تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

عظمة الله في الكون ، (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) في ما يشبه الفرحة الكبرى ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) لأن التسبيح بما يعينه من استلهام عظمة الله من عظمة خلقه ، وبما يشيعه من إحساس بالخشية من الله هو السبيل للالتزام الواعي بالخط المستقيم.

* * *

٢١

الآيات

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا(١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(الْكِتابَ) : المراد به هنا : التوراة.

(الْحُكْمَ) : العلم بالمعارف الإلهية ، أو هو الفهم.

(وَحَناناً) : العطف والرحمة.

(عَصِيًّا) : الأصل في معناه : الامتناع ، والمراد به هنا : أنه كان رؤفا رحيما بمعاملته مع الناس.

* * *

الكتاب ليحيي

وتمت كلمة الله ، وولد يحيى لزكريا. وبدأ ينمو ويترعرع في أحضان

٢٢

التقى وفي أجواء الإيمان ، حتى إذا أكمل نموه الجسدي والروحي ، وانفتح على الله بروحه ، وعلى الإيمان بفكره ، وعلى المسؤولية بكل وعيه ، جاءه النداء الخفي من الله ، أن ينزل إلى الساحة ، حيث يحتدم الصراع بين الآراء المتعددة والمذاهب المختلفة ، وحيث تتصادم الأهواء في النظر إلى القضايا والأشياء بعيدا عن الموازين الدقيقة لها ، ليأخذ دوره في مواجهة ذلك كله ، بكلام الله ، من موقع القوة المرتكزة على عمق الوعي وسعة الأفق ، وشمول النظرة ، وقوة الإرادة ، وصلابة الموقف.

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) واحمل التوراة التي تشمل كل شيء في العقيدة والتشريع والمنهج ، لتؤكدها في حياة الناس ، بالدعوة والحركة والخط ، ولا تضعف أمام كل عوامل التحدي ، وعناصر الضعف ، بل تقدّم بكل قوة ، لأن الأقوياء هم الذين يملكون ساحة الفكر بقوة فكرهم ، وساحة السلطة بقوة شخصيتهم ، وثبات موقفهم. أما الضعفاء فيهزمهم الآخرون بأي أسلوب يضعف الروح ، ويزلزل الفكر ، ويهز الشعور ، فينسحبون عن مواقعهم بسهولة. هؤلاء المنهزمون الضعفاء لا يمثلون شيئا في حركة الصراع ، ومواجهة التحدي.

وليست هذه الدعوة خاصة بيحيى ، بل تشمل كل الذين يحملون رسالات الله من أنبياء أو مبلغين ، فإن على هؤلاء أن يحملوا رسالة الله بقوة وحسم بامتلاكهم العمق في المعرفة وصلابة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة ، والهدف في مواجهة التحدي المضاد ، وامتلاك السلاح في مواقع الجهاد. وتلك هي مسئوليتهم التي يريد الله لهم أن يحملوها ، ليتوازن الواقع على خط الهدف ، وتندمج إرادة الإنسان في إرادة الله. وهذا ما أراده زكريا ، من خلال الولد الذي طلب إلى الله أن يهبه إياه ، ليرثه ويرث من آل يعقوب ، في حمل الرسالة ، وفي ما تركه آل يعقوب من كتاب وحكمة وقوة ، ليسيطروا على كل الذين يريدون الانحراف بالناس عن الخط المستقيم.

* * *

٢٣

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وتلك هي المعجزة الإلهية الثانية في خلق يحيى ، فقد ألهمه الله الوعي الكامل للحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه ، في كل المواقع التي يبحثون فيها عن الحاكم العادل الذي يعرف الشريعة مصادر وموارد ، ويميز بين مواقعها ، لتتحرك به النظرية في خطوة التطبيق. وهكذا ملأ الحكم كيانه ، وتحرك في كل حياته وهو لا يزال صبيا ، لم يبلغ الحلم ، ولم يصل إلى السن التي تؤهله لتبوّءوا المواقع المتقدمة للحكم في نظر الناس باعتبار أن الحكم هو عنوان كبير لنضج العقل واكتماله ، وسعة المعرفة واتزان المشاعر ، وهي أمور لا تتحقق لصبي في عقله وحركته ، وبالتالي فإنه لا يكون موضعا للثقة ، لأن ذلك يحتاج إلى قطع مراحل طويلة من النمو الطبيعي ومن معايشة التجارب. ولكنها إرادة الله التي تتصل بالحياة ، فتمنحها كل عناصر القوة وكل عوامل السرعة في النمو ، لأن إرادته لا تتخلف عن مراده في قضايا التكوين في ما يجده من أسرار الحكمة في حركة الإنسان في الحياة.

وهذا ما يريده الله لعباده ، في ما يعدّه لهم من مواقع الكرامة ، ومنطلقات الهداية بالأسباب المألوفة أو غير المألوفة. ولم تكن معرفة يحيى للحكم هي كل ما كان يملكه هذا العبد الصالح الداعية ، بل كانت شخصيته جامعة لكل صفات الكمال ، (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) بما أفاضه الله عليه من روحية الحنان الإلهي الذي يغمر قلبه بالخير والرحمة ، فينسكب على حياة الناس رأفة ، وعطفا ، ورحمة ، ومحبة ، فلا يعنف بهم ، ولا يقسو عليهم ، ولا يحملهم ما لا يطيقون ، في ما يحملهم من مسئوليات ، ويدعوهم إليه من قضايا ، ويقودهم إليه من مواقف ... ولعل هذا أقرب إلى الفهم في موقعه الرسالي الذي تلتقي فيه الرسالة بالحكم. وربما فسره بعضهم بأنه نوع عطف وانجذاب خاصّ إلهي

٢٤

بينه وبين ربه غير مألوف ، وذلك نظرا إلى تقييد الحنان بقوله (مِنْ لَدُنَّا) ، إذ إنهم تستعمل في ما لا مجرى أو نظر فيه بالنسبة للأسباب الطبيعية العادية.

ولكننا لا نجد في الكلمة مثل هذا الإيحاء ، بل يكفي في صحة النسبة إلى الله أن يكون العمل صادرا منه بإرادته بشكل أو بآخر ، وربما تكون دلالتها على جانب الرعاية منه أكثر من دلالتها على الجانب غير العادي من ذلك. والله العالم.

(وَزَكاةً) في ما يتكامل فيه من عناصر النمو والبركة والطهارة ، أو في ما يغدقه على الناس من ذلك كله.

(وَكانَ تَقِيًّا) يعيش الخوف من الله والإحساس بمراقبته ، والالتزام بأوامره ونواهيه ، في ما تحمله التقوى من وعي الخط الرسالي ، وإصرار على تحريك الموقف ضمن ذاك الخط. وبذلك كان دوره دور القدوة التي توجه الناس بالممارسة ، كما توجههم بالدعوة.

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) في ما يعيشه من روحية البر ، وأخلاقية الإحسان التي تملأ قلبه شعورا بالرحمة ، واعترافا بجميل هذين الإنسانين اللذين كانا السبب في وجوده ، بإرادة الله ، والعنصر الأساس في عملية نموه وتكامله ، والقلب الكبير الذي أفاض عليه المحبة والخير والحنان ... وتلك هي الصفة الروحية الأخلاقية التي تجعل منه إنسانا منفتحا على الآخرين في إنسانيته ، ومتحررا من سجن الأنانية التي تحبس الإنسان في دائرة ذاته.

(وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) كما هي حال الكثيرين ممن يحتلون المواقع المتقدمة في المجتمع ؛ إذ إن مواقعهم تلك تدفعهم إلى الشعور بالقوة المستعلية والجبروت المتكبر الذي لا يرون معه لأحد عليهم حقا ، ويرون لأنفسهم كل الحق على الآخرين. بل هو ، على العكس من ذلك ، مجرد إنسان طيب متواضع يرى للناس الحق عليه في ما قد يراه لنفسه أو في ما لا يراه لها ،

٢٥

فيتعهدهم إلى مواقع الهدى والرشاد ، وبذلك لم يكن خلقه قاسيا عصيّا ، بل كان رؤفا رحيما لينافي ما يصادفه من قضايا الناس وآلامهم ، وتلك هي روحية السلام الذي يمثل الأمن الروحي في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية ، في الدنيا والآخرة.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) فأراده الله أن يكون محلا لكرامته ، وموضعا لرحمته ، (وَيَوْمَ يَمُوتُ) حيث ينتقل إلى رحاب الله وفي روحه كل مشاعر السلام للناس وللحياة ، (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) حيث يعيش هناك السلام المنفتح على الله ، فيقوده ذلك إلى رحاب الجنة التي هي دار السلام.

* * *

ماذا نستوحي من القصة؟

وقد نستوحي من قصة زكريا ويحيى أن الإنسان المؤمن لا يسقط في مشاعر اليأس الخانقة عند ما تحاصره الموانع الطبيعية التي قد توحي إليه باستحالة ما يطلبه واقعيا ، بل يبقى في أجواء الأمل الروحية التي تنفتح على قدرة الله ورحمته ، وذلك من خلال عالم الغيب الذي يطل على الآفاق غير العادية من حياة الناس في ألطاف الله الواسعة ، عند ما يرزقه من حيث لا يحتسب ، ويحرسه من حيث لا يحترس ، ويحقق له الكثير من أحلامه من حيث لا ينتظر ... وهكذا انطلق زكريا بالدعاء في الدائرة المستحيلة من ناحية واقعية على أساس الإيمان بالله الرحيم بعباده القادر على كل شيء ، بكل عفوية وبساطة وانفتاح ، حتى إذا استجاب الله له ما أراد ، استيقظ فيه حسه المادي الذي يربط الأمور بأسبابها المعتادة ، فيستغرب خروجها عن المألوف. ولكن الله يرجعه إلى وجدانه الروحي ، ويؤكد له ذلك بآيته المعجزة ، فيلتقي الانفتاح الروحي والإيمان بكل قوة.

٢٦

وإذا لم يكن من العملي أن ننتظر المعجزة من الله كي نتحرك بواسطتها على أرض الواقع ، لأنها لا تمثل قاعدة في حياة الناس ، بل استثناء لمصلحة معينة في حياة الأنبياء والأولياء ، فإن لنا أن نستوحي في قصة زكريا القدرة الإلهية على تحدي الصعوبات المادية ، وألّا نستبعد الغيب في حياتنا الواقعية ، لا سيما في الأوضاع المعقدة الصعبة والتحديات القوية من أعداء الله ، مما قد يمنحنا القدرة على التماسك ، وعلى حفظ توازن الموقف ، وصلابته ، أمام حالات الاهتزاز الروحي والفكري والعملي ، الذي يمكن أن يتأتى عن مصادر الضغط المختلفة لننتظر الفرج القادم من عمق الغيب في ما يثيره في حياتنا من قضايا غير اعتيادية ، في ما يحركه الله في الساحة من غامض علمه ، مما لم نستطع اكتشافه بإحساسنا المادي.

ثم إننا نلاحظ هذه الروحية التي تجعله يفكر بالولد المؤمّل المطلوب من الله خوفا منه على مستقبل الرسالة ، إذا تسلّمها من ليسوا في مستوى المسؤولية من الأقرباء الغرباء عن مواقعها الأصيلة. ولذلك فإنه يريد الولد الرضيّ الذي يتسلم المهمة من موقع الكفاءة الروحية والأخلاقية والعملية ، ليحفظ الساحة من كل اهتزاز وانحراف واستغلال.

وإذا كنا مصيبين في استفادتنا هذا المعنى من الآيات ، فإن ذلك يؤكد لنا أن همّ الإنسان الرسالي الكبير هو مستقبل الأمة ، وليس فقط حاضرها لأن تفكيره لا يقتصر على الحاضر فقط ، بل يتعداه إلى المستقبل في نظرته إلى حركة الرسالة في الحياة ؛ كما يوحي إلينا بأن الولد الذي يعيش في أمنياته ، لا يمثل مجرد حاجة ذاتية حدودها الرغبة الإنسانية في امتداد الحياة عبر الأولاد تحقيقا لرغبة خفيّة بالخلود ، ولو عن طريق غير مباشر ، بل يمثل حاجة رسالية لإكمال مشاريع رسالته الفكرية والعملية من خلال أقرب الناس إليه وهو من يعتبر امتدادا لحركته الفاعلة على أكثر من صعيد.

٢٧

أما يحيى ، فهو صورة الإنسان الرضيّ التقيّ الزكيّ الذي يعيش الوداعة ، والروحانية ، والطهارة ، والالتزام الواعي بالخط الإلهي ، الذي يريد الله للإنسان أن يتعمّق فيه روح التقوى ليحرك الحياة من حوله من خلال تلك الروح ، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يحمل الكتاب بقوة ، ويتحدّى الواقع المنحرف بإيمان ، في وداعة تفتح القلوب على الحق من موقع أخلاقيّ ، وقوة تربط الإرادة بالموقف الرسالة ليحطم الحواجز من بين يديه ومن خلفه ، وليفتح الساحة الضعيفة على كلمات الله من قاعدة القوة ، ليكون ذلك مثلا حيّا للداعية الواعي الذي يحب الناس في وداعته وروحانيته ، ويحب الرسالة في حركة الدعوة إلى الله في قوتها وصلابتها وهو مثل تفتقر إليه الحياة في حركة الوسائل لتحقيق الأهداف. فمن بين المشاكل التي نعانيها في الواقع الرسالي ، هي مشكلة الرساليين الذين لا ينفتحون على الجانب الإنساني المأساوي من حياة الناس ، ومشكلة من ينفتحون على الرسالة ، من مواقع الضعف الإرادي.

* * *

٢٨

الآيات

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)

* * *

معاني المفردات

(انْتَبَذَتْ) : اعتزلت.

(مَكاناً شَرْقِيًّا) : إلى جهة الشرق.

(حِجاباً) : الحجاب : ما يحجب الشيء ويستره عن غيره ، وقد يكون المراد به هنا : الانقطاع عن الغير والاعتكاف للعبادة.

(سَوِيًّا) : كامل البنية.

٢٩

(أَعُوذُ) : أعتصم.

(بَغِيًّا) : البغي : الزنى ، وهو هنا كناية عن النكاح.

(مَقْضِيًّا) : محتوما.

* * *

مريم عليها‌السلام في أجواء المعجزة الإلهية

وهذه قصة أخرى ، في أجواء المعجزة الإلهية ، وهي تختلف عن قصة زكريا في أنها تتحدى المألوف في عملية الخلق ، ذلك أن الخليقة التي بدأت بحفنة من طين نفخ الله فيها من روحه فكان آدم ، وكانت حواء ، دون أب أو أم ، ثم كان التوالد على أساس التقاء الرجل والمرأة ليكون الإنسان نتيجة هذا اللقاء الزوجي. واستمرت البشرية في هذا الخط حتى أصبح القاعدة التي تحكم التصور كما تحكم الواقع.

وجاءت قصة ولادة مريم (ع) لعيسى (ع) لتخرق هذا القانون الطبيعي بقوة ولتعرف البشرية مخلوقا ولد من أم دون أب ، ولتفرض ولادته تصورا جديدا في أجواء العقيدة ، من خلال التعمّق في فهم سر قدرة الله في عملية الإيجاد المتنوع في كل مظاهره الدالة على وحدانية الله وقدرته ، حيث لا تمنع ألفة الوضع الطبيعي للتناسل التفكير الدقيق في إعجاز الأساس الذي أودع في لقاء النطفة بالبويضة سر الحياة التي ينشأ عنها الإنسان. وبذلك لا يكون في إعجاز الخلق فرق ، بين خلق آدم وخلق عيسى ، وخلق الناس بالطريقة العادية ، بل كل ما هناك أننا ألفنا المعجزة في بعض صورها ، ولم نألفها في البعض الآخر.

٣٠

وقد جعل الله السيدة العذراء مريم (ع) عنوان القصة ، لأن حركة الخلق انطلقت منها ومعها ، وحملت أكثر الملامح اتصالا بها ، من حيث المضمون والموقف ، ومن حيث الإيحاءات الروحية في مسألة تقديم النموذج الأمثل للمرأة من خلال الإنسانة المؤمنة التي يتحول ضعفها الأنثوي بفضل الإيمان والرعاية الإلهية إلى عنصر قوة وثبات.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) الفتاة العذراء الطاهرة التي عاشت أجواء خدمة الله في بيته ، فتعمق إحساسها الإيماني وطهارة فكرها وروحها وشعورها ، لما يتفايض من أجواء المعبد على كيان الإنسان المؤمن المتعبّد من طهارة ، وها هي تبرز في موقف جديد لم تختره بإرادتها ، ولكنها تحركت نحوه بطريقة تلقائيه لا شعورية ، (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) تماما كما تخرج أيّ فتاة لتخلو بنفسها لغرض التأمل أو العبادة أو ممارسة أيّ نشاط خاص بشكل طبيعي لم يثر انتباه أحد ، كما توحي أجواء الآية.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) لتكتمل لها الخلوة بنفسها ، من خلال حاجز خلفه ، طبيعي أو صناعي أو صنعته بجهدها لهذا الغرض وأخذت تستسلم لأفكارها ، أو لأحلامها ، أو لأوضاعها الخاصة ، وكانت المفاجأة لها بالمرصاد ، وكانت المشكلة النفسية التي هزت كيانها بعنف ، (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) ومهمته حمل سر القدرة الإلهية على خلق هذا الإنسان الجديد (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) كأيّ بشر آخر ، في شكله وملامحه العميقة. وفوجئت وارتعدت ، وانتفض الطهر في روحها وفي أعماقها ، ليحمي نفسه ، ليستعين بشيء أيّ شيء ، وهرعت إلى الله تستعين به وتستنجده ، فهو الذي منحها هذا التمسك العميق بالحياة الطاهرة العفيفة التي تتمرّد على كل رجس ، وهو القادر على أن يحمي فيها هذا الطهر الذي اختارت بإرادتها أن تعيش كل حياتها في دائرته.

* * *

٣١

مريم عليها‌السلام ولقاء الرّوح

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) فهو الذي يجيرني منك إذا اجتاح مشاعرك خاطر الشيطان في غريزتك ، وهو الذي يمنحك قوة الالتزام بالتقوى كي لا تنجرف أمام نداء الشهوة في جسدك ، إن كنت ممن يعيشون التقوى فكرا وروحا ومسئولية حياة أمام الله.

وانتظرت ردة الفعل منه ، هل يستجيب لها ، في ما يلهمه الله من تقوى وهداية ، وفي ما يمنحها الله ، من خلاله ، من عطف ورعاية؟ وجاءت المفاجأة الثانية ، بشكل أعنف ، ولكن بطريقة أخرى. (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) وفزعت فزعا شديدا ، يوحي بالرعب ، وينذر بالهول ... أهو جادّ هذا الرجل؟ هل يقول الصدق أم يكذب؟ كيف يقول إنه رسول ربها؟ ومن هي في الناس حتى يرسل الله لها رسولا؟! إن ذلك من شأن الأنبياء ، وهي ليست بذلك الموقع ، هل هي حيلة لخداعها للتغرير بها لتتقبل الموقف في شعور بالقداسة؟ ثم ماذا يقول؟ إنه يعبر عن مهمته بأنه يريد أن يهب لي غلاما زكيّا. وكيف يحدث ذلك للفتاة العذراء دون أن تكون على علاقة بأيّ رجل ، وهي العذراء الطاهرة التي لم يحدث معها ذلك ولن تسمح له بأن يحدث؟!

وهتفت بكل ذعر : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فلم أتزوج من قبل لأنجب غلاما من علاقتي الزوجية ، كبقية النساء المتزوجات ، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) كالنساء المنحرفات اللاتي يتصلن بالرجال خارج نطاق العلاقة الشرعية. ولكنه قطع لها حدوث ذلك ، وأوحى إليها بأنه أمر يتجاوز المألوف ، وسرٌّ لا يحيط به الناس ، فليس الغلام الذي ستنجبه وليدا يولد على طريقة التوالد الطبيعي ، بل هو معجزة إلهية أكرمها الله بها فجعلها موضعا لها ، ولا بد أن تنظر إليها من هذا الجانب ، بوصفها تجليا للقدرة الإلهية التي تتجاوز الأسباب

٣٢

الطبيعية المعتادة ، تماما كما هي قصة خلق آدم.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) فهي رسالة موجهة إليك في ما يعبّر عنه قول الله من إرادته التكوينية التي يقول فيها للشيء كن فيكون ، (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فلا يعجزني شيء في وجوده ، ولا في خصوصياته ، لأنني القادر الذي لا يعجزه شيء مهما كان عظيما ، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) يدركون فيها سر القدرة من خلال عظمة الخلق ، (وَرَحْمَةً مِنَّا) في ما نريد أن نعدّه له من دور في حمل الرسالة للناس ، وفي رفع مستواهم الروحي والفكري والحياتي ... وتلك هي الإرادة الإلهية الحاسمة التي لا مجال للشك فيها ، ولا للتراجع عنها ، (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) فلا مجال للمناقشة أو الاعتراض لأنها إرادة الله وقضاؤه ، وعلى العباد الخضوع له.

* * *

٣٣

الآيات

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(قَصِيًّا) : بعيدا.

(فَأَجاءَهَا) : جاء بها ، كناية عن الدفع والإلجاء.

(الْمَخاضُ) : الطّلق ، ووجع الولادة.

(نَسْياً) : النّسي : الشيء الحقير الذي ينسى.

(سَرِيًّا) : لكلمة سري عدة معان في اللغة منها : القائد ، والشريف الرفيع ، وجدول الماء وهو المعنى الأنسب هنا.

٣٤

(جَنِيًّا) : الجنيّ من الثمر : ما نضج وصلح للاجتناء والقطف ، وقد يقال لما جني من ساعته.

* * *

المولود المعجزة

وتمت كلمة الله ، ودخلت مريم في عالم جديد مبهم ، لا تعرف لا طبيعته ولا مدى خطورته ، بل كل ما كانت تشعر به أنها مقبلة على جو معقّد ، ولكنها سلمت أمرها لله ، واندمجت في التجربة ، وحاولت أن تغيب فترة الحمل عن المجتمع.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا عن الناس ، حتى لا تثير انتباه أحد. ومرت الأيام ... ، فلم يعرّفنا القرآن الكريم ، هل استكمل الحمل المدة المقررة له ، أو أن الزمن كان قصيرا ، (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي فاجأها الطلق الذي يسبق الولادة ، وحملها ما أخذت تعانيه من ألم إلى جذع النخلة لشعورها آنذاك بالحاجة إلى شيء صلب تستند إليه لتكتسب قوة وتماسكا ، وولدت عيسى عليه‌السلام في ما يشبه الصدمة لمشاعر مريم عليها‌السلام ، وتحرك الضعف الأنثوى فيها ليثير في داخلها الإحساس بالعجز عن مواجهة هذا الحدث الذي لا تملك أن تدافع عن طبيعته أمام الناس ، فهم لا يفهمون سرّ الإعجاز الإلهي الكامن فيه ، بل يردون فيه مظهر انحراف في أخلاقيتها وسقوط في شرفها ، ونقص في عفتها ، لما توحي به أمثال هذه الحادثة من وجود علاقة غير شرعية ، ما دام احتمال نشوء المولود عن علاقة زوجية معلنة أمرا غير وارد في الموضوع.

وشعرت أن المسألة أكبر من طاقتها لا سيما وهي تعيش الوحدة ، فلا أنيس تأنس به وتشكو إليه همومها الجديدة ليخفف عنها ، ولا صديق تبحث

٣٥

معه مشكلتها ليساعدها في الحل ، فأطلقت صرخة الإنسان الضعيف المسحوق الذي شعر في لحظة كما لو أن الحياة كانت عبئا ثقيلا عليه ، لأنها تحشره في زاوية ضيقة من التجربة الصعبة التي لا يستطيع الخروج منها ، أو السيطرة عليها. وكانت تواجه نتيجة هذا الموقف وضعا اجتماعيا بالغ الصعوبة يهدد سمعتها وكرامتها وموقعها ؛ وهكذا (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) حتى لا أواجه نظرات الاتهام القاسية.

وكانت المفاجأة الأولى التي شكلت انطلاقة هذا الوليد العجائبية ، إن مريم سمعت كلاما لا بكاء ، وتلفتت يمينا وشمالا فلم تر أحدا هنا أو هناك ، وإذا بالصوت يأتي من الأسفل ، حيث فراش الوليد ، إنه يتكلم ليفتح لها باب الرضا والطمأنينة ، وليسبغ عليها سكينة الروح ، وهدوء المشاعر.

* * *

عيسى عليه‌السلام يكلم مريم عليها‌السلام

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي) من تهاويل المستقبل ومن نظرات الناس وكلامهم ، فإن الله الذي أعدك لمثل هذه الكرامة القدسية ، لن يتركك وحدك لتواجهي صعوبات الموقف ، إذ هو يدافع عن عباده المخلصين المتقين في ما يملكون أمره ، فكيف لا يرعاهم في ما لا يملكون شيئا منه ، وها أنت ترين أن الله قد أعد لك كل أسباب الحماية والرعاية ، فتطلعي الى ما أنت فيه ، ف (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والظاهر أن المراد به جدول الماء الذي يترقرق إلى جانبها فتستطيع أن تشرب منه دون أن تحتاج إلى بذل جهد لا تستطيعه في وضعها الخاص. وتلك كرامة بارزة لها ، إذ لم يسبق لها أن شاهدته من قبل ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) في غير وقته ، أو أنها كانت يابسة فاخضرّت وأورقت وأثمرت رطبا جنيّا لساعتها ، وهذه كرامة ثانية ، (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) بهذا اللطف الإلهي العظيم ، واستقبلي الحياة بروح مطمئنة

٣٦

راضية في ظلال العناية الإلهية ، فإنك بعين الله ورعايته ، فقد تكفل أمرك في البداية ، وسيكفله حتى النهاية.

أمّا الناس ، أمّا كلامهم ، أمّا نظراتهم ، القاسية ، أمّا اتهاماتهم الظالمة ، أمّا ذلك كله ، فليس مشكلتك على أيّ حال ، وليس من مسئوليتك أن تردي على ذلك كله. فالمهم أن تأخذي من ثقتك بالله ، روح الشعور بالقوة ، والثقة بالموقف ، وأن تواجهي الموقف بطريقة اللامبالاة. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) وهو ما كان يعرف بصوم الصمت ، (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) وبذلك يعرف أن القول هنا بمعنى التعبير بالرمز والإشارة.

* * *

٣٧

الآيات

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣)

* * *

معاني المفردات

(فَرِيًّا) : أي أمرا عظيما بديعا ، أو : أمرا قبيحا منكرا.

(الْكِتابَ) : الظاهر أن المراد به هنا : الإنجيل.

* * *

٣٨

مواجهة مريم عليها‌السلام لقومها

وجاءت إلى أهلها ، لتواجه التجربة القاسية المريرة ، ولتكسر الحاجز النفسي الذي يحول بينها وبين العودة إلى المجتمع ، ولكن من مركز القوّة التي أمدّها الله بها ، في ما يبرّئ ساحتها ، ويظهر طبيعة المسألة ، ويحلّ الإشكال العالق بالأذهان.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) وكانت المفاجأة الكبرى لديهم ، وبدأ التساؤل لمن هذا الولد الذي تحمله العذراء؟ هل من المعقول أن يكون ولدها ، وهي العفيفة الطاهرة التي عاشت حياتها في المحراب ، في عبادة خالصة لربها؟! كيف حدث هذا؟ وانقطع الشك باليقين ، وبدأ الهجوم.

(قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) عظيما لما توحي به ولادة هذا الصبي من حدث خطير بمستوى المعصية الكبيرة ، وهو أمر لا يصدق لو لا أن الواقع يؤكّده بقوة ، (يا أُخْتَ هارُونَ) الذي تتصل معه بالنسب ، أو تشبهه بالصلاح ، ما ذا دهاك؟ (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) بل كانا عفيفين صالحين طاهرين ، فمن أين أخذت هذا السلوك السيّئ؟ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) بكل هدوء ووداعة وقوة ، ليكلموه ، وليسألوه ، لأنها لا تملك أن تتحدث إليهم ، وفاء بنذرها صوم الصمت. وخيل إليهم أنها تهذي ، أو أنها تسخر بهم ، (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فهل ينطق مثله لينطق هو بالجواب ، وما قدر ما يحسن إذا كان يستطيع النطق؟ ولكن انتظارهم لم يطل ، وجاءتهم المفاجأة من حيث لا ينتظرون ، في ما يشبه الصاعقة .. فقد بدأ الطفل الرضيع توضيح الموقف بكلام واضح صريح.

* * *

٣٩

عيسى عليه‌السلام يدفع التهمة عن أمه

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وهكذا أخذ يتحدث إليهم عن صفته المستقبلية ، في ما يريد الله له أن يمارسه من دور ، أو يقوم به من مسئولية ، فهو ، مهما أحاط خلقه وقدراته من أسرار ، لا يبتعد عن كونه عبدا لله ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا به ، ولا يتحرك في أيّ وضع غير عادي إلا بإذنه ، فلا مجال للغلو والارتفاع به فوق مستوى البشرية ، عند النظر إليه في المستقبل. وهو من موقع عبوديته لله ، يتحرك في خط النبوة التي أكرمه الله بها ، ويحمل الإنجيل وهو الكتاب الذي يتضمن رسالة الله ووحيه ، تلك هي صفة عيسى عليه‌السلام الواقعية ، التي يعيش فيها بشرية الإنسان ، ورسالية النبي ، وحركة الوحي في الدعوة. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) البركة هي نماء الخير في حياة الناس في ما ينفع البلاد والعباد ، وعيسى عليه‌السلام كان مباركا ، لما يقدمه للناس من علم نافع يرفع مستواهم ، وعمل صالح يغني وجودهم ، وينمّي حركتهم ، ويحقق لهم مواقع القوة ويحيطها بدائرة أخلاقية تحميها من الانحراف ، وتحمي الآخرين من عدوانها.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وفي ذلك إشارة إلى عمق هذين العنوانين البارزين في شريعة عيسى عليه‌السلام : الصلاة فيما تؤمنه من سمو الروح عبر ارتفاعها إلى آفاق الله ، والزكاة بما تفرضه من احتواء للحرمان الإنساني بالدعم والمساعدة قربة إلى الله. حيث يصبح السمو في آفاق الله مقدمة للانطلاق إلى الواقع من الموقع نفسه. وهكذا يلتقي الجانب السماوي بالجانب الروحي في مضمون كل الرسالات.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) بما يمثله البرّ من رأفة ورحمة ورعاية لهذه الإنسانة التي تحوي أمومتها كل معاني الخير والعطاء ، مما يجعل البر هنا اعترافا بالجميل

٤٠