تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

وعاطفة إنسانية تشمل الوالدين وتمتد إلى كل الناس الآخرين الذين يحسنون إليه من حوله.

(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) في ما يعبر عنه بالجبروت النفسي من طغيان الفكر والشعور والسلوك ، من موقع الإحساس الأناني بأن للذات الحق على الناس ، دون أن يكون لأحد الحق عليها .. وما تنتجه الشقاوة من مشاكل للناس في حياتهم وتضغط عليهم بالسوء والعذاب. (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) في ما تمثله مرحلة الولادة من وداعة وسلام روحي ، وبراءة ، تنشر السرور والمرح في ما حولها ، وفيمن حولها ، (وَيَوْمَ أَمُوتُ) لألقى وجه ربي منفتحا على الإيمان والخير والطاعة ، فأعيش السلام الروحي مع الله عند ما أقدم عليه مؤمنا طائعا مرضيّا عنده ، (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) لأرى في ذلك الموقف كيف يمنحني الله رضوانه لأعيش في رحمته ونعمته في دار السلام.

على هذه الصورة قدم عيسى نفسه إلى الناس الذين أنكروا على والدته أمرها ، ولم يبق شيئا غامضا في المسألة .. ولم يتحدث القرآن عن رد فعلهم على ذلك ، وربما كان السبب فيه ، أنهم واجهوا الموقف بإيمان وقناعة ، لعدم امتلاكهم لشيء يقولونه في الموضوع ، أو لأن الفكرة التي أراد الله إثارتها من خلال القصة ، لا تحتاج التطرق إلى هذه النقطة من سياق القصة.

* * *

٤١

الآيات

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

* * *

معاني المفردات

(يَمْتَرُونَ) : يشكّون ، أو يتنازعون.

(الْأَحْزابُ) : المراد بها : طوائف أهل الكتاب.

(فَوَيْلٌ) : الويل : كلمة تهديد تفيد العذاب والخزي والهوان.

(يَوْمَ الْحَسْرَةِ) : يوم القيامة.

* * *

٤٢

اختلاف الأحزاب في عيسى عليه‌السلام

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) في قصة ولادته ، وفي طبيعته البشرية ، وفي رسالته ، من موقع الإيضاح الذي يمنع الشك والريب ، ويدفع إلى الإيمان من أقرب طريق ، (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي أقول قول الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بالرغم مما يتنازعون فيه من الكلمات غير المسؤولة ، ومن الآراء التي لا ترتكز على حجة ، ولا تستند إلى علم ، بل هو التكلّف ، والتأويل ، والبعد عن الحق ، وذلك في ما ابتدعوه من فكرة نسبة الولد إلى الله ، بقولهم عن عيسى إنه ابن الله .. ولكن ذلك لا يرجع إلى أساس ، ولا يركن إلى حقيقة ، (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) لأن إنجاب الولد ينطلق من موقع الحاجة ، وهو أمر لا يتناسب مع غنى الله المطلق عن كل شيء ، فأيّة حاجة به إلى الولد ، وهو الذي لا يختلف مراده من إرادته ، (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مما يجعل لبنوّته لله فرضية لا معنى لها في حساب الفكر ، ولا موقع لها في حركة الواقع.

وقد واجه عيسى هذه الفكرة مواجهة كاملة واضحة ، وذلك بدعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، باعتبار أنه ربه وربهم ، مما يؤكد معنى العبودية لله في شخصه بالذات ، وفي الناس الآخرين ، مما يلغي أيّ نقاش حول ربوبيته ، أو وجود بعض الأسرار الألوهية في شخصيته ، بل هو عبد الله ، كما أن الآخرين عبيد له.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) واخضعوا له ، ونفذوا أوامره ، وابتعدوا عن نواهيه ، في كل جوانب الحياة ، من أجل الحق والعدل والسلام ؛ (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لأنه يصل النهاية بالبداية في خط مستقيم ، في ما يوحد العلاقة بإله واحد ، ويحدد للإنسان الحرية أمام الكون كله ، وأمام الناس كلهم ، ويشرع له ما يصلح أمره ، ويبعده عما يفسد حياته ، ويدفعه إلى التوازن في كل الأمور ،

٤٣

فلا التواء ولا انحراف في أى تصور أو سلوك ، أو علاقة ، أو منهج للحركة وللحياة.

ولا تحتاج المسألة في ذلك كله إلا إلى الوعي العميق لسرّ الألوهية المتصلة بالوحدانية. وإلى دراسة الإنسان في عناصر ضعفه ، وعناصر قوته ، لما يكفل عدم إخراج أي إنسان عن حدود الإنسانية المحتاجة في كل شيء إلى مصدر القوة والحياة ، هذه القوة التي تمثل الغنى المطلق مقابل فقر الإنسان المطلق في ما تعنيه علاقة المخلوق بخالقه. ولهذا فإن من الضروري أن تكون الدراسة للوجود ، في القوى الإنسانية والكونية ، خاضعة للموازين الدقيقة التي ترى القوة الإنسانية في حجمها الطبيعي ، فلا تغلفها الأسرار الغامضة التي يفرضها التصور المنحرف ، ويوحي بها الخيال الواسع. فإن كثيرا من حالات الغلو في نظر الناس إلى الشخص العظيم ، تأتى عن الأوهام الذاتية ، والتصورات الخيالية التي يضيفها الناس إلى الشخص ، فينفخون شخصيته دون الاستناد إلى حقيقته في الواقع.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) في أمر عيسى ، هل هو إله متجسد ، أو هو ابن الله ، أو هو ابن نبي مرسل ، أو هو شخص مزيف؟ فلكل واحد مقال يختلف فيه عن الآخر. وهكذا كان منهم المحق ، والمبطل ، والمؤمن والكافر ، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيمة الذي يقف فيه الكافرون موقفا صعبا أمام الله لأنهم لا يملكون أية حجة في ذلك ، بل استسلموا للشبهات والأهواء ، وامتنعوا عن التفكير العميق والحوار الرصين.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) فقد كانوا في الحياة الدنيا لا يسمعون ولا يبصرون ، لأنهم أغلقوا منافذ سمعهم وبصرهم عن العلم النافع الذي يقودهم إلى الحق والهدى ، ولكنهم الآن يسمعون كأفضل ما يكون السمع ، ويبصرون كأفضل ما يكون البصر ، فما أسمعهم ، وما أبصرهم بالحق (يَوْمَ يَأْتُونَنا) فيشاهدون الحقيقة الناصعة دون أن يستطيعوا الهرب منها أو مواجهتها ، لأنها تفرض

٤٤

نفسها عليهم من كل جانب ، بعيدا عن النوازع الذاتية ، أو عن التصورات الخيالية التي تقودهم إلى الانحراف. لقد انتهت فرصة التراجع عن الضلال ، لأن الدنيا عمل ولا حساب ، والآخرة حساب ولا عمل ، فلا شيء ينفع بعد الآن ، ولا مجال للانطلاق من جديد إلى الخط المستقيم ، ولا للتخلّص من مسئولية الضلال ومن نتائجه العملية ، وساحاته الجهنمية التي تحتوي الضالين جميعا في عذاب شديد. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وربما أريد من الضلال العذاب تعبيرا عن الشيء بنتائجه ، والله العالم.

* * *

الله المالك للأرض

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) وعرفهم أهوال يوم القيامة وأوضاعه وطبيعته ، وكيف يمكنهم أن يتفادوا نتائجه المذلة المرعبة ، بتصحيح مواقفهم ، وتحسين أعمالهم في الدنيا ، بأنهم إذا لم يأخذوا بالتوبة ، وينطلقوا في الاتجاه الصحيح فسيواجهون الحسرة كل الحسرة والندامة ، كل الندامة (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) وانتهى وقت العمل ، وأبرم الحكم ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عن الالتفات إلى طبيعة المصير الذي ينتظرهم بسبب الضلال ، (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالله الواحد المنزّه عن الشريك وعن الولد. وهكذا ، سوف يقفون في موقف الحسرة لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى والإيمان. وما ذا بعد ذلك؟ ومن الذي يأملون أن ينقذهم من عذاب يوم القيامة؟ ومن هو الذي سيبقى لهم من كل هؤلاء الذين يشركونهم بعبادة الله فيطيعونهم ويعصون الله؟ سيموت الجميع ، ولن يبقى إلا وجهه ، فهو ولي الأمر كله ، وهو ولي الحساب كله.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) فلا مالك لها إلا الله ، (وَمَنْ عَلَيْها) فهم المملوكون لله في البداية وفي النهاية ، (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فيحاسبكم على ما قدمتم من خير أو شر ؛ فاستعدوا لذلك ، واحسبوا حسابه ، لتعرفوا كيف تواجهون المسألة ، وكيف تؤكدون الموقف على أرض صلبة قوية وقاعدة ثابتة.

* * *

٤٥

الآيات

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠)

* * *

معاني المفردات

(صِدِّيقاً) : الصدّيق : صيغة مبالغة من الصدق ، أي : كثير التصديق بالحق.

٤٦

(صِراطاً سَوِيًّا) : طريقا مستقيما معتدلا.

(عَصِيًّا) : عاصيا.

(مَلِيًّا) : دهرا طويلا.

(حَفِيًّا) : برّا لطيفا.

(شَقِيًّا) : خائبا في مسعاه.

(لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) : أي : ثناء حسنا ، وذكرا مرتفعا.

* * *

إبراهيم عليه‌السلام .. وأسلوب الدعوة النموذجي

إننا أمام حوار مثير يديره إبراهيم مع أبيه ، أو عمه الذي تبنّاه ، وقد كان كافرا ، كقومه ، فقد رأى أن من أولى مهماته في الدعوة إلى الله ، أن يبدأ بدعوة أبيه ، لأن بقاءه على الكفر ، يترك نقطة ضعف في موقفه وقد يخلق له مصاعب داخلية تعطل بعض خطواته ، أو تجلب له مشاكل غير منتظرة.

وقد واجه الحوار صعوبة في البداية ، لأنه حوار الابن مع أبيه ، في مجتمع يعطي للأبوّة قيمة كبيرة ترقى إلى درجة التقديس الذي يلزم الأبناء الخضوع المطلق لآبائهم ، ولهذا استخدم إبراهيم أسلوبا حذرا ، فلم يلجأ إلى أيّ عنصر من عناصر الإثارة التي تتناول الذات بالتجريح والتبكيت ، بل حاول ، على العكس من ذلك ، أن يشحن أسلوبه في الحوار ، بالعاطفة إلى درجة تجعل من يقرأه يتصور أنه في حالة من حالات التوسّل إلى أبيه تماما كما هي

٤٧

حالة من يخاطب إنسانا عزيزا ، معرّضا للسقوط ، أو للهلاك ، ففيها يتحدث الإنسان عادة بكل هلع ومحبة ، لإنقاذ من يوده بأي طريق. وبذلك نجد في الحوار الذي تمثله الآيات المتقدمة ، بساطة الفكرة ووضوحها ، في إطار الجو الحميم الذي يسود الموقف.

فنحن نلاحظ ، في أسلوب إبراهيم ، أنه حاول تبرير دعوته لأبيه بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ، ولذا ، فلا مانع هناك من وجهة اجتماعية أن يدعو الابن أباه ، مع حفظ مقام الأبوّة ، كما عبّر عن شعوره العاطفي تجاه ضلال أبيه ، وخوفه من أن يمسه عذاب الله.

وقد جاء ردّ أبيه ، ومن موقع من يشعر بسلطة الأبوة التي تضغط على الابن ليسير على خطى أبيه ، وتهدده بالقوة والطرد والهجران ، إن خالف ذلك ، فلا حوار ولا كلام بين الابن وأبيه ، إنما هو الأمر والطاعة ، فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره ، وللابن أن ينفذ من دون تردد أو تفكير.

إنها شريعة المجتمع ، آنذاك ، التي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقة تشبه علاقة العبودية التي يعيشها العبيد أمام المالكين.

ولم يتراجع إبراهيم عن إثارة الجو العاطفي في إعلان موقفه الرسالي من أبيه ، بعد أن رفض دعوته وقد استطاع فيه أن يوفق بين الرسالة والعاطفة ، فجعل العاطفة طريقا إلى رسالته ، وشعورا بالمسؤولية تجاه أبيه ، ومحوّلا الموقف ، الى موقف إنقاذ ، فكان رد فعله أن توجّه إلى أبيه بالسلام ، ووعد أن يدعو له بالمغفرة ، وبأن يوفقه الله تعالى لأسبابها من الهداية إلى الإيمان ؛ وأعلن له ولقومه ، باعتبار أن أباه يمثل فريق الكفر ، بأنه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله ، بعد أن قام بواجبه تجاههم.

وقد كان هذا الوعد من إبراهيم لأبيه بالاستغفار ناشئا عن أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله ، وليس ناشئا على الإطلاق عن إحساسه

٤٨

بأن القرابة تمثل امتيازا يميّز أباه عن غيره ، ولذا أعلن البراءة منه بعد أن يئس من إيمانه ، وظهرت عداوته له.

وإننا في هذا المجال ، نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف التي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الذين تربطنا فيهم بعض الروابط العاطفية من نسب أو غيره ، لنتعلم من إبراهيم عليه‌السلام ، كيف نشحن الحوار بالمشاعر التي تسهل المهمة ، بما تثيره لديهم من مشاعر تسهل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار دون أن يخلق ذلك انجرافا مع العاطفة لمصلحة الكفر والضلال ، لأن الأسلوب العاطفي في هذه الحال لا ينبع من حالة نفسية عفوية ، بل يرتكز على تخطيط يعتبر العاطفة جزءا من الخطة العامة تخضع لما تخضع له تلك الخطة من مرونة ووعى وثبات.

وعلى ضوء هذا نجد أن من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوة في حالات أخرى ، إذا ما عمل من ندعوهم على استغلال أسلوبنا العاطفي لأغراض في غير صالح الدعوة إلى الله ، تماما كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيم ، في ما أشرنا إليه ، ليظل الأسلوب ، في كلتا الحالتين ، منسجما مع خط الحكمة الذي يريد الله للدعوة في سبيله أن تسير عليه.

وقد نشعر ، في نهاية هذا العرض ، بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الروحية في بعض حالات الحوار ، بين أسلوب يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه ، وبين أسلوب ينقل الموقف إلى ابتهال خاشع يمارسه الداعية للتأثير النفسي على الآخرين عند ما يشغلهم عمّا هم عليه ، بروعة المناجاة ، وخشوع الابتهال.

هذه بعض الأفكار العامة حول هذه الآيات ، ولا بد لنا من الدخول في التفاصيل التفسيرية لمفرداتها.

* * *

٤٩

إبراهيم عليه‌السلام يباشر الدعوة إلى الله

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) قد يكون من الضروري للنبي ، أو للداعية بشكل عام ، أن يستحضر في وعيه ملامح الشخصيات الرسالية التي تمثل النموذج الأكمل لحركة الإنسان الرسالي في الدعوة ، ليدرس أساليبها ، ويستلهم روحيتها ، وينتفع بتجربتها .. ومن أبرز هؤلاء إبراهيم ـ النبي ـ وهو النبي الصديق الذي كانت حياته صدقا كلها ، مع نفسه ومع ربه ومع الناس من حوله ، فلم يجامل أحدا في الحق ، ولم يهادن قريبا أو بعيدا في مستلزمات الرسالة ، ولم يترك في حياته فراغا لغيرها ، بل كانت الرسالة كل فكره ، وهمه ، وكل حياته .. فقد كانت تجربته غنية بالتنوع الذي يحكم جوانبها ، كما كانت روحيته ، في علاقته بالله وفي إخلاصه للرسالة ، في المستوى الأعلى من روحية الأنبياء والصديقين ، وقد يكون من بين تجاربه الرائعة التي تعكس عمقه الروحي تجربته مع أبيه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) فقد رأى أباه يعبد الأصنام التي يعبدها قومه ، وهو بذلك خاضع كغيره لعادة السير على خطي الآباء والأجداد وتقليدهم في السلوك. والسبب غياب الوعي الفكري ، الذي يكفل عدم صدور أي عمل عن الإنسان إلا بعد دراسة طبيعته وخلفياته ونتائجه ، ومدى انسجامه مع الجانب الخيّر من الحياة مع موقع الحق في الفكر. وتبقي للعادة حرمتها وقداستها ويعمل الجميع على تبريرها بأن يفرضوا لها أسرارا عميقة غامضة في قدراتها الذاتية في الخير والشر.

وهكذا أراد إبراهيم أن يثير التساؤل في تفكير أبيه ، وذلك بأن يطرح عليه الجانب اللامعقول في هذه العبادة بطريقة بسيطة لا تكلّف الإنسان بذل أيّ جهد

٥٠

في التفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيديا. فحاول أن يهز جمود الموقف عنده ، بطريقة الصدمة وأسلوب الإثارة ، فهاجم هذه المقدسات الصنمية بعنف. فكيف يمكن له وهو العاقل الواعي الكبير في سنه ، أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه ـ إذا خاطبها الإنسان بحاجة أو سؤال أو خضوع وابتهال ـ ، ولا تبصره إذا وقف أمامها في وقفه عبادة ، لأنها لا تملك أيّ حس يوحي بالتأثر والانفعال في ما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهة ، وهي وإحساسها بنا أو بالآخرين غائب غيابا كليا عن الإنسان والكون والحياة؟ ثم ما الذي تملكه من قوة وقدرة على التأثير بما حولها ومن حولها؟ إنها اللاشيء في عالم المعقول ، أو في عالم الحركة ، فكيف تستجيب لدعوات الناس الذين يعبدونها ، وكيف تدفع عنهم الضرر أو تجلب لهم النفع ، أو ترفع ضغط الواقع عنهم؟ وما فائدة عبادتهم لها ، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تعبد؟

إنها اللافائدة ، واللّامعقول ، واللّاإحساس بأي شيء في الحياة.

* * *

إبراهيم عليه‌السلام يعظ أباه

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) فقد عشت تجربة الفكر التي أعطتني المعرفة التأملية ، وقد عشت تجربة الواقع ، فمنحتني الثقافة العملية ، وقد ألهمني الله من وحيه الكثير من تفاصيل العقيدة والشريعة ، والمنهج العملي في الحياة ، واستطعت من خلال ذلك كله أن أحصل على المعرفة الواسعة التي تتيح لي هداية الناس ودعوتهم إلى الله. والمسألة هنا ليست مسألة أب أو ابن ، بل هي مسألة جاهل وعالم. وليست قصة عمر كبير ، أو عمر صغير ، لأن أهمية العمر هي في ما يختزن من تجربة ، لا في ما يستهلك من لحظات زمنية. فإذا كان العمر خاليا من تجربة الفكر وتجربة الواقع ، فإنه لا يمثل امتدادا في قيمة

٥١

الزمن في حساب العلم. وهكذا فقد جاءني من العلم ما لم يأتك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) يقودك إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه ، والانفتاح على الآفاق الحلوة في الحياة ، والوصول الى جنته ورضوانه .. ، وذلك هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) في ما تمثله العبادة من الطاعة له بما يوسوس للإنسان من وساوس الشر ، وما يزينه له من أفعال الجريمة ، ومن الابتعاد عن الله وعن خطّه المستقيم ، إلى غير ذلك مما يجلب لك الشقاء في الدنيا والآخرة ، فابتعد عنه ، واقترب من ساحة الله ، في خط عبادته (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) فقد عصى الله في البداية ، عند ما أمره بالسجود لآدم ، وما زال مقيما على معصيته ، وداعيا الآخرين إليها ليقودهم إلى عذاب السعير.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) بسبب طاعتك للشيطان وعصيانك لله ، (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) يتولى أمرك لأنك تتولّى مواقفه ومواقعه ، ومن كان الشيطان مولاه فإنه سائر إلى الهلاك ، ومن كان الرحمن مولاه فإنه سائر إلى الخير والنجاح والفلاح.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) كيف تتجرأ على الانفصال عن خط أبيك فتتركه ، وتترك مقدساته ، وترغب عن آلهته؟ وما هذا اللغو الذي تتحدث به ، وكيف تجرؤ على أن تتخذ لنفسك صفة الواعظ المرشد الموجّه لأبيك؟ متى كان الصغار يعلّمون الكبار ، أو يناقشونهم في أقوالهم أو أفعالهم؟ هل تريد أن أناقشك في كلامك ، أو أستمع إليك؟ أصحيح أنك تفكر بهذه الطريقة؟ ردى الوحيد عليك هو أنك (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن هذه السلوك ، وعن هذا الكلام (لَأَرْجُمَنَّكَ) وهذا يعني تهديده بالقتل رميا بالحجارة ، (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) وابتعد عني وقتا طويلا فلا أراك ولا تراني ، لأني بريء منك ، براءتي من عقيدتك وسلوكك.

٥٢

وهكذا رأينا أن أبا إبراهيم لجأ إلى أسلوب الكافرين التقليدي نفسه الذي لا يجد الكافر فيه ما يقوله دفاعا عن موقفه ، لأن عقيدته لا تنطلق من موقع فكر وقناعة ، فيلجأ عندئذ إلى التهديد والوعيد ، ليغطي بذلك ضعفه أمام الكلمة الواعية المسؤولية. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) فلن أستخدم الأسلوب الذي استخدمته معي ، ولن أهددك كما هددتني ، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليّ ، فإني أرد عليك بالسلام الذي يعيشه المؤمن تجاه الآخرين ، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه ، وأجرموا في حقه ، ليدفع السيئة بالحسنة ، ويفسح لهم المجال للتراجع عن موقفهم السيّئ. ولو بعد حين.

(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) فلعله يستجيب لي فيفتح قلبك على الإيمان ، ويهديك سواء السبيل ، فإن لم أستطع أن أصل إلى هدايتك بطريقتي الخاصة ، فإني أطمع أن تهتدي بلطف الله وعنايته ، فسأدعوه وأبتهل إليه (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) فلا بد أن يسمع دعائي ، وهو الذي يعرف صلاح الأمر كله ، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لأن دعوتي إلى الخير منطلقة من الله ، أما دعوتكم فهي إلى الشر القادم من الشيطان ، ولن يلتقي الباحثون عن الخير بالباحثين عن الشر في نقطة من الطريق ، لأن طريق كل منهما يختلف عن الآخر ، كما أن مجتمع كل منهما يختلف عن مجتمع الآخر. ولذلك فإني سأبتعد عنكم ، كما تريدون ، وكما يفرض عليّ الموقف والموقع ، (وَأَدْعُوا رَبِّي) وأرجع إليه ، وأرجو رحمته ورضاه ، (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) لأنه يشمل عباده برحمته ، فيستجيب لهم إذا دعوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويقبل عليهم إذا ناجوه ، لأنه الرب الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ، فلا يحجب رحمته عن السائرين إليه ، الراجين رضاه.

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وأعطى من نفسه المثل الحي

٥٣

والنموذج الأكمل الذي يرفض كل مشاعر القرابة في مقابل مواقف الإيمان ، لأن علاقته بالله تعلو فوق كل علاقة ، كما أن رضا الله يسبق رضا كل من يتصل بهم من الناس. وهكذا ابتعد عنهم واعتزلهم ، فلما أكد الإخلاص في الموقف ، (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) وجعلنا النبوّة في ذريته ، وامتدت الرسالة في حياتهم ، وارتفعت درجاتهم في مواقعها ومواقفها ، لأنهم أخلصوا لله ، (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) في ما يعبر ذلك من الثناء الجميل والذكر الحسن ، جزاء لهم على إيمانهم ، وجهادهم ، وإخلاصهم لله ؛ وهكذا يكون جزاء العاملين في سبيل الله الداعين إليه ، المنفتحين على رسالته ورضاه.

* * *

٥٤

الآيات

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧)

* * *

معاني المفردات

(وَقَرَّبْناهُ) : رفعناه.

(نَجِيًّا) : النجيّ : المناجي ، وقد يكون بمعنى : الارتفاع ، على تقدير : وقربناه مكانا رفيعا.

* * *

٥٥

رسل الله في إخلاصهم وجهادهم

ويمر القرآن ، في هذه الآيات على مجموعة من الأنبياء بطريقة سريعة ، تعطي لمحة خاطفة عن صفة روحية ، أو أخلاقية أو رساليّة في حياتهم الخاصة والعامة ، من أجل أن نتمثلهم في درجاتهم العليا ، في مستوى القدوة الصالحة للبشرية الآتية من بعدهم ، الباحثة عن النموذج الأفضل الذي يوحي بميلاد عصر جديد على مستوى الرسالة والحركة والإنسان.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) هذا النبي العظيم الذي عاش تحدّيا كبيرا في رسالته أمام فرعون ، وتعرض لأكثر من حالة اضطهاد مع المستضعفين ولم يتراجع ، ولم يهن ، بل بقي مثابرا على دعوته ومهمته حتى استطاع أن يهزم الطاغية في نهاية المطاف .. وبذلك يكون تذكّره حافزا للعاملين على المزيد من الاندفاع في الدعوة ، والثبات في مواقع الرسالة ، (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أخلصه الله لنفسه فلم يكن فيه شيء لغيره ، لا في نفسه ولا في عمله ، تتمثل فيه العبودية الخالصة لله في أعلى الدرجات وأرفع المستويات ، (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) حمله الله الرسالة في خط الدعوة ، ورزقه النبوة في حركة الوحي.

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) في أول لقاء له بالوحي المنطلق من الله ، في ذلك الجبل الذي كلمه الله فيه ، في الجانب الأيمن منه ، (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وناجاه فيه كأسلوب من أساليب الإيحاء بالقرب المعنوي من الله.

وقد تميّز عن الأنبياء بأن قرن الله به هارون أخاه في موقف النبوة ، (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) التي أردنا بها أن نقوي موقعه ونشد أزره ، فأرسلنا معه (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) بعد أن سأل ربه أن يجعله وزيرا له ، وأن يشركه في أمره ، ليقوي به موقفه الثابت ويبعده عن مواقع الاهتزاز أمام نقاط الضعف العملي على أكثر من صعيد.

* * *

٥٦

إسماعيل الصادق الوعد

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) وهذا نبي آخر ، قد لا يرقى إلى مستوى موسى عليه‌السلام ، ولكنه يتميز بإيمان قوى ثابت ، وخلق عظيم ؛ ومن مظاهر ذلك (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) مهما كلّفه الالتزام بالكلمة من جهد حتى في أشد المواقع صعوبة. وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة ، أنه وعد رجلا فانتظره حولا تعبيرا عن الالتزام الصادق بالكلمة التي ألزم نفسه بها ، أمام الآخرين الذين وعدهم بالوفاء ، فكانت الكلمة دستورا يحكم حياته ، لأن الإيمان موقف ، والكلمة موقف ..

(وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) فكان من المفروض أن يدعو الناس بعمله قبل أن يدعوهم بلسانه ، لأن ذلك أعمق أساليب الدعوة ، (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ليربطهم بالجانب الروحي حيث يتمثل حضور الإنسان الفكرى والشعوري والعبادي أمام الله عبر الصلاة ، وبالجانب المادي عبر المسؤولية المادية تجاه الآخرين من المحرومين ، في النطاق الذي ينفتح فيه الإنسان على الله ليعيش عبادة العطاء ، كما يعيش عبادة الصلاة. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) من خلال إيمانه الكبير وعمله الصالح ، وجهاده القوي بين يدي الله.

* * *

إدريس الصّدّيق

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) وهناك أكثر من قصة عن هذا النبي وعن قومه ، وعن تفاصيل الحوادث التي وقعت بينه وبينهم ، وعن المرحلة التاريخية التي كان فيها ، ونذكر أنها كانت بين الفترة التي عاش فيها

٥٧

آدم والفترة التي عاش فيها نوح. ولكن ذلك كله لا يرجع إلى حجة أو يقين ، ويحتمل أن تكون قد اختلطت ببعض الإسرائيليات التي استخدمت الخيال في وضع قصص تؤكد مفاهيمها مستغلة ما أجمله القرآن من فصول حاولت ان تفصله بطريقتها الخاصة.

وإننا نرى أن ذلك كله حديث لا أساس له ، ولا فائدة منه ، في سياق ما يريد القرآن أن يتحدث عنه من أخبار أنبياء الله ، فقد فصل الحديث عن بعضهم لوجود أكثر من قضية مهمة في تفاصيل حياتهم يحتاج الناس لمعرفتها للدرس والعبرة والتأمل ... وربما كرر الحديث عن بعض المسائل في أكثر من موقع لعلاقتها بأكثر من هدف ... بينما أجمل الحديث عن بعضهم الآخر ، لأن الواحد منهم يمثل من ناحية المبدأ شيئا مميزا في خصوصيته ، بعيدا عن مسألة النبوة ، كما هي الحال في حديثه عن إدريس الذي اكتفي بوصفه صديقا نبيا ، فلنجمل ما أجمله القرآن من أمره ، كي لا نقع في قبضة الخيال القصصي الذي تتحرك فيه الروايات الموضوعة التي لا ترتكز على أساس من علم أو حجة ، ولنكتف بمعرفة أنه كان في الدرجة العليا من كرامة الله في إيمانه وعمله ، وإخلاصه لربه على ما جاءت به الآية الكريمة : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) لأن الله لا يرفع أي شخص إلي المكانة الكبيرة من محبته إلا بواسطة ملكاته الذاتية ، ومواقفه العملية.

* * *

٥٨

الآيات

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣)

* * *

معاني المفردات

(وَاجْتَبَيْنا) : اصطفينا.

(فَخَلَفَ) : الخلف ـ بفتح اللام ـ : النسل الصالح ، وبسكونها : البدل السيّئ.

٥٩

(غَيًّا) : الغي : الخسران.

(عَدْنٍ) : العدن : الإقامة.

(مَأْتِيًّا) : آتيا.

* * *

الجنة لعباد الله الصالحين

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم هؤلاء الذين تقدمت الإشارة إليهم ، مما قصه الله من أمرهم ، بالإجمال أو التفصيل ، وهم زكريا ، ويحيى ، ومريم ، وعيسى ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وهارون ، وإسماعيل ، وإدريس ، الذين أنعم الله عليهم بالإيمان التوحيدي الخالص الذي ينفتح على الله بروحية العبد الطائع الذي أخلص لله في العقيدة وفي الطاعة ، وأعطى من فكره وعمله ، فلم يغضب الله لتمرده ولا لضلاله ، و (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) من البقية الصالحة من المؤمنين الخالصين الذين آمنوا بنوح النبي واتبعوه ، (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) الذين امتدت النبوة فيهم وتحولت إلى خط متحرك في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ، (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) من الذين هداهم الله بما أفاض عليهم من نور البصيرة ، وانفتاح العقل ، وصفاء الروح ، ومسئولية الحركة ، واستقامة الطريق ، ووضوح الهدف ، وتقوى الفكر والعمل.

وقد يكون المراد من كل هؤلاء ، هم النبيون الذين أنعم الله عليهم ، كما قد يفهم من قوله تعالى : (مِنَ النَّبِيِّينَ) حيث حددت المشار إليهم بالنبيين ، ولكننا عند ما نلاحظ ذكر اسم مريم ، وهي ليست من الأنبياء فقد نستوحي من ذلك أن المسألة أشمل من ذلك ، وتكون الإشارة إلى هؤلاء على أساس أنهم يمثلون النموذج الأكمل للمهتدين الذين أنعم الله عليهم بالإيمان

٦٠