التّفسير القرآني للقرآن - ج ٧

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٧

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٣

١
٢

____________________________________

(الآيات : (٥٣ ـ ٥٧)

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). يجوز أن يكون هذا قد جرى على لسان امرأة العزيز ، فى موقفها من يوسف ، بعد أن أعلنت على الملأ أنها كانت كاذبة فيما تقوّلته عليه ، وأنه كان صادقا فيما قاله عنها ، وأنها هى التي راودته عن نفسه ولم يراودها هو عن نفسها .. وهى هنا تؤكد القول بأنها متهمة ، وأنها لا تجد ما تبرئ به نفسها من هذا الذنب الذي ارتكبته فى حق يوسف .. إنها قد ضعفت أمام نفسها التي سوّلت لها هذا المنكر .. وإنها ليست إلّا بشرا ، من شأنها أن تخطىء وتأثم ، وأنها ليست فى عصمة من الخطأ .. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) .. هكذا النفس البشرية ، تهفو إلى السوء ، وتدعو صاحبها إليه (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا ما أراد الله دفعه من السوء ، لمن رحمهم من عباده ، وحفهم بألطافه ..

٣

فالاستثناء فى قوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) متعلق بالسوء .. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه ، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم ، فيأتون كل ما تسوّل لهم به ، إلّا ما أراد الله دفعه عنهم من سوء ، رحمة منه ، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ فى كلمة «ما» التي لغير العاقل.

وهذا يعنى أن الناس جميعا ـ بلا استثناء ـ واقعون تحت سلطان أنفسهم ، وأن هذا السلطان غالب عليهم ، وأن رحمة الله هى التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات ، واقتراف الآثام ، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات ، فكل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ففى رحمة الله ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب .. لمن تاب إلى الله ، ورجع إليه من قريب.

ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف ، على اعتبار أن من قوله كذلك : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، وأن هذا معطوف على ذاك ، ليقرر به أنه لا يبرّىء نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر ، وأنه قد كان منه رغبة ، وهمّ ، ولكن الله عصمه وسلّمه .. وهذا الحديث إذا كان من يوسف ، فإنه يكون بينه وبين نفسه ، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله ..

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ..

أستخلصه لنفسى : أي أجعله خالصا لى ، أصطفيه ، وأستأثر به.

وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان ، فيكون من خاصة الملك ، المقربين إليه ، المشاركين له فى الحكم والسلطان ..!

٤

ـ (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) .. الهاء فى «كلّمه» يجوز أن يعود إلى الملك .. أي فلما كلم الملك يوسف.

وهنا يكون كلام محذوف ، تقديره ، فلماء جاء يوسف كلمه الملك قائلا : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي موضع الثقة والائتمان ..

ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى يوسف ، بمعنى فلما جاء يوسف وكلم الملك ، ورأى فى حديثه معه عقلا راجحا ، ورأيا سديدا ، قال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ..)

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

خزائن الأرض : ما تخرجه الأرض من ثمار الفاكهة والحبّ .. وسمّى ذلك خزائن الأرض ، لأنها تخزنه فى كيانها إلى أن يظهره الجهد الإنسانى ، ويكشف عنه ، بالغرس ، والسقي ، وغير هذا ، مما يحتاج إليه الزرع كى ينمو ويثمر ..

لقد طلب يوسف أن يتولى بنفسه الوظيفة التي يحسن القيام بها ، والتي كشف عن مضمونها فى تأويل رؤيا الملك .. فهو يريد أن يحقق هذا التأويل الذي تأوله ، وأن ينفّذه على الصورة التي تأولها عليه .. إنه هو الطبيب الذي كشف عن الداء ، وليس أحد أولى منه بمعالجة هذا الداء والطبّ له ، والإشراف على المريض ، حتى تزول العلة ، ويذهب الداء ..

ـ وفى قوله تعالى : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) إشارة إلى الصفات التي تؤهله لهذا الأمر الذي ندب نفسه له ، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح ، ولا يؤمن الزلل والعثار .. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان .. هما : الحفظ ، والعلم .. والحفظ

٥

هو الضبط ، والحزم فى تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. فهو بعلمه قد كشف عن الداء ، وعرف الدواء ، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة ، وما يقدّم إليه من دواء ، وإن كان مرّا ..

فالمشكلة التي تواجه مصر فى هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم ، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه ، وإلا كان الهلاك والبلاء! ..

إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير ، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط .. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها ، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها فى سنوات الجدب ، كان فى ذلك البلاء الشامل ، الذي يأتى على كل حياة فيها ..

وأمر كهذا لا بد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس ، ويأخذهم بها ، وإلا فإن الناس قد ينسون فى يومهم ما هم فى حاجة إليه لغدهم ، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل ، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه ، وفى ذلك ضياع لهم ، حين تقع الواقعة بهم ، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها.

ومن أجل هذا ، قدّم الحفظ على العلم : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). فالصفتان ، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا ، إلا أن الحفظ أولى ، وأهم من العلم .. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم ، ويتحقق للناس بعض الخير ، أو كثير منه .. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس ، فى هذه الحال ، خير أبدا ، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة فى كلمات ، أو مودعة فى كتاب .. فإذا اجتمع الحفظ والعلم ، اجتمع الخير كلّه.

وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف ، فيما كان بين «موسى»

٦

و«شعيب» عليهما‌السلام ، حين دعت ابنة شعيب أباها إلى أن يستأجر موسى ويستعمله فى تدبير شؤونه .. إذ قالت : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ .. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .. فوصفت «موسى» بالصفتين المطلوبتين فى الأمر الذي هو مطلوب له ، وهو القيام على رعى أغنام شعيب ، ورعايتها ، وتثميرها ، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة ، ترتاد مواقع العشب ، والماء ، دون أن يدفعها عنها أحد .. كما أنه يحتاج إلى «الأمين» الذي يرعى هذه الأمانة التي فى يديه ، وأن يعطيها من جهده ، وإخلاصه ، ما يعطيه لما هو فى ملكه وخاصة شئونه ..

وهكذا ، توضع الأمور فى نصابها ، حين يوضع الرجال فى أماكنهم المناسبة لهم .. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه ، فإذا قام على العمل من لا يحسنه ، أفسده ، وأضاع الثمرة المرجوّة منه.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

مكنّا : من التمكين ، أي مكّنا له ، وثبّتنا مكانه ووثقنا أمره.

يتبوأ : ينزل ، ويحلّ.

والمعنى : أنه بهذا التدبير الذي كان من الله ، أصبح يوسف ممكّنا فى الأرض ، ذا سلطان فيها ، يفعل ما يشاء ، ويمضى ما يريد ، غير واقع تحت سلطان أحد .. وأنه لا خوف من مثل هذا السلطان المطلق ، الذي قام عليه حارسان لا يغفلان ، هما الحفظ للأمانة ، والعلم بمواقع الخير للناس.

ـ وفى قوله تعالى : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) إشارة إلى أن هذا فضل من فضل الله على هذا العبد من عباده ، ساقه الله سبحانه وتعالى إليه من غير

٧

عمل منه .. هكذا مواقع رحمة الله ، تنزل حيث يشاء الله ، كما اقتضت حكمته فى خلقه : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

ـ وفى قوله سبحانه : (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .. إشارة إلى أن المحسنين لا يفوتهم جزاء إحسانهم أبدا ..

وإذن فالنّاس جميعا فى مواقع رحمة الله .. ولكنهم ـ مع هذا ـ صنفان : صنف محسن ، يعمل الصالحات ، ويغرس فى مغارس الخير ، وهؤلاء قد وقع أجرهم على الله .. يجزون جزاء ما يعملون .. (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ..) (٣٠ : الكهف) ..

وصنف آخر .. يفضل الله سبحانه وتعالى عليهم ، من غير عمل ، فيرزقهم ويوسّع لهم فى الرزق ، ويكثّر لهم من المال والبنين ..

وهذا هو واقع الناس فى الحياة : عاملون لا يفوتهم أبدا ثمرة ما عملوا وأحسنوا .. وغير عاملين ، قد يصيبهم الله سبحانه وتعالى برحمته ، وقد يحرمهم! وإذن فالعمل ، وإحسان هذا العمل ، مطلوب من كل إنسان كى يضمن الجزاء الحسن عليه .. فإنه لا يفوته هذا الجزاء أبدا ..

أما من لا يعمل ، ولا يحسن العمل ، فهو بين الإعطاء والحرمان .. فإن أعطى فذلك فضل من فضل الله ، ورحمة من رحمته ، وإن يحرم فعن غير ظلم ، أو بخس ..

قوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

أي أنه إذا كان للنّاس أجرهم فى الدنيا ، وجزاؤهم بما يعملون فيها ، فإن جر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون .. فإنهم يوفّون أجرهم مرتين .. فى الدنيا ، ثم فى الآخرة .. وأجر الآخرة أكبر وأكرم وأهنأ .. أما غير المؤمنين ،

٨

فإنهم لا أجر لهم فى الآخرة ، إذ قد استوفوا أجرهم كله فى الدنيا ، التي عملوا لها ، ولم يعملوا للآخرة شيئا ، لأنهم لا يؤمنون بها.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥ : هود) .. وإليه يشير قوله تعالى أيضا : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٨ ـ ٢٠ : الإسراء).

____________________________________

الآيات : (٥٨ ـ ٦٢)

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦٢)

____________________________________

التفسير :

ومضى الزّمن يطوى الأيام والسنين ، ووقعت مجاعة فى أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه .. وكانت مصر قد أخذت لمثل هذه الحال أهبتها ، منذ صار أمرها إلى يد يوسف ، فبعث يعقوب بنيه إلى مصر ببضاعة يبيعونها فى مصر ، ويشترون بثمنها حاجتهم من الطعام ..

٩

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ).

وفى كلمة «جاء» مع حرف الواو قبلها ، ما يشعر بطول الزمن وامتداده ، بين فراق يوسف لأهله ، واتجاههم إليه فى هذه الرحلة ، كما يشعر بطول الرحلة التي قطعوها من كنعان إلى مصر ..

(فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) .. لقد عرفهم ولم يعرفوه ، لأنه كان صغيرا يوم ألقوا به فى غيابة الجبّ .. وقد كبر ، فتغيرت ملامحه ، كما أنّه كان فى حال من الأبهة والسلطان ، وما يحفّ به من خدم وحرس ، وما يتزيّا به من حلل ، وما يتوّج به رأسه من حلى وجواهر ـ كل ذلك كان مما يخفى على أقرب المقربين إليه من أهله أمره ، حتى لو كان عهده به فى كنعان يوما أو بعض يوم! فكيف وقد مضت سنون؟ وكيف وليس فى تصور إخوته ولا فى خيالهم أن يكون يوسف فى مصر ، أو أن يكون له هذا السلطان الذي كان عهد الناس به يومذاك ، إنه ميراث ، ينتقل من الآباء إلى الأبناء ..!

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

ولمّا جهزهم بجهازهم : أي حين أعطاهم الكيل الذي يكال لهم ببضاعتهم التي معهم.

خير المنزلين : أي خير من يكرم النازلين به ، ويحفظهم فى أنفسهم وأموالهم ، بما يوفر لهم من أسباب الأمن والراحة.

وليس هذا المطلب الذي طلبه يوسف من إخوته قد وقع ابتداء ، بل لا بد أن يكون قد جرت بينه وبينهم أحاديث ، أراهم منها أنه يجهلهم ، كى يتمّ التدبير الذي دبره ، وهو أن يحضروا أخاهم من أبيهم ، وقد عرف من هذه الأحاديث

١٠

أنهم إخوة لأب ، وأنهم كانوا اثنى عشر أخا ، تخلّف أحدهم ، وهو أخوهم من أبيهم ، وفقد الأخ الآخر صغيرا .. فهم الآن أحد عشر أخا .. عشرة عنده ، وواحد عند أبيه!

ولأمر ما طلب يوسف أن يأتوه فى المرّة الثانية بهذا الأخ الذي خلّفوه وراءهم ، ليأخذ حظه من الكيل مثلهم ، وقد أغراهم بهذا ، بقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟) أي ألا ترون أنى أعطى كل ذى حق حقّه ، ولا أبخس الناس أشياءهم ، وأنى أنزلهم منازلهم ، وأوفر لهم أسباب الأمن والراحة؟ .. ثم تهدّدهم بعد هذا بقوله :

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ..

أي إن لم تأتونى بأخيكم هذا ، فلا كيل لكم عندى ، أي لا أكيل لكم شيئا بعد هذا ، إذا جئتم تطلبون كيلا جديدا ..

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ..

سنراود عنه أباه : أي سنحتال عليه فى طلبه ، ونترفق به فى هذا الطلب ، والمراودة استدعاء للإرادة ، واسترضاء لها بقبول ما يراد .. ولقد فهم «يوسف» من هذا أنّهم على خوف وإشفاق أن يطلبوا من أبيهم هذا الطلب الذي يبدو غريبا ، لا مسوّغ له ، كما أدركوا هم أن يوسف يشكّ فى قولهم هذا : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) وأنهم إنما قالوا هذا القول عن يأس من تحققه ، فأكّدوا له ذلك بقولهم (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) .. أي لقادرون على أن نحمل أبانا ، بحسن حيلتنا ، على أن يجيبنا إلى هذا الطلب

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

١١

فتيانه : خدمه .. وبضاعتهم : ما كانوا قد حملوه معهم من أرضهم إلى مصر ، ليبتاعوا به طعاما ..

لقد صنع يوسف مع إخوته صنيعا آخر ، يغريهم بالعودة إليه ، ومعهم أخوهم لأبيهم الذي طلبه منهم .. فأمر غلمانه أن يدسّوا البضاعة التي كانوا قد جاءوا بها بين أمتعتهم ، فى الكيل الذي كاله لهم ، فإنهم إذا عادوا إلى أهلهم ورأوا البضاعة التي ظنوا أنهم باعوها لا تزال بين أيديهم ـ وجدوا فى ذلك داعية لهم إلى أن يعودوا إلى «يوسف» ليردّوا له هذه البضاعة التي أصبحت وليست من حقّهم ، بل هى للعزيز الذي أعطاهم بها هذا المتاع الذي عادوا به.

ـ وفى قوله (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي لعلهم يتحققون من أنها هى بضاعتهم وليست بضاعة قوم آخرين غيرهم ، ممن كان قد اختلط بهم من الوافدين على مصر ، يمتارون كما امتاروا هم .. وإذن فهى من حق العزيز ، ومن واجبهم أن يعودوا بها إليه .. لأنها ثمن ما اشتروه منه ، وهذا ما يشير إليه قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. أي لعلهم بهذا الإحساس يجدون الدافع الذي يدفعهم إلى المجيء إلى مصر مرة أخرى ، ليردّوا الأمانة إلى أهلها ، فإن لم يكن بهم حاجة إلى الميرة والطعام ، دفعهم دينهم الذي يعرفه فيهم ، أن يعودوا بهذه البضاعة التي ليست لهم!

____________________________________

الآيات : (٦٣ ـ ٦٧)

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا

١٢

يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧)

____________________________________

التفسير :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

هكذا دخلوا على أبيهم بهذا الحديث : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ)! أفبعد هذا الانتظار الطويل ، ومعاناة الصبر على الجوع والحرمان ، انتظارا لهذا الخير الذي يجىء من مصر ـ أبعد هذا يطلعون على أبيهم بهذا الخبر المزعج : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)!! ثم ما العلاقة بين أن يمنع منهم الكيل وبين طلبهم أن يرسل معهم أخاهم كى يكتالوا؟ ما شأن الأخ بهذا؟ وهل هو بضاعة يشترى بها من مصر ما يكال؟ ذلك شىء عجيب! ثم كيف يقولون : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)؟ وكيف يحفظونه ، وهم يركبون هذه الطرق التي لا يأتى منها خير؟ لقد ذهبوا إلى مصر ، واحتملوا هذا العناء الشديد .. ثم عادوا من غير أن يحصلوا على شىء .. فكيف كان هذا؟ وما لأحوال هذه الدنيا قد تبدّلت وتحولت ، حتى لا يكون بيع أو شراء إلا بهذه التحكمات التي لا مفهوم لها؟

لا شك أن يعقوب قد لقى هذا الطلب الذي طلبه أبناؤه منه ـ لقيه

١٣

بتساؤلات كثيرة ، أطلعته منهم على ما كان بينهم وبين العزيز حتى لقد عادوا دون أن يكال لهم كما يكال للناس!

وهنا ينكشف ليعقوب ما أخفاه عنه أبناؤه لأمر ما .. لقد كال لهم العزيز ، وعاد كل منهم ومعه حمل بعير ..!

وإذن فماذا أرادوا بقولهم : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)؟

إنهم أرادوا أن يحققوا بذلك أمورا .. منها :

أولا : الاستيلاء على عواطف أبيهم ، وذلك بمواجهته بهذا الخبر الذي يبعث فيه الهمّ والقلق .. ثم لقائه فجأة بهذا الخبر الهنيء المسعد .. إنهم قد اكتالوا ، وجاء كل منهم بحمل بعير .. ولكنهم منعوا مستقبلا من أن يكال لهم ، حتى يكون معهم أخوهم من أبيهم!!

وثانيا : فى الحديث عن منع الكيل فى المستقبل إلا بتحقيق هذا الشرط ، إغراء لأبيهم بالمبادرة إلى إجابة طلبهم حتى يسرعوا بالعودة إلى مصر ، ليأخذوا دورهم من الميرة قبل أن تنفد! وها هو ذا يعقوب لا يزال واقعا تحت تأثير الصدمة التي صدم بها حين سمع قولهم : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) .. وإنه الآن لحريص على ألا تفوته الفرصة المواتية لجلب الميرة ، مهما كان الثمن غاليا!! وهكذا أصاب قولهم : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ـ أصاب من أبيهم ما أرادوا من تخويفه بالمستقبل ، إن لم يبادر ببعثهم إلى مصر مرة أخرى ليكتالوا ، وأن يذلل كل صعب لإنفاذ هذا الأمر .. فهم صادقون فى قولهم : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) لأنه منع منهم مستقبلا إن لم يجيئوا معهم بأخيهم من أبيهم ، كما قال لهم يوسف : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) .. وكما قال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) .. ولكن هذا الخبر حين ألقوه إلى أبيهم

١٤

لم يحمله على المستقبل ، بل حمله على الحال التي كان يعيش فيها. ويتوقع الخير الذي يحمله أبناؤه العائدون من مصر .. عندئذ يلقى يعقوب أبناءه بقوله ، الذي حكاه القرآن الكريم عنه :

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ .. فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

لقد تمثّل له فى هذا الموقف ما كان منهم من إلحاح عليه فى طلب يوسف ، ليرتع ويلعب معهم ، كما يقولون ، ثم جاءوا إليه عشاء يبكون ، قائلين : (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)! لقد تمثل له هذا الموقف ، فرأى فيما يطلبه أبناؤه منه الآن صورة مشابهة تماما له ، وأن الذي دبّروه ليوسف ليس ببعيد أن يدبّر مثله لأخيه!

ـ ففى قوله : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟) ـ اتهام لهم بالكيد ليوسف أولا ، ثم السير فى طريق الكيد لأخيه .. ثانيا .. ثم هو ـ مع هذا الاتهام ـ ينكر عليهم أن يعودوا فيكرروا فعلهم المنكر الذي فعلوه بيوسف فيفعلوه بأخيه.!

ـ وفى قوله : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .. هو عزاء له ، يعزّى به نفسه فى حزنه على يوسف ، وذلك بتسليم الأمر لله سبحانه ، والاستسلام لقدره ، والرضا بمقدوره. وأنه سبحانه لو أراد حفظ يوسف لحفظه ، فهو خير الحافظين ، لا يقع شىء فى هذا الوجود إلا بأمره .. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .. فما ينزل بالناس من مكروه ، هو واقع بهم من ربّ رحيم ، فهو رحمة بالنسبة لما هو أقسى منه وأوجع!

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا

١٥

يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ).

لقد كان الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم أول شىء استقبلوه به ، وذلك لأن العيون كانت متطلعة إلى ما يحملون معهم من زاد وميرة .. فكان جوابهم لهذه العيون المتطلعة قولهم : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)! ثم كان جوابهم عن التساؤلات الكثيرة حول أسباب هذا المنع ، قولهم : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) .. ثم كان قولهم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) تزكية لهذا الطلب.

ثم بعد هذا نظروا فى أمتعتهم التي معهم ، فوجدوا أن البضاعة التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر ، والتي اعتقدوا أنها قد أصبحت فى يد العزيز ، مقابل الكيل الذي كاله لهم ـ وجدوا أن هذه البضاعة قد ردّت إليهم : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) ـ فعجبوا لهذا ، وحسبوا أن فى الأمر خطأ ، أو أن العزيز ربّما بدا له ألا يأخذ منهم ثمنا لهذا الكيل الذي كاله لهم ، انتظارا لعودتهم إليه فى المرة الثانية ..

ـ (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا ، فماذا نفعل بها؟ وكيف نصبر على ما نحن عليه من حاجة إلى الطعام؟ إنها بضاعة قد أعددناها لنشترى بها طعاما ، وها هى ذى لا تزال فى أيدينا ، وإنه لا سبيل إلى الانتفاع بها إلا إذا عدنا بها إلى مصر مرة أخرى ، وجلبنا بها الطعام الذي نريد.!

وفى قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) الواو هنا للعطف على محذوف تقديره .. إذ كان ذلك كذلك ، نعود إلى مصر ونمير أهلنا ، أي نتزوّد لهم بالميرة ، وهى الطعام ، ونحفظ أخانا الذي سنأخذه معنا ، والذي بغيره لا يكال لنا ، ونزداد به كيل بعير ، إذ سيكون

١٦

لكل منّا حمل بعير .. (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي أن العزيز لا يعطى طالب الميرة إلا فى حدود مقدّرة لكل فرد مهما كانت قيمة البضاعة التي يحملها معه! إنه لا يأخذ أكثر من حمل بعير!

وانظر كيف استدعوا أخاهم من أبيهم بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) .. لقد جعلوه طلبا ثانيا بعد الطلب الأول ، وهو الميرة ، وشدّوه إليه ، بحيث لا تكون الميرة إلّا به ..

فهم لم يقولوا : ونأخذ أخانا ، بل قالوا : (وَنَحْفَظُ أَخانا) .. كأن أخذه أمر مفروغ منه ، لا مراجعة لأبيهم فيه .. فقد سلم به لهم حكما إن لم يكن قد سلم به واقعا .. ثم جاء قولهم (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) إغراء لأبيهم بالتسليم لهذا الأمر الذي لا بد منه ، ففيه جلب الخير لهم ، وهم فى وجه هذا العسر والضيق!.

وانظر إلى روعة النظم القرآنى فى تصويره لهذا الإغراء العجيب الذي جاء محمولا إلى يعقوب فى قولهم (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).

فهذه الواوات المتتابعة التي تجمع تلك المتعاطفات ، وتقرن بعضها إلى بعض ـ تمثّل أروع ما يمكن أن يبلغه فنّ العرض لمجموعة من فريد اللآلئ وكريم الجواهر ، تحركها يد صناع ، فتجىء بها واحدة إثر أخرى ، حتى لكأنها أنغام موسيقية ، تؤلف لحنا!

وفى اختيار حرف «الواو» من بين حروف العطف ، وفى تكراره ، دون مغايرة ـ فى هذا ما يزاوج بين هذه المتعاطفات ، ويؤاخى بينها ، بحيث تبدو متجمعة ، وهى متفرقة ـ لما فى حرف «الواو» من رخاوة ، ولين ، حيث تصبح هذه المتعاطفات على هذا النسق ، كيانا واحدا لا يمكن الفصل بين

١٧

أجزائه .. (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) .. إنها أمر واحد وطلب واحد!

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ .. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

لم يجد يعقوب بدّا من التسليم بالأمر الواقع ، بعد أن أخذ عليه أبناؤه كل سبيل ، للتخلص من هذا الطلب الذي طلبوه ..

وإنه لكى يقيم لنفسه عذرا بين يدى تلك المخاوف التي يتخوفها على ابنه هذا ، دفعهم عنه بقوله : (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ)!

هكذا بدأهم بهذا الحكم القاطع. كما بدءوه هم بقولهم : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ..!

ثم جاءهم مستثنيا هذا الحكم بقوله : (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) .. أي إننى لن أرسله معكم حتى توثقوا معى عهدا وميثاقا تشهدون الله عليه ، أن تعيدوه إلىّ ، إلا إذا أحاط بكم مكروه ، فغلبكم عليه .. فذلك مما لا حيلة لكم فيه ..

وفى قوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) ما يكشف عن شعور يعقوب ، وأنه يتوقع مكروها يقع لابنه هذا .. تماما ، كما كان ذلك شعوره حين طلب إليه أبناؤه أن يرسل يوسف معهم ، فقال : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) .. وقد صدق شعوره فى كلا الحالين .. فكان للذئب قصة مع يوسف ، وكان للأحداث قصة مع أخيه!

ـ (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

لقد تم الأمر إذن ، وأعطى الأبناء موثقهم لأبيهم ، ورضى الأب ، بعد

١٨

أن جعل الله وكيلا وشهيدا على ما كان بينه وبينهم ..

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وحين تحركت القافلة للسير إلى مصر ، بأبناء يعقوب ، ومعهم أخوهم المطلوب لعزيز مصر ، نصح لهم أبوهم فيما نصح بقوله : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ!

والسؤال هنا :

ما حكمة هذا النصح الذي نصح لهم به؟ وماذا يكون لو دخلوا مصر من باب واحد؟ ..

لعل أظهر ما فى هذه النصيحة من حكمة هى ألا يلفتوا الأنظار إليهم ، بهذا الموكب الذي ينتظم أحد عشر أخا .. فى سمت واحد ، من الجمال والجلال .. فذلك من شأنه أن يدير الرءوس إليهم ، وأن تدور الأحاديث عنهم ، وتختلف الآراء فيهم ، وليس ببعيد أن يكاد لهم من أكثر من جهة : من النساء والرجال ، أو من تجار مثلهم ، أو من حاشية العزيز نفسه ، وقد رأت الحاشية ما كان من العزيز من تلطفه بهم ، ومن كيله لهم دون أن يأخذ منهم شيئا .. فما أكثر دوافع الحسد والغيرة فى قلوب الناس ، وما أكثر ما فى قلوب الناس من حسد وغيرة حول السلطان وحاشية السلطان!

وأيا كان الأمر ، فإنه شعور الأب الذي يتخوف على أبنائه نسمات الريح حين تهب عليهم ، فكيف وهم على سفر طويل ، وفى يد غربة موحشة قاسية؟ ثم كيف وقد كانت فجيعته فى يوسف لا تزال تفرى كبده!؟

١٩

ـ وفى قوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إشارة إلى أن هذا النصح الذي نصح لهم به ، لا يردّ عنهم قضاء الله ، ولا يدفع القدر المقدور لهم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، فهو سبحانه الذي يحكم فى عباده كما يشاء ، لا رادّ لحكمه ، ولا معقب لقضائه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أمرى إليه ، وأسلمت مقودى له (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه وحده ينبغى أن يكون معتمد كل معتمد ، ومستند كل مستند .. أما ما سواه فلا معوّل عليه ، ولا رجاء عنده ، ولا عون منه.

____________________________________

الآيات : (٦٨ ـ ٧٦)

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ

٢٠