تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

سورة الأنبياء

مكيّة

وآياتها مائة واثنتا عشرة

١٨١
١٨٢

جولة في آفاق السورة

سميت هذه السورة بهذا الاسم ، تأكيدا على مفهوم النبوّة ، في التصور المنحرف الذي كان يحمله الناس في كثير من مراحل حركتها ، حيث إنهم كانوا يتوهمون قدرات خارقة للنبي الذي كانوا يتصورونه في صورة الملاك الذي يغير الصورة الكونية التي أقام الله الكون على أساسها ، فكانت حركة الآيات في هذه السورة تأكيدا للمفهوم الحقيقي الذي يعطي الفكرة الحاسمة التي تركز فكرة النبي البشر الذي يوحي إليه من الله برسالاته ، بعيدا عن أيّة حالة غير عادية من الناحية الذاتية. وقد جرت السورة على خط النهج القرآني الذي يربط كل الأشياء بالتوحيد ، ويثير في الناس التفكير بالمعاد ليتدبّروا وليتحركوا في الاتجاه السليم ، من خلال الفكر ، والموقف ، والحركة ، والعبادة ، لينتهي بهم إلى التفكير باليوم الآخر من أجل تحضير كل الأجواء الروحية والمادية للوصول إلى ساحة رضا الله في الجنة.

... ثم تنطلق السورة لتظهر حركة النبوّة في ساحة التحدّي ، فنجد الاتهامات التقليدية الحائرة البائسة التي ينطلق فيها الكافرون من دون وعي لينتقلوا من وصف النبي بالساحر ، ثم بالأسطوري ثم نعته بالكذب ، وأنه شاعر .. وهكذا لم تكن المشكلة لديهم أن يصدقوا في التهمة ، بل أن يشوّهوا الصورة ، أمام أي اتهام.

وقد استفادت السورة من إيمان المعاصرين للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأنبياء السابقين ، فقارنت بينه وبينهم ، لتثبت لهم أنه لم يكن بدعا من الرسل ، وأنه لا

١٨٣

يختلف عنهم في قليل ولا في كثير ، فإذا آمنوا بهم فعليهم أن يؤمنوا به.

ثم كانت هناك جولة في قصص الأنبياء السابقين بشكل سريع ، فتحدثت عن موسى ، وهرون ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ولوط ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى (عليهم‌السلام أجمعين).

وتنتهي الجولة بيوم الحساب وما يلقاه الكافرون والمؤمنون هناك ، وكيف تكون العاقبة للمؤمنين الصالحين من عباد الله الذين يرثون الأرض ؛ وتتنوع اللمحات الخاطفة التي تتحرك في السورة لتنتقل بالإنسان من موقع العقيدة ، إلى حركة الأخلاق ، ومن أحداث الدنيا إلى أحداث الآخرة ، لتوحي إليه بأن هناك وحدة في الخط الذي يربط بين المبدأ والمعاد ، وأن الله الواحد هو المستعان على الهدى في الفكر والحركة والحياة ، وهو الذي يفتح قلب الإنسان على آفاق الشروق المنطلقة من التوحيد الخالص الذي لا يرى فيه الإنسان إلا الله ، فلا يعبد غيره ، ولا يخلص لسواه.

* * *

بين الإنسان الغافل والنبيّ الداعية

ما مشكلة الناس في ما يستمعون إليه من دعوة الله ومن قضايا الصراع بين الحق والباطل؟ وما مشكلة الأنبياء أمام هؤلاء ، في تحركهم مع الدعوة؟ هل هي قصة فكرة ترفض فكرة ، أو شبهة تناقش موقفا ، لتكون المسألة هي مسألة القضايا الفكرية التي يثيرها الكافرون والمشككون ضد الدعوة؟ أو هي قصة اللامبالاة الفكرية التي يواجهونها بها ، فهم يبتعدون عن التعمق في ما يثيره من أفكار ونتائج ، لأنهم لا يريدون الانفتاح على الآفاق الواسعة في مطالع الشروق؟

١٨٤

إنها الغفلة المتعمدة التي يرفض فيها الإنسان أن يفكر ويحاور ، أو يتراجع أمام الحجة القوية التي يثيرها الآخرون ضد فكره فينغلق على الذات ، ويبتعد عن الواقع الحاضر والمستقبلي نتيجة ما تتمخض عنه المواقف السلبية من نتائج خطيرة على مصيره.

وتلك هي مشكلة الأنبياء الذين يواجهون هؤلاء الناس الذين يحملون ، أو يثيرون أفكارا خاطئة ، حول النبي والنبوة ، كما لو كانت أفكارا نهائية حاسمة ، لا مجال فيها للجدل.

ويبقى للقرآن في قصة الإنسان الغافل ، ومشكلة النبي الداعية ، أن يبسط المشكلة ، ويعالج الفكرة من حيث طبيعتها الموضوعية ، ونتائجها السلبية ؛ لتكون درسا لإنسان المستقبل الذي يفتح قلبه للفكر القادم من الوحي المتحرك في طريق العقل.

* * *

١٨٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥)

* * *

١٨٦

معاني المفردات

(مُحْدَثٍ) : جديد ، وقيل : أي نزل سورة بعد سورة.

(قَصَمْنا) : القصم : الكسر ، والمراد به : الهلاك.

(أُتْرِفْتُمْ) : الإتراف : من الترف ، وهو : التوسعة في النعمة.

(حَصِيداً) : الحصيد : المقطوع.

(خامِدِينَ) : الخمود : السكون ، والسكوت.

* * *

اللهو عن ذكر الله

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) إن الحساب يقترب من الإنسان حتى ليكاد يواجهه في كل لحظة تقترب به من الموت ، لأن الموت يعني الانتقال من دار العمل ، التي هي الدنيا ، إلى دار الحساب التي هي الآخرة ، فيما عبر الإمام علي عليه‌السلام في كلمته المأثورة : «اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل» (١). وقد جرى القرآن على إثارة النتائج السلبية أمام الإنسان في مجال التعبير عن الموت كما في قوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الزمر : ٥٤ ـ ٥٥] ، حيث عبّر عن الموت بالعذاب ، بلحاظ أن العذاب يستتبع الموت للخاطئين المسرفين على أنفسهم الذين لم يتوبوا إلى الله.

__________________

(١) الإمام علي ، نهج البلاغة ، ضبط نصه وفهرسه د. صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، خطبة : ٤٢ ، ص : ٨٤.

١٨٧

وهكذا اقترب للناس حسابهم باقتراب الوصول إلى دار الحساب من دون تحديد لموعده ، هل هو بعد الموت مباشرة ، كما جاءت الروايات عن حساب القبر ، أو هو عند قيام القيامة ، عند ما يقوم الناس جميعا لرب العالمين ، لأن المسألة هي إثارة الحساب في وعيهم ووجدانهم ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فقد عاشوا الغفلة كأعمق ما يعيشها الإنسان الذي يبتعد فكره عن الحقيقة ، لأن هناك أكثر من حاجز يحجزه عنها ، فيدفعه إلى الإعراض عن كل دعوة للحق ، لأنه لا يعيش الوعي المنفتح عليه.

وقد أثار بعضهم التساؤل حول الجمع بين الغفلة التي توحي بعدم الانتباه ، وبين الإعراض الذي يستلزم الالتزام ، لأنه يمثل موقفا سلبيا اختياريا من الموضوع ، والجواب عن ذلك ، أن الإعراض يعبر عن حالة سلبية واقعية ، قد تلتقي بالوعي للموقف ، أو بالغفلة عنه ، وذلك لأنه يمثل الإهمال الفعلي لحركة المسؤولية في حياته من خلال موقف الحساب. والله العالم.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فهم لا يعيشون الجدية في مواقفهم أمام المسؤولية ، بل يواجهونها من موقع اللهو واللعب ، كمن يلعب بمصيره غافلا عن النتائج السلبية التي يلاقيها. وهذا ما كانوا يمارسونه عند ما كان الأنبياء يأتونهم برسالات ربهم التي ترشدهم إلى الفلاح في الحياة ، وتثير في داخلهم الشعور بالسمو الروحي الذي يلتقون من خلاله بالله ، ويتضح لهم الكثير من المشاكل الواقعية التي تصادفهم في قضايا الفكر والحركة والشعور. فقد كانوا يستمعون إلى الأنبياء استماع اللاعب الذي لا يريد أن يشغل عقله بما يسمع ، أو يربي روحه به أو يعيش المعاناة من خلاله ، بل يريد أن يحرك حسه ، ويشغل فراغه ، فلا يكون همه مما يسمعه إلا الأصداء التي تنطلق من الكلمات ، بعيدا عن معانيها ، أو الأجواء الساخرة التي يحاول أن يثيرها في ما يتخذه من المواقف المضادة تجاهها.

* * *

١٨٨

اللهو القلبي

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) بكل زخارف الدنيا وزينتها ، وبكل مواقع الشهوات ومراتعها ، وبكل مظاهر القوة وأدواتها ، فهي مشغولة بذلك كله ، مبهورة بالألوان اللامعة ، بالصور الساحرة ، في حالة من اللهو المتحرك في نبضاتها ، المهتز في مشاعرها ، حيث لا تطمئن إلى هدوء الفكر ، وصفاء الروح ، وإشراقة الوجدان لتكتشف ، من خلال ذلك كله ، أن وراء كل هذه الأوضاع اللاهية الباهرة عمقا للحياة ، بما تختزنه من مشاكل ومتاعب وبلايا وآلام ، مما قد ينسف كل هذا الواقع الذي يسترخون فيه ، ويطمئنون إليه ، فلو تصوره الناس بحقيقته لابتعدوا عن الاستسلام لما يستسلمون له الآن ، وأعرضوا عن اللهو الذي يأخذون به.

ولعل مشكلة اللهو القلبي أخطر من مشكلة اللهو الجسدي ، لأنه يستنزف كل عناصر الإحساس الجدي في عمق الذات ، بينما يتحرك اللهو الجسدي ليشغل العين واليد واللسان .. ، وبذلك يبتعد الإنسان عن خط الالتزام في حركة الواقع من خلال الرسالة.

وقد أبعدهم هذا اللهو عن الارتباط بالحقيقة الرسالية ، ولكنه لم يبعدهم عن الشعور بالخطر الذي قد يتهددهم ، نتيجة ما يثيره الرسول في أفكارهم من إيمان يهزّ معتقداتهم ، وهداية تصيب عقول أبنائهم بالانحراف كما يتصورون. ولذلك كانوا يحاولون أن يرسموا الخطط ، ويدرسوا الأساليب التي تنقذ ساحتهم من ذلك كله. وهذا ما أثارته الفقرة التالية من الآية (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والانحراف ، وائتمروا في ما بينهم في أجواء المناجاة التي كانوا يتداولون فيها الشعار المثير الذي يطرحونه في الناس ، لإبعادهم عن خط الرسول ويحذرون به بعضهم البعض من الانجذاب إليه ، مما يمكن أن يتأثروا به من دعوته ، وذلك في الدائرة السرية من أحاديثهم.

* * *

١٨٩

مناقشة الكفار

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنه تساؤل الكفار المتخلّف الذي يطرح مسألة البشرية كعنصر مضاد لفكرة النبوة في إيحاء يفرض النبوة غيبا لا يليق إلا بالمخلوقات الغيبية المتميزة عن الناس بأشكالها الخاصة ، وطاقاتها المختلفة. وفي ضوء ذلك فإن القضية لا تعدو ، أن تكون من الأسرار الخفية للبشر من خلال ما يتميز به السحرة الذين يتقنون الأساليب الفنية الساحرة والألاعيب العجيبة المثيرة التي تأخذ بألباب الناس ، وتسحر أبصارهم ، وتثير فيهم الأحاسيس والمشاعر الحميمة. إنه السحر الذي يتمثل في الكلمات ، فهل تتركونه يؤثر فيكم من دون اختيار؟!

(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الأشياء المحيطة بكم ، على طبيعتها ، في نظرة سليمة لا مجال فيها للإشكال والارتياب ، فكيف لا تواجهونه بالرفض ، لتنقذوا عقولكم من سحره؟

ولكن الرسول الذي يعيش وضوح الرؤية في صفاء الوحي والرسالة ، لا يهتز أمام هذه التصورات والكلمات ، لأنه يعرف العقدة النفسية التي تكمن خلفها ، والزاوية الضيقة التي تتحرك فيها ، بل يبقى ثابتا يتطلع إلى الله ، كمسؤول أمامه ، خاضع له في كل شيء ، فهو يشير إليه ، في حديثه معهم ، ليوحي إليهم بأن كلماتهم لا تهمه ولا تثيره ، ولا تسقط موقفه ، لأنه ليس مسئولا أمامهم ليفكر في غضبهم ورضاهم ، أو في طريقة إيمانهم به ، أو تنكرهم له. ولذلك كان جوابه حاسما ، مؤكدا أنه لا يملك من الأمر شيئا ، فقد بلّغهم رسالة الله ، وانتهى دوره في ذلك.

* * *

١٩٠

القرآن يضع المسألة في نصابها الصحيح

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يقرر إن كنت صادقا في ما أدعيه من رسالته أو كنت كاذبا في ذلك ، وهو الذي يعلم إن كان ما جئت به هو السحر ، أو الحق ؛ (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع كلامي وكلامكم ، ويعلم سرّي وسرّكم في ما أضمر وتضمرون من الخير والشر في ذلك كله. فليست المشكلة ما تقولون ، بل المشكلة ماذا يعلم الله من الحق الذي يمثل حقيقة الموقف كله.

وهذا هو الموقف النبوي الثابت الذي يعبر عن الثقة بالله والنفس من خلال الله ، مما يجعله يتابع طريقه بقوة ، ويمارس دعوته بصلابة ، ليوحي ، في ذلك ، للآخرين بالثقة بالموقف الذي يربط الأشياء كلها بالله ، ويتحدث عنه من موقع حضوره الدائم المهيمن على الأمر كله الذي يحيط بكل شيء علما ، ويحاسب الناس على ما افتروه عليه في الدنيا والآخرة. ولكن القوم يتخبطون في كلماتهم واتهاماتهم ، فهم لا ينطلقون فيها من قاعدة ، بل من حالة معقّدة يريدون أن يخرجوا من خلالها من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه ، أو وضعتهم الرسالة في داخله ، لأنهم لا يملكون حجة منطقية ضده ليبرّروا للآخرين في مجتمعهم هذا الموقف السلبي في مواجهتها. ولهذا كانوا ينتقلون من تهمة إلى أخرى ، فإذا كان السحر هو ما يمثل طابع الرسالة والرسول ، فإن معنى ذلك أن هناك قاعدة لكل الموقف في ظواهره وفي خفاياه ، لأن السحر علم دقيق كبقية العلوم بما يشتمل عليه من أسرار وضوابط وقضايا ؛ ولكنهم يشعرون أن الكلمة لا تعطي مفعولها السلبي في الساحة لأن الناس تعرف السحرة في منطقهم وفي حركاتهم مما لا يمت إلى القرآن ، أو إلى ما يفعله الرسول بصلة. وهكذا انتقلوا إلى كلمة أخرى ، (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) في

١٩١

ما تعبر الكلمة عنه من الرؤى التي تتمثل للإنسان في صور مضطربة ، وأحداث غير متناسقة ، مما يراه في المنام ، من دون أن يكون لها أساس في الواقع ، أو موقع من الفكر.

ولكن كيف تكون كل هذه الآيات المليئة بالفكر والروح والحركة والحياة أحلاما مبهمة متناثرة؟ وكيف يمكن أن يعطي الضباب الوضوح في الرؤية ، أو يمنح السحاب الأفق مزيدا من الإشراق؟ ولهذا أعرضوا عن ذلك لأنه لا يرتكز على أساس معقول ، فلا يقبله منهم أحد من ذوي العقول ، فانتقلوا إلى كلمة أخرى أقرب إلى التصديق ، (بَلِ افْتَراهُ) فهو يصنع الفكرة من داخل ذاته ثم ينسبها إلى الله ، ليصدقها الناس من خلال القداسة ؛ وبذلك يملك كل المعطيات التي تؤكدها.

ولكنهم يلاحظون هذا الإقبال العجيب على الإيمان بهذه الآيات مما لا يحصل في كل مواقع الافتراء التي لا تترك أثرا عميقا ، ولهذا اختاروا كلمة تعطي المسألة قوّتها في نطاق الذوق الفني ، (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) يملك الفن الرفيع الذي ينحت الكلمة الرائعة ، ويبدع الفكرة الرفيعة ، ويثير الإحساس ، ويلهب الشعور ، ويقترب في إيحاءاته من السمو في اللمحة واللفتة والأسلوب. وبذلك كان القرآن يمثل الشعر في بلاغته. ثم تركوا التحدث عن طبيعته من خلال العنوان الذي يثيرونه في ذاته ، ليثيروا المسألة من جانب آخر. فهم يناقشون صفة الرسالية لدى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال المقارنة بينه وبين الرسل الآخرين ؛ فهو يعترف ، كما يعترفون ، بأنهم رسل الله ، وقد جاؤوا بالمعجزات الخارقة للعادة ، كدليل على رسالتهم ، (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) ؛ ولكنه لم يستجب لذلك فلم يأت بآية مماثلة فكيف تريدوننا أن نصدق بنبوته ، وهل يؤمن الإنسان من دون دليل واضح؟

ولكن القرآن يناقش طريقتهم في عرض المسألة ، لأنهم ليسوا جادين في طلب الآية ، فهم لا يعيشون إرادة الإيمان في وجدانهم ، ولهذا كانوا لا

١٩٢

يناقشون قضاياه بطريقة هادئة علمية ، بل يواجهونها بطريقة انفعالية لا تستريح للهدوء الفكري في مناقشة الأمور.

ولو أرادوا الإيمان لأمكن لهم أن يكتشفوا في القرآن ، من خلال براهينه الواضحة ، وآياته وأساليبه ، ما يمكن أن يقودهم إلى الإيمان من أقرب طريق. وهم لم يكونوا بدعا من طلبهم المعجزة الخارقة ، بل كانوا كالكافرين الذين تقدموهم ، فقد طلبوا من رسلهم المعجزات حتى إذا جاءتهم رفضوا الإيمان بهم ، وقالوا عنها إنها سحر ، كما قال هؤلاء عن القرآن إنه سحر ، وتحدثوا عن البشرية كعنصر مضاد للنبوة ، كما يتحدث هؤلاء. فما الفائدة بعد ذلك من إنزال المعجزة ، ما دام الهدف الذي تؤكده لا يحصل منها وما دام هناك أكثر من طريق تقوم به الحجة على الناس؟

* * *

نماذج حيّة

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) طلبت ما طلبوا ، واستجاب الله لها حتى إذا لم يتحقق منها الوفاء بما وعدت ، (أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) وهم يشابهونهم في العناد والاستكبار ومواجهة الأمور الحيوية بطريقة اللامبالاة. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهل يكون الرسول الذي يرسله الله الآن ، إلّا كمثل الرسل الذين أرسلهم الله قبلك ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) من العلماء بالكتاب الذي أنزل على النبيين ، ممن تعتمدون عليهم ، في علمهم واطلاعهم ومعرفتهم بالرسالات ، فذلك هو سبيل العلم بما يجهله الناس ، وذلك بالرجوع إلى أهل الخبرة في ما يختلفون فيه ليكونوا الحكم الذي يحسم الخلاف ؛ وستجدون أن كل هؤلاء متفقون على أن أنبياء الله لم يكونوا ملائكة ، ولا طينة مميزة عن البشر ، بل كانوا بشرا كبقية البشر في حياتهم وموتهم ، وضعفهم وقوتهم ، فلم تنقل لنا أية حقبة زمنية من التاريخ نبيا ليس ببشر ..

١٩٣

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) فقد كانوا يمارسون كل خصوصيات البشر في وجودهم الجسدي المادي الذي يحتاج إلى الطعام والشراب ، فيفنى عند ما يصل إلى نهايته الطبيعية كما يفنى أي جسد آخر ، من دون أية خصوصية تربطه بالخلود.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) في ما وعدنا هم به من النصر على هؤلاء المتمردين ، ومن النجاة منهم ومما يحل بهم من عذاب ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من المؤمنين الذين اتبعوهم بإحسان ، ونصروهم بقوة ، وواجهوا أهلهم بصلابة ، وتحملوا الاضطهاد بإرادة مؤمنة قوية ، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود المعقول في ما يضمن النجاة للناس في الدنيا والآخرة ، فلم يلتزموا بالإيمان الذي قامت به الحجة عليهم من الله ، ولم يستجيبوا لنداء الله ، بل اختاروا الكفر والانحراف الذي لا يستجيب لأي موقع قوة من مصلحة الإنسان. وهكذا حقّت عليهم كلمة العذاب من الله ، فأهلكهم وعذبهم بمختلف ألوان العذاب في الدنيا قبل الآخرة.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) الذي يفتح قلوبكم على الحق من أوسع أبوابه ، ويرفع منزلتكم العقلية وموقعكم القيادي في الأمة ، بما يتضمنه من المعارف والعلوم ، وما يثيره من المفاهيم العامة التي تنفتح على مختلف خصوصيات الواقع المتحرك على أكثر من صعيد ، ويؤكد بذلك الدور المميز للأمة التي تعمل على تجسيده في الحكم والتشريع والمنهج والأسلوب والحركة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتعملون على الأخذ بأسباب النمو العقلي في حركة الفكر في مفرداته العقلية وروحيته الإيمانية الإيحائية بما يختزنه من أسرار الكون ، وآفاق الغيب والتخطيط للواقع الإنساني ، في دنياه وآخرته. وهكذا نجد القرآن يثير ـ دائما ـ أمام الإنسان أهمية العقل في بناء شخصيته ، حيث يعتبر الوحي والتجربة والتفكير منطلقات إثارة وتركيز لقوته العقلية ، باعتبار أن

١٩٤

العقل هو الذي يمثل عنصر المسؤولية في حياته وهو الذي يساهم في رفع مستوى الواقع من حوله ، ويتجه به الى سعادة المصير في الدنيا والآخرة.

* * *

القرية الظالمة

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) فكسرنا قوتها وأهلكناها ، لأنها ظلمت نفسها بكفرها وضلالها ، وظلمت غيرها بتمردها وعدوانها ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) ليستمر الوجود في لون جديد من الإنسان والحركة ، ليجدد الحياة من حوله ، كدليل على أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأن الناس ، مهما بلغوا من القوة ، فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، أمام إرادته التي تهلك قوما وتنشئ آخرين.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) وعذابنا القادم إليهم حاولوا الهرب منه ليجدوا هناك ملجأ يلجأون إليه ، (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) ولكن إلى أين المفر والمهرب ، وكيف يفكرون أن يعثروا على مكان لا يملك الله أمره؟ (لا تَرْكُضُوا) ولا تبتعدوا عن مواقعكم ، (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من أسباب الترف ، حيث أعطاكم الله من نعمه المثيرة ما لم تشكروه عليها ، ولم تتوازنوا في إدارتها ، ولم تتحملوا مسئوليتكم في تحريكها لمصلحة الناس من حولكم ممن كلفكم الله إعانتهم ورعايتهم بما يحتاجون إليه منها ، فعودوا إلى ذلك ، (وَمَساكِنِكُمْ) التي اتخذتموها مواقع للظلم والاستكبار ، (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) من جديد ، عن هؤلاء الفقراء والمساكين الذين كنتم تطردونهم عند ما يلجأون إليكم ، وتستكبرون عليهم عند ما يعرفون إليكم حوائجهم. إنها العقلية الاستعلائية التي تريد أن تتأله أمام المستضعفين من عباد الله من خلال ما كنتم تعيشونه من أفكار ومشاعر وامتيازات ، ولكن أين هي الآن؟ هل تجدونها إذا بحثتم عنها في كل هذه المواقع التي كنتم فيها؟ هل تحاولون الرجوع إليها؟ ألا تزالون في هذا

١٩٥

التفكير المريض الذي يتحرك من مواقع العظمة الفارغة ، المتحرك من حالة الانتفاخ الذاتي التي تحيطكم بمظاهر القوة ، وأوهام الخيال؟ وهكذا يخاطبهم الله بالأسلوب الذي يسخر به منهم.

(قالُوا) وهم يواجهون المصير المحتوم ، في حالة شديدة من الشعور بالإحباط والهزيمة ، والإحساس بالندم ، والشعور بالويل ، في صراخ عميق للشخصية المستكبرة المهزومة في داخلهم ، (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فلم نفكر بالأمور بطريقة واقعية ، تبتعد عن تضخيم الأشياء الهزيلة وتصغير الأشياء الكبيرة ، لأننا فقدنا قدرتنا على وضوح الرؤية ، مما كنا نأخذ به من الخيالات والأوهام المريضة ، والاستسلام للمظاهر الخادعة التي تحيط بنا في عملية استكبار واستعلاء ، (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) المتوسلة الذليلة أمام المصير المحتوم ، غير المحكومة بإرادة التراجع والاعتراف ، بل انطلقت من خوف ساحق من النتائج السلبية المرعبة التي تنتظرهم ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) فحصدناهم وقطعنا وجودهم من الأرض في عملية إبادة واستئصال ، (خامِدِينَ) في حالة سكون ، لا مجال فيها للحركة ، ولا مظهر فيها للحياة.

* * *

١٩٦

الآيات

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(نَقْذِفُ) : القذف : الرمي البعيد.

(فَيَدْمَغُهُ) : دمغه دمغا أي : شجّ رأسه حتى يبلغ الدماغ. والمراد بالدمغ هنا : القمع والإبطال.

(زاهِقٌ) : زهق الشيء يزهق أي : هلك.

* * *

الغاية من خلق السموات والأرض

كيف يفكر هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا فرصتهم الأولى والأخيرة؟

١٩٧

فيعتبرون أن لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان؟ وهم ينكرون أمر المعاد الذي سيواجه فيه الإنسان النتائج الإيجابية والسلبية على أعمال الخير أو الشر الصادرة عنه في حياته ، لتتوازن الحياة في دائرة الهدف الذي يحكم مسألة الوجود عنده ، ومسألة المسؤولية لديه.

ما معنى كلامهم هذا؟

إنهم ينسبون العبث واللهو إلى خلق الله! فهل عملية الخلق هي لمجرد أن تثير الانفعالات المرضية في النفس من خلال ما تتوزعه من حركات ومشاهد وأوضاع ، وتخلقه من الأجواء اللاهية ثم تنتهي المسألة؟ وليس هناك إلا اللهو الذي يملأ الفراغ ، ويثير الإحساس .. ولا يترك وراءه أي شيء في طبيعة الواقع ، وحركة الوجدان؟!

ولماذا يعبث الله أو يلعب أو يلهو ، لينسبوا ذلك إليه؟!

إن هذه المعاني وليدة حاجة للإثارة ، ولملء الفراغ الذي يعانيه اللاعب أو اللاهي ، وللتخلص من حالة السأم والملل التي يعيشها ، مما لا يطيق معه الطمأنينة إلى الهدوء النفسي والسلام الروحي ، فيلجأ للعب واللهو ، ليلقى عندها بعضا من الهدوء ..

ما يدّعيه هؤلاء هو من صفات المخلوقين الذين يعيشون الحاجة والفقر والفراغ والسأم والملل والارتباك ، فيتخلصون من ذلك بالعمل تارة ، وباللهو واللعب أخرى .. وهذا ما يجعل المسألة في أجواء المستحيل العقلي على الله ، ويجعل نسبة ذلك إليه عدوانا على مواقع عزته وجلاله ، ويوحي بالتخلّف الفكري ، والسقوط الروحي اللذين يتمثلان في شخصية هؤلاء المتحدثين بهذه الطريقة ، ويدلل على أنهم لم يفهموا طبيعة الأسس والقوانين الإلهية التي تحكم الكون كله ، مما يجعل لكل ظاهرة قانونا ، ولكل حادثة سببا .. ، وهذا ما أرادت هذه الآيات أن تثيره أمام الإنسان في تصويرها للمفاهيم الخاطئة

١٩٨

المنحرفة المتخلفة التي كان يعيشها الناس في عهد الدعوة الإسلامية ، ويواجهها الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان في مجتمعاتهم المتخلفة.

* * *

غاية الخلق

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) إنه النموذج الأمثل على الجد الذي لا جدّ مثله ، وعلى الحكمة التي تمتد إلى كل خصوصيات الأشياء ، وتنفذ في أعماقها ، حتى تجد أن هناك خطة دقيقة لهندسة الكون من بدايته إلى نهايته ، في استقراره واهتزازه ، وفي ضعفه وقوته ، وفي نموّه وتطوّره ، في الظواهر الكونية ، والاجتماعية ، في ارتفاع المجتمع وسقوطه ، وفي الحالات النفسية التي تحكم حركة الإنسان الداخلية وفي تأثّره بما حوله من الكائنات الحية والجامدة. وهكذا يجد المفكر الباحث في داخل وجدانه ، إحساسا عميقا بأن وراء كل شيء في الوجود سرّا وحكمة ، ولذا فإن المشكلة المطروحة لديه ليست هي البحث عمّا إذا كانت الحياة خاضعة لحكمة أو أنها مرتكزة على أساس الصدفة أو الفوضى ، بل المشكلة هي في اكتشافه نوعية الحكمة ، وطبيعة السرّ ، بعد أن كان وجوده من بديهيات الكون ، من ناحية المبدأ.

ولهذا فإن القضية التي تتحدث عنها الآية تتحرك لتأكيد نفسها في الوجدان العميق ، في خطين :

الأول : هو استحالة نسبة اللعب إلى الله لأنه لا يتناسب مع حكمته ، ولا يليق بجلاله ، ولا معنى له ، إذ يمثل اللعب حاجة ذاتية لملء الفراغ والحصول على الراحة النفسية مما لا يتناسب مع عظمته ـ سبحانه ـ وغناه المطلق عن كل شيء ، وتنزيهه عن كل نقاط الضعف مهما صغرت.

الثاني : هو الدراسة الدقيقة للظواهر العامة في الكون والحياة والإنسان

١٩٩

التي توحي بأن الأرض خاضعة للتخطيط الدقيق في عمق الجدية الحكيمة لأسرار السّنّة الإلهية ، وبأن السماء والفضاء الذي يفصل بينها وبين الأرض ـ في ما اكتشفه الإنسان منهما ـ خاضع لمثل ذلك ، مما جعل الهاجس الذي يحسّ به العلماء والمكتشفون في ملاحظاتهم الدقيقة للظواهر ، هو البحث عمّا وراء ذلك الذي يحسون بوجوده ، بالفطرة والملاحظة ، ويعملون على معرفة كنهه.

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي مما نملك من قدرة مطلقة ، تمنح الأشياء وجودها ، (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ولكننا لم نتخذ ذلك ولم نرده ، لأننا لا نتخذ شيئا إلا من مواقع الحكمة التي تخضع لها كل أفعالنا في حركة الوجود السلبية والإيجابية. فليس الأمر ، إذا لم نفعله ، هو النقصان في القدرة ، بل الأمر ، هو ابتعاد ذلك عما يتناسب مع مقام الألوهية في حكمته وغناه وقوته التي لا ينفذ إليها شيء من الضعف.

وقد اعترض صاحب الميزان على هذا التفسير الذي تعرض صاحب الكشاف لبعض ملامحه ، «وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو ـ ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجّه ـ محال عليه تعالى. على أن دلالة (مِنْ لَدُنَّا) على القدرة لا تخلو من خفاء»(١).

ويمكن أن يرد ذلك ، بأن التفسير يرتكز على أساس أن الله لو أراد أن يفعله لما كان هناك أي ضعف في قدرته ، مانع من حصوله ، ولكن طبيعته لا تتناسب مع كماله وجلاله ، وبذلك يكون التعبير واردا على أسلوب الكناية ، في تصوير رفض المسألة من ناحية المبدأ بحيث لو كان ممكنا لكان مرفوضا ، وهكذا يمكن رد استبعاده لدلالة كلمة (مِنْ لَدُنَّا) على القدرة ، فإنها واردة أيضا على سبيل اختزان الكلمة للقدرة من خلال دلالتها على ما عند الذات

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ٢٦١.

٢٠٠