تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

والتقوى ، واجتباهم لرسالته ولدينه.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) في ما يمثله السجود من خضوع لله في الشعور العميق بالعبودية ، وفي ما يعتبر عنه البكاء من إحساس بالروحية الفيّاضة الخاشعة أمام خوف الله ، ومحبته في انفعال إيماني عميق بالمضمون الروحي لآيات الله ، والإشراق الفكري لمعانيها. وهكذا كان هؤلاء الروّاد طليعة البشرية في حركة التسامي والعلاء ، والصفاء الروحي ، والإسلام لله ، ولكن الجيل الآتي من بعدهم ، لم ينفعل بهم ، ولم يسلك طريقهم ، ولم يحمل رسالتهم ، ولم يتحمل مسئوليتهم ، بل كان سائرا في خط الانحراف.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) والخلف بالسكون هو البديل السيّئ ، وبالتحريك البديل الصالح ـ كما يقال ـ ، (أَضاعُوا الصَّلاةَ) لأنهم لم ينفتحوا على ما تحمله من سر الاعتراف بالعبودية ، وعمق الإيمان بالله ، ومعني العروج الروحي عبرها إليه ، (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) في ما تأمرهم به أهواؤهم المنحرفة ، وتقودهم إليه أحلامهم المائعة ، بعيدا عن خط الاستقامة ، (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) في ما يلاقونه من جزاء الغي مجسّدا في عذاب الله. وهؤلاء ، هم الذين امتدوا بالغي والانحراف حتى جاءهم أمر الله وهم كافرون.

* * *

الجنة سلام

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وعاش خط الاستقامة في العقيدة والعمل ، (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء لما قدموه من إيمان وعمل ، (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) من ذلك كله لأن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى ، (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة الخالدة في الجنة ، (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) الذي يعيشونه من وحي الإيمان فيؤمنون به وإن لم يروه ، (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)

٦١

لأنه الذي لا يخلف وعده ، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) مما يثقل الروح ويتعب السمع من دون أن يكون له أي يغني الفكر ويعمق المعرفة ، لأن أجواء الجنة في الأجواء المنفتحة على صفاء المعرفة المتحركة مع آفاق النور ، وعمق الروح الباحثة عن الله ، في الفكرة والكلمة ، والشعور ... ولا يسمعون فيها أي كلام يخلق الأحاسيس المربكة للنفس ، أو يفتح القلب على المعاني التي تزرع الحقد والشر والبغضاء في أعماق الضمير ، لأن الله أراد للجنة أن تكون ساحة المحبة التي يعيش فيها المجتمع الإنساني بروح ملائكية في طهرها وانفتاحها على الخير كله ، والمحبة كلها ، فلا يسمعون فيها (إِلَّا سَلاماً) يتنزل عليهم من الله ، وتتلقاهم به الملائكة ، وتبادرهم به الحور العين ، ويتبادلونه في ما بينهم ، ليعيشوا أجواء السّلام وروحانيته في مشاعرهم وكلماتهم ، حيث الأمن والرضا والاطمئنان الروحي ، وليس هناك جوع للحنان ، لأن الله يمنحهم الحنان الإلهي كله ، وليس هناك عطش للرحمة ، لأن الرحمة تتفايض عليهم كالنور المنهمر من قبل السماء في صفاء الفجر ووداعته.

(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فلا يمتنع عنهم شيء مما يشتهون متى شاؤوا ، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) بما تشتمل عليه من نعيم ويلتقي فيها من الخير والرحمة والرضوان. إنها للأتقياء الذين عاشوا التقوى التزاما في الفكر ، ومعاناة في الروح ، وصفاء في الشعور ، وانضباطا في الخطوات العملية في حركة المسؤولية في الحياة ، مما كانوا يعيشونه من مراقبة الله في السر والعلانية في إحساسهم العميق بحضور الله في كل مجالاتهم في الحياة. فمن يرد الجنة ، فليرتد ثوب التقوى ، ولينهج منهجها ، وليلتق بالله في كل آفاقه وخلفياته وتطلعاته الفكرية والروحية على مستوى الكون والإنسان والحياة.

* * *

٦٢

الآيتان

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥)

* * *

معاني المفردات

(نَسِيًّا) : النّسي : فعول من النسيان.

(سَمِيًّا) : السّمي : الشبيه ، والمثيل.

* * *

الوجود والقدرة من الله

... وينطلق الوحي في حياة الأنبياء الذين حملوا الرسالة ، وفي حياة الناس الذين اهتدوا بها والتزموا بمفاهيمها وأحكامها. ويندمج الناس مع أجواء الوحي في أفكاره ومناهجه ، ومع خطوات النبيين في دعوتهم وجهادهم. وربما تأخر الوحي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحيانا فيشقّ ذلك عليه فيستبطئه ، ولكنه يأتيه

٦٣

ويخبره بأن الملائكة لا تتنزل إلا تنفيذا لأمر ربها ، فإذا أمرهم بالنزول نزلوا ، وإذا لم يأمرهم به وقفوا وانتظروا خاشعين ، (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧].

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فنحن رسل الله إليك ، لتكون رسول الله إلى الناس ، فلا تشعر بالإحباط والقلق ، إذا تأخرنا عنك ، ولا تحملنا مسئولية ذلك لأننا نتنزل بأمر الله في الوقت الذي يعيّنه ، وفي المكان الذي يحدّده ، فهو يملك ما لا نملكه من أنفسنا ، ويحيط بكل وجودنا من جميع جهاته ، (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) مما نقدمه من أعمال ، أو مما يحيط بنا من أوضاع ، (وَما خَلْفَنا) مما يتصل بسر الوجود وحركته في الماضي ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) فليس هناك فراغ في حياتنا في المكان أو في الزمان أو في الأفعال ، أو في خصائص الوجود ، ليملأه غيره ، لأنه يملك كل شيء ويحيط بكل شيء ويهيمن على الوجود كله ، (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فلا يغفل عن تدبير شيء من خلقه ، ولا يهمل شيئا من أمورهم مما يفرض على مخلوقاته التسليم المطلق له ، والخضوع الشامل لإرادته ، لأنه يعلم من دقائق حياتهم ، وأسرار وجودهم ، ما لا يعلمونه من أنفسهم ، فليتركوا الأمر إليه ، وليعتمدوا عليه في ذلك كله.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي خلقها وخلق كل شيء فيها ، فهو المهيمن عليها بعلمه وقدرته ، (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات التي تتحرك بإرادته ، لا شريك له في ذلك ، وهو المستحق للعبادة ، لأن كل من عداه فهو مخلوق له ، فكيف يكون معبودا من دونه ، (فَاعْبُدْهُ) في كل ما أمرك به ونهاك عنه ، واخشع له في نبضات قلبك ، وهمسات روحك ، واهتزازات مشاعرك ، وابتهالات شفتيك ، وانقياد أعضائك ، وانسحاق إرادتك أمام إرادته ، (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) في ما يفرضه عليك الإخلاص لها والاستمرار عليها من معاناة للحرمان ، وتحمّل للجهد ، ومجابهة للتحديات ، فإن توحيد الله في العبادة يضع الإنسان في قلب المواجهة مع قوى الشرك في ما تمارسه عليه من ضغوط

٦٤

نفسية وجسدية ، وحصار مادي ومعنوي ، مما يجعل للصبر معني يتصل بالثبات والاتزان والاستقامة علي الخط أمام عوامل الاهتزاز والانحراف ... وهذا ما يحقق للإنسان وجوده الروحي أمام الله رب السماوات والأرض الذي لا رب غيره ، فابحث في كل زاوية من زوايا السماوات والأرض وفي ما بينهن ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) في ما يعنيه الاسم المعبّر عن القدرة المطلقة التي يرجع إليها الخلق ، والأمر كله ، فإنك مهما بحثت ، فلن تجد إلا قدرة محدودة مستمدة من قدرته ، أو وجودا مستمدا من وجوده ، فكيف يعادله شيء من خلقه ..

إن السؤال لا يطرح المسألة من موقع الحاجة إلى المعرفة في حركة علامات الاستفهام ، بل يطرحه من موقع الإنكار الحازم للفكرة في نطاق النفي المطلق لكل مواقعها.

* * *

٦٥

الآيات

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢)

* * *

معاني المفردات

(جِثِيًّا) : الجثيّ : جمع الجاثي : الذي برك على ركبتيه.

(شِيعَةٍ) : الشيعة : الجماعة المتعاونون على أمر واحد.

(عِتِيًّا) : العتيّ : مصدر على وزن فعول بمعني : التكبر والتمرد في العصيان.

(صِلِيًّا) : صلّي النار يصلاها صلّى وصليّا : احترق فيها.

(وَنَذَرُ) : نترك.

* * *

٦٦

الإنسان أمام فكرة البعث ...

وهذا حديث حول فكرة البعث التي يستبعدها الذهن البشري ، لأنها تتصل بغير المألوف في قناعاته الفكرية ، (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) وهل يتحول الجماد إلى حياة؟ نعم ، إذ لو قارن الإنسان بين بداية الخلق ونهايته ، وكيف وجد ، (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فإن هذا التذكر يفتح أمامه حركة الفكر في الاتجاه السليم. فإذا كان الله يمنح الوجود للأشياء من قلب العدم ، فكيف لا يستطيع أن يعيده إليها بعد الموت؟ وذلك هو الفرق بين الإنسان الذي يفكر في القضايا في ملامحها السطحية ، وبين الإنسان الذي يفكر في العمق الكامن في خلفياتها الداخلية ، وملامحها الإيحائية.

* * *

الكافرون يحشرون مع الشياطين

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) لأنهم كانوا يعيشون الولاية لهم ، باتباعهم لأوامرهم ، والعمل بما يريدون ، وجاء يوم القيامة ليواجهوا الموقف على أساس وحدة مصير التابعين والمتبوعين ، (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) في جلسة ذليلة وهم باركون على الرّكب. وربما يفسر الجثو بمعنى المجتمع من التراب والحجارة ، ليكون ذلك كناية عن إحضارهم زمرا وجماعات متراكما بعضهم فوق بعض ، كما ورد عن ابن عباس. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) ممن يتعاونون على أمر واحد ، أو ينطلقون في عقيدة واحدة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ

٦٧

عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) فنأخذ الأكثر تمردا وعصيانا لله ، ليتميز الأكثر مسئولية في عالم الكفر والضلال من الأضعف في ذلك. وربما كان ذكر الله بصفة «الرحمن» للإشارة إلى خطورة تمردهم وبشاعته ، لأنهم قابلوا رحمة الله الذي أفاض عليهم من رحمته كل خير وأبعد عنهم كل شر ، بالكفر والعصيان ، مما يجعل الجريمة مضاعفة في مدلولاتها الإنسانية. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي مقاساة ومعاناة لحرّها ، لأننا نعلم خفايا أعمالهم ، وطبيعة إيمانهم مما يجعل موقع كل واحد منهم في ما يستحقه من العذاب ، أو في درجاته ، معروفا لدينا من دون شكّ ولا شبهة.

* * *

هل الناس جميعا سيردون النار؟

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) الظاهر من الحصر في هذه الآية ، أن الناس جميعا ، سيردون النار ، ولكن اختلف المفسرون في معنى الورود ، هل هو الدخول ، أو هو المرور ، أو هو الحضور والإشراف عليها؟ وقد حاول كل فريق أن يؤيد كلامه ببعض الآيات القرآنية التي وردت فيها هذه الكلمة ، أو ببعض الروايات التي اختلفت في مفادها. وقد اعتبر البعض أنه لا وجه لدخول الطائعين النار ، ولذلك حاول أن يوجه المسألة تجاه كونها بردا وسلاما على المؤمنين ، وتطهيرا للعصاة من ذنوبهم.

ولكن من الممكن أن يكون دخول النار غير ملازم للدخول في العذاب ، لأن النار لا تشمل كل مواقع العذاب ، ولهذا نجد أن خزنة النار موجودون فيها ، ولكنهم لا يصلون نارها ، ولا يذوقون عذابها. أما السبب في دخولهم إليها ، أو حضورهم فيها فقد يجلوه ما ذكره صاحب مجمع البيان حيث قال : «وقيل إن الفائدة في ذلك ما روى في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يدخل أحدا

٦٨

الجنة حتى يطلعه على النار وما فيها من العذاب ، ليعلم تمام فضل الله عليه وكمال لطفه وإحسانه إليه ، فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنة ونعيمها. ولا يدخل أحد النار حتى يطلعه على الجنة وما فيها من أنواع النعيم والثواب ، ليكون ذلك زيادة عقوبة له على ما فاته من الجنة ونعيمها» (١).

وربما يحتمل أن تكون هذه الآية مع الآية الأخرى بمثابة المستثني والمستثنى منه ، فيطرح الحكم في الجملة الأولى على أساس عام ، ثم تأتي الجملة الثانية لتخرج المتقين من العموم ، وبذلك يكون الحكم في طبيعته الواقعية مختصا بغيرهم. ولا بأس بهذا الاحتمال ، لو لا بعض الإشكال في طريقة استفادته من الآية الثانية (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) ، حيث إن الظاهر منه هو إخراج المتقين من النار بعد دخولهم فيها ، ويبقى الظالمون فيها (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا). ولكن من الممكن أن يكون الإنجاء من حيث عدم إدخالهم فيها ، لا إخراجهم منها بعد دخولهم فيها ، وهذا تعبير شائع أن يقول قائل ، بأني نجيت فلانا من الهلاك إذا أبعدته عن مواقعه ومنعته من الدخول فيها. والله العالم.

* * *

__________________

(١) الطبرسي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان ، في تفسير القرآن ، مؤسسة التاريخ العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٦ ، ص : ٦٧٩.

٦٩

الآيات

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٨٠)

* * *

معاني المفردات

(نَدِيًّا) : النديّ والنادي : المجلس.

(وَرِءْياً) : الرّئي : المنظر والهيئة.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : الأعمال الصالحة.

(مَرَدًّا) : المردّ : المرجع والعاقبة.

٧٠

(مَدًّا) : المدّ : الإمهال.

* * *

حديث الكافرين .. وجد الهم الباطل ..

وهذا منطق جديد للكافرين في مواجهة المؤمنين ، للإيحاء لهم بأن الإيمان لا يحقق للمؤمنين أية إيجابيات على مستوى السعادة في الحياة الدنيا ، بينما يعيش الكافرون الحياة الرغيدة الحلوة التي تجعل لهم المواقع المتقدمة في حركة الحياة وقيادتها ، مما يعني أن المسألة لا تحتمل الجدل ما دامت التجربة الحية هي المقياس الصحيح لسلامة أيّ خط فكريّ وعمليّ في الحياة ، وذلك من خلال الفكرة التي تؤكد على أن الهدف الأساس من الاتجاهات التي يتبناها الإنسان هو تحقيق السعادة في الحياة ، والوصول إلى الدرجات العليا في تأكيد ذاته ووجوده المتحرك في الكون. وقد ينفعل الكثيرون بهذا المنطلق ، فيسقطون أمامه ، ويتحركون في تحديد هوية الانتماء الفكري والعملي ، ولكن للقرآن منطلقا آخر يهزم هذا المنطق بطريقة أخرى ، فلنتابع المسألة مع هذه الآيات.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) لتدفعهم إلى التفكير والتأمل والحوار ، ولتفتح قلوبهم على آيات الله في الكون ، لتقودهم إلى الإيمان بالله من موقع اليقين. ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا عيونهم على عجائب خلق الله ، أو يحركوا عقولهم في أسرار قدرته ، أو يصغوا بأسماعهم إلى آياته المنزلة ، أو ينطلقوا مع المؤمنين في الحوار الجاد .. ، بل يريدون أن يعيشوا اللهو والعبث واللامبالاة ، ويستريحوا إلى رخاء الحياة من حولهم ، ويدفعوا المؤمنين إلى الاستغراق في مباهجها ولذاتها ... ، فإذا جاءتهم آيات الله (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) بما يمثله ذلك من سعة ، وراحة ، ورخاء ، وجاه ، ومال ، وبنين ، وصحة ، وعافية ، (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) بما يمثله ذلك من سكن ،

٧١

وموقع ، ومجتمع يتميز بدرجاته العليا ، وامتيازاته الرفيعة.

إنهم يتساءلون بهذه الطريقة ليتطلع المؤمنون إلى ما حولهم ، ليقارنوا بين مجتمع المؤمنين في بؤسه ، وضعفه ، وجهده ، ومشاكله ، وضيقه ، وبين مجتمع الكافرين في سعادته الفائضة بالسرور ، وفي قوته ، وراحته ، وسعته ، ورخاء العيش فيه ، فيتبدى لهم أن الإيمان لا يطعم أصحابه خبزا ، ولا يحقق لهم سعادة في الحياة الدنيا ، ليعرفوا أن الحق في جانب الكافرين لا في جانبهم. ولكن الله يريد للإنسان أن ينفذ إلى عمق الأمور بعيدا عن سطحها ، وإلى نهاياتها من دون الاقتصار على بداياتها. وهكذا أراد له أن يلتفت إلى أن الدنيا ليست نهاية المطاف في وجوده ، فهناك آخرة تحمل في ساحاتها النتائج الحاسمة لعمله في الدنيا في ما يلتزمه من خطوط الخير والشر ، والحق والباطل ... فهناك عالم السعادة الذي يمثل العمق في حركة السعادة في وجوده ، وهناك عالم الشقاء الحقيقي الذي لا سعادة معه. وبذلك لا تكون القيمة هي في ما يحصل عليه الإنسان في الدنيا لأنها ستزول عنه ، وتزول معها كل مظاهر السعادة فيها.

* * *

مصير الضالين المضلين

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) وهم الجماعات المقترنون في زمن واحد ، (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) في ما يمثله ذلك من متاع ، (وَرِءْياً) في ما يمثله من حسن المنظر مما أوتيه الإنسان من جمال الحياة الدنيا. فأين ذلك كله؟ وأين أولئك الذين كانوا يعيشون متاعه وجماله؟! (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) باختياره لنفسه الطريق الفكري والعملي الذي لا يتحرك في خط الهدى ، بل يعيش أجواء الضياع ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) في ما اقتضته حكمته من إعطائه الفرص الكثيرة التي تتيح له أن يأخذ بكل أسباب الراحة والرخاء في العيش والحياة ، مما

٧٢

يمكنه من الامتداد في الضلال على أساس إرادته المنحرفة التي اختارت خط الضلالة في الوقت الذي كان باستطاعته الأخذ بأسباب الهدى المتوفرة لديه ، فقد أقام عليه الحجة ، وهداه إلى الاختيار الحر في أمره ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) مما ينتظرهم ، (إِمَّا الْعَذابَ) في الدنيا ، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) في يوم القيامة ، (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في ما يقبلون عليه من مواقع العذاب في النار ، (وَأَضْعَفُ جُنْداً) في ما يجدونه من حولهم من جماعاتهم التي كانت على طريقتهم في الدنيا ، ممن لا يستطيعون نصرهم ولا نصر أنفسهم ، عند ما يواجهون الساعة الحاسمة من عذاب الآخرة. ولكن ، ما فائدة ذلك العلم بالنسبة إليهم ، طالما أن الوقت لا يسمح لهم بالتصحيح ولا بالتراجع؟!

* * *

الباقيات الصالحات

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) في ما يتطلعون عليه من آيات الله ونعمه ورضوانه في الآخرة ، في جنان الخلد ، مما يفتح آفاقهم على عوالم جديدة لا عهد لهم بها من قبل ، فيزيدهم ذلك معرفة بالله ، واكتشافا لآفاق الهدى في الفكر والانتماء ، (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من أعمالهم الخيرة التي عملوها في الدنيا ، فكتب الله لهم الأجر العظيم عليها في الآخرة ، (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) من كل ما حصلوا أو ما كانوا يرغبون الحصول عليه في الدنيا ، (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) في ما يرجعون إليه من دار الخلود وهي الجنة. وهذا هو المقياس للسعادة في نتائج الأعمال في الدنيا ، الذي يجب أن يأخذ به الناس في ما يأخذونه وفي ما يدعونه من أمور الانتماء والعمل في الحياة الدنيا.

* * *

منطق الكافرين

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) وهذا هو النموذج

٧٣

الواقعي للإنسان الذي أخذ بهذا المنطق الكافر واستسلم له ، واعتبر أن النتائج التي يترقّبها في الدنيا ستحصل لديه عاجلا أو آجلا ، ولهذا أكّد حصوله على المال والولد في ما يستقبل من حياته.

وقد ورد في بعض التفاسير ، أن هذا الرجل هو العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي ، وكان أحد المستهزئين ، وكان لخباب بن الأرتّ عليه حق فأتاه يتقاضاه ، فقال له العاص : «أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب : بلى ، قال : فأخرني حتى أقضيك في الجنة استهزاء ، فو الله لئن كان ما تقول حقّا ، إني لأفضل فيها نصيبا منك.

ولكن الظاهر أن الآية تتحدث عن كلام الرجل الكافر ، بصيغة الجزم الذي لا يتناسب مع كفره باليوم الآخر ، مما يوحي بأن المسألة تتصل بحصوله على ما يريده في الدنيا ، جريا على المنطق الذي يربط بين الكفر والحصول على النتائج الإيجابيه. وحديث العاص الذي نقله بعض المفسرين لا يتناسب مع مطالبة الرجل بحقه ، كما لا يتناسب مع الآية التي تتحدث عن رغبة ذاتية بعيدة عن مطالب الآخرين عنده.

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) في ما يأتي به المستقبل ، (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) في ما يمكن أن يعتمد عليه من عهد عند الله ، ليطمئن إليه في الحصول على ما يريد؟ (كَلَّا) فليس لديه علم الغيب ، ولا يملك عند الله عهدا ، (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) من كلامه المتضمن للكفر ، ومن منطقه الذي يرتكز عليه في آماله ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) في ما يستحقه منه فيعطيه الله ذلك تبعا لا انقطاع له.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) فهو الذي يبقى له من دنياه ، ويغني ماله وولده ويتركه خلفه ، (وَيَأْتِينا فَرْداً) ليس معه شيء مما كان يزهو به أو ينتصر به. وينهزم المنطق الكافر الذي كان يرى في الكفر خط السعادة ، بينما يرى في الإيمان خط الشقاء ، ليرى الآن ، أن العاقبة كلها والخير كله للإيمان في الدنيا والآخرة.

* * *

٧٤

الآيات

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦)

* * *

معاني المفردات

(ضِدًّا) : أعداء.

(تَؤُزُّهُمْ) : تزعجهم.

(وَفْداً) : جمع : وافد ، وهو القادم.

٧٥

(وَنَسُوقُ) : السوق : الحثّ على السير.

(إِدًّا) : الإدّ : الأمر العظيم المنكر الفظيع.

(يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) : التفطّر : الانشقاق.

(وَتَخِرُّ الْجِبالُ) : تسقط.

(هَدًّا) : الهد : الهدم.

(وُدًّا) : الودّ والمودة : المحبة.

* * *

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ..) فما ذا كانت النتيجة؟

.. وتستمر آيات السورة في الحديث عن خلفيات الشرك في ذهنية هؤلاء المشركين ، وعن تفكيرهم المتخلف المنحرف في تصورهم للذات الإلهية ، لتعالج ذلك كله بالطريقة القرآنية التي تفضح هذه الذهنية وتتحدث عن النتائج السلبية العملية في الدنيا والآخرة ، في ذلك كله.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) تلك هي خلفية الشرك لدى هؤلاء الناس ، فهم يشعرون بالضعف الذي يسيطر عليهم في كثير من جوانب الحياة ، ويبحثون عن أساس للقوة والحماية ، فيلجئون إلى الملائكة ، والجن ، والقديسين من البشر ، والطغاة من الملوك والرؤساء ، ويتخيلون لهم خصائص مقدسة تمنحهم إمكانات عجائبية تنقذهم من الأشباح المخيفة والأحداث المرعبة ، والأمراض المهملة ، والأوضاع الصعبة ونحو ذلك ... وتبدأ عملية العبادة بالأساليب المتنوعة في تقديم القرابين وأداء طقوس الطاعة التي ينفذون بها كل أوامرهم وتبعدهم عن نواهيهم ، ويتعاظم الخيال المقدس في أفكارهم

٧٦

ومشاعرهم ، فيتصورونهم في مواقع الآلهة ، ويتحولون في وعيهم إلى شركاء لله بدرجات متفاوتة.

وربما يفكر البعض من هؤلاء المتألّهين ، أنهم الأقرب إلى الله ، من خلال ذلك ، وهكذا هم يستطيعون التوسط إلى الله ، ليقرّبوهم إليه ، لأن عظمته تمنع الناس العاديين من أن يتصلوا به في مرحلة التصور ، لتتحول إلى فكرة التقديس في مرحلة العبادة.

إن القضية كل القضية ، هي أن الضعفاء الذين يعيشون المذلّة ، يبحثون في خيالات التخلّف عما يعطيهم شيئا من العزة ويمنحهم شيئا من القوة. ولكنهم سيكتشفون خطأ هذه الأفكار عند ما يواجهون هؤلاء الآلهة ، في يوم القيامة ، في الموقف العصيب أمام الله ، إذ سيتبرأ كل هؤلاء منهم بعد أن يحمّلوهم المسؤولية عن جميع أعمالهم ، لأنهم أضعف من أن يستطيعوا لهم شيئا.

* * *

آلهة الكفر يتبرءون من أوليائهم

(كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) ويرفضونها لأنهم لا يرون في أنفسهم أيّ سرّ للألوهية ليكونوا جديرين بالعبادة من دون الله ، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) بتخلصهم من المسؤولية أمام الله. وربما احتمل بعضهم أن يكون المشركون هم الذين يكفرون بعبادتهم ويكونون ضد الآلهة ، ولكن الظاهر من السياق هو الاحتمال الأول ، لأن المشركين أرادوهم أن يكونوا لهم عزا فكانت خيبة أملهم أن تحولوا إلى ضد لهم. ولعل دراسة الآيات المتنوعة التي تعرضت لعلاقة المستضعفين بالمستكبرين والحواريين بالمشركين وأوليائهم ، توحي بأن الموقف المضاد هو موقف المستكبرين والشركاء للتخلّص من تبعة المسؤولية

٧٧

التي يحمّلهم إياها المشركون والمستضعفون.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) الأز هو الهز ، وهو التحريك بشدة وإزعاج. والآية واردة على الأسلوب القرآني الذي ينسب الأمور كلها لله انطلاقا من علاقة الأشياء به من خلال قانون السببية التي أودعها في حركة الحياة والإنسان. كما نلاحظه في علاقة الشياطين بالكافرين ، في ما يزين لهم الشياطين من أفعال الضلال ، وعلاقات الباطل ، وأجواء الانحراف ، فيستسلمون لهم من موقع الاختيار السيّئ ، وينصاعون لمخططاتهم في الضلال والإضلال ، فتحدث النتائج بشكل طبيعي في ما يرتبط به السبب والمسبب. وهكذا لا يجد هؤلاء عونا من أوليائهم وشركائهم على ما يتعرضون له من شقاء وتعاسة.

* * *

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ)

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) فإن لهم أجلا لا يعدونه ، وسيبلغون أجلهم الذي حدده الله لهم عند ما يتساقط الزمن من حياتهم يوما بعد يوما ، وشهرا بعد شهرا .. وسنة بعد سنة .. إلى آخر العمر. وسيقفون جميعا أمام الله ليحاسبهم على كل مواقفهم وأعمالهم ، فلن يفوت الله منهم أحد .. فلما ذا تستعجل الأمر؟ وإنما يجعل من يخاف الفوت ، فلا يضق صدرك ، بل استمرّ في رسالتك حتى يبلغ الله أمره.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) حيث يستدعيهم الله للوفادة إليه ليكرمهم ويدخلهم جنته ، وليسبغ عليهم من لطفه ورضوانه. وينطلقون إلى الله من حيث بدأوا السير إليه في الدنيا ليستنجزوه وعده لهم بالجنة التي وعد بها المتقين ، وليطلبوا منه الرحمة والرضوان ، كما يفعل الوافدون إلى أيّ شخص لحاجة ، أو لغير ذلك ..

* * *

٧٨

مصير المجرمين

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) لأنهم أجرموا في حق الله وفي حقّ عباده ، كما يساق العطاشى إلى ورد الماء. أما هم فسيردون الحميم الذي يغلي في بطونهم فيحرقها. (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) لأن الشفاعة لله وحده ، فلا يملك أحد منها شيئا إلا بإذن الله ؛ ولن يأذن الله بها إلّا للذين آمنوا صدقوا بكتبه ورسله ... وذلك هو عهد الله بينه وبين عباده ، فإنه يغفر لهم إذا أذنبوا أو أخطئوا ويمنحهم شفاعته ، أو يكرم بالشفاعة بعض عباده المتقين الصالحين من الأنبياء والأولياء .. أما الكافرون بالله ، والمشركون به فإنهم لا يتعلقون من رحمة الله بشيء ، لأنهم قطعوا كل صلة به ، حتى صلة الاعتراف به والإخلاص له في العقيدة. فكيف يمكن أن يمنحهم شفاعته ورحمه ، وقد رفضوها بتمردهم وكفرهم؟

* * *

الأبوة تنافي ربوبية الخالق

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) قولا لا يستند إلى قاعدة ، ولا يرتكز على حجّة ، بل هو التخيّل والتأويل ، بطريقة معقّدة ، قد لا يفهمها حتى قائلها ، أو بطريقة عامية ، يستهلكها العوامّ من الناس من دون وعي ، بل هي الكلمات التي تبحث عن المعاني في أذهان أصحابها ..

(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) منكرا فظيعا لا يبلغ فظاعته شيء ، لأنه يتصل بالعدوان الفكري على خالق العقل والكون والحياة ، (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ويتشققن من شدة الهول ، وخطورة الجريمة ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)

٧٩

وتتفتت ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) فتسقط وتنهدم ، (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) لأن هذه المخلوقات الكونية لا تتحمل الإساءة إلى الله في أيّ شيء يبتعد عن مستوى عظمته.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) لأن ذلك يتنافى مع ربوبيته ، والله هو الغني عن كل شيء ... (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) لأنهم يعرفون بعمق وجودهم أنهم مخلوقون له ، ومحتاجون إليه من دون فرق بين مخلوق ومخلوق ، فمهما ارتفعت درجات بعضهم عن بعض ، فإنها لا ترتفع عن درجة العبودية لله ، لأن امتيازاتهم الذاتية تتحرك في دائرة العبودية والحاجة إليه في طبيعة الوجود والاستمرار. ولعل المراد بإتيان كل هؤلاء للرحمن ، في مواقع العبودية ، هو انقيادهم في وجودهم وفي إطاعتهم لله على أساس الإحساس بالعبودية والاعتراف بها بين يديه.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فهو الذي خلقهم ، وهو الذي يرزقهم ، وهو المحيط بهم ، ولذلك فقد أحصى عددهم ووظائفهم وأمكنتهم ، في مظهر من مظاهر قوته أمام مظهر خضوعهم وضعفهم. (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) مجردا من كل مظاهر القوة وعناصر السلطة ومواقع الأمن ، حيث يقف وحده أمام الله ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا يجد له ناصرا من دون الله ، فيواجه نتائج المسؤولية في ما أطاع وعصى.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) من المودة وهي المحبة ، بحيث تفيض عليهم المحبة من بين أيديهم ومن خلفهم ، وتعيش في داخلهم ، وتنزل عليهم من ربهم ، وذلك هو غاية ما يتمناه الإنسان في إيمانه وفي عمله.

* * *

٨٠