تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

الإلهية من القدرة المطلقة. والله العالم.

وهكذا نجد أن الله لم يخلق الحياة في السماء والأرض وما بينهما ، لاعبا ، ولو شاء ذلك لكان قادرا عليه ، كقدرته على كل الأشياء ، ولكنه لم يشأ ذلك ولم يرده لأنه أراد للحياة أن تخضع للحق ، في كل مظاهرها وحركاتها بحيث يقف ـ بقوة ـ ضد الباطل.

* * *

الحق يدفع الباطل

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) إذ يريد الله للحق أن يحتوي الحياة كلها من خلال ما أودعه فيها من أسرارها ، وشرائع أنزلها على رسله ، أو من خلال الفطرة الكامنة في أعماق الوجدان الإنساني ، والعقل المرتكز في كيانه ، فيعطي للحق معناه وفاعليته وقوّته ، ويمنع الباطل أن يفرض نفسه على منطق الحياة والوجود ، لأنه لا يملك عناصر البقاء في ذاته ، بل يعيش القوة كحالة طارئة محكومة للأوضاع الخارجية المحيطة به. وبذلك ، لا بد أن تنتهي حركة الصراع فيما بينهما بأن يسقط الحق الباطل ، فيفجره من الداخل ، بضربة قويّة في نهاية المطاف ، (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أمام الحجة القاطعة القوية التي لا تمنح الواقع الفرصة للخلود ، وأمام تفاصيل الوجود التي لا يمكن للحق معها أن يسمح للباطل بالنفاذ إلى عمق الوجود. وهكذا تكون النتيجة في النهاية لصالح الحق ، كما كانت البداية له أيضا ، مما يجعل مسألة الجدية التي هي المظهر الأعلى للحق في معناه وحركته ، قانونا ثابتا في الكون. وبذلك كانت قضية المعاد ، بما تمثله من الهدف الكبير لحركة الإنسان في الحياة ، ضرورة عقلية وكونيّة ، في ما أرسله الله من رسالات ، وبعث من رسل ، بالرغم من كل الكلمات اللامسؤولة ، والخيالات المنحرفة التي يثيرها الكافرون والضالون ،

٢٠١

(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) من كلمات الكفر والضلال المتمثلة بجحود أمر الرسالة والمعاد من دون حجة ولا برهان.

إن المسألة التي تفرض نفسها في صراع الحق والباطل هي أن الحق يحمل في داخله عناصر البقاء من حيث انسجامه مع حاجة الحياة ، وطبيعة الأشياء ، بينما يمثل الباطل في حركته ووجوده ، الظروف الاستثنائية الطارئة التي قد تتغذى من أكثر من جهة.

ولهذا فقد يكون من الضروري للعاملين في ساحة الصراع أن يحددوا العناصر المحقة الثابتة لأي موضوع ، وأن يدرسوا الظروف المتصلة به من حيث علاقتها بالصورة والموقع والعمق والامتداد ، لأنها ربما تغير طبيعة الأشياء ، فمسألة الحق والباطل قد تكون نسبية في ما يتعلق بالواقع المتحرك للإنسان ، إذ قد يكون الشيء حقا في زمان أو في موقع ، وباطلا في زمان أو في موقع آخر ، تبعا لحركة المتغيرات من حوله ، حتى لا نقع في سوء التقدير أو الفهم للقضايا عند ما نواجه الأمور في دائرة المطلق ، فيخيل إلينا أن الحق باطل والباطل حق ، لأننا لا نملك مقياس العناصر الثابتة والمتحركة في هذا المجال.

وقد ينبغي لنا أن نواجه الظروف الطارئة التي تمنح الباطل قوة على مستوى الأوضاع والساحات والأشخاص والأزمنة ، لنعرف كيف نحرك الصراع في مواجهتها ، من حيث النظرة إلى طبيعة الفكرة والظروف ، حتى نحدّد الأدوات التي نستعملها في هذا المجال أو ذاك ، لئلا نخطئ من حيث نريد الإصابة ، أو نعتبر الإصابة حركة في مواقع الخطأ.

وربما كان من مشاكل الساحة العملية ، هذه النظرة المطلقة للحق والباطل ، مما يجعل المسألة في دائرة المثال ، فيبتعد بنا عن الدائرة الواقعية التي تتغيّر فيها ملامح الأشياء تبعا لتغير ملامح الظروف المحيطة بها ، ثم هذا

٢٠٢

الاستغراق في عمق الباطل في النظرة بعيدا عن الأجواء والأوضاع المحيطة به التي تعطيه قوة في ذاته ، أو تزيده قوة على قوة ، قد يدفعنا إلى الكثير من الارتباكات والانحرافات في التحرك نحو الأهداف الكبيرة في مواقع التحدّي في المعركة.

ومن خلال ذلك نستطيع أن نفهم كيف يمكن انتصار الحق على الباطل على أساس الأخذ بأسباب النصر ، بما نفهمه من طبيعتها وأدواتها وأساليبها والمدى الزمني الذي يجب أن تقطعه ، كما نعرف من خلاله الأسباب التي تكمن وراء الهزائم الكبيرة التي تصيب الحق وفي أكثر من موقع ابتعد فيه العاملون عن فهم الأسباب الحقيقية لعوامل الصراع.

* * *

٢٠٣

الآيات

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(يَسْتَحْسِرُونَ) : الاستحسار : الانقطاع عن الإعياء.

(يَفْتُرُونَ) : من الفتور ، لا من الافتراء ، والفتور : السكون.

* * *

٢٠٤

العبودية المطلقة لله

.. ويستمر الحديث عن الله في دائرة التوحيد المطلق الذي يطلّ على الوجود كله ، بكل ما فيه من موجودات ومخلوقات ، ليوحي بالعبودية المطلقة الناشئة من الملك المطلق الذي يحتويهم جميعا ، فلا أحد إلّا وهو مخلوق له ، ولا شيء إلّا وهو مملوك له ، وبذلك فلا مجال لأن يتألّه أحد أمام الله ، في ما يدّعيه لنفسه ، أو يدّعيه له الآخرون ، بمجرد أنه يعيش في ذاته الإحساس بالحاجة المطلقة ، والخضوع العميق بطريقة الممارسة العملية ، أو بطبيعة ما يختزنه من شعور.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هم خاضعون لإرادته لا يملكون من دونه لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، وله أن يتصرف بشؤونهم بما يريد وكيف يريد. (وَمَنْ عِنْدَهُ) الذين يعيشون في مواقع القرب من رضوانه من الملائكة المقربين ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لأنهم يرون العبودية له أمرا طبيعيا راسخا ، ويرون العبادة التي هي مظهر الاعتراف الحيّ بالعبودية ، لازمة له في معناها ، ولهم في ذاتهم ، فهم خاشعون له منسحقون أمام عظمته ، (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعتريهم إعياء ولا كلال مهما امتد بهم الزمن ، أو كبر حجم العبادة ، أو كثر عددها ، لأنّ وعيهم الوجداني والروحي لعلاقتهم بالله يجدّد نشاطهم ، ويقوّي روحانياتهم ، ويبعث فيهم روح التجدّد.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) في شعور مستمر بالعظمة المطلقة التي تدفع بهم إلى الإعلان الدائم ، والذكر المستمر المتحرّك ، (لا يَفْتُرُونَ) أي لا ينقطعون عنه أبدا. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) ويحيون الموتى ، وكيف يساوون بين المخلوقين والخالقين؟ وهل هذا إلّا وهم بائس مريض ، صادر عن عقلية متخلّفة لا تملك الفهم الواعي لقضايا العقيدة والشريعة؟ فإذا كان هؤلاء

٢٠٥

من مخلوقات الأرض التي تموت ، ثم يبعثها الله وينشرها ، فكيف يكونون آلهة يمنحون الحياة للآخرين ، وهم لا يملكون أن يمنحوها لأنفسهم ، بمنع الموت عنها أو بعثها من جديد؟ ثم هل تملك الفكرة التي ينطلقون منها وهي : تعدد الآلهة ، أساسا من عقل وفكر ، بقطع النظر عن طبيعة الأشخاص الذين يعتبرهم الناس بهذه الصفة؟ إن الفكرة لا تملك احتراما عقليا يمكن الركون إليه في تصور الأشياء.

* * *

تعدد الآلهة يستلزم الفساد

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) إن الكون يتحرك بطريقة متوازنة دقيقة في كل مجالاته وظواهره ، الثابتة والمتحركة ، حتى في الأمور التي يعتبرها الناس مظهر خلل في حركة الواقع ، أو حالة تمرّد في الطبيعة ، فإنها تخضع لضوابط وقواعد ، تمنعها من الذهاب بعيدا في نتائجها السلبيّة ، وتقرّبها من الاتصال بالنتائج الإيجابية في حركة الوجود الكوني من جهة أخرى ، وذلك في مثل الفيضانات والبراكين والزلازل والعواصف ونحوها.

وهكذا نجد ذلك متمثلا في حركة المجتمعات البشرية والحيوانية في جميع الأسس التي ترتكز عليها في ولادتها وفنائها ، وفي ارتفاعها وسقوطها ، فلا مجال للفساد في ما يحيط بها من ظروف وقواعد وأحكام.

إنه الدليل على القوة الواحدة الحكيمة القاهرة التي تخلق الشيء بحساب ، وتحركه بنظام ، وتفنيه بقاعدة ، في إدارة حكيمة تشمل الكون كله ، وهو الدليل على وحدانية الله. ولو كان الأمر كما يقول المشركون الذين يقولون بالتعدّد في خلق الكون ، أو في تدبيره ، لما كان هذا الأمر ممكنا لأن طبيعة التعدّد في الذات الإلهية الخالقة المدبّرة تفرض اختلافا في الإدارة

٢٠٦

وتنوّعا في التدبير ، مما يؤدّي إلى التجاذب والتنازع والاختلال عند ما يريد أحدهما شيئا ، لا يريده الآخر ، أو يريد خلافه ، فإن ذلك يبطل الوجود إذا كان ذلك متعلقا بالخلق ، أو يعطل حركته إذا كان مرتبطا بالتفاصيل ، لأنّ التعدد في الألوهية يفرض التوازن في القدرة ، في ما يقتضيه من القدرة المطلقة للإله المطلق.

وقد يفرض البعض إمكانية التكامل في التخطيط والتدبير ، كما قد يحدث عند بعض المخلوقين الذين يتكاملون في الإشراف على بعض الأعمال أو الأوضاع ، من دون أن يؤدي التعدد إلى الاختلال ، بل ربما قد يؤدّي إلى التوازن في إغناء التجربة بالقدرة المتنوعة.

ولكن ذلك قد يتمّ في بعض الأمور ، ولا يتم في جميعها ، وقد يحصل في داخل النظام الذي يخضع له هذا الشخص أو ذاك ، في ما يمكن أن يؤثر في نموّ العقل هنا أو هناك ، ولكن ذلك لا يتم في مستوى الآلهة التي لا تتأثر بالنظام الذي يحكمها من الخارج ليمكن فيه التكامل في التفكير ، بل هي التي تخلق النظام وتصنعه ، فكيف يمكن أن يتوحّد تدبير الآلهة من خلاله وبذلك يكون التعدد في الذات أساسا للتعدد في خصوصيات الخلق وبالتالي في حركة الإيجاد. وإلّا لم يكن للتعدد معنى ، أو ضرورة ما دامت المسألة لا تخضع لما هو خارج عن الذات ، بل لما هو داخل في عمق طبيعتها ، وفي ذات التعدّد.

وعلى ضوء ذلك فإن الدليل لا يتحرك من منطق جدليّ فلسفيّ ، بل ينطلق من عمق الحقيقة الواقعية للكون وللتعدّد وللفساد.

* * *

سلطة الله المطلقة

(فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) الذي يملك الكون كله في أعلى مواقعه ومظاهره ، من خلال ما يمثله العرش من السلطة المطلقة المهيمنة على الوجود بجميع مجالاته ، فكيف ينسب إليه المخلوقون شريكا له في الخلق والقدرة

٢٠٧

والتدبير ، فيبتعدون بذلك عن موقع جلاله ومجالات عظمته ، فتعالى الله (عَمَّا يَصِفُونَ) مما يتصل بصفات المخلوقين التي ينسبونها إلى الخالق القادر القاهر الجبّار الذي (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لأنه هو الذي يملك الهيمنة على الكون كله بجميع مخلوقاته ، فمن هو الذي يسأله عن أمره وفعله ، أو يعترض عليه في تدبيره ، ومن هو الذي يحيط بالأشياء ، كما يحيط الله بها ، ومن هو الذي يعرف أسرارها ، في ما يجب أن يحدث أو ما ينبغي ألّا يحدث ، أمام الله ، وهو الحكيم المطلق الكلي الحكمة الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهو الحق في ذاته وهو الحق في خلقه وتدبيره وفعله.

إنها الكلمة التي تعبّر في أسلوب كنائيّ تعبيريّ عن السلطة المطلقة ، والإشراف المطلق ، لأن من خصوصيات ذلك ألّا يكون مسئولا أمام أحد في كل شيء ، فليس لأحد أن يقول له لم وكيف ، فله أن يفعل ما يشاء ، ويترك ما يشاء كيف يشاء من دون حسيب ولا رقيب. أما الآخرون كل الآخرين ، مهما بلغوا من الحجم في القوّة والكثرة والنوعية ، فهم مخلوقون له ، خاضعون لقوّته وإرادته ، فلا يملكون أن يفعلوا شيئا إلّا برضاه ، ولا تتحرك إرادتهم إلّا من خلال إرادته. ولذلك فإنهم مسئولون أمامه عن كل شيء ، فعليهم أن يقدّموا تفسيرا عن كل كلمة ، وعن كل عمل ، وأن يطلبوا الإذن في ذلك كله ، فيأخذوا الرخصة منه ، وذلك هو الفرق بين الخالق والمخلوق ، وبين الإله والمألوه ، والسيد القادر القاهر ، والعبد الضعيف المقهور الذي لا يقدر على شيء فكيف يمكن أن يكون غيره إلها معه من دون أن يكون له أيّة صفة من صفات الإله.

* * *

وحدانية الله

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) صنعوها بأيديهم ، أو منحوها الهالة القدسية بأوهامهم ، وكيف فعلوا ذلك؟ وما الأساس الذي اعتمدوا عليه؟ (قُلْ هاتُوا

٢٠٨

بُرْهانَكُمْ) لأن العقيدة لا بد أن تخضع للحجة القاطعة التي تملك على العقل قناعاته ، فأين هو البرهان من ذات الإله وصفاته ، أمام الإله الحق الذي دل على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته.

وفي كل شيء له آية

تدلّ على أنه واحد

فإذا كان لكم برهان فقدموه .. ولكنكم لم تقدموا شيئا يدلّ على ذلك ، بل قام الدليل على خلافه ، لا سيما وأن الكتب السماوية تنفي وجود إله آخر غير الله ، وتؤكد وحدانيته ، (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) وهو القرآن النازل على من الله ، (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الكتب النازلة على موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام التي تتحدث عن الإله الواحد ، في مواجهة عقيدة الشرك ، فهل تجدون فيها أيّ إشارة إلى أيّ شريك لله كما تزعمون؟ وهل هناك كتاب آخر قد أنزله هذا الإله على الناس؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ولا يملكون الرؤية الواضحة للأشياء لأن الغفلة قد سيطرت على عقولهم ، ولذلك فإنهم لا يملكون القاعدة التي تميّز بين الحق والباطل ، ولا يملكون الذهنية التي تقودهم إلى العقيدة الحاسمة في ذلك كله ، (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن كل دعوة للتوحيد وعن كل دليل يؤكد الدعوة.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) في خطاب مستمر موجّه إلى الناس كافّة ، في إعلان حاسم لعقيدة التوحيد باعتبار أنها العقيدة الصحيحة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وفي دعوة لتأكيد هذه العقيدة في حركة الإنسان في الحياة من خلال ما يتعبّد به المتعبّدون ، ويمارسه المطيعون ، وذلك بعبادة الله وحده في نداء ينطلق من الله بالذات ، من موقع الألوهية الحقّة المهيمنة على الأمر كله ، (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) في ما تفكرون به ، وتعيشونه من شرائع وأوضاع وعلاقات ، وفي ما تخضعون له من انتماءات.

* * *

٢٠٩

الآيات

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩)

* * *

الادعاء بأن لله ولدا

ويستمر القرآن في مناقشة فكرة الشرك المتخلفة التي سادت بين الناس في الجزيرة العربية.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) حيث كانوا يتحدثون عن الملائكة ، فيزعمون أنهم أولاد الله سبحانه ، باعتبارهم مخلوقات غيبية غامضة موجودة في السماء التي هي المكان الطبيعي لله ـ في زعمهم ـ ، وهم يحملون ملامح خارقة تقترب من ملامح الصورة التي يحملونها عن الله ، مما يؤكّد التقارب الذاتي بينهم

٢١٠

وبينه ، تماما كما هو التقارب بين الأب وأولاده في الملامح والصفات.

وهكذا نجد أن فكرة الولد لله ، التي تمثلت في عقيدة بعض النصارى وبعض اليهود ، وبعض العرب ، كانت ناشئة من القدرات الخارقة التي يدعونها لهؤلاء ، إذ إنهم يرون أنه لا يمكن أن يكون إلّا عن نسبة إلهية عضوية ، نظرا إلى أن أصحاب هذه العقيدة لا يتعقلون امكانية إعطاء الله لهؤلاء بعضا من القدرة التي قد يصنعون بها ما يقومون به من معجزات ، أو ما يعيشونه من أوضاع مميزة. وفي ضوء ذلك نعرف أن التخلّف في فهم الأمور هو المسؤول عن انحراف العقيدة ، وأن الاستغراق في تضخيم الأشخاص من خلال ما يوحيه من تصورات ، ويثيره من انفعالات هو الأساس في عبادة الشخصية ولو بطريقة غير مباشرة ، مما يفرض على العاملين الحذر في إثارة الحديث عن صفات العظماء في تقييم شخصيتهم ، وذلك باعتماد النظرة الموضوعية الهادئة ، بعيدا عن النظرة الانفعالية الحادة.

* * *

بل عباد مكرمون

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ) فإن عظمته في مقام ألوهيته ، تتنزّه عن ذلك ، لأن الولد يعني الحاجة ، ويعني المحدودية ، والجسمية ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإن هؤلاء الذين يدّعون لهم مثل هذه الصفة ، لا يوافقون على ذلك في ما يعرفونه من أنفسهم وقدراتهم التي مهما كبرت وعظمت فإنها لا تخرج عن كونها من خلق الله ، كما أنهم مخلوقون له ، كجزء من مخلوقاته ، فليسوا أولادا له ، (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أكرمهم الله بتقريبهم إليه ، فمنحهم الدرجة العليا ، وأعطاهم الموقع الحسن ، ومنحهم الميزة على بقية المخلوقين ، انطلاقا من حكمته التي تحدد مواقع المخلوقين في الكون ، كما تخطط لحركة الأشياء فيه ، وانسجاما مع روحيتهم العميقة في خضوعهم لله

٢١١

وانقيادهم له ، في آفاق العبودية المطلقة التي يعيشونها فكرا ، ويتحسسونها شعورا ، ويتحركون فيها عملا وطاعة ، فهم (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) حيث يعبّر السبق بالقول عن معنى كنائي عن الاستقلال في الفكر والكلمة والموقف ، الناشئ عن الشعور باستقلال الذات وحرية الموقف والموقع ، فهم لا يرون لأنفسهم ذلك ، بل يلتزمون التبعية المطلقة التي ينتظرون فيها الكلمة الإلهية ليلتزموها ويقولوها ، والخط الإلهي ليتحركوا فيه ، والشريعة الهادية لينفعلوا بها ، (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فلا يتمردون في كلمة ، ولا ينحرفون في خط ، ولا يبتعدون عن هدف ، مما يريده الله لهم ولدورهم في حركة الحياة ، فهم الخاضعون له ، وهو المسيطر على الأمر كله ، والمحيط بسرّهم وعلانيتهم ، في ما يحيطون به ، وما لا يحيطون به ، فهو يعلم منهم ما لا يعلمونه من أنفسهم ، (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) في حاضر الواقع الذي يتحركون فيه ، وفي مستقبله ، فلا يغيب عن علمه شيء منه ، مهما كان دقيقا وخفيا ..

تلك هي مواقعهم التي تتميز بها ملامحهم الشخصية ، فلا يتجاوزون حدود مواقعهم أمام الله من خلال ما يعيشونه في داخل حياتهم الخاصة ، وما يتحركون به من العلاقات في حياة الآخرين ، فلا يتصرفون معهم إلا بما يعلمون أن الله يرضى عنه ، فلا يرون لأنفسهم الحرية في أن تتدخل العوامل الذاتية في ما يريدون أن يتقدموا به إلى الله ، من الشفاعة لبعض الخاطئين ، أو المنحرفين ، لأنهم يعرفون أن الشفاعة ليست حالة ذاتية ينطلق بها المقرّبون إلى الله ، ليستفيدوا من مواقع القرب ، في علاقاتهم الخاصة بالأشخاص ، ليقرّبوهم بعيدا عن الله ، كما يفعل الناس في الدنيا ، ليتقرب الناس إليهم بما يتقربون به إلى المقربين من الملوك والأمراء ، ليشفعوا لهم عنده ، فينفعلون بذلك في ما يتحدثون به إلى رؤسائهم ، في قضايا الامتيازات والشفاعات ، وما إلى ذلك ..

٢١٢

إن المقرّبين من عباد الله المكرمين ، سواء منهم الملائكة أو الأنبياء والأولياء ، لا يعيشون الذاتية في مشاعرهم ، بل يتمثلون في وجدانهم العنصر الروحي ، فهم يعرفون مواقع رضا الله فيتحركون فيها ، ومحال كرامة الله ورحمته ، فينطلقون إليها ، ويعلمون أن الشفاعة كرامة يريد الله أن يكرم بها بعض خلقه فيشفعهم فيمن يريد أن يغفر لهم ويرحمهم ، لأنهم في الموقع الذي يمكن لهم فيه أن يقتربوا من رحمته ومغفرته ، ولذلك فهم يعرفون مواقع الشفاعة فيمن يطلبون من الله أن يشفّعهم فيهم فلا يشفعون للكافرين والمشركين والمنحرفين الذين حاربوا الله ورسوله ، لأنهم ليسوا في المواقع التي يستحقون فيها الرحمة ، ولأنهم لا يشعرون بأية عاطفة تجاههم ، ولا بأية مسئولية عنهم.

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) من خلقه ، في ما يعلمونه من مواقع رضاه ، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) حيث يتمثلون في أنفسهم الإحساس العميق بعبوديتهم لله فيخشون أن يخطئوا في كلمة ، أو حركة ، أو علاقة ، أو عاطفة ، أو موقف ، مما يمكن لله أن يحاسبهم عليه ، فهم في مواقع الحذر في مواقعهم من الله لأنهم لا يريدون لحياتهم أن تنفصل عن مواقع رحمته ورضاه.

* * *

جزاء المحسنين .. والظالمين

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) من الناس الذين يعيشون بعض ملامح الانتفاخ في الشخصية من خلال استغراقهم في ذواتهم ، أو من خلال استغراق الناس في شخصياتهم ، وتضخيمهم لأدوارهم وإمكاناتهم ، مما يجعل الذات تتعاظم في إحساسها الداخلي ، فتنسى عبوديتها لله ، وتعيش مشاعر التأله المرضي في مواقع عقدة الضعف الكامنة في داخل الذات ، إن على هؤلاء

٢١٣

الذين يضعون أنفسهم في هذا الموقع أن يعرفوا جيدا خطورة مثل هذا القول على صعيد مصيرهم في الآخرة ، فإنهم إذا كانوا يعيشون بعض الامتيازات الذاتية والاجتماعية في حياتهم الآن ، فإن ذلك لن ينفعهم شيئا ، وسيزول عنهم بكل مظاهره ، وسيتركهم كل هؤلاء الذين يغرونهم بأنفسهم ، وسيواجهون الموقف وحدهم ، بكل ما يحمل ذلك من مظاهر الضعف وعناصره ، وسيعرفون جيدا ، أن الله قد قال ، بمعنى الإرادة الحاسمة التي لا تنفصل عن المراد ، إن الذي يدّعي الالوهية من دوني (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) التي أعددناها للكافرين والمشركين والمعاندين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان ، وكانوا الظالمين أمام الله عند ما أشركوا به ما لم يأذن به ، (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) في خط العدل الإلهي الذي يريد للظالمين أن يواجهوا الجزاء العادل لما ظلموا به ربهم وأنفسهم ، وظلموا به الحياة من حولهم عند ما انحرفوا بها عن الصراط المستقيم.

* * *

٢١٤

الآيات

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣)

* * *

معاني المفردات

(رَتْقاً) : الرتق : الالتئام والالتحام.

(فَفَتَقْناهُما) : الفتق : ضد الرتق ، أي الفصل والانفصام.

(رَواسِيَ) : الرواسي : الجبال.

(تَمِيدَ) : الميد : الاضطراب.

(فِجاجاً) : الفجّ : الطريق الواسع بين الجبلين.

٢١٥

(فَلَكٍ) : مدار كل من الشمس والقمر والكواكب.

* * *

الله سبحانه يفتق رتق السماوات والأرض

ويبقى التوحيد المطلق ، هو ما تريد السورة أن تعالجه وتؤكده من خلال توجيه الإنسان إلى التفكير في خلق الله ، هذا التفكير الذي يوصله إلى الدليل على وحدانية الله في قدرته وعظمته ، في السماء والأرض ، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، أو بتوحيده في الخلق وفي التدبير ، من خلال ما يشاهدونه في الكون ، ويرونه بعقولهم ، (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي مضمومتين ملتحمتين ، إمّا في اتصال بعضهما ببعض ، بحيث يكون المدلول أنهما كانتا تمثلان جسما واحدا ، أو في داخل كل واحدة منها بحيث تكون مضمومة في أجزائها ، لا يتخللها أية ثغرة ، (فَفَتَقْناهُما) ففصلناهما ، أو فصلنا كل واحدة منهما في أجزائها. وقد اختلف التفصيل التطبيقي للفتق والرتق ، في ما تعنيه الآية ، أو تشير إليه ، فقد ذكر بعض المفسرين كما جاء في تفسير الميزان :

«لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض ، وانفصال أنواع النباتات من الأرض ، والحيوان من الحيوان ، والإنسان من الإنسان ، وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة ، بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصل منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الأثر ولا بارز الحكم ، فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة ، مودعة الذوات في المادة ، رتقا من غير فتق ، حتى فتقت بعد الرتق ، وظهرت بفعلية ذواتها وآثارها.

والسماوات والأرض بأجرامها ، حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها ، وهذه الأجرام العلوية والأرض التي نحن عليها ، وإن لم تسمح لنا أعمارنا على

٢١٦

قصرها ، أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها ، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها ، لكن المادة هي المادة ، وأحكامها هي أحكامها ، والقوانين الجارية فيها لا تختلف ، ولا تتخلّف.

فتكرار انفعال جزئيات المركبات والمواليد من الأرض ، ونظير ذلك في الجو ، يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض ، وكذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء والأرض ، وكانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع. وقد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة ، حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة ، ولكل منها بقاء محدود وعمر مؤجّل وإن اختلفت بالطول والقصر» (١).

وقد توضح هذا المعنى النظرية القائمة وهي أن المجموعات النجمية ، كالمجموعة الشمسية وتوابعها ، ومنها الأرض والقمر ، كانت سديما ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية ، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت. أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو أن الفكرة طريفة ودقيقة ، ولكنها لا تقترب من الحالة الوجدانية التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في تجربته الذاتية ، في ما قد يكون له بعض من العمق ، ولكنه يكون قريبا من الحسّ ، من خلال ما يمكن له أن يلتقي فيه ، عن طريق المشاهدة بالفكرة. هذا بالإضافة إلى أن استنتاج فكرة الرتق والفتق لما كانت عليه السماوات والأرض من التصاق ، من خلال انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٤ ، ص : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٢١٧

وانفصال أنواع النباتات من الأرض ، والحيوان من الحيوان ، والإنسان من الإنسان ، لا يخلو من غموض وخفاء لأن اعتبار المسألة من خصوصيات المادة لا من خصوصيات العناصر الذاتية أو النوعية للأشياء ، غير واضح.

أما النظرية العلمية ، فلا نستطيع إخضاع القرآن لها لأنها لا تمثل الحقيقة الحاسمة. وهناك تفسير آخر مرويّ عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ، في رواية «أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر عليه‌السلام لامتحانه بالسؤال عنه ، فقال له : جعلت فداك ما معنى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) ما هذا الرتق والفتق؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : كانت السماء رتقا لا تنزل القطر ، وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ، ففتق الله السماء بالقطر ، وفتق الأرض بالنبات (١).

وهذا المعنى أقرب من الأول لأن الفتق في الموجودات من الأمور الحادثة الطبيعية من خلال ما يشاهده الإنسان من طريقة انفصال النبات عن الأرض ، أو نزول المطر من السماء ، مما يمكن أن يوحي بأصل الحدوث في المبدأ ، من خلال ملاحظة الحدوث في ما يتمثل فيه الفتق والرتق في حركة الأرض والسماء في مواسم المطر والنبات. هذا مع ملاحظة اقترابه من الفقرة التالية : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) التي هي بمثابة النتيجة للفتق الأرضي والسماوي ، الذي ينزل من خلاله الماء من السماء ، ويتفجر من الأرض ، فيخرج منه النبات.

* * *

دلائل وحدانية الله

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) فقد خلقه الله ليكون عنصرا حيويا في ارتباط الحياة به سواء في ذلك الإنسان والحيوان والنبات وغيرهم مما أثبتته

__________________

(١) البحار ، م : ٢ ، ج : ٤ ، ص : ٢٦١ ، باب : ١ ، رواية : ١٠.

٢١٨

الأبحاث العلمية الحديثة ، سواء في أصل الوجود أو في استمراره.

(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) من خلال ما تثيره هذه الظاهرة من أفكار ومشاعر ، وما تفتحه من آفاق للمعرفة ، في القوة الحكيمة المدبّرة الخالقة للأشياء ، ومما يجعل من الإيمان بالله حالة فكرية ووجدانية يتحرك نحوها الإنسان بفطرته التي تحرك النظر وتوحي بالفكر.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وهي الجبال التي تحفظ توازن الأرض واستقرارها مما قد تختلف طبيعته ، فقد يكون من خلال التوازن بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها ، مما تختلف فيها المواقع في أنحاء الأرض ، وقد يكون بروز الجبال في مكان من الأرض معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر ، وقد يكون هناك أشياء أخرى ، مما يتم به التوازن مما قد يكتشفه العلم بطريقة أو بأخرى.

(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فلم نجعلها ـ أي الجبال ـ مغلقة أمام السائرين السالكين الذين يتحركون فيها ليصلوا ـ من خلالها ـ إلى غاياتهم ، بل جعلنا في داخلها فجوات وثغرات بين حواجزها العالية ، لتكون طرقا وسبلا ، ليهتدوا من خلال ذلك إلى مقاصدهم ، وليهتدوا إلى الإيمان بالله عند ما يدرسون ما في ذلك من دلائل على وجود الله.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وذلك بما يتمثله الناس من صورة السماء بالنسبة إلى الأرض ، في ما يشبه السقف على أساس إعطاء الفكرة من خلال الصورة الظاهرة ، أما صفة الحفظ ، فقد تكون بمعنى الحفظ من استراق السمع ، الذي يذكر القرآن أنهم كانوا يمارسونه في وقت ما ، وقد تكون بمعنى الحفظ من بعض حالات الخلل الذي قد يحدث في بعض أنحاء الكون كالأرض ، من زلازل وبراكين وفيضانات ، مما يوجب انهدام جزء منها ، أو تصدعه ، أو غير ذلك من المعاني (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ).

٢١٩

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لتنطلق الحياة في الأرض في نظام دقيق يمنحها الدفء والحركة والاستقرار ، من خلال ما يمثله الليل والنهار من تنظيم الحياة الإنسانية في حركة المعاش واسترخاء النوم والهدوء وما يمثله الشمس والقمر من حركة كونية في إدارة أوضاع النمو والحياة ، ولكل منهما دائرة محدودة مضبوطة يتحرك فيها نظامه ، من دون أى خلل أو انحراف أو تجاوز للحدود ، في ما قدره الله لهما من أوضاع وحدود ، في أجواء الأرض ، مما يحيط بها أو يطل عليها من أنظمة وظواهر لتمتد بها الحياة في شروطها الضرورية.

* * *

٢٢٠