تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

الآيتان

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨)

* * *

معاني المفردات

(لُدًّا) : جمع ألد ، وهو الشديد الخصومة.

(رِكْزاً) : الركز : الصوت الخفي.

* * *

الله مهلك القرون

ويبقى للقرآن دوره الخالد في حركة الدعوة إلى الله ، في ما يتحدث به الرسل ، وفي ما يثيره الدعاة في بلاغهم وفي حديثهم للناس ..

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) وسهلنا لك السبيل إلى فهمه ووعيه وتلاوته ، تماما كما لو كان حديثا تهمس به في ذاتك أو يتحرك في وجدانك ، لتستوعب

٨١

معانيه في خط التبشير والإنذار ، (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) في ما ينتظر هم من الجنة ومن رضوان الله ، جزاء لطاعتهم وتقواهم وعبادتهم ، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) والمراد باللدّ ، جمع ألدّ ، وهو الشديد الخصومة ، أي لتحذر الذين يحترفون الجدل والنزاع والخصومة كأسلوب عملي في حياتهم ، ولذلك فإنهم لا يفتحون قلوبهم لوحي الله ، بعفوية الحقيقة وبساطتها ، بل يتعقدون منه ، ويعملون على إثارة الضوضاء من حوله في عملية هروب وإضلال ... ، ولذلك فإن مهمة الرسول ومن بعده من الدعاة ، هو إحداث الصدمة القوية التي تهز القلب والرّوح والوجدان ، لتثير فيها الخوف والقلق في مستوى قضية المصير.

وهذا ما ينبغي أن يعيشه الحاملون للقرآن ، الحافظون له ، الذين يتحملون مسئولية إبلاغه للناس ، وذلك بأن يتحركوا به في المجتمع مبشرين ومنذرين ، لا أن ينعزلوا به في دائرة ذواتهم وأشخاصهم بما لا يتعدى محيطهم ، لأنهم لا يريدون أن يتحملوا مشاكل الدعوة ، ونتائج المواجهة والمجابهة ؛ إذ لو وقف الناس جميعا هذا الموقف ، ينتظرون بعضهم من يتسلم زمان المبادرة في ذلك ، لمات القرآن في عقول الناس ، ولا نكمش في دائرة ضيقة من دوائر الواقع في الحياة العامة.

إن الإنذار لأمثال الناس المعقّدين المجادلين قد يفتح لهم أكثر من باب للتفكير وللتأمل وللسؤال وللانقياد في نهاية المطاف ، ليدرسوا التاريخ وليتعرفوا حركة المستقبل الذي يتصل بحياتهم ، في ما يأتي ، ليعرفوا كيف يمكن لهم أن يضبطوا خطواتهم على الصراط المستقيم.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) من هذه الجماعات التي كانت تتجمع في دوائر محدودة فبادت وتناولتها أيدي الفناء ، فلم تبق على شيء منها ، ولم يعد لها إلا ذكريات التاريخ القديم الضائع فلا يحس بهم أحد ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ

٨٢

يتحرك ليدل على الوجود. ولكن إذا جاء الموت ، فإنه لا يبقي أثرا من حركة الحياة ، ومن صوت خفيف أو قوي يدل على مثل هذه الحركة ، أو يؤكد ذاك الوجود.

وهكذا تنتهي السورة لتقود الإنسان إلى التأمّل في كل التاريخ القديم ، ولتحثه على صنع تاريخه الجديد في مستقبل حياته وذلك بطريقة تستلهم كل أفكارها ومعانيها من أجواء التأمل ، لتأخذ العبرة دائما ، للمستقبل ، من حركة الأجيال المتتابعة التي يطل منها كل جيل في تجربته على الجيل الآخر ...

* * *

٨٣
٨٤

سورة طه

مكّية

وآياتها مائة وخمس وثلاثون

٨٥
٨٦

مدخل عام للسورة

تثير هذه السورة في آياتها العمق الإنساني للنفس البشرية لمواجهة مسألة المصير الأخروي من مواقع الاهتمام والجدية ، ومسألة الواقع الدنيوي من موقع المسؤولية. وذلك من خلال توجيه القلب والعقل والوجدان للقرآن الذي هو الكتاب الإلهي الذي أنزله الله على قلب رسوله ، ليدعو به الناس إلى تعاليمه بطريقة متوازنة واقعية ، لا تصل إلى مستوى الإجهاد الذي يشقي البدن ، في وقت يريد الله القرآن تذكرة للذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ..

ثم تنطلق السورة لتثير أمام القلب البشري التصور الإسلامي القرآني عن الله ، ليبقى الإنسان ، من خلال التصور الشامل العميق ، واعيا لمسؤوليته في إحساسه بالحضور الإلهي الذي (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٦ ـ ٧].

ثم تنفتح على الرسالة في شخصية الرسول ، فتلتقي بالنبي موسى عليه‌السلام في دعوته إلى الله ومعاناته في سبيل ذلك ، وفي حركته القوية التي تصدم الواقع الطاغي ، بالكلمة والأسلوب والموقف ، وفي حيوته شخصيته التي تتميز بالإخلاص والتواضع والعفوية الرسالية ، والقوة المتحركة في أكثر من اتجاه .. وهكذا تتنوع الصور والمواقف وتطل من خلالها على قومه وكيف واجهوه من موقع التخلّف الفكري ، ليزيد ذلك من التذكير بخشية الله ، والانفتاح على تعاليمه وآياته.

٨٧

ثم تأتي قصة آدم التي تتكرر في القرآن ، لتربط الناس بالخط الفاصل بين طاعة الله وطاعة الشيطان ، فتثير التاريخ الشرير له مع الإنسان في بداية الخليقة ، وفي المقابل تفتح لهم الآفاق التي تطل بهم على أجواء النجاة والهلاك ، لينطلق الناس في مسئوليتهم من خلال وعيهم للخط الإلهي الرسالي ..

ثم تتنوّع الآيات في لمسات حية مؤثّرة في ما يخاطب الله به رسوله ، ليصبّره على كل التصرفات السلبية التي كان يقوم بها المشركون ضده ، في ما يقولون ويعملون ، وليبقى مع الله في تسبيح دائم في الليل والنهار ، وليصرف نظره عن كل ما حوله من زخارف الدنيا ، وليحترم خصوصيات الآخرين في علاقاتهم فلا يمد نظره إليهم ، ولينطلق مع أهله في صلاة دائمة لله ، لتكون الحياة كلها صلاة روحية تحكم كل الواقع الذي يحيط به وبالناس.

وتنتهي الآية بالتحدّي الكبير الذي يريد الله للرسول أن يطلقه في وجه هؤلاء المتربّصين بالرسول وبالرسالة ، ممن يريدون الشر وبها ، فيخاطبهم بكل قوة : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) [طه : ١٣٥] ، لأن المسألة تتلخص بنتائجها ونهائيات الأمور هي التي تحدد جدواها ، لأن العاقبة ، مهما اختلفت الأمور ، هي للتقوى التي تمثل الالتزام بالمسؤولية أمام الله تجاه الحياة والكون والإنسان.

* * *

٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨)

* * *

معاني المفردات :

(لِتَشْقى) : الشقاوة خلاف السعادة. وشقيت في كذا : أى تعبت.

(تَذْكِرَةً) : ما تستذكر به الحاجة.

(الثَّرى) : التراب الندى ، والمراد بما تحت الثرى : ما في جوف الأرض.

(تَجْهَرْ) : الجهر بالقول : رفع الصوت به.

(السِّرَّ) : هو الحديث المكتوم في النفس.

* * *

٨٩

الله يهوّن على نبيّه

(طه) من الحروف المقطعة التي تبدأ بها أوائل السور ، وقد تقدم الحديث عنها في أول سورة البقرة ، وهناك احتمال أن تكون كلمة مستقلة ، مقصود ، بها اسما للنبي ، أو للرجل ، أو لتكون فعل أمر بلغة طيئ ، بمعنى طأ الأرض بقدمك ، أو لتكون اسما لله ، ولم يثبت ذلك بحجة مقنعة ، والتحقق من ذلك لا يفيدنا في منهجنا التفسيري ، فليطلب ذلك من المطولات.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ربما كانت خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لا يثقل نفسه بالمزيد من الجهد الذي قد يفوق الطاقة أثناء تأدية الرسالة ، أو لئلا يعيش الحالة النفسية الصعبة في مواجهة الجحود والنكران الذي كان يقابل به من قبل الكفار والمشركين ، حيث كان يتألم ويتحسّر. وقد يطلق الشقاء على التعب ، وقد يطلق على الحالة النفسية التي يتسبب بها الواقع المعقد.

وقد وردت بعض الروايات التي تفسير الشقاء بالتعب في العبادة ، فقد جاء في تفسير القمّي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر «الباقر» عليه‌السلام وأبي عبد الله «الصادق» عليه‌السلام قالا : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتى تتورم ، فأنزل الله تعالى (طه) بلغة يا محمد (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (١)». ورواه جماعة عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور (٢). إذا صحت هذه الروايات فيمكن أن يكون هذا المورد ، من بين موارد التعب الذي كان يعيشه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال الممارسة ، كما هو في مجال الدعوة ، لأن سياق الآية الأخرى ، يوحي بأن المسألة المطروحة هي الجحود الذي كان يقابل به بالرغم من كل جهوده ومعاناته ، فجاءت الآية

__________________

(١) نقلا عن تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ١٢٥.

(٢) انظر : الدر المنثور ، ج : ٥ ، ص : ٥٤٩.

٩٠

لتوحي إليه بأن دورك هو دور المبلّغ الذي يدعو ليسمع الآخرون ، ويبلغ ليتذكر الغافلون. فإن مسئوليتك لا تتجاوز هذا الموقع ، وتبقى مسئولية الآخرين في انفعالهم بما تدعوهم اليه ، وبما تذكرهم به ، فلما ذا تتألم وتتحسر وتشقي نفسك؟

(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) لأن مشكلة هؤلاء الذين يكفرون ، أو يشركون مع الله غيره في العقيدة ، وفي العبادة ، أنهم يعيشون الغفلة المطبقة التي تمنعهم من الانفتاح على مواقع الوعي واليقظة والتذكر ، مما يجعل الدعوة بمثابة الصدمة التي تكسر الجمود الذي تحجر في أفكارهم ومشاعرهم ، ليعودوا إلى أنفسهم وفطرتهم التي تقف بهم في مواجهة المسؤولية أمام الله ، في ما ينذرهم به من عقابه ، فتلين قلوبهم بفعل الخشية من الله ، وتطمئن أفكارهم للفكر الذي ينطلق من قلب الوحي ، في ما تحدثت به آيات الله سبحانه من أدلة وبراهين وإيحاءات.

ولعل التعبير بالتذكرة لا يخلو من استعارة لمعنى الوعي ، باعتبار أن الغفلة تضاده ، كما أنّ النسيان ينافيه. وذلك للإيحاء بأن فكر الإيمان كامن في الأعماق بحيث يعيشه الإنسان في وجدانه بطريقة لا شعورية من خلال الفطرة ، تماما ، كما هي الحالة الشعورية للأشياء المعلومة له ، بحيث لو استثاره بطبيعته فإنه يكتشفها من أقرب طريق ، فتتحول مسألة الوعي والانتباه في العمق ، إلى ما يشبه حالة التذكر ، والله العالم.

أما مسألة التأكيد على (لِمَنْ يَخْشى) فلأن الخشية تثير في داخل الإنسان المشاعر القلقة الحائرة التي تبحث عن الأمن والطمأنينة ، والاستقرار الروحي أمام القضايا التي تثيرها الدعوة القرآنية في نفسه ، من خلال علامات الاستفهام المتحركة في وجدانه ، في هذا الموقع أو ذاك ، فيدفعه ذلك إلى التأمل العميق ، والتفكير الجاد ، في الطريق إلى الإيمان .. أما الذي لا يخشى عذاب الله ، فإنه

٩١

يعيش اللامبالاة أمام كل قضايا الفكر والإيمان ، ولذلك فإن التذكير لا يحقق له أي شيء أمام الجمود الفكري المتحجر الذي يعيش في داخله.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) وإذا كان الله هو الذي أنزل القرآن وهو خالق السماوات والأرض ، فإن ذلك يعني أنه قد تنزل ممن يملك القوة كلها ، ويسيطر على الكون كله ، ويحيط بكل ما فيه مما يصلح أمر الكون والحياة والإنسان ، مما يعطي للقرآن ، في مفاهيمه وتشريعاته ومناهجه عمق الحقيقة ، وقوة الموقع ، وثبات الخلود ، ويجعل الإنسان يستريح لكل ما فيه في طمأنينة روحية وفكرية راضية.

* * *

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وتأتي كلمة الرحمن لتخفف من تأثير الصفة العظيمة التي تضغط على المشاعر ، في ما توحي به من رهبة وروعة وقوة ، عند ما يقف الإنسان أمام خالق السماوات والأرض ، لتكون صفة الرحمة موحية بالانفتاح الحميم على الله ، بحيث يحس الإنسان أمام الله بالقرب من رحمة الله ولطفه ورضوانه.

والاستواء على العرش ، كناية عن الاستيلاء على السلطة ، في ما تمثله كلمة العرش من الموقع الأرفع والمقام الأعلى الذي يجلس عليه صاحب السلطان ليحكم من خلاله ، وهذا رمز للملك. وهذا المعنى ليس مقصودا بذاته في معناه المادي حتى بالنسبة إلى صاحب الملك في الدنيا ، فإذا قيل إن الملك قد جلس على العرش ، فإنهم يريدون به استيلاءه على السلطة ، كما أن ذلك مستحيل بالنسبة إلى الله ، باعتبار أنه ليس كمثله شيء ، فلا يمكن أن يكون

٩٢

جسما ، أو يحتويه مكان ، وهذا ما ورد به الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في ما رواه عنه الصدوق في كتاب التوحيد ، قال في حديث طويل : «قال السائل : فقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : بذلك وصف نفسه ، وكذلك هو مستول على العرش ، بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا أو حاويا له ، ولا أن يكون العرش حاويا له ، ولا أن يكون العرش محتازا له ، لكنّا نقول : هو حامل للعرش وممسك العرش ، ونقول في ذلك ما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) [البقرة : ٢٥٥].

وإذا كان العرش يمثل في مضمونه الكنائي الموقع الذي يطل على الكون كله ، فإن الاستواء عليه يمثل الإشراف على مواقع السلطة كلها ، من صغير الأمور وكبيرها ، وقريب الأشياء وبعيدها ، فليس شيء أقرب إليه من شيء ، وكانت نسبة الأشياء إليه على حد سواء. وقد لا يكون هناك منطقة كونية تسمى بالعرش ، ولكن ليس من الضروري أن تكون الآية ناظرة إليها ، لأنها تلتقي بالجانب المعنوي منها ، لا بالجانب المادي.

ولعل مثل هذا الاستيحاء الكنائي في الآية لا يدخل في باب التأويل الذي يذهب بعض الناس إلى ضرورة إبعاد القرآن عنه ، لأن ذلك يؤدي إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع ، وهو قول الباطنية ، بل إن ذلك يندرج في الفهم البلاغي القرآني الذي لا يقتصر على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية الحقيقية ، بل يتسع للمعاني المجازية الواردة على طريقة الكناية والاستعارة ، على أساس وجود بعض القرائن العقلية واللفظية التي تصرف اللفظ عن ظاهره ، فتكون المسألة من باب رد المتشابه إلى المحكم .. فإذا كان العقل يحيل فكرة جسمية الله وخضوع أفعاله لما يخضع له خلقه في أوضاعهم المادية ، وإذا كان

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ١٢٨.

٩٣

القرآن يؤكد أنه ليس كمثله شيء ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، فإن ذلك يؤكد المعنى الكنائي الجديد ، في إرادته من اللفظ ، والله العالم.

* * *

الله المسيطر المطلق على الكون

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ولعل هذه الآية تفصّل امتداد هذه السلطة المطلقة وسعتها وعمقها ، فإذا كان الله يملك كل الموجودات الحية والجامدة في السماوات والأرض وفي ما بينهما ، وفي أعماق الثرى ، فإن ذلك يعني سيطرته المطلقة على ذلك كله ، ويفرض على الخلق الذين حمّلهم المسؤولية ، أن يعيشوا الخضوع لسيطرته فيطيعوه في ما أمرهم به ، وينتهوا عمّا نهاهم عنه.

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) وهكذا يتمثل حضور سلطته الإلهية المطلقة في كل موقع من مواقع وجود خلقه ، بحيث يشرف عليه إشرافا مباشرا من دون أن يغيب عنه شيء من أمورهم ، في ما يفعلون ويتكلمون ، فليس هناك شيء أقرب إليه من شيء ، لأن الأشياء تتساوى لديه في جميع شؤونها. وهذا ما يجعل مسألة الجهر بالقول أو الإسرار به ، واحدة في علمه لأنه يعلم السر وأخفى ويسمع وساوس الصدور ، ولا يفوته شيء من كلام عباده مهما كان خفيا في مواقع السر العميقة الهامسة.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو وحده الإله الذي يملك الأمر كله ، فلا أمر في حركة الوجود إلا أمره. وهو الذي يملك الكون كله ، فليس هناك أحد إلّا هو مملوك ومربوب ومخلوق له .. وتلك هي النتيجة الطبيعية

٩٤

لما تقدمت به الآيات السابقة من شمول القدرة والملك ، والربوبية المطلقة.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) بكل دلالتها في صفات الكمال والجلال المطلقة ، في ما يمثله التصور الصحيح للعقيدة الإلهية التوحيدية التي توحي بالتفرّد المطلق بالربوبية في كل شؤونها ، بعيدا عن مماثلة المخلوقين في أي شيء من صفاتهم وأوضاعهم.

وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يحرك الإيمان بالله في كل موقع من المواقع التي يمكن أن يطل منها الإنسان على الله ، سواء في الحديث عن وحيه ، أم عن مخلوقاته ، بحيث يستحضر ذكر الله في جوانب عظمته ، أو في امتداد ربوبيته ، أو في الانفتاح على عظمته في ذاته المقدسة. فنحن نلاحظ أن الحديث قد انطلق في البداية عن النبي في مسئوليته الرسالية عن الدعوة إلى الله بما أنزل عليه من القرآن الذي كان تنزيلا من الله ، وهكذا بدأ الحديث عن الله في ما يراد له من تأكيد التصور التوحيدي في أكثر من موقع ، لئلا يغيب عن الوجدان في جميع الحالات.

* * *

٩٥

الآيات

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٣)

* * *

معاني المفردات

(آنَسْتُ) : الإيناس : إبصار الشيء ، آنست : أبصرت.

٩٦

(بِقَبَسٍ) : القبس : الشعلة من النار على رأس عود.

(طُوىً) : اسم لواد في طور ، قد سماه تعالى بالوادي المقدس.

(يَصُدَّنَّكَ) : الصدّ : الصرف.

(فَتَرْدى) : الردى : الهلاك.

(أَتَوَكَّؤُا) : الاتكاء على العصا : الاعتماد عليها.

(وَأَهُشُّ بِها) : الهشّ : خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا ليتساقط على الغنم فيأكله.

(مَآرِبُ) : جمع مأربة ، وهي الحاجة.

(سِيرَتَهَا) : أي حالها أو طريقتها.

(جَناحِكَ) : الجناح : جناح الطائر ، واليد والإبط.

(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : من غير عاهة أو قبح.

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ..) في بداية الرسالة؟

.. وهذا فصل جديد من السورة يتحدث عن قصة موسى عليه‌السلام في نطاق حركة التوحيد الإلهي في مسيرة النبوات ، وفي رعاية الله للأنبياء بالتأييد واللطف ، ليمنحهم وسائل القوة التي يستطيعون من خلالها أن يثبتوا أقدامهم على أرض صلبة ، في مواجهة كل عوامل الاهتزاز والتهويل ، وذلك بالوسائل الغيبية التي تنطلق في مستوى القوة المضادة لتحقيق التوازن في البداية لإفساح المجال للحركة أن تسير بواقعية وأمان ، ثم الانعطاف على الوسائل العملية

٩٧

الإنسانية التي تكمل الطريق من خلال نقاط الضعف والقوة ، تبعا للظروف الواقعية التي تتحرك على صعيد الواقع.

وإننا نعرف الغني الروحي والرسالي في قصة موسى ، في ما تشتمل عليه من عناصر متنوعة تتصل بالشخص الداعية ، والشخصيات المضادّة ، والتحديات الصعبة ، والمجتمع المعقّد الجاهل الذي انطلقت الرسالة من أجل إنقاذه ، فتحول إلى مجتمع ضاغط على حركتها التغييرية في المستقبل ، وأصبح مثيرا للمشاكل في ساحتها أكثر مما أثاره خصومها وأعداؤها.

وربما كانت حركة القصة في السورة منسجمة مع البداية التي أرادت أن تركز في وعي النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الابتعاد عن الشعور بالإحباط أمام حالات التمرد والجحود ، لأنّ مهمته هي إبلاغ الرسالة للتذكير والتوعية. وتبقى للظروف الموضوعية مسألة الامتداد أو التراجع ، في ما تحمله من نقاط القوة ، وتبقى إرادة الله فوق ذلك ، في ما اقتضت حكمته أن تسير الأمور وفق السنن الكونية التي أودعها في النظام الكوني للحياة وللإنسان.

إن القصة تريد أن تطرح حركة موسى في الدعوة ، كتجربة رسالية رائدة في طبيعة مواقع القوة المتحدية ، وفي نوعية المشاكل المتحركة في الساحة من الداخل والخارج ، لتكون درسا للعاملين في خط الدعوة إلى الله ، لينظروا إلى المسألة بطريقة واقعية ، وليعرفوا أن المعجزة عند ما تحدث فإنها لا ترافق الرسالة في جميع المراحل ، بل تعمل على منحها الثبات في البداية ، ليتم استكمال نشرها بالوسائل البشرية في المراحل الباقية في الطريق إلى الهدف.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) كيف عاش التجربة الأولى ، وكيف اتصل بالله سبحانه في أول انطلاقته الرسالية ، وهل أتاك حديثه في مواجهته لفرعون ، ولقومه من بعده وكيف واجه الصعوبات التي أثقلت روحه ، دون أن تحطم إرادته في مواصلة المسيرة؟

٩٨

(إِذْ رَأى ناراً) من بعيد ، وكانوا بحاجة إليها للاصطلاء بها وتحصيل الدفء في تلك الليلة الباردة ، (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) لأذهب إليها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) للدفء ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) للسؤال عندها عن الطريق فقد يكون هناك أناس متواجدون عندها. وذهب موسى إلى هناك ، وكانت المفاجأة. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) وكان الصوت يأتيه بطريقة غير عادية ، فليس هناك شخص يتحدث أمامه ، ولكن الصوت مسلط عليه من كل مكان حتى ليهتز كيانه معه ليتساءل بعمق وحيرة .. من هو؟ ومن أين ، وكيف؟ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وكانت الدهشة التي توحي بالرهبة ، وتؤذن بالخطورة ... إنه صوت الله .. إن الله يكلمه من دون وسيط .. إنه الصوت الإلهي الذي ينفذ إلى كل روحه وقلبه وضميره .. إنها الإشراقة الروحية التي تفيض عليه فيسبح في بحار النور المائج بالرحمة واللطف والرضوان .. وأصغى بكل كيانه في انتظار ما هناك ، ماذا يريد الله منه ..؟ وعقدت المفاجأة لسانه ...

* * *

حوار الوادي المقدس

(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إن لهذا الوادي قدسيته ، فلا بد لك أن تحترمه ، في مظهر تقديس يحترم الحضور الإلهي من خلال الصوت الذي كلم موسى وأحاط به من كل مكان قائلا له : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فلا يكن عندك موقع للشك ... وتفرض الحقيقة نفسها عليه فيطمئن ويهدأ ويتابع الاستماع بلهفة وشوق : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) لتكون رسولا من قبلي إلى فرعون لتقوده إلى الإيمان ولتردعه عن الطغيان ، وإلى هذا الشعب الذي عاش العبودية في عمق ذاته حتى أصبحت جزءا من كيانه ، بما يقدمه من فروض الطاعة لمستعبديه دون إحساس بضرورة الثورة أمام المستعبدين لنيل الحرية التي

٩٩

تستقيم من خلالها إنسانيتهم. وأنا اخترتك لتكون رسولا إلى الحياة كلها ، ليستقيم لها الطريق من خلال رسالتك وشريعتك ، ولتنتظم خطواتها في الخط المستقيم.

(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) وافتح قلبك لآياته ، وعقلك لأفكاره ، وسمعك لكلماته .. وروحك لإحساساته .. وأعطه كل كيانك لتستوعبه كحقيقة وجدانية لا مجال فيها لأي شك أو زيغ أو انحراف.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) إنها الحقيقة الساطعة التي يشع نورها على الوجود كله. إنها فكرة التوحيد التي تؤكد على وحدانية الخالق الذي هو الله لا إله إلا هو ، وقد جاءت الرسالات لتعمقها في وجدان الإنسان وعقله ، ليكون التصور للمسألة الإلهية صافيا نقيا في العمق التوحيدي بحيث يمتزج الجانب العقلي بالجانب الوجداني الشعوري.

(فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وهذا هو الخط الثاني العملي للمسألة التوحيدية في العقيدة بما يمثله توحيد العبادة لله ، بالتزام أحكامه في الجانب التشريعي من حياتهم ، والتزام مفاهيمه في الجانب الفكري من ثقافتهم ، والتزام منهجه في الأسلوب العملي لحركتهم ، مما يجعل حركة الإنسان في الحياة منسجمة مع حركة العقيدة في الداخل ، لأن الإخلاص في التوحيد يفرض التحرك في خطين ، خط العقيدة ، وخط العمل.

وفي هذا الجو تأتي إقامة الصلاة لتحقق القوة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الله ليعيش عروج الروح إلى قدسه ، من خلال الجو الإيماني الذي يعيشه الجسد في حركة العبادة ، مما يؤدي به إلى الإحساس بحضور الله في وعيه ووجدانه ، بحيث يرى الله في كل شيء فيذكره في كل موقف ..

وهذا هو الوحي الأول الذي أوحى به الله إلى موسى عليه‌السلام ليكون عنوان الرسالة في خطوطها التفصيلية الفكرية والعملية ، ليعرف من خلال نقطة

١٠٠