التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وغيرهم من أصحاب النار ، خيرا من العدم ، والله سبحانه وتعالى يقول : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠ : النبأ) أيتفق هذا وذاك الذي نقول به ..؟

ونقول : إن الحياة بعد الموت نعمة لأهل الجنة وأهل النار جميعا ، وهى خير من العدم! أيّا كانت صورة تلك الحياة ، وأيّا كان مصير الأحياء فيها .. نقول هذا ، وبين أيدينا كثير من الشواهد ، من كتاب الله ..

فأولا : من أمنيّات أهل النار فى النّار أن يردّوا إلى الحياة الدّنيا .. وذلك فى كثير من الآيات القرآنية ، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧ : الأنعام) وكما يقول سبحانه فى هذه السورة على لسان أهل النار : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (الآية : ١٠٧) وكما يقول جل شأنه على لسانهم أيضا : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) (٤٤ : إبراهيم).

وهذا يعنى أنهم ، وهم فى النار ، متمسكون بالحياة ، راغبون فيها ، على أية صورة كانوا عليها ..

وثانيا : أن ما يقوله الكافر فى الآخرة ، حين يرى العذاب ، وهو قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) هو بسبب ما يلاقى الكافرون من بلاء ، تضيق به نفوسهم ، شأنهم فى هذا شأن كثير من الناس فى هذه الحياة الدنيا حين تحتويهم حياة قاسية ، يتمنون معها الموت .. ولكنهم فى الواقع متمسكون بالحياة حريصون عليها .. ولو طلع عليهم الموت فى تلك الحال ، لفزعوا منه وكربوا ، ولطلبوا المهرب ، إن كان ثمة مهرب!

وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا ، دون أن تنازعهم

٣٤١

أنفسهم إلى التعلق بها ، واللهفة على التشبث بكل خيط فى يدهم منها ، مهما يكن حظهم فيها ، وشقاؤهم بها ..

الناس جميعا متعلقون بالحياة ، راغبون فى المزيد منها ، ولو أخذت منهم الأيام ، وألحت عليهم العلل ، وحطمتهم السنون ..

إن حبّ الحياة طبيعة فى كل حىّ ، وهو فى الإنسان طبيعة وإرادة معا .. طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه ، والإبقاء على ذاته أطول زمن ممكن .. وحبّ البقاء ـ فوق ذلك ـ إرادة تخلّقت فى الإنسان عن اتصاله بالحياة ، واختلاطه بالأحياء ، واشتباك مصالحه بهم ، وانفساح آفاق آماله بينهم ، وامتداد آثاره فى الحياة وفيهم ..

إن الإنسان ـ مهما طال عمره ، وامتد أجله ، فإن يده تقصر عن أن تنال كل ما أراد ، وإن الحياة لتضمن بأن تحقق له كل رغبة ، وأن تدنيه من كل أمل .. يقول الشاعر :

تموت مع المرء حاجاته

وحاجة من عاش لا تنقضى

من أجل هذا ، كان فى الناس هذا الحرص الشديد على الحياة ، وعلى الاستزادة منها ، ولو كان ماؤها آسنا ، وهواؤها سموما ، وطعامها الشوك والحسك!

والموت هو الشبح المخيف ، الذي يطل على الناس بوجه كالح بغيض ، يتهددهم فى أنفسهم ، وفيمن يحبون ، من ولد ، وأهل وصديق .. إنه أعدى عدو للإنسان .. إنه يبغت الناس بغتة ، ويفجؤهم فجاءة على غير موعد .. فهم أبدا فى وسواس منه ، وفى خوف من وقعاته بهم ، وبمن يحبون ، ويؤثرون.

إنه ليس شىء أبغض إلى الناس من الموت ، وليس شىء أكثر طروقا

٣٤٢

ووسواسا لهم منه .. إنه أبدا مصدر إزعاج لكل سليم وسقيم ، وكل شاب وشيخ .. إن لم يره دانيا منه فى حال ، رآه ناشبا أظفاره فى أب ، أو أم ، أو زوج ، أو ولد ، أو صديق.

ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت ، وتعلقوا بالحياة ، مهما تكن هذه الحياة ، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها ، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام .. يقول أبو العلاء :

نحبّ العيش بغضا للمنايا

ونحن بما هوينا الأشقياء

ويقول أيضا :

ودنيانا التي عشقت وأشقت

كذاك العشق ـ معروفا ـ شقاء

سألناها البقاء على شقاها

فقالت عنكم حظر البقاء

ولزوميات أبى العلاء ، تدور كلها حول الموت ، وماوراء الموت ، ولا تكاد قصيدة أو مقطوعة من شعره فى هذا الديوان تخلو من الحديث عن الموت ، أو النفس ، أو البعث والجزاء .. وذلك فى صور شتى من الرأى المتقلب بين اليقين والشك ، والإيمان والإلحاد ، والإقرار والإنكار ..

إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة «أبى العلاء» فعمقت جذورها ، وسمقت فروعها ، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة ، ملحدة .. متفائلة ، متشائمة .. شأن الخائف المفزّع ، تتغاير فى عينيه صور الأشياء ، وتغيم حقائقها ..

إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها ، مما شغل به العقل ، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية ، منذ الخطوات الأولى للإنسان فى هذه الحياة ..

٣٤٣

يقول بعض الفلاسفة المعاصرين : «إن الموت هو أصل الديانات كلها ، ويجوز أنه لو لم يكن هناك موت لما كان للإله عندنا وجود».

وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا ، يستمد منها الحياة ، ويدفع بها الموت .. وإذا لم يتحقق له ذلك فى الحياة الدنيا ، طمع فى حياة أخرى بعد الموت ، يصل بها ما انقطع بالموت ..

ويكاد التفكير الإنسانى كله ـ عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح ـ يكاد يرى الموت خاتمة حياة ، ومبدأ حياة جديدة أخرى.

لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره ـ رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان ، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم .. فأقام لهم المقابر ، وسعى إليهم فى أوقات مختلفة ، يناجيهم ، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين ، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان ..

وحول المقابر ، وعليها ، أقيمت تماثيل الموتى ، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية ، حتى يجد الميت فى ذلك ما يهنأ به فى عالمه الجديد ..

إن شبح الحياة تدبّ فى الأموات ، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور ، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات .. بمواراتهم فى القبور ، أبدا ، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات ، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى ـ عن طريق التخيل والتوهم ـ الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون ..

إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات ، قد خلقت فى الناس عقيدة الحياة بعد الموت .. وذلك قبل أن تجىء الأديان السماوية ، فتقرر هذه الحقيقة ، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه ، واستشعره بوجدانه ، وطرقه بخياله.

٣٤٤

لقد كان أهم ما يميز ديانة المصريين القدماء هو فكرة الخلود .. أعنى الحياة الخالدة بعد الموت .. فتلك العقيدة هى جرثومة التفكير الديني ، الذي تولدت منه الديانة المصرية القديمة ، وتشكلت منه طقوسها ومراسمها ..

فالمصريون القدماء ، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته ، فيفيض ثم يفيض ، وأن يحيا النبات بعد موته ، فيزدهى وينضر ، فإنه ـ من باب أولى ـ أن يحيا الإنسان بعد أن يموت ..

واقرأ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ .. أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٨٠ : المؤمنون).

* * *

لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها فى هذه الدنيا ، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ ، بعد الموت .. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة ، التي لا موت معها.

يقول «سقراط» «عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت .. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة .. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة ، ونفرح بالموت ، لأننا نحيا لنموت ، ونموت لنحيا ..»

وفى كتاب الهند المقدس «كاثا» : «يفنى الفاني كما تفنى الغلال ، ثم يعود إلى الحياة فى ولادة جديدة كما تعود الغلال (١)».

ويقول الفيلسوف الألمانى «جوته» :

__________________

(١) يريد بفناء الغلال دفنها فى باطن الأرض ، ثم تحللها ، وتشققها ليخرج منها النبات.

٣٤٥

«إن الاجتهاد المحتدم فى نفسى ، هو برهانى على الديمومة .. فإذا كنت قد عملت حياتى كلها ولم أسترح ، فمن حقى على الطبيعة أن تعطينى وجودا آخر عند ما تنحلّ قواى ، وتنوء بحمل نفسى».

والديانات السماوية ، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة ، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود ، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل ، من خير أو شرّ.

ويؤدى الموت فى الديانات السماوية ، دورا عظيما فى إقامة العقيدة الدينية ، وفى تعميق جذورها فى قلوب المؤمنين ، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها ، وتقبّلها فى رضا وغبطة ، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا لله بالجهاد فى سبيله ، طمعا فى حياة أفضل!

وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها فى تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها .. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة فى الإيمان بالبعث واليوم الآخر ، بعد الإيمان بالله.

ومع أن الكتب السماوية ، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا «فسيولوجيا» ولم تدخل فى جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة فى الحياة ، وما بعد الحياة ـ مع هذا ، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا ، بل كان فى المتدينين ـ من فلاسفة وعلماء وفقهاء ـ من أجال تفكيره فى هذه القضية ، مستصحبا الدين ، أو مستقلّا بنظره ورأيه.

وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات .. نكتفى هنا بأثارة منها ..

فمثلا يقول «الراغب الأصفهانى» : «إن الموت المتعارف ، الذي هو

٣٤٦

مفارقة الروح للبدن ، هو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدى .. فهو وإن كان فى الظاهر فناء واضمحلالا ، فهو فى الحقيقة ولادة ثانية .. إن الإنسان فى دنياه جار مجرى الفرخ فى البيضة ، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها ، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله .. ولو لا الموت لم يكمل الإنسان!».

ثم يقول : «فالموت إذن ضرورى فى كمال الإنسان ، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف ، سمّاه الله «توفّيا» وإمساكا عنده : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤٢ : الزمر).

ثم يقول الراغب : «فالموت هو باب من أبواب الجنة ، منه يتوصّل إليها ، ولو لم يكن الموت ، لم تكن الجنة ، ولذلك منّ الله به على الإنسان .. فقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٢ : الملك) .. فقدّم الموت على الحياة ، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة ..

وقال سبحانه أيضا : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ .. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) فجعل الموت إنعاما ، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت ، فالموت نعمة ، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة ، نعمة .. وعلى هذا جاء قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ .. فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ .. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٤ ـ ١٦ المؤمنون) ـ فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن ..

ويقول الفيلسوف المسلم «محمد إقبال» :

٣٤٧

«إن كائنا ـ يعنى الإنسان ـ اقتضى تطوّره ملايين السنين ، ليس من المحتمل إطلاقا ، أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع .. وليس إلّا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار ـ يمكن أن ينسب إلى معنى الكون .. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٧ ـ ١٠ : الشمس) .. وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (١ ـ ٢ : الملك) ـ فالحياة تهيىء مجالا لعمل النفس ، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب».

* * *

وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت ..

وإنه قبل أن تجىء الديانات السماوية ، وقبل أن تقول كلمتها فى الحياة الآخرة ، قالت الإنسانية كلمتها .. قالتها شعرا ونثرا .. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا ، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل ..

ففى الديانات المصرية القديمة مثلا ، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا ، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم .. وهذا ، مثل من صور هذا الدفاع :

«سلام عليك .. أيها الإله العظيم .. ربّ الصدق والعدالة .. لقد وقفت أمامك يا ربّ ..

«وجىء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!!

«أحمل إليك الصدق .. إنى لم أظلم الناس .. لم أظلم الفقراء .. لم أفرض

٣٤٨

على رجل حرّ عملا أكثر مما فرض هو على نفسه!

«لم أهمل .. ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة .. ولم أكن سببا فى أن يسىء السيد معاملة عبده ..

«لم أمت إنسانا من الجوع .. ولم أبك أحدا .. ولم أقتل إنسانا. ولم أخن أحدا ..

«لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس ..

«لم أكفر بالآلهة .. ولم أغشّ فى الميزان ..

«لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع .. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة ..

«أنا طاهر .. أنا طاهر .. أنا طاهر ..!!»

فالحياة بعد الموت ، والحساب والجزاء ، هى مما يطلبه الإنسان ، ويعيش فيه ، ويعمل له .. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها ، أو شريعة تكشف عنها ..

فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها ، مقررة لها ، كاشفة عنها ، ضاربة الأمثال لها ، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟

وخير ما نختم به هذا البحث ، ما قرّره الراغب الأصفهانى ، فى كتابه : «تفصيل النشأتين» حيث يقول : «لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى ، إلا جماعة من الطبيعيين ، أهملوا أفكارهم ، وجهلوا أقدارهم ، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم ، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات ..

«وأما من كان سويّا ، ولم يمش مكبّا على وجهه ، وتأمل أجزاء العالم ، علم أن أفضلها ذوات الأرواح ، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار ،

٣٤٩

وأفضل ذوى الإرادة والاختيار ، الناظر فى العواقب ، وهو الإنسان ـ فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان ، وأنه ـ سبحانه ـ لم يجعل هذه الخاصيّة له ، إلّا لأمر جعله فى العقبى ، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا!

«فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة ، المملوءة نصبا وهمّا وحزنا ، ولا يكون بعدها حال مضبوطة ـ لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!! فيقتضى هذا أن تكون هذه الحكم الإلهية ، والبدائع الربانية ، التي أظهرها الله فى الإنسان عبثا ، كما نبّه الله تعالى بقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ..) فإن إحكام بنية الإنسان ، مع كثيرة بدائعها وعجائبها ، ثم نقضها ، وهدمها من غير معنى سوى ما تشاركه فيه البهائم من الأكل والشرب ، مع ما يشوبه من التعب الذي أغنى عنه الحيوان ـ سفه» «تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا».

* * *

قوله تعالى :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ).

هو تنزيه لله سبحانه وتعالى ، أن يكون خلق الخلق عبثا ، وأنه سبحانه يميتهم ، ثم لا يبعثهم .. إن هذا لا يليق بالملك العظيم ، الحقّ ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم ..

وفى وصف الله سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية ، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين : الخلق ، والبعث ، وأنهما من شأن «الملك» الذي قام ملكه على الحقّ ، والذي لا إله معه ، يشاركه الخلق والأمر ، فيعطل مشيئته ، أو ينقض حكمته ..

ثم إن فى وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم ، إشارة أخرى ، إلى أن

٣٥٠

الخلق والبعث نعمة من منعم كريم ، بيده الخير ، وهو على كل شىء قدير.

قوله تعالى :

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).

وبهذه الآية ، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة ، حيث يلتقى ختامها مع بدئها .. فقد بدئت بهذا الإعلان العام : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ..) ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين ، وما أعدّ الله لهم فى الآخرة من نعيم ، حيث يورّثهم الجنّة ، ويطلق أيديهم فيها ، ينعمون بما يشاءون منها .. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة الله ، وفضله على الإنسان ، الذي أخرجه من تراب ، فكان هذا البشر السّوىّ .. وتمضى الآيات فتعرض ، صورا للمعاندين المكذبين برسل الله ، وما أخذهم الله به فى الدنيا من نكال ، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب .. ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث ، وأنه أمر واقع لا شك فيه .. ثم تجىء خاتمتها داعية إلى الإيمان بالله ، والإقرار بوحدانيته ، والتحذير من الشرك به ، فإن من يشرك بالله فهو من الكافرين .. وإن الكافرين هم الخاسرون ..

ـ وفى قوله تعالى : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) ـ دعوة صريحة إلى تحرير العقل ، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام ، ومن الانقياد للآخرين ، من غير أن يكون له نظر واقتناع ، عن برهان قاطع ، وحجة واضحة ..

فالإيمان بالله سبحانه وتعالى : «قضية» أولى من قضايا العقل ، يرتبط بها مسيره ومصيره ، فى الدنيا والآخرة .. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية فى جدّ واهتمام بالغين ، وأن يوجّه إليها كل مدركاته ،

٣٥١

وملكاته ، وأن يفتح لها عقله وقلبه ، حتى يمحصها تمحيصا ، ويقيم لها الأدلة والبراهين .. فإن هو آمن بعد هذا ، كان إيمانه على بصيرة وهدى ، وكان لهذا الإيمان أثره فيه ، وسلطانه عليه .. وإن لم يجد بين يديه «البرهان» المقنع ، والدليل القاطع ، والحجة الملزمة ، فلا عليه أن يمسك عن الإيمان ، حتى تتضح له معالم الطريق إليه ، وحتّى يقع على الدليل الهادي ، الذي يقوده إلى الله مذعنا ، مستسلما! .. فذلك هو الإيمان الذي يطلبه الإسلام من المسلمين ، ويفتح أبصارهم وبصائرهم له.

وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان بالله وحدها ، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة ، صغيرها وكبيرها .. إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة ، ويميز بها الخبيث من الطيب ، والشرّ من الخير ، والنافع من الضار .. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات ، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا ، فيفسد طبيعته.

قوله تعالى :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

بهذه الآية الكريمة ، تختم السورة .. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم ، يغاث الناس ، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب ، التي شوهت معالم فطرتهم ، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ ، الذي خلقهم الله عليه ..

لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال ، وكادت تضيع إنسانيتهم فى هذا التّيه ، ولكن رحمة الله تداركتهم ، فلقيتهم هناك فى هذا الضّياع ، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم ..

٣٥٢

وهكذا ينتهى أمر الناس ، برحمة عامة شاملة ، تنال البرّ والفاجر ، وتكسو المطيع والعاصي.

ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على الله ، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس ، ويحتجزونها لأنفسهم ، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم ، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم ، وقلّ حظهم منها .. فهذا من سوء الظنّ بالله ، ومن ضلال فى الفهم لما لذاته من كمال مطلق .. (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) .. (٣٢ : الزخرف)

ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة ، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة ـ الرحمة الواسعة ، والمغفرة الشاملة ـ وبين يديها هذه الأحكام ، وتلك الحدود ، التي جاءت بها سورة «النور» التي تلى هذه الآية مباشرة ، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة ، أولئك الذين تغلبهم أنفسهم ، وتستعلى عليهم أهواؤهم ، فيخرجون عن حدود الله ، ويواقعون الإثم والمنكر!!

فسبحانك سبحانك من رب كريم ، غفور ، رحيم .. تعنو لجلاله الوجوه ، وتستخزى فى مواجهة كرمه ، ومغفرته ورحمته ، النفوس ، ويستحى من عصيانه ، والتمرد على طاعته ، أهل الحياء!

وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران .. وألا خسىء وخسر ، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف ، وإحسان المحسن بالتطاول عليه ، والعدوان على حرماته ..!

* * *

٣٥٣

٢٤ ـ سورة النور

نزولها : هى مدنية .. باتفاق.

عدد آياتها : أربع وستون آية.

عدد كلماتها : ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة.

عدد حروفها : خمسة آلاف ، وستمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

____________________________________

الآيات : (١ ـ ٣)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣)

____________________________________

التفسير :

فى هذه السورة ـ أمران ـ نحب أن نقف قليلا عندهما ، قبل أن نمضى فى تفسيرها :

أولهما : هذا البدء الذي بدئت به ، والإخبار عنها بأنها سورة ـ مع أنها «سورة» من مائة وأربع عشرة سورة ، هى القرآن الكريم كله.

٣٥٤

فما سرّ هذا؟

لم نجد أحدا من المفسرين سأل هذا السؤال ، أو أشار إليه من قريب أو بعيد .. وإن كانوا قد توسعوا فى شرح معنى سورة ، وأنها من السور الذي يقوم على ما يداخله ، ويحتويه .. فهى بهذا أشبه بالسور .. لها بدء وختام .. وما بين بدئها وختامها محصور فى البدء والختام .. وليس فى هذا ما يجعلها منفردة بوضع خاص بين سور القرآن الكريم.

أما الإخبار عنها بأنها سورة ، وهى سورة فعلا .. فهذا ما قد سكتوا عنه .. وهو أمر يلفت النظر ، ويستوجب الدراسة والبحث ..

ونحن إذ ننظر فى قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

نجد هذا الخبر وما وصف به ، ينطبق على كل سورة من سور القرآن الكريم .. فكل سورة منه هى سورة ، وكل سورة ، أنزلها الله وفرضها ، وأوجب على المسلمين التعبّد بآياتها ، والفعل بأحكامها .. وكل سورة فيها آيات بينات ، للتذكر والتدبر ، وهى فى هذا لا تختص بمزيد فضل على غيرها من السور ، لأن القرآن كله كلام الله ، وكلام الله ـ سبحانه ـ على التمام والكمال جميعه ، لا يفضل بعضه بعضا بشىء .. إذ ليس هناك مكان لزيادة فى فضل!

فما السر إذن؟

نقول ـ والله أعلم ـ إن بدء السورة فى الحقيقة هو قوله تعالى فى الآية الثانية منها : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ..) وإن الآية التي بدئت بها السورة ليست إلا تنبيها على أن سورة ستنزل ، وفيها فرائض ، وأحكام ، وآيات بينات .. وذلك أن الأحكام الشرعية .. وخاصة

٣٥٥

ما يتصل منها بالحدود ـ لم يجىء بها القرآن الكريم فى صدر السور القرآنية ، وإنما جاء بها بين ثنايا الآيات ، حيث يمهد لها بآيات قبلها ، ثم يعقب عليها بآيات بعدها .. وبهذا يجىء الحكم الشرعي وبين يديه ومن خلفه ما يدعمه ، ويوضحه.

فقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ..)

هو أشبه بالموسيقى ، التي تتقدم موكب المجاهدين فى سبيل الله ، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال ، إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع ، هى فى الواقع أقرب شىء إلى أن تكون بعثا من جند السماء ، يحمل الهدى والنور إلى هذه المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامى ، فيبدد ظلامها ، ويكشف للأبصار والبصائر ، الطريق المستقيم إلى مرضاة الله!

وثانيهما : تسميتها بسورة «النور» .. على اعتبار أن أسماء السور توقيفى ، وهو الرأى الراجح عندنا ..

لم سميت بهذا الاسم؟

والجواب ـ والله أعلم ـ أن ذلك :

أولا : لأنها جاءت بآيات كشفت ظلاما كثيفا ، كان قد انعقد فى سماء المسلمين قبل أن تنزل هذه السورة ، وتنزل معها هذه الآيات .. وذلك أن السيدة عائشة رضى الله عنها ، كانت فى تلك الفترة موضع اتهام على ألسنة المشركين والمنافقين ، وقد أوذى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الحديث المفترى ، كما أوذيت زوجه رضى الله عنها ، وأوذى المسلمون بهذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة المفتراة .. فلما نزلت الآيات التي تبرّئ البريئة الصدّيقة بنت الصديق ـ انقشع هذا الظلام ، وكشف النور السماوي ، عن وجوه المنافقين المفترين ..

٣٥٦

وثانيا : جاء فى السورة الكريمة قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ .. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ .. نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ..) (٣٥)

فلهذه الأنوار التي تملأ الوجود من نور الله ، ولهذه الآيات المنزلة التي أضاءت للمسلمين ظلام الليل الكثيف ، وفضحت المشركين والمفترين ـ لهذا أو ذاك ، أولهما معا ، استحقت السورة أن تحمل هذا الاسم ، وأن تكون نورا على نور .. من نور الله ..!

* * *

بعد هذا ، نستطيع أن نلتقى بالسورة الكريمة ، ونقف بين يدى آياتها ..

قوله تعالى :

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

(سُورَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره ، هذه سورة .. وقد قرىء «سورة» بالنصب ، بتقدير ناصب لها من فعل ، أو اسم فعل ، مثل اقرأ ، أو استقبل ، أو إليك أيها النبي سورة ..

وفى هذا البدء إلفات إلى ما سيجيئ فى السورة من أحكام. وتشريعات ، وقواعد ، لحفظ المجتمع ، وصيانة روابط الأسرة ، التي هى الأساس الذي يقوم عليه كيان الجماعات والأمم ..

٣٥٧

[الجلد والرجم .. وجريمة الزنا]

قوله تعالى :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

هكذا تبدأ السورة بهذا الحكم ، على غير ما جرى عليه القرآن من تقرير الأحكام فى ثنايا السورة ، وبين يديها ومن خلفها آيات تمهيد لها ، وتعقب عليها.

أما هنا ، فقد تكاد السورة تبدأ بهذا الحكم ، وليست الآية التي بدأت بها السورة إلا إعلانا عن أن هذه سورة ، وأنها جاءت ابتداء بتقرير هذا الحكم ، وهذا يشير إلى أن هذا الأمر الذي جعلته السورة فى مقدمتها ، هو أمر عظيم الخطر على المجتمع الإنسانى ، وأن من الحكمة الإسراع فى محاربته والقضاء عليه ، وأنه لهذا جدير بأن يتصدر سورة من سور القرآن الكريم ، وألا تسبقه مقدمات ، وإرهاصات تشير إليه ..

وفى تصدير الحكم بالجملة الاسمية ، تقديم للمسند إليه ـ المبتدأ ـ وكشف عنه قبل الكشف عن الحكم الذي سيسند إليه .. إذ ليس المقصود أولا هو إقامة الحدّ على الزانية والزاني ، وإنما المراد هو التعرف على من يحمل هذا المرض الخبيث فى كيانه .. ثم يأتى بعد ذلك ما يتخذ لوقايته ، ووقاية المجتمع منه ..

فقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يلفت السامع إلى أن حكما ما سيقع عليهما ، أو قولا سيقال فيهما .. وهنا تصغى الأسماع ، وتتطلع النفوس إلى هذا الحكم .. وإذ يتوقع المستمعون أن هذا الحكم سيكون وعيدا من الله ، أو وصفا دامغا للزانية والزاني ـ يجىء الأمر على غير ما ينتظرون ، وإذا هم أنفسهم ، هم

٣٥٨

المطالبون بالكشف عن هذا الداء ، ثم هم مطالبون أيضا بأخذهم بهذا الدّواء الذي وضعه الله فى أيديهم ، وإنفاذ أمره فيهم .. وهذا كله من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا حربا على هذا الداء ، وأساة لمن يصابون به ..

ففى قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

أولا : عزل للمؤمنين ، عن جماعة الزّناة ، الذين تحقق المجتمع من هذا الداء الذي نزل بهم ..

وثانيا : إلزام للمؤمنين ألا يقفوا موقفا سلبيا من هذا الداء الذي يتهددهم إن هم تغاضوا عنه ، ولم يأخذوا ولأنفسهم وقاية منه.

وبهذا يكون معنى الآية :

الزانية والزاني ، ها هما قد أصيبا بهذا الداء الخبيث ، وإنه لكى تدفعوا عن أنفسكم شر هذا الداء ، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس ..

وفى قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ـ إشارة إلى أن الجريمة ينبغى أن يكون عقابها علنا ، بمحضر من الناس ، ليكون فى ذلك فضح للجانى ، وتحذير لغيره من أن يأتى هذا المنكر ، ويقع تحت سياط العذاب ، وعلى أعين الناس!

وهذه الجريمة ينكرها الناس جميعا ، وتنكرها كذلك المدنية الغربية جهرا ، وترضى بها وعنها سرا .. وذلك لما فى هذه الجريمة من عدوان على حقوق الأزواج ، ومن اختلاط الأنساب ، وحل روابط الأسرة ، وقطع ما بين الآباء والأبناء من تعاطف ، وتراحم ، وإيثار ، وبذل يبلغ حد التضحية بالنفس ، الأمر الذين لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء .. وهذا لا يكون

٣٥٩

إلا إذا وقع فى نفوس الآباء وقوعا محققا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم ، وأنهم غرسهم الذي غرسوه ، ونبتهم الذي خرج من هذا الغرس .. ومن هنا تقوم فى أنفسهم الدواعي القوية لرعاية هذا النّبت وبذل الجهد له ، حتى ينمو ، ويزهو ، ويثمر ..

إن المجتمع لا يكون مجتمعا سليما ، قوى البنيان ، ثابت الأركان ، إلا إذا انتظمت أفراده مشاعر متلاحمة من التوادّ والتعاطف بين أفراده .. والأسرة هى أول لبنة فى بناء المجتمع .. ومن هنا كان حرص الإسلام على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة ، متلاحمة ، مصفاة من الشوائب ، محصنة من الآفات .. فربط أولا بين الزوج والزوجة بهذا الرباط الموثق ، الذي لا ينحل إلا إذا عرضت له عوارض تجعل من إمساك الزوجين بهذا الرباط أمرا فيه إعنات لهما ، أو لأحدهما ، فكان التحلل منه أرفق وأوفق .. ثم لم يدع الإسلام هذا الرباط ينحل تلقائيا ـ إذا دعت دواعيه ـ بل جعل له أسلوبا خاصا يجرى عليه ، ويتعامل الزوجان بمقتضاه ، كأن تعتدّ المرأة بعد انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة ، وكأن يقدم الرجل للمرأة مؤخر الصداق ، ونفقة العدة ، وغير هذا مما هو مفصل فى كتب الفقه .. ثم هذه الثمرة التي يثمرها الزواج من أولاد ، وما يجب على الآباء عن رعاية وتربية لهؤلاء الأولاد ، وهو أمر وإن كان فى فطرة الكائن الحي ، إلا أن الإسلام جعله شريعة ، يؤخذ بها من فسدت فطرتهم من الآباء والأمهات .. وكذلك أوجبت الشريعة على الأبناء طاعة الآباء ، وبرّهم ، وتقديم الرعاية الكاملة لهم عند الكبر والعجز .. وهذا أمر وإن كانت تقضى به الفطرة ، وتوجبه المروءة ، التي تدعو إلى مقابلة الإحسان بالإحسان ، فإن الإسلام جعله شريعة ملزمة ، وحقا واجب الأداء ، إذا كان فى الأبناء من ذهبت مروءته ، وطمست معالم فطرته ، فلم يرع هذا الحق ابتداء من غير طلب ..

٣٦٠