تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

الآيات

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦)

* * *

١٦١

معاني المفردات

(عَزْماً) : العزم : القصد الجازم إلى الشيء.

(وَلا تَضْحى) : لا تبرز للشمس.

(لا يَبْلى) : لا يفنى.

(يَخْصِفانِ) : جعلا يلصقان ورقة على ورقة.

(فَغَوى) : الغيّ : خلاف الرشد.

(ضَنْكاً) : الضنك : الضيق.

* * *

عهد الله إلى آدم عليه‌السلام

ويعود القرآن إلى حديث الإنسان الأوّل ـ آدم ـ مرارا ، للإيحاء بالضعف الإنساني الذي يعرضه للسقوط أمام تجربة الإغراء ، حتى يخيّل إليه أنه يمثل الفرصة السانحة السريعة التي إذا لم يستفد منها وينتهزها فإنه يتعرّض للحرمان الأبدي. ولذلك فإنه يبادر إلى انتهازها مدفوعا بهذا التصور الوهمي ، ثم يكتشف ـ بعد الوقوع في المشكلة ـ بأن المسألة ليست بهذه السهولة ، وأن النتائج الإيجابية الموعودة ليست بهذا الحجم ، فقد كان بإمكانه أن يصبر ويحصل على نتائج جيّدة أفضل ، وأكثر دواما وثباتا. ثم يطل القرآن دائما ، على إبليس باعتباره المظهر الحيّ للانحراف في ما يزينه للإنسان ، ويوسوس له ، ويثير فيه المشاعر الشهوانية التي تنحرف به عن الصراط المستقيم ، ليستذكر الإنسان دائما بأن الشيطان أخرج أباه من الجنة. وقد كان من

١٦٢

الممكن ، بحسب طبيعة الأشياء ، أن يستمر فيها مع أولاده ، لو لا ثأر الشيطان لطبيعته أمام النشأة الإنسانية الأولى.

ومن الطبيعي أن مثل هذا الجو القصصي الإيحائي لا بد أن يتحرك في رسم الخطوط العامة لموازين الثواب والعقاب.

* * *

دروس من قصّة آدم عليه‌السلام

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) وأوصيناه وحذرناه مما قد يواجهه من تجربة الانحراف تسويلات إبليس الذي يحمل له أكثر من عقدة منذ أن عصى إبليس أمر الله بالسجود لآدم ، في الوقت الذي لم يحمل له آدم أيّ شعور مضادّ ، ولكن آدم لم يتعمّق في وعي الموضوع ، ولم يأخذ الأمر مأخذ الجدية والاهتمام ، وبقي مستمرا ببراءته العفويّة والبساطة الصافية في مواجهته للأشياء ، (فَنَسِيَ) ما ذكرناه به فترك الامتثال للنصيحة الإلهية التي لم تكن أمرا تشريعيا يستتبع عقابا جزائيا ، بل كان أمرا إرشاديا يتحرك من المنطق الطبيعي للأمور في ما ترتبط به النتائج بمقدماتها ، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) بما يعنيه العزم ، من التصميم على التنفيذ ، وتحريك الإرادة في حسم الموقف بقوّة ، لأنّه كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان ، والتجربة الضيّقة أمام الآفاق الرحبة للمستقبل القريب أو البعيد.

ولسنا الآن في مجال الحديث عن حكاية عصمة آدم ليتحدث المتحدثون أن هذا الموقف كان قبل النبوة ، فلا يثير مشكلة في هذا الجانب ، أو ليقول البعض بأن الأمر ليس مولويا لتكون مخالفته عصيانا تكليفيا ، بل هو أمر إرشادي يشبه النصيحة ، فلا يترك أي أثر سلبي على مستوى الالتزام بالشريعة ، بل نحن هنا في مجال التأكيد على أن الأسلوب القرآني لا يريد أن يعمّق في

١٦٣

ذهننا الإسلامي ، الفكرة التي تتحدث عن شخصية الأنبياء بالمستوى الذي يوحي بأن هناك أسرارا فوق العادة تكمن في داخل شخصيتهم ، في ما هي الخصائص الذاتية للشخصية. فهناك أكثر من نقطة ضعف خاضعة للتكوين الإنساني في طبيعة الروح والجسد ، ويمكن أن تتحرك لتضع أكثر من وضع سلبيّ على مستوى التصوّر والممارسة.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) مما يوحي لآدم بأن هذا المخلوق يعيش الذهنية السلبية ضدّه ، (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وسيبذل كل جهده ليكيد لكما بألف طريقة وطريقة ، ثأرا لأنانيته وعصبيته وعنصريته ، فانتبه إليه جيدا وتعامل معه كما يتعامل العدو مع عدوّه ، فيحذر من كل كلماته وخططه ، ولا يستسلم له انطلاقا من طيبة قلب ، أو صفاء روح ، (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) لأنه سيحاول أن يبعدك عن رحمة الله كما ابتعد عن ذلك بعصبيته العنصرية ، وإذا لم تنتبه إليه فسيجلب لك الشقاء في مستقبلك القريب والبعيد. ولمّا كان العهد متوجها إلى آدم أفرد الخطاب بالشقاء ، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) فستعيش فيها شبعانا كاسيا ، بعيدا عن حرارة الشمس ، والمراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر والبرد.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) التي إذا أكلت منها أعطتك خلود الحياة التي لا فناء فيها ، (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) في ما يشتمل عليه من سلطنة دائمة مطلقة لا تسقط أمام عوامل الاهتزاز والسقوط.

وهكذا حاول الالتفاف على أحلامهما الإنسانية في الخلود والملك الباقي من دون أن يثير فيهما عقدة الخوف من المعصية لله ، ولهذا كان أسلوبه هو أسلوب التحذير الذاتي ، والغفلة الروحية عن النتائج السلبية التي تنتظرهما

١٦٤

إذا استسلما إليه.

وهذا ما يجب أن ينتبه إليه الإنسان في مواقفه العملية ، في ما قد يوسوس إليه الشيطان من التأكيد على حركة الحلم الوردي في مشاعره بطريقة غير واقعية ، مستغلا حالة الاسترخاء الروحي ، والغفلة الفكرية التي يخضع لها في وجدانه ، مما يجعله مشدودا إلى الجانب الخيالي من أفكاره من دون مناقشة لها في قليل أو كثير ، فينحرف من موقع الغفلة لا من موقع الوعي ، ومن أجواء الحلم لا من أجواء الواقع ، كما حدث تماما لآدم وحواء عند ما كانا ينعمان بسعادة الجنة ونعيمها في ظلال عفو الله ورحمته ورضوانه ، يتبوّءان من الجنة حيث يشاءان ، فليس لديهما مشكلة هناك. إلى أن جاء إبليس الذي لم يكن منه إلا أن وسوس إليهما مستغلا جانب الغفلة ، فعزلهما عن الواقع ، ودفعهما إلى التفكير بالخلود والملك الباقي فدفعهما للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها. ولو فكرا جيدا لعرفا أن الخلود والملك ليسا من الأشياء التي تحصل بفعل الأكل من شجرة ، بل هما نتيجة الإرادة الإلهية التي تملك أمر الموت والحياة ، والملك الباقي أو الفاني ، ولكنهما استسلما للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس الذاتية الحالمة.

إن الموقف المتوازن هو الموقف الذي ينطلق من القرار المبني على الدراسة الموضوعية للأشياء ، وعلى النظرة الواقعية لموقعها من المستقبل مما يفرض على الإنسان أن يتخفف كثيرا من أحلامه ، لمصلحة الكثير من أفكاره ومواقفه الثابتة في الحياة.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) في ما يعنيه ذلك من الإحساس بالعري الذي يعيشان معه الشعور بالعار والخزي في الوقت الذي كانا يتحركان ببساطة من دون مراعاة لوجود شيء في جسديهما يوحي بالستر ، لأن مسألة الخطيئة في أفكارهما وأحلامهما لم تكن واردة في منطقة الشعور لديهما ،

١٦٥

ولهذا كانا لا يشعران بوجود عورة ، لأن ذلك هو وليد الشعور بالمنطقة الخفية من شخصية الإنسان في ما يختزنه في داخله من أفكار وأحاسيس كامنة في الذات. (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) في عملية تغطية وإخفاء وتخلص من العار ، (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وابتعد عن خط الرشد الذي يقود الإنسان الى ما فيه صلاحه في حياته المادية والمعنوية ، ولكن هذا الانحراف الطارئ البسيط لم يكن حالة معقدة في عمق الذات تفرض عليه الاستسلام للخطيئة كعنصر ذاتي لا يملك الانفكاك منه ، بل هو حالة إنسانية تستغرق في الغفلة لحظة ثم تثوب إلى رشدها ، لتدخل في عالم الاستقامة من جديد ..

* * *

كيف نفسر معصية آدم عليه‌السلام؟

وهناك حديث كثير في علم الكلام ، عن معصية آدم ، باعتباره نبيا معصوما ، في ما تفرضه صفة النبوة من العصمة التي تحمي المجتمع من انحرافه في مقام الدعوة ، أو في مقام التطبيق ، ويتساءل العلماء عن الآية التي تصرّح بالمعصية ، ويجيبون تارة بأن الجنة ليست موضع عمل أو تكليف حتى تكون محلا لإثارة مشكلة الخطأ والصواب ، وأخرى ، بأن المعصية ليست لأمر تكليفي يستتبع الجزاء والعقاب ، بل هي لأمر إرشادي يستتبع الضرر الذاتي الذي يترك تأثيره على حياة الإنسان بعيدا عن مواقع الانحراف الفكري والروحي الذي يضر بالحياة العامة للمجتمع. ويدور حديث آخر حول العصمة ، وهل هي عبارة عن سر مكنون في الذات يولد مع النبي ، فلا يمكن أن ينفصل عنه؟ أو هي عبارة عن حركة المسؤولية المنطلقة في حياته من مواقعها المراعية للإرادة الإلهية التي تمنحها الإيمان وقوة الالتزام والانضباط أمام الاهتزاز في الإرادة تحت ضغط نقاط الضعف؟ ويثير آخرون مسألة نبوة آدم بالمعنى المصطلح لدور النبي ، وما يعنيه من حمل رسالة تتحرك في خط

١٦٦

الدعوة والتبليغ ، وينقسم الرأي في إعطاء معقولية لدوره كرسول ، فمنهم من ينكرها لفقدان المجتمع الذي يمكن أن يشكل ساحة للدعوة ، ومنهم من يثبتها لأن فعليتها ، أي ممارسة الدور فيها ستتحدد في المستقبل بعد أن يتحول الجيل الجديد إلى مجتمع يبحث عن القاعدة الفكرية الروحية ، لقيام بنائه.

وهكذا أثارت هذه الآية الكثير من الحديث عن جانب العصمة لدى الأنبياء بشكل عام من خلال الإيمان بنبوة آدم ، وعن نبوة آدم بالذات في ما ألمحنا إليه مما لا نجد كبير فائدة في الدخول في تفاصيله في هذا البحث التفسيري. ولكننا نستفيد منها نقطتين :

الأولى : إن النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في أكثر من موقع ، ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن طبيعته البشرية.

الثانية : إن القرآن لا يريد أن يعطي النبي هالة مقدسة في مجال التصور ، بل يريد أن يدفع بالتصور إلى أن يتحرك بشكل طبيعي في فهم الشخصية من خلال البعد الظاهري الذي يكشف عن العمق الداخلي ، عبر الوسائل العادية التي يملكها الناس في معرفة عمق الأشياء من خلال ظواهرها.

الله ينوب على آدم عليه‌السلام

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) واصطفاه إليه واختاره لنفسه ، فلم يتركه حائرا ضائعا في قبضة إبليس ، (فَتابَ عَلَيْهِ) ورضي عنه ، (وَهَدى) وفتح له أبواب رحمته ، ودله على الطريق المستقيم ، وأراده أن يواجه الحياة من مواقع قوة الإرادة في ساحة الصراع مع الشيطان ، ولعلّ الله سبحانه أراد أن يجعل له من تجربة العصيان في الجنة ، فترة تدريبية للتعرف على طرق وأساليب الشيطان من الكذب والغش والدجل والخيانة والرياء ، وذلك قبل أن ينزل إلى الأرض التي

١٦٧

أعدّه الله ليكون خليفة له فيها ، فيستفيد من تجربة سقوطه وخروجه من الجنة نتيجة لإغواء الشيطان ويعمل على تفادي مكائده في الأرض بعد أن ذاق مرها في الجنة ، خاصة وأنه سيوكل إليه دورا رساليا يجب أن يتسلمه وهو في مواقع القوة لا الضعف. وهكذا أراد الله له أن يعيش الشعور برضا الله عنه ، وهدايته له في ما يريد له أن يتحرك فيه.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) قالها لإبليس ، كما قالها لآدم وحواء. وقد استحكمت العقدة بينهما ، فهذا إبليس يريد أن يضلل آدم وولده ، وينحرف بهم عن طريق الله ، ويضع بينهم وبين الله الحواجز. وهذا آدم يعمل على أن يحمل الرسالة لأولاده ، ويحمّل أولاده الرسالة من بعده ، ليحاربوا الشيطان ، وليحذروا منه ، وليقعدوا له كل مرصد ، وليفتحوا الحياة كلها على الله ، ليكون الدين كله لله. قالها الله لهم ، ثم بيّن لهم البرنامج العملي الذي يمثل خط الهلاك ، وخط النجاة ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) لأنه هو السبيل الذي يقود الناس إلى الطريق المستقيم الذي يحقق لهم سعادتهم في ما يأخذون وفي ما يدعون من شؤون الحياة الدنيا ، المستندة إلى البرنامج الرسالي الذي ينظر الله فيه لخلقه في ما يصلحهم وفي ما يفسدهم ، وهو العالم بذلك والخبير به ، فلا يحيط الخلق بما يحيط به المخلوق.

* * *

مصير المعرضين

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) الذي أنزلته عليه ، فلم يحاول أن يتفهمه ويعيه ويلتزمه كخط للحياة ، ولم يحسب حساب الله في كل صغيرة وكبيرة من عمله ، بل حسب حساب هواه وشيطانه الذي يغويه ويضله ، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضيقة ، لأنه لا يحصل على شيء منها إلا وتطلعت نفسه إلى شيء آخر ، فيشعر

١٦٨

بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه ، فإذا تحقق له ذلك انتقل إلى شيء آخر ، فهو محاصر بحاجاته وتمنياته في ما يخلد فيه إلى الأرض ، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرحبة التي ينطلق فيها إلى الله سبحانه ، ولذلك فإنه يبقى مختنقا بالآفاق الضيقة ، والأجواء الخانقة التي ، مهما اتّسعت ، فإنها تظل في دائرة محدودة تضيق به ، فلا تمنحه الإحساس الغامر بالسعادة التي لن تحصل للإنسان إلّا بالإشباع الروحي. حتى المادة التي يغذي بها حاجاته الجسدية ، لا تعطيه اللذة إلّا إذا ارتفع بها إلى أجواء الروح فأعطاها شيئا من الروحية في النية والجو والحركة. ومهما امتدت به هذه الحياة الدنيا ، ومهما أعطته من مباهجها ، فإنها محدودة بالموت الذي يلغى ويفسد كل شيء فيها.

قد يكون هذا المعنى هو الذي أثارته الآية في ما تريده من المعيشة الضنك التي تدخل في حسابات الجانب الروحي من العيش ، وقد يكون هناك وجه آخر يذكره المفسرون ، في ما قال بعضهم أنه عذاب القبر ، ولكن الظاهر أن الآية واردة في مقابل معيشة المؤمن الذي يتبع هدى الله في ما تشتمل عليه من خصائص في الحياة الدنيا ، لا في ما بعدها ، وقال بعضهم : إنه عذاب النار ولكن ذلك غير ظاهر ، لأنه جعل الحشر يوم القيامة تاليا له ، والمفروض أن عذاب النار متأخّر عن الحشر.

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) لا يهتدي الطريق إلى الجنة ، لأن الطريق مسدود أمامه ، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله ..

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) ربما يظهر من هذه الآية أن العمى هنا هو عمى الحس بدليل مقارنة الإنسان له بالبصر في الدنيا ، فيأتي بذلك الاعتراض بأن الظاهر من الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة ، كقوله تعالى : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] ، وقوله تعالى (اقْرَأْ كِتابَكَ)

١٦٩

[الإسراء : ١٤] ، أن هناك بصرا في يوم القيامة. ثم كيف يأتي هذا الكلام من الإنسان الذي كان بصيرا في الدنيا؟ وربما يوجه ذلك بأن «من الظاهر المسلم به من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم لها في الدنيا الذي نألفه في الطبيعة ، وكون البصير مبصرا لكل مبصر ، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي ، لا دليل على عمومه للنظام الأخروي ، فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك ، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة ، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة ، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها» (١).

ولكننا نتحفظ على هذا التوجيه لأن الظاهر من النص القرآني أنه يتوجه إلى الناس بما يفهمونه من معاني الكلمات ، بالصورة المألوفة لديهم في تصورهم للأشياء ولذلك فإن التبعيض في مسائل العمى والبصر بحسب اختلاف النظام الأخروي عن النظام الدنيوي ، لا يدل عليه شيء ، إن لم يكن الدليل على خلافه ، كما ألمحنا إليه. أما ما نرجحه في المسألة ، فهو أن التعبير وارد على سبيل المجاز من ناحية العمى والبصر القلبيين اللذين يتصلان بمنطقة الوعي الفكري للإنسان لا بمنطقة الرؤية الحسية. وليس هذا التعبير بعيدا عن الأسلوب القرآني ، فقد جاء في قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، مما يوحي بأن العمى الفكري والروحي ملحوظ في القرآن ، بل هو الأبرز في أجواء الحديث عن الكافرين الذين يعتبرهم لا ينفتحون على الطاقات الحسية من السمع والبصر بشكل واع ، فإن لهم عيونا لا يبصرون بها ، ولهم آذانا لا يسمعون بها ، كما أنهم لا ينفتحون على الطاقة الفكرية التي يملكونها ، فإن لهم قلوبا لا يعقلون بها. ولعل الدليل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ٢٢٦.

١٧٠

على إرادة العمى المعنوي القلبي في هذه الآية ما جاء في الآية الأخرى جوابا على تساؤلهم.

(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) في ما يعنيه النسيان من غفلة عنها ، ومن بعد عن الصورة الحقيقية للمضمون الفكري لهذه الآيات ، لأنه لا يملك الرؤية السليمة التي تجعله يبصر مواقع الهدى في كلمات الله ، أو لأنه أهمل التركيز عليها من خلال أجواء اللامبالاة التي يمارسها تجاه الدعوة الإلهية. (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) ولهذا كان جزاء ذلك هو إهماله يوم القيامة ، ونسيانه العملي من قبل الله ، بحيث لم يفتح الله له قلبه للأجواء الروحية المنفتحة على السعادة والطمأنينة للروحيين ، كما لم يفتح قلبه لله في دار الدنيا ، فكان العمى في الآخرة نتيجة للعمى في الدنيا ، كما كان نسيانه لله هناك سببا في نسيان الله له هنا ، من ناحية عملية. والله العالم بحقائق آياته.

* * *

١٧١

الآيات

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)

* * *

١٧٢

معاني المفردات

(أَسْرَفَ) : تجاوز الحد.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : أفلم يبيّن لهم.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) : مدّ العين : مدّ نظرها وإطالته إلى شيء ، وهو كناية عن التعلق به وحبه.

(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : زينتها وبهجتها.

(مُتَرَبِّصٌ) : التربص : الانتظار.

* * *

العقل كأساس للمعرفة والإيمان

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) وتجاوز عن الحد في علاقته بالله ، كمن أعرض عن ذكر الله ونسي آياته ، فإن الله يضيّق عليه معيشته ، ويبعده عن رحمته (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) من عذاب الدنيا ، (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي ألم يسلكوا سبيل الهدى ، ويتبين لهم حال الأمم السابقة التي أهلكناها في القرون الماضية ، وهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ولم يعد لهم أي أثر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي أصحاب العقول الذين يحاولون أن يثيروا التفكير في ما يشاهدونه ليحلّلوا الفكرة التي توحي بفكرة أخرى ، ليخرجوا بالنتيجة الواقعية وهي أن مواقع القوّة الطارئة التي يملكها الكثيرون من الناس فيطغون ويعيثون في الأرض فسادا ، لا تدوم لهم ، لأن الله سيدمّرهم في الدنيا ، كما دمّر السابقين من قبلهم ، ويعذبهم في الآخرة ، ليعيدوا النظر في

١٧٣

مواقفهم المنحرفة في خط الكفر والضلال حتى لا يحل بهم ما حل بأولئك ..

وتلك هي قيمة العقل عند ما يتحرك ليواجه الأمور بدقّة وموضوعية ، لينتهي إلى النتائج الصحيحة ، من موقع المسؤولية عن الفكر والحياة ، بعيدا عن الانفعال ، أو الانجرار تحت تأثير وضع تقليدي أو نفسي أو اجتماعي ، لأن ذلك هو الذي يحفظ للفكر توازنه ، وللحياة ثباتها وقوّتها واستقامتها في الاتجاه السليم. ولذلك كان التوجيه القرآني يؤكد على قيمة العقل كأساس للمعرفة وللإيمان ، وعلى دور أصحاب العقول ، كنموذج للفئة الواعية المؤمنة التي تحمل مسئولية الحياة من موقع الحسابات العقلية الدقيقة.

* * *

بناء الأمم وفناؤها خاضع للسنن الكونية

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي لو لا كلمة سبقت من ربك لكان الهلاك لزاما على هذه الأمة التي عاندت الرسول وكفرت به ، ووقفت في وجه الدعوة إلى الله ، لأنهم يستحقون ذلك بأكثر مما كان يستحقه السابقون من الكفار ، ولكن الله سبحانه أراد بكلمة القضاء والحسم التي يقدر فيها الأمور أن يؤخر عذابهم ، كرامة للدور الرسولي الذي يتمثل في شخصية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يرد أن ينزل العذاب على الأمة مع وجوده فيها ، بل أراد للتجربة أن تمتد معه بالأسلوب العقلاني الذي يمنح الناس فرصة بعد فرصة لكي يفكروا ويعتبروا ويستخلصوا النتائج الحاسمة في أمر العقيدة ، لأن الفرق بين مرحلة الإسلام وبين مرحلة الأديان الأخرى ، هو أن الأديان الأخرى السابقة انطلقت لتلبية حاجة مرحلة زمنية محدودة ، بينما انطلق الإسلام ليكون دين الحياة الذي يستمر إلى نهايتها. ولهذا كان العذاب يمثل الصدمة التي قد لا تتناسب مع الطبيعة الهادئة المنسجمة مع دور الإسلام في التعبئة الفكرية

١٧٤

لمصلحة الإيمان. هذا بالإضافة إلى أن الله أراد للحياة في حركة الأمم في بقائها وفنائها أن تعيش في نطاق السنن الكونية التي تخضع لها الحياة في الأشخاص والأمكنة والأوضاع.

* * *

الصبر في مواجهة الأضاليل

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من كلماتهم اللامسؤولة التي ينفسون فيها عن غيظهم ، ويهربون فيها من إحساسهم بالعجز أمام قوة الرسالة. فليست المشكلة في ما يقولون من أضاليل ، بل المهم هو مدى تأثير هذا القول في ساحة الدعوة. وهذا ما لا يستطيعون أن يحققوا فيه شيئا كبيرا ، لأن الحقيقة سوف تفرض نفسها على الحياة ، ولو بعد حين. ولذا فإن الصبر يمثل العامل الإيجابي في هذا المجال ، لأن هؤلاء سوف يستهلكون كل وسائلهم ويجربون كل أساليبهم ، وستتساقط بأجمعها أمام الرسالة في نهاية المطاف ، وسيدخل الجميع ، بعد ذلك ، في دين الله أفواجا عند ما ينقشع الضباب عن عيون السائرين.

* * *

التسبيح عامل قوة للإنسان

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) فإن التسبيح الذي ترفعه إلى الله تعظيما وتنزيها له عن كل ما يلصقه به المشركون والكافرون ، يفتح لك آفاقا واسعة من الشعور بالقوة المستمدة من الله العظيم المنزّه عن كل عيب ، ويجعلك تعيش الإحساس بالاحتقار لكل من عداه مهما بلغت قوته. كما أن الحمد الذي يتحرك مع التسبيح سوف يطل بك على كل صفة كمال وجلال لله

١٧٥

سبحانه فينفتح لك الحق كله ، والخير كله ، والكمال كله ، والجلال كله ، بما تمثله كلمة الله من آفاق المطلق الذي لا حدود له ، وهكذا يكون التسبيح بالحمد انطلاقة روحية تخفف من أثقال الجهد الشديد الذي قد يسقط الإنسان من خلاله في حالة من الإعياء ، أو اليأس ، ويقوده ـ بعد ذلك ـ إلى التراجع أو الانسحاب ، لأن اللقاء بالله ـ والعيش معه من خلال الذكر ـ في تسبيح الله وحمده ، يعطي الإنسان الشعور بتجدد القوة وتعاظمها ، وبحيوية النشاط وفعاليته ، ويدفعه إلى الامتداد تحت عناية الله ورعايته ، قبل أن يبدأ يومه ، لتكون بدايته من موقع الاستعداد ليوم عمل رسالي جديد في الدعوة وفي الجهاد ، وقبل أن يبدأ ليلته ، لينفض عنه سلبيات ما عاناه في يومه من صدمات وتحديات ، فلا تترك تأثيرها على مشاريعه في الليل ، وليخطط لنشاط روحي إسلامي في الليل بعيدا عن الانسحاق تحت تأثير الضغوط النفسية والمادية من حوله.

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) فإذا امتد الليل ، وانفتح في أعماق الكون ، فسبح بحمد ربك لتعيش الصفاء الروحي الذي ينفذ إلى فكرك وقلبك ووجدانك من ينابيع النور الإلهي الروحاني الذي يحول الليل إلى إشراقة روحية ممتدة في كل زوايا النفس ، وجنبات العقل ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) أي وسبحه في فترائه التي تتوزّع في مواقيته ، للمقابلة بين الليل والنهار ، تماما كما هي المقابلة بين ما قبل بدايته ونهايته ، ليكون التعبير شاملا للوقت كله في مجملة ، وفي بداياته بطريقة بلاغية. وربما استفاد البعض الإشارة في توزيع التسبيح على الأوقات ، أن المقصود بذلك هو الصلوات الخمس وليس ذلك واضحا من التعبير ، بل ربما نستفيد مما يأتي من التأكيد على الصلاة ، أن الحديث عنها ليس مقصودا هنا ، وإن كان الأمر ممكنا بلحاظ بعض الاعتبارات ، والله العالم.

(لَعَلَّكَ تَرْضى) وتطمئن وترتاح إلى اتصالك بالمبدأ الأعلى في تسبيح وتحميد وتمجيد ومناجاة موصولة بالله ، في رعايته ولطفه ورضوانه ، مما

١٧٦

يجعلك راضيا بكل شيء يحدث لك من حلو الحياة ومرها ، وبؤسها ونعيمها ، وسعادتها وشقائها ، لأن ذلك لا يمثل مشكلة للمؤمن ما دام يتحرك في محبة الله ورضاه.

* * *

القناعة بقسمة الله ونعمته

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فقد يغفل القلب فيستغرق في الأجواء المحيطة به ، وقد يسرح البصر فينشغل بالزخارف والمباهج التي تمتد أمامه ، فتتحرك العينان في قلبه ، وفي وجهه .. لتتلهيا بما أغدقه الله على هؤلاء الطغاة ، أو غيرهم ، من مال وجاه وبنين وشهوات ، يؤدي إلى الانبهار بالدنيا المحيطة بهم ، والمتحركة في أوساطهم ، فيتمنى الإنسان لنفسه ما قسمه الله لغيره ، ويشعر بالحسرة إذا لم يحصل على ما حصلوا عليه فيندفع للاعتداء على الآخرين بهدف الحصول على ما يريد ولو بطريقة غير شرعية ، فينحرف عن الخط المستقيم ، وينزلق إلى مهاوي الدنيا ومغرياتها. ولكن الدنيا زائلة مهما كبرت واتسعت وامتدت ، لأن زخارفها زينة ليس إلّا ، وهي لا ترفع شأنا ولا تضع وزرا ، بل هي شيء يحلو للنظر فينبهر به ، أو هي شيء يتوهّج ويشتعل ويلتهب ، ثم يخبو تدريجيا ويتحول إلى رماد. ولهذا فإن على الإنسان المؤمن ألّا يتعلق بها إن أقبلت أو يتحسر عليها إن أدبرت ، بل يراها على حقيقتها كظاهرة طارئة فانية مستهلكة زائلة ، وزعها الله على عباده تبعا لحكمته وبحسب مقادير الأشياء في الكون على كل المستويات.

(وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) بما يهيئه لك من رزق الدنيا والآخرة ، فهو الأقرب إلى صلاحك في الدنيا في ما يصلح لك فيه أمر حياتك ، وهو الأقرب إلى

١٧٧

سعادتك في الآخرة في ما يقرر لك سعادتك في مصيرك ، فتطلع إليه ، فهو الأفضل والأبقى ، ولا تتطلع إلى غيره ، وحاول أن تشغل نفسك بمسؤوليتك في ما أوكل الله إليك أمره من مسئوليات.

هل هذا دعوة إلى الابتعاد عن الحياة ، لتكون من آيات الزهد العملي الذي ينصرف فيه الإنسان عن مباهج الحياة وطيباتها وزخارفها؟ أو هي دعوة للتوازن في النظرة إليها ، فلا يستغرق فيها ، ولا يتحسر عليها ، لما يحقق التوازن في التعاطي معها بالمقادير المناسبة ودون مغالاة أو مبالغة. إننا نفهم من الآية المعنى الثاني الذي يريد للإنسان أن يقنع بما رزقه الله ، وألّا يعيش الانبهار الذي يسقط روحه ، ويثقل فكره ، والله العالم.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) لأنها هي التي تعرج بك إلى الله ، فتصفي لك روحك ، وتطهر قلبك ، وتفتحه على الخير كله ، وهي التي توحي لك بكل المعاني الطاهرة ، والقيم الروحية ، والأخلاق العالية ، لتكون ملهمة للتسامي الروحي ، والتركيز العملي. ولذلك فإن الإنسان المؤمن هو الذي يعمل كي يكون مجتمعة الأقرب إليه ، مجتمع صلاة يتعبّد فيها لله ، ويخلص فيها له ، ويقترب فيها منه بروحه وقلبه وضميره ، ليكون المجتمع الذي يراقب الله في سره ويتقيه في علانيته ، لأن ذلك ما يحقق له التوازن في العلاقات المنفتحة على الله من موقع المسؤولية ، وعلى الإنسان من موقع الرحمة ، وفي المعاملات الخاضعة للشروط الشرعية في ما يحل منها وفي ما يحرم ، وفي الكلمات المسؤولة التي تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي في ما يصلح أمر الحياة من شؤون المعرفة والحركة. ثم الأمر بالاصطبار عليها في نفسه ، في ما تحتاجه إلى وعي للموقف فيها ، وللخشوع معها ، ولاستلهام معانيها في أقوالها وأفعالها ، فلا يسرع فيها إسراع من يريد أن يفرغ منها ، من دون أن يستوعب دروسها ، ولا يهملها في أوقاتها ومواقعها ، لأنها هي الأساس الذي يرتكز عليه امتداد العمل في سائر جوانب الحياة ، لأنها تشير إلى العمق الأعمق في

١٧٨

المسألة ، وهو الانفتاح على الله ، وتأكيد العلاقة معه في حركة التقوى في داخل النفس وخارجها.

(لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) فليست الصلاة ، أو مطلق العبادة حاجة لله لدى عبده ، لتكون بمثابة الرزق الذي يطلبه منه ، لأنه الغني المطلق الذي يطلب ما يطلبه من عبده من موقع الناصح الذي يريد له المصلحة. فالإنسان هو الذي يحتاج إلى الله في كل شيء ، فهو الذي يرزقه في كل ما يحتاجه من شؤون الرزق في الحياة ؛ ولكن المسألة هي مسألة التقوى وهي العنوان الأنقى لحياة الإنسان في الدنيا ، ولمواقعة في الآخرة ، فهي التي تبقى وتستمر. وتحقق للإنسان أفضل النتائج على مستوى قضية المصير.

* * *

المعجزة وسيلة لإقامة الحجّة

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ويبقى الهاجس الذي يطوف بخيالات المشركين في حديثهم عن النبي ، هو المعجزة الخارقة التي تدهش النظر بتغيير المألوف من الظواهر الكونية من حولهم ، تماما كما كانوا يسمعونه من عصا موسى عليه‌السلام وإبراء عيسى عليه‌السلام الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ؛ ولذلك فقد كانوا يقترحون عليه أمثالها أو ما يقرب منها. ولكن المعجزة ليست عملا استعراضيا يقوم به النبي من أجل إبراز قدرته التي تصدم الحس ، وتلهب الخيال ، بل هي وسيلة من وسائل إقامة الحجة على الناس ، في ما يعتبر بينة للرسالة ، في حالات الشك والريب في صدقية النبي ورسالته. ولذلك فإن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بالقرآن الذي يشتمل على كل ما في الصحف الأولى التي جاء بها الأنبياء السابقون مما لم يتعلمه عند أحد من الناس ، كما يعرفونه من أمره ، في ما يعرفونه من دقائق حياته ، وهو الكتاب الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ

١٧٩

بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، ولم يستطع أحد منهم ولا من غيرهم أن يأتي بسورة من مثله ، بالرغم من التحدي الكبير الذي أثاره أمامهم ، (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) فيجدون من خلال ذلك الدليل على صدق القرآن في أحكامه وشرائعه وبيناته ..

وربما كان المقصود ـ كما يذكر البعض ـ التهديد بما يمكن أن يأتيهم من العذاب على ما يقترحونه من الخوارق والمعجزات للتعجيز ، فإذا جاءتهم امتنعوا عن الإيمان به كما كان يحدث للأمم السالفة الذين كان العذاب يرافق الكفر بعد قيام المعجزة فيكون ذلك سببا لهلاكهم ، فتكون الآية تحذيرا لهم من ذلك ، لينتهوا عنه.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل إنزال القرآن وإرسال الرسول ، لأثاروا علينا المطالبة بالحجة القائمة على ما نريد منهم من مسئوليات ، لنرى كيف يلتزمون بها ، ويطيعوننا من خلالها ، و (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) في ما تنزله علينا من العذاب ، (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) في ما ننتظره من وعد الله لنا بالرحمة والمغفرة ، وما أعدّه لكم من عقاب ، وفي ما تنتظرونه ، أنتم ، من المشاكل التي تحيط بنا وتحاصرنا لتبطل دعوتنا ، وتهزم موقفنا. وتبقى ساحة الصراع بيننا وبينكم حالة حركة دائبة وجهاد مستمر ، لتكون النتيجة الحاسمة لمن يملك الحق ، ويلتزم بالصراط المستقيم ، (فَتَرَبَّصُوا) لأنكم لا تزالون في حالة شك ، أما نحن فإننا نملك الرؤية الواضحة من خلال الإيمان المنفتح الواعي ، ولذلك فإننا لسنا في موقع الانتظار القلق ، بل في مواقع الانتظار الحاسم الجازم الذي يعرف ما يريد ، وستظهر النتيجة ، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) منا أو منكم ، (وَمَنِ اهْتَدى) في ما يلتزم به من خطوط الحياة ومناهجها المتحركة من أجل سعادة الإنسان في قضايا المصير في الدنيا والآخرة.

* * *

١٨٠