكم

قوله تعالى :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ..)

هو تمجيد لله سبحانه ، وتعظيم لذاته ، بإضافة هذا الوجود إليه ، في سماواته وأرضه ، وما في السموات والأرض ..

ـ وقوله تعالى :

ـ (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هو تنزيه لله أن يكون له ولد ، كما يدعى النصارى ، في المسيح ، وكما يدّعى اليهود في عزيز .. لأن اتخاذ الولد إنما يكون لافتقار الأب إلى من يحفظ نسبه ، ويبقى ذكره .. ثم إن هذا الولد في حاجة أيضا إلى أن يكون له ولد .. وهكذا في سلسلة من التوالد ، تجعل الآلهة وأبناء الآلهة أكثر من الآدميين ، وأبناء الآدميين .. إذ كان الآلهة ـ على حسب هذا المنطق ـ أطول أعمارا ، وأكثر قدرة على الإنجاب .. أو أنهم يتوالدون ، ولا يموت لهم مولود ..!

ومن جهة أخرى ، فإن الابن ـ قياسا على هذا المنطق البشرى ـ لا بد أن تكون له أم ، هى زوج الإله ..

ومن جهة ثالثة ، فإن التناسل لا يكون إلا بين الطبائع المتماثلة .. وعلى هذا

٥٠٥

تكون زوجة الإله شبيهة به ، مشابهة المرأة للرجل .. ويكون الابن شبيها لهما مشابهة الأولاد للآباء ..

وهذا كلّه ، مما لا يرتفع بالإله عن مستوى البشر .. ومن ثمّ فلا يكون له في هذا الوجود أكثر مما لأى إنسان .. وبهذا يظل مكان مالك الوجود ـ فى هذا التصوّر ـ خاليا .. فلمن إذن يضاف هذا الوجود ، خلقا ، وحفظا وتدبيرا وتصريفا؟

لمن هذا الملك؟ لمن ما في السموات والأرض؟

من يقول أنا؟

ألا فلتخرس الألسنة ، وألا فلتخضع الأعناق .. وألا فلتخشع القلوب ..

فذلكم الله ربّ العالمين! ..

ـ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً .. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).

وإنّا إذا ننظر في هذه الآية ، وفي قوله تعالى في الآية قبلها : (عَلى عَبْدِهِ) نجد أن فيها حراسة لعبودية النبىّ لربه أن تطغى عليها عواطف الحب والإكبار للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه ، من أتباعه ، وأوليائه ، فيجعلوا له إلى الله نسبا ، بولادة أو مشاركة ، أو نحو هذا ، مما يمليه الحبّ ، الذي لا تحكمه بصيرة ولا يضبطه عقل!

ـ وقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ..) أي خلق كلّ ما في السموات والأرض من مخلوقات ، ظاهرة أو خفية عرفها الناس ، أو لم يعرفوها ..

ـ وقوله تعالى : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي أن كل مخلوق خلقه الله ، هو عن علم ،

٥٠٦

وتدبير ، وتقدير .. وليس خلقا آليا ، كما يقول الطبيعيون ، الذين يرون فى قوانين الطبيعة قدرة ذاتية خلّاقة! وهذا ضلال في ضلال ..

فأولا : لو كانت الطبيعة هى التي تعطى هذا المحصول الوافر من المخلوقات ، لكانت كل مخلوقاتها على صورة واحدة ، ولما تعددت أجناسا ، واختلفت صورا وأشكالا .. لأن تعدد الأجناس ، واختلاف الصور والألوان ، إنما يكون من عمل إرادة حرّة ، مختارة ، تفعل ما تشاء .. والطبيعة عند الطبيعيين لا إرادة لها ولا اختيار .. أشبه بالحجر يلقى به من أعلى الجبل ، فلا يملك إلا أن يخضع لحكم الجاذبية ، ويسقط على السفح!

وثانيا : لو سلمنا أن هذه القوانين التي تحكم الطبيعة ، وتحدد مسيرتها ، هى التي تعمل وتنتج هذا النتاج المتولد من قوانينها ـ لو سلمنا بهذا .. لكان لنا أن نسأل : فمن أوجد الطبيعة هذه؟ ثم من أودع في هذه الطبيعة تلك القوى الكامنة فيها؟ ومن رسم القوانين التي تحكم الصلات التي بين أشيائها؟ ..

وكيف يقبل الطبيعيون تأليه الطبيعة ، في كل ذرة من ذراتها .. ثم لا يقبلون أن يكون على هذه الطبيعة قوة قادرة ، تردّ إليها هذه الطبيعة ، إيجادا وتقديرا ، وتنظيما؟ أليس ذلك أقرب إلى منطق العقل ، وأشكل بأسلوب العلم ، فى كشف الحقائق ، وتقعيد القواعد؟

إن قوانين الطبيعة التي كشف العلم عنها ، لا يعيش بعضها بمعزل عن بعض .. فهى وإن كان بينها تفاضل من جهة فإن بينها تكاملا من جهة أخرى .. حتى ينتهى الأمر بها إلى أن تكون قانونا واحدا عاما ، شاملا .. هو الذي يحدّث القرآن الكريم عنه بأنه «سنة الله» .. فكل ما عرف وهو هباءة مما لم

٥٠٧

يعرف من قوانين هو مندرج تحت هذا القانون العام «سنة الله» ، أي نظام الله ، وتقدير الله ، الذي أقام عليه هذا الوجود ..

قوله تعالى :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ..)

الضمير فى «اتخذوا» يراد به المشركون بالله ، الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، ولم يجر لهؤلاء المشركين ذكر من قبل في هذه الصورة ..

وفي عود هذا الضمير على غير مذكورين ، تحقير لهم ، وإصغار لشأنهم ، وأنهم ليسوا شيئا ذا بال ، حتى يذكروا ذكرا ظاهرا ..

وقوله تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ هو صفة لتلك الآلهة التي اتخذها المشركون ، واصطنعوها بأيديهم ، وجعلوها آلهة ..

وإنه ليس بعد سفه هؤلاء المشركين سفه .. يخلقون آلهة بأيديهم ، ثم يعبدونها؟ ..

إن ذلك وضع معكوس منكوس .. فهم بالنسبة إلى هذه الدّمى التي صنعوها بأيديهم ، أشبه بالآلهة .. لأنهم هم الذين خلقوها ، وأنه إذا كان لا بدّ من أن يعبد أحدهما الآخر ، فإن المخلوق هو الذي يعبد خالقه .. أما أن يعبد الخالق ما خلق .. فهذا ضلال بعيد بعيد!

وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ وفي إضفاء صفة العقلاء على هذه الدّمى إشارة إلى أنها إذا قيست بهؤلاء المشركين ، الذين يعبدونها ، كانت أثقل منهم ميزانا ، وأعلى منزلة ، وأشرف قدرا .. إنها معبودة وهم لها عابدون .. وأنهم ـ فيما يبدو للناس ـ أصحاب عقول ، فكيف لا يكون

٥٠٨

لآلهتهم تلك التي يعبدونها عقول كعقولهم؟ وهل يعقل أن يكون المعبود ، دون العابد في شىء؟ ..

إنهم هم أنفسهم لا يرضون بهذا ، لا يرضون لأحد أن ينزل آلهتهم من هذه السماء التي ينظرون من أرضهم إليها .. فهذه الدّمى عاقلة ، وإن كانت من حجر منحوت ، أو خشب منجور ، أو معدن مصنوع ..!! وهل يرى الأطفال فى الدّمى واللعب التي بين أيديهم إلا شخوصا حية ، عاقلة ، يناجونها ، ويلقون إليها بأمانيهم ، وخواطرهم .. إن هذا من ذاك سواء بسواء ..!

وقوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً ، وَلا نُشُوراً) هو بيان لصفات أخرى ، من صفات هذه الآلهة .. فهى مخلوقة غير خالقة ، وهى لا حول لها ولا طول ، إذ أنها في جمودها هذا لا تستطيع التحول من حال إلى حال ، ولا الحركة من مكان إلى مكان .. حتى لو أرادت أن تحطم نفسها ما استطاعت ، ولو أرادت أن تدفع عنها يد من يحطمها ما كان لها إلى ذلك من سبيل .. إنها باقية على حالها تلك ، إلى أن يطرقها حدث من الأحداث ، فيغير من وضعها ، كيف يشاء ، دون أن يكون لها موقف .. إيجابا ، أو سلبا .. وهل يملك الجماد شيئا إلا أن يجمد على ما هو عليه ، حتى تجىء إليه قوّة من الخارج ، فتحدث فيه ما تحدث من تغيير وتبديل؟ ..

وقدمّ الضّرّ على النفع ، لأن جلب الضرّ أيسر من تحصيل النفع .. فالإنسان يستطيع أن يضر نفسه بأيسر مجهود ، بل وبلا مجهود أصلا ، وحسبه أن يقف في طريق الحياة من غير حركة ، فإنه إن فعل ، سيجد ألوانا من الضرّ والأذى تزحف إليه من كل اتجاه .. وليس كذلك تحصيل النفع ، فإنه يحتاج إلى بذل ، وجهد ، هو الثمن المقابل لهذا النفع ، كيلا بكيل ، ووزنا بوزن ..

٥٠٩

وهذه الجمادات ـ ومنها تلك الأصنام ـ لا تملك أن تتحول من حال إلى حال أبدا ، سواء في الاحتفاظ بوضعها ، أو التحول عنه إلى وضع أسوأ ، أو أحسن .. إنها لا تملك «موتا» لنفسها ، وذلك بتحطيم صورتها التي تشكلت عليها ، ولا «حياة» أي إيجاد هذه الصورة من قبل أن توجد ، «ولا نشورا» أي إعادة هذه الصورة بعد تحطيمها ..

هذا شأنها مع نفسها .. عجز مطلق واستسلام صامت .. فهل يمكن ـ مع هذا ـ أن يكون لها حيلة مع غيرها ، فى دفع ضر ، أو جلب نفع؟ ذلك محال .. وأبعد منه استحالة ، أن تقدر على إماتة حى ، أو إيجاد حى ، أو بعث ميت .. فذلك مما عجز عنه الأحياء .. والذي لا يملكه إلا خالق الحياة ، وموجد الأحياء .. الله رب العالمين ..

قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ .. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً).

تكشف الآية هنا عن وجه هؤلاء الذين ذكرتهم الآية السابقة بضمير الغيبة ، دون أن تذكر صفتهم ، أو ترجع هذا الضمير إلى مذكورين من قبل ذلك في قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) :

ـ ففي قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ..) إشارة دالة على أن هؤلاء الكافرين الذين يقولون هذا القول المنكر في القرآن الكريم ـ هم أولئك الذين اتخذوا من دونه آلهة!

وإنك لو ذهبت تضع كلا من الآيتين مكان الأخرى ، لا استقام النظم. بل إنك لو كنت الذي يحدّث بهذا الأمر ، ويصوغ هذا القول ، لما ذهبت غير هذا المذهب فجعلت تكذيب المشركين بآيات الله ، واتهامهم الرسول بالكذب

٥١٠

والافتراء على الله ، سببا في كفرهم ، وفي اتخاذهم آلهة يعبدونها من دون الله ..

ولكن نظم القرآن وإعجازه ، هو وحده الذي يستولى على الحقيقة كاملة ، حيث ينفذ إلى الصدور ، وينكشف ما تجنّ من خلجات وخطرات ..

فهؤلاء الذين التقوا بكلمات الله ، وقالوا فيها هذا القول المنكر ، إنما التقوا بها ، وقد فسدت فطرتهم ، بما دخل على قلوبهم من مرض ، وما غطّى على عيونهم من موروثات الضلال .. ولو أنهم التقوا بآيات الله من غير أن يكون معهم هذا الداء الذي تمكن منهم ، وأفسد عليهم فطرتهم ـ لكان لهم فى آيات الله قول غير هذا القول ، ولرأوا في سناها الوضيء وجه الحق ، فاهتدوا إلى الله ، وآمنوا به ، وبرسوله ، وبكلماته ..!

وكيف يرجى من عقول تملى لأصحابها أن ينحتوا بأيديهم صورا من أحجار ثم يخرون بين يدى هذه الأحجار عابدين ، يرجون منها ما لا يرجونه من أنفسهم ، ويحملون عليها من آلامهم ، وآمالهم ما لا يحتملون هم ، أفرادا ، أو جماعات ـ كيف يرجى من هذه العقول أن تعقل آيات الله ، وما تحمل فى كيانها من أنوار الحق ، والخير ، والإحسان؟ ذلك ما لا يكون!.

وإذن ، فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الكافرون في آيات الله .. هو من منطق هذه العقول التي تتعامل مع الدّمى ، وتقف بين يديها هذا الموقف الذليل المستكين ..

قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ..).

والإفك : هو الزّور والبهتان ..

والافتراء خلق الأكاذيب ، ونسبتها إلى الغير ..

٥١١

ومن منطق هؤلاء الضالين ، أنهم يتهمون النبىّ بالكذب والافتراء ، وهم الذين لم يجرّبوا عليه في حياته كلّها قولة واحدة جانبت الصواب ، أو بعدت عن الصميم من الحقّ .. ولم يسألوا أنفسهم : لم يكذب؟ وما غايته من هذا الكذب؟ إن الذي يزوّر الكلام ، ويختلق الأكاذيب ، لا بدّ أن يكون له وراء ذلك غاية يتغيّاها ، ومطلب يسعى للحصول عليه .. فماذا طلب النبىّ منهم من وراء هذا الدّين الذي يدعوهم إليه؟ إنهم ـ لو عقلوا ، لعرفوا أنما يدعوهم ليحترموا عقولهم ، وليرتفعوا بإنسانيتهم عن هذا الصّغار الذي هم فيه ، من لعب في التراب!

ومن عجب ، أن هؤلاء الرجال الأطفال ، قد استطاعوا أن يميزوا هذا القول ، وأن يعرفوا أنه فوق مستوى البشر ، وأنه ما كان لمحمد أن يقدر على افترائه ، وإنما استعان بأهل الصنعة والخبرة فأعانوه عليه ـ من عجب أن تبهرهم آيات الله ، وأن يروا بعض ما فيها من عظمة وجلال .. ثم تأبى عليهم عقولهم التي أذلّها الجهل والضلال ، أن يسلّموا بأن هذا الكلام ليس من صنعة بشر ، وإنما هو من كلام ربّ العالمين ، كما يقول لهم ذلك محمد ، الذي لم يجرّبوا عليه كذبة قط ، وكما تحدّثهم بذلك كلمات الله ، فى جلالها ، وسموّها ، وبعدها عن أن تكون في متناول إنسان!.

ـ وفي قوله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) ـ هو ردّ على قول الكافرين : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ..) إنهم هم الذين جاءوا بهذا القول الظالم ، الجائر عن الحق ، والذي زوّروه على أنفسهم ، وكذّبوا عليها به ..

وفي تعدية الفعل «جاء» إلى المفعول ، وهو يتعدّى بحرف الجرّ ، فيقال

٥١٢

جاء بكذا ، لا جاء كذا .. فى هذا إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه ، إنما هو مستجلب من وراء عقولهم ، وأنه من موروثات الضلال الذي يعيش معهم .. فهم قد استجلبوا هذا القول ، الذي ظلموا به الحقيقة ، وظلموا به أنفسهم ، وكذبوا به عليها .. فالفعل «جاء» ضمّن معنى «جلب» أو «اختلق» ..

قوله تعالى :

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها .. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

هو قول آخر من مقولات المشركين في كلمات الله .. وكأنهم أرادوا بهذا أن يقيموا لهذا الزور الذي استجلبوه أو اختلقوه ، مستندا يستند إليه ، وقد رأوه يكاد يفرّ من بين أيديهم ..

ونسبة القرآن إلى أنه من أساطير الأولين ، فرار من القول بأنه من معطيات الحياة التي يعيشون فيها ، وذلك حين رأوا أن هذه الحياة لا تعطى مثل هذا الكلام في جلاله وروعته ، وأنه لو كان ذلك ممكنا لكان عليهم أن يجيئوا بقول مثله ، فلم يكن ـ والحال كذلك ـ إلا أن ينسبوه إلى علم الماضين ، وما سطروه من علم وحكمة ..

وفي أساطير الأولين مدخل فسيح للخيال ، واصطياد الغرائب التي لا تخطر على البال ، حيث يقع الماضي من الناس موقع القداسة والرهبة ، لكل صغير وكبير يستجلب منه .. فلا حجة عليهم لمن يجيئهم من عالم الأساطير بما لم يقع لأيديهم ، فهذا عالم لا حدود له ، ولا مجاز بين أحد وبينه ..!!

وفي قولهم : «اكتتبها» إشارة إلى أمية النبىّ ، ودفع الاعتراض القائم بين يدى قولهم: (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ..) وقولهم عن هذا الإفك المفترى

٥١٣

إنه من «أساطير الأولين» .. فأنّى لمحمد بأساطير الأولين ، وهو الأميّ؟ فكان قولهم : «اكتتبها» دفعا لهذا الاعتراض ... أي أنه وإن كان أمّيّا ، فإنه استعان بمن يكتبها له!!

وفي قولهم : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) دفع لاعتراض آخر .. وهو : إذا كان محمد قد استكتب هذه الأساطير ، واستعان بمن يكتبها له ـ فما فائدة هذه الكتابة ، وهو لا يقرأ ما كتب له؟ ثم هو إنما يتحدث بهذا الكلام مشافهة بلسانه ، لا يقرؤه من كتاب ، ولا يقرؤه له أحد عليهم .. فكيف هذا؟ .. وجوابهم ـ كما قدروه ـ : أن هذا الذي استكتبه ، يتلى عليه بكرة وأصيلا ، تلاوة دائمة ، حتى يحفظه ، ثم يحفظه ، ثم يخرج على الناس به!

وهكذا يركبون بجهلهم ، وسفههم ، هذا المركب الوعر ، والطريق أمامهم مستقيم قاصد .. فماذا عليهم لو أخذوا بما تحدّثهم به أنفسهم ، وقالوا إنّ هذا الكلام من عند الله؟.

إنهم لو قالوا هذا .. لكان لهم في هذا القول ما لمحمد نفسه .. إنه ليس لمحمد فيه إلّا ما هو لهم ، وإنه إذا كان له من فضل عليهم ، فهو فضل الدّليل على الراكب الضّالّ ، وفضل الطبيب على الأعمى ، يعيد إليه بصره ، فيرى النور ، الذي هو من نعمة الله ، على عباد الله ، وليس للطبيب ولا لغيره فضل على أحد فيه! أفيكرهون أن يقوم من بينهم طبيب ، يجلى عمى أبصارهم ، ويزيح ضلال عقولهم ، فيروا آيات الله بعيون مبصرة ، وعقول سليمة مدركة؟ إنه العناد ، والكبر .. عناد الأطفال ، وكبر السفهاء والحمقى .. يموت أحدهم غرقا ولا يمدّ يده إلى حبل النجاة الممدود له من يد كريمة رحيمة ، حتى لا يقال إن فلانا قد أخذ بيده ، ونجّاه من مهلكه!!

٥١٤

قوله تعالى :

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

هذا هو القول ، الذي يلقى به رسول الله ، قول هؤلاء الضالين عن كلام الله ، بأنه إفك افتراه محمد ، وأعانه عليه قوم آخرون ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها ، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا ..

فهذا الذي بين يدى محمد ، وعلى لسانه ، وفي قلبه ـ هو كلام ربّ العالمين. أنزله عليه ، هدى ورحمة للعالمين ..

وفي وصف الله سبحانه وتعالى بتلك الصفة هنا ، وهو أنه يعلم السرّ فى السموات والأرض ـ إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من علم ، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .. وأن ما عند الأولين من علم ، وما خلفوا من آثار ، باقية ، أو مطموسة ، هى في علم الله ، وأنه إذا كان فيما نزل على محمد أخبار من حياة الأولين ، ومن أحداثهم ـ فذلك في علم الله ، ومن علم الله .. وإنه ليس بمحمد حاجة ـ وهو يتلقى آيات ربه ـ أن يستكتب أساطير الأولين ، وأن يحفظها ، ثم يحدث بها .. إنه يستقى من مصدر العلم ، ومن ينابيعه الصافية ، فما حاجته إلى أن يمدّ بصره إلى سراب خادع ، أو بئر مطموسة؟.

وفي قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ـ إشارة إلى أن الله سبحانه ، مع علمه بخفايا الناس ، وبما يرتكبون من منكرات يخشون أن يطلع عليها من يفضحهم ، ويكشف المستور من أمرهم ـ فإنه سبحانه وتعالى ، «غفور» لأصحاب المنكرات ، ولا يعجّل لهم العقاب ، ولا يفضح المستور منهم ، حتى

٥١٥

تكون لهم عودة إلى أنفسهم ، ورجعة إلى الطريق المستقيم .. فإنهم إن فعلوا ، وجدوا ربا «غفورا» يقبل توبتهم ، ويغفر لهم ما كان منهم .. (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

____________________________________

الآيات : (٧ ـ ١٦)

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ..)

٥١٦

بعد أن فضحت الآيات السابقة مقولة المشركين في القرآن الكريم ، بأنه إفك مفترى ، وأنه أساطير الأولين ، اكتتبها محمد ، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا ـ بعد أن فضحت الآيات السابقة تلك المقولة الظالمة عن المشركين فى القرآن الكريم ، وردّ الله سبحانه وتعالى كذبهم وافتراءهم بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ـ جاءت هذه الآيات لتفضح مقولتهم في النبىّ نفسه .. فإن لهم فيه مقولات ، كتلك المقولات التي يقولونها في كلمات الله التي حملها إليهم ..

ومن مقولاتهم في الرسول قولهم الذي حكاه القرآن عنهم :

(ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟).

فهم ينكرون أن يكون هذا الإنسان رسولا ، ثم يأكل الطعام كما يأكلون ، ويمشى في الأسواق ، ليبيع أو يشترى ، كما يمشون ويبيعون ويشترون!

وفي حديثهم عن محمد بأنه رسول ، استهزاء ، وسخرية ، وإنكار .. إذ كيف يكون رسولا ثم يكون بشرا تحكمه الضرورات البشرية ، من طعام وشراب ، وغيرهما؟ هكذا يجرى تفكيرهم وتقديرهم.

وفي قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) تسليم جدلىّ منهم ، بأن يكون الرسول بشرا ، ولكن لا يعترف به رسولا ، إلا أن يكون معه ملك هو الذي يأخذ منه الناس شاهدا على أن محمدا رسول الله ، وأن هذه الكلمات التي ينذرهم بها هى كلمات الله!!

ولم يسأل هؤلاء الضالين أنفسهم ما جدوى الرسول إذن ، مع هذا الملك المنزل من السماء بكلمات الله؟ ولم لا يتصل بهم الملك اتصالا مباشرا إن كان ذلك ممكنا؟ ومع أىّ من المرسلين يتعاملون؟ أمع البشر ، أم الملك؟ .. ثم ، من يرى ملكا ويتعامل مع بشر؟.

٥١٧

قوله تعالى :

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

ثم ها هم أولاء يسلّمون جدلا ، أن يكون محمد رسولا ، يأكل الطعام ويمشى في الأسواق .. ولكن كيف يكون على هذه الحال ، من الضيق فى العيش ، وهو على صلة بالله ، الذي يفيض الخير على الناس ويملأ أيديهم من النعم؟ ألا يلقى إليه ربّه كنزا من السماء ، ينفق منه عن سعة ، وينال به كلّ ما شاء من متع الحياة؟ أولا يجعل له ربّه جنة يأكل منها ، ويعيش في خيرها ، كتلك الجنات التي يملكها أصحاب الجاه والنعمة فيهم؟

إن الذين يتصلون بالملوك ، والأمراء ، وأصحاب الجاه والغنى ، يعيشون فى نعمة ورخاء .. فكيف تكون تلك الحال من الفقر والضيق ، لمن يدّعى أنه على صلة بالله ، وأنه رسول الله؟ ـ هكذا يقيس القوم أقدار الناس ومنازلهم عند الله! فعلى قدر ما وسع الله لإنسان في الرزق ، يكون ـ فى تقديرهم ـ على قدر حبّه له ، ومنزلته عنده! إن مقاييس الناس عندهم بما ملكوا من مال ، وما جمعوا من حطام .. ولم يدخل في حسابهم شىء من كمالات النفس ، وسمّو الروح .. وحسبوا أن هذه الحياة الدنيا هى كلّ ما للإنسان ، فإذا انتهت حياته بموته انتهى كلّ شىء بالنسبة له ..! ومن هنا كان حسابهم قائما على ميزان فاسد ، لا يقام لشىء وزن فيه ، إلا إذا كان فاسدا معطوبا ..

ثم يدور هذا الحديث في القوم ، ويتعاطونه فيما بينهم كما يتعاطون كئوس الخمر .. ثم يكون حصيلة هذا كله ، أن يقولوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)! أي ما تتبعون إن اتبعتم إلا إنسانا سحر ، فاختلط عقله ، واضطرب تفكيره ..

٥١٨

وفي قوله : (وَقالَ الظَّالِمُونَ) بدلا من قوله «وقالوا» إظهارا للصفة التي يدمغهم بها الله سبحانه وتعالى ، فى مقابل تلك المقولات المنكرة ، الضالة ، التي يقولونها في النبىّ. إنّهم ظالمون ، جائرون عن الطريق المستقيم ، راكبون طرق الضلال ، والهلاك ..

قوله تعالى :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ..)

التفات إلى النبي الكريم بهذا الخطاب من ربّه جلّ وعلا ، يدعوه إلى أن ينظر فى هذه المقولات التي يقولونها فيه ، وليعجب من تلك العقول الفارغة التي لا يخرج منها غير هذا اللّغو من القول؟ إنهم أعجوبة ، تثير الدهش والعجب ، وتبعث على السخرية والاستهزاء!

والأمثال التي ضربوها ، هى تلك الصور التي صورتها عقولهم الفارغة لمن يرون أن يكون أهلا لرسالة السماء.

ـ وفي قوله تعالى : (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إشارة إلى أن ضلالهم كان ضلالا بعيدا ، مستوليا على وجودهم كله .. ومن هنا ، فإنهم لا يقدرون ـ ولو حاولوا ـ على أن يجدوا سبيلا للخلاص من هذا الضلال ، الذي غرقوا فى لججه المتلاطمة!

قوله تعالى :

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

أي تبارك ربّك ، وكثرت خيراته وبركاته .. وإنه ليس بالذي يمسك عنك هذا المتاع الدنيوي ، الذي يقتتل عليه هؤلاء المشركون ، ويأبون متابعتك

٥١٩

إلا إذا كنت على تلك الصورة التي تمثلوها لمبعوث السماء إليهم ، من وفرة الغنى وكثرة الأموال والزروع .. فلو شاء ربك لجعل لك بدل الجنة جنات ، وبدل القصر قصورا .. ولكنه سبحانه ضنّ بك على هذه الدنيا أن تشغل قلبك ، عن ذكره ، أو تحجز عينك عن النظر في غير آياته ..!

قوله تعالى :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً).

إن هؤلاء القوم ، لا يرضون عن هذا القول ، ولا يجدون فيه ما يعتدل به ميزانك عندهم .. لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ولا يرجون وراء هذه الدنيا حياة أخرى .. ولو أنهم آمنوا بالحياة الآخرة ، لعلموا أنها هى الحياة ، وأن نعيمها هو النعيم ، وأن شقاءها هو الشقاء.

وأن ما في هذه الدنيا من متاع وشقاء ، إلى زوال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤ : العنكبوت).

ـ وفي قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) وعيد لهؤلاء المشركين بالعذاب الأليم الذي أعده الله للظالمين في الآخرة .. وإنهم لمن الظالمين ..

قوله تعالى :

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ..)

فهذه جهنم ـ وهذه أهوالها ـ إنها إذا رأت أهلها المساقين إليها ، وهم على بعد منها ، (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) إنها ترسل إليهم بنذرها قبل أن يصلوا

٥٢٠