تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

والمربوبية بينهم. ولكن كيف ينسبانه إليه ، وهو لا يعرفه ولا يعترف به؟ فليتجاهل هذه النسبة ، وليسألهما عن طبيعته ، فلعل المعرفة الحاصلة ، بالجواب ، توحي إليه ببعض الأفكار التي تدفعه إلى موقف إيجابيّ أو سلبيّ في المسألة.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) وكان الخطاب لموسى ، لأنه هو الشخص الأصيل في الموقف في ما تصوره فرعون من دراسة المسألة ، وفي ما هو الواقع. (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) فهو الذي أوجد كل شيء ثم لم يهمله ليتركه ضائعا ، بل منحه الهدى الذي يتدخل في عمق وجوده وتكوينه فينظم له حركة نموه وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. وبهذا كانت ربوبيته للخلق منطلقة من طبيعة الإيجاد الذي يمنح الموجودات الحياة ، ومن الإشراف الدائم والرعاية الكاملة لها في رحلة الوجود مما يوحي بالربوبية الشاملة الكاملة التي لا تغيب عن الوجود في أية لحظة ، كما لا يغيب عنها الوجود في أي وقت لاحتياجها الدائم إلى غناها المطلق. وهكذا قد نجد الهدى قائما في الأشياء بذاتها عبر قوانينها الكونية المودعة فيها ، وقد نجده في العقل الكامن في الإنسان الذي يدبر الوجود بشكل مباشر وبوعي اختياري مباشر.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ربما كان السؤال عن القرون الأولى ، في نطاق السؤال عن أمر المعاد ، الذي هرب إليه فرعون ، بعد أن أعياه مواجهة أمر الربوبية في ما فصله موسى من الحديث عنها بما لا مجال فيه للرد والاعتراض ، فكأنه قال لموسى ، ما حال الأمم والأجيال الماضية الذين لا يرون ما ترى ، وقد ماتوا وانتهوا في عالم الفناء والنسيان ، فكيف يعذبون ، كما تقول ، إن العذاب على ما أدبر وتولى ، وكيف يواجهون المسؤولية ، فكيف يرجعون من جديد لينالوا ما يستحقون ، كما تزعم.

١٢١

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) فكان جوابه ، أن علمها عند الله ، فهو محيط بأشخاصهم وأعمالهم ، فلا يفوته ، منها شيء ، ولا يغيب عنه شيء ، فهو مثبت في كتاب محفوظ واسع شامل ، لدى الله الذي لا يضل عن حقائق الأشياء ولا ينسى ما علمه منها ، لأنها حاضرة لديه حضورا مطلقا ، لا حدود له في كل جوانبها. وهكذا يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكل أمورهم في ما عملوه ، فيحاسبهم على ذلك بشكل دقيق.

ولكن هذا الاحتمال لا يظهر من الآية التي يبدو أنها مسوقة للحديث عن الربوبية وذلك من خلال الاستمرار في هذا الشأن في الآيات التالية المتحدثة عن صفات الله في حركة الخلق في الكون ، في ما يدل على عظمته وتوحيده وليس فيها من حديث المعاد قليل أو كثير ..

* * *

فرعون يثير الأفكار السلبية في مواجهة موسى عليه‌السلام

وهناك احتمال آخر وهو أن السؤال متجه للحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة ليصرف موسى عن التكلم عن أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد ، مما تنكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين ، فكان جواب موسى متعلّقا بإرجاع العلم بها إلى الله ، وأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علّام الغيوب ..

وهناك احتمال آخر ، يقرب من هذا الاحتمال ، ولكنه يتجه اتجاها آخر ، وهو أن فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبية حول

١٢٢

موسى ، لإيجاد جو عاطفي في المجتمع المحيط بموسى يدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى بالضلال ، ويحكم عليهم بالعذاب. فكان إيكال موسى علم هؤلاء في مصيرهم إلى الله الذي يعلم من جزئيات أعمالهم ما لا نعلمه ، مما أحاط به ولم نحط ، لونا من ألوان الخروج من أجواء الجدل الضائع الذي لا يؤدي إلى نتيجة ويدخل الحديث في متاهات انفعالية لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعية ..

وهذا أسلوب حكيم يحتاج الإنسان الداعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعية أو السياسية الانفعالية العاطفية التي يتحرك الناس فيها بعيدا عن أية حالة عقلية ، مما يخلق الكثير من الإرباك العملي في مجال الدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيله. فيحاول الداعية الهروب من ذلك بتوجيه المسألة إلى اتجاه لا يثير الكثير من الجدل بإيكال الأمر إلى الله في الأمور التي أحاط بها علمه ، والله العالم بحقائق آياته.

* * *

الله يحث عقل الإنسان على التفكر

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) تستطيعون العيش فيه في ما مهده لكم من قرار وثبات وراحة ، (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تمكن لكم التنقل في أرجائها ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو ماء الأمطار الذي يتحول إلى بحيرات جوفية في أعماق الأرض ، فتتفجر منه الينابيع والأنهار ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في ما أعطى الأرض من خصب وحيوية وقدرة على تحويل التراب إلى عناصر تتكون فيها البذور التي تنمو فيها الخضرة والثمار والفواكه المتنوعة ، ففي أشكالها وخصائصها وطعمها وريحها مصدر غذاء للإنسان وللحيوان ، لتستمر

١٢٣

الحياة التي تحتاج إلى قوته ، (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) لتكون الفائدة مزدوجة في ما تتغذون به ، وفي ما تتغذى منه أنعامكم التي جعلها الله لكم غذاء ومركبا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) الذين يملكون العقول الراجحة ويستخدمونها وسيلة للتفكر في القضايا العقيدية المتصلة بخالق الكون والحياة ، التي يستدل عليها من دقة النظام ، وعظمة الخلق ، ووحدة القوانين الكونية.

وهذا هو الخط القرآني في مسألة العقيدة ، حيث يؤكد على المسألة العقلية في حياة الإنسان ، فهو يحث العقل على التفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة ، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينية ، لا الانفعال العاطفي. وبذلك تتلخّص المعادلة القرآنية ، في أن الإنسان كلما ازداد عقلا ، كلما انفتح على الإيمان من الباب الواسع ، وكلما ضعف إدراكه العقلي ، وزاد انفعاله ، كلما ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه ، خلافا للفكرة الشائعة التي يرددها الماديون ، وهي أن المجتمع المتخلّف هو الذي يلتزم الطريقة الدينية في الفكر والحياة ، بينما يلتزم المجتمع المتحضر المثقّف جانب الطريقة المادية. فإن القرآن يؤكد في أسلوب المعرفة على عنصر الوجدان الذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة ، وعلى عنصر العقل الذي يؤكد صفاء الفكر وعمق التأمّل في التفاصيل ، لأن القضية ليست قضية أي فكر ذي طابع ديني ، بل هي قضية الفكر الذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتفاصيل ، بالطريقة التي تبتعد عن السطحية والخرافة.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) فمن تراب الأرض كانت البداية ، (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) وإلى تراب الأرض ستعودون بعد الموت ، (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) عند ما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث. وهكذا ترون أنكم جزء من هذه الأرض التي خلقها الله ونظمها وأدارها ، وأودع فيها قوانينه ، وأنكم خاضعون لكل قوانين الحياة والموت فيها. كما أنكم تتحركون في ذلك كله ، وفي ما بعد ذلك ،

١٢٤

بإرادة الله فكيف تجحدونه ، وكيف تتمردون عليه ، وكيف تواجهون الحياة بعيدا عنه؟

* * *

فرعون يأبى الحقّ

.. وهكذا كان جواب موسى حاسما في تجسيد عظمة الله في أفكار فرعون وقومه بالتفكير الهادىء ، والعرض الموضوعي ، والاستعداد للامتداد بالحوار في جو تتحرك فيه المعجزة بطريقة أو بأخرى ، مما جعل فرعون يشعر بالرهبة في هذه القوة الجديدة التي تواجهه ، (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) في ما قدمه إليه موسى من آيات الله التي تدل على صدقه في نبوته ، (فَكَذَّبَ وَأَبى) كأمثاله من الطغاة الذين يعتبرون امتيازاتهم فوق كل منطق ، وفوق كل حقيقة ، ولهذا فإنهم لا يوافقون على الدخول في حوار حول قناعاتهم وأوضاعهم ، لأنهم لا يريدون تغييرها ، إذ قد يفقدون معها مكاسبهم الذاتية ومواقعهم الطغيانية. ومن هنا فإنهم يمتنعون عن القبول بالطروحات الفكرية المضادة ، بل يبادرون إلى رفضها من غير تبرير ، ويحاولون إثارة الشكوك حولها وحول الدعاة الذين يقدمونها ويدعون إليها. وهكذا فعل فرعون في مواجهته لموسى عليه‌السلام في أسلوب من أساليب الإثارة لمن حوله ، ليقفوا في وجه موسى بطريقة عدوانية على أساس الدفاع عن وجودهم في أرضهم التي يخيل إليهم أن موسى يريد اقتلاعهم منها ، وإبعادهم عنها بسحره.

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) وهذا هو الأسلوب الذي يستهدف إبعاد المسألة عن نطاقها الفكري الإيماني الذي يريد أن يحرك العقول نحو اكتشاف الحقيقة بالدخول في حوار حولها ، ليضعها في نطاق السحر الذي كان مألوفا عندهم في ما كان يستعمله السحرة من الأعيب وأوضاع يسحرون بها أعين الناس ، مما لا يرقى في نفوس الناس إلى مستوى القداسة ، بل

١٢٥

يعتبرونها جزءا من امتيازات النظام الذي يعمل على إلحاق السحرة بخدمته ، في ما يمنحهم من أموال ومواقع بشرط أن يتحركوا في مواقعه ، ويتبنوا مواقفه ...

ثم نراه يعمل على أساس إثارة الناس على موسى عليه‌السلام ، كما يفعل الكثير من الإعلاميين اليوم في مواجهة الدعاة إلى الله ، والعاملين في سبيله ، لإثارة المجتمع عليهم ببعض الشعارات المضادة التي تثير عدوانية الناس ضدهم بحجة درء الأضرار التي تلحق بهم.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) فإن السحر لا يقابله إلا سحر مثله ، وستجد هناك من هو الأقوى ، (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) في زمان معين ، (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) بل نلتزم به ، (مَكاناً سُوىً) أي مكانا وسطا في الساحة المشتركة.

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وهو من أعيادهم التي كانوا يجتمعون فيها ويتزينون بها ، (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) فيجتمعون هناك في وقت الضحى ليعرفوا كيف يكون التحدي الرسالي المستند إلى قوة الله ، في مواجهة التحدي الفرعوني المستند إلى تهاويل الشيطان.

* * *

١٢٦

الآيات

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا

١٢٧

يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩)

* * *

معاني المفردات

(فَجَمَعَ كَيْدَهُ) : المراد بكيده هنا : أصحاب كيده ، وهم السحرة.

(فَيُسْحِتَكُمْ) : يستأصلكم ويهلككم.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوى) : تناجوا سرا.

(بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) : الطريقة المثلى : السّنّة.

(اسْتَعْلى) : غلب.

(فَأَوْجَسَ) : أوجس : أحس واستمر ، والوجس : الصوت الخفي.

(تَلْقَفْ) : لقف الشيء وتلقفه : أخذه بسرعة.

(لَكَبِيرُكُمُ) : رئيسكم ، معلمكم.

(مِنْ خِلافٍ) : أي أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس بالعكس.

(نُؤْثِرَكَ) : الإيثار : الاختيار.

١٢٨

(تَزَكَّى) : تطهر من دنس الذنوب.

(دَرَكاً) : الدرك : اللحوق.

(فَغَشِيَهُمْ) : غطّاهم ، أي أن الماء قد غمرهم.

* * *

السحر يتحدى النبوة .. فيسقط أمامها

وهكذا انصرف فرعون لتهيئة السحرة الذين سيواجهون موسى بالتحدّي ، في مشهد عظيم ، يشهد الناس فيها هزيمة موسى فيقضي فرعون على أي أمل لدعوته إلى الإيمان بالله ، والكفر بكل الآلهة المزيفين من الطغاة الجبابرة ، أمثاله ، ويستقيم لفرعون بذلك عرشه وملكه وجبروته من دون خوف من أية حالة اهتزاز من أي فريق كان.

(فَجَمَعَ كَيْدَهُ) بما يتجسّد الكيد من رجال السحر الذين أعدهم للتأثير على المجتمع ، في عرض مهيب للقوة التي يملكها أمام شعبه المسحور بسحرة فرعون الأسطوري الذي لا يستطيع أحد حماية نفسه منه إلا بإرادة السحرة المالكين له. وهكذا كان يكيد للناس من خلالهم ، فهم أدوات كيده وحيله وخدعه أمام الآخرين من شعبه أو من أقرانه ، أو أعدائه ، وأعدهم إعدادا هائلا ، ثم حشد الناس لذلك ، ثم استكمل كل استعداداته للحدث العظيم ، (ثُمَّ أَتى) وواجه موسى من جديد ، فوقف مع السحرة في موقع ، ثم وقف موسى في موقع آخر.

وبدأت المواجهة .. وبدأ التحدّي .. ولكن موسى لم يبغ استعراض القوة من وراء هذا التحدي بهدف إيقاع الهزيمة بالسحرة كمنافسين ، لحساب

١٢٩

الزهو الذاتي بعيدا عن مسألة الرسالة الهادية التي تعمل من أجل التوعية على الإيمان ، لا القهر والغلبة. ولذلك وقف وقفة الرسول الذي ينذر هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أدوات إضلال للناس لخدمة الطاغية الجبار ، من دون أن يحسبوا حساب النتائج السلبية المستوجبة عذاب الله في الدنيا والآخرة. ولهذا كانت خطة موسى أن يثير الخوف من عذاب الله في أفكارهم ومشاعرهم ، (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) في ما تعتقدونه من عقائد باطلة ، وفي ما تنسبونه إلى مخلوقاته من قوى خفية غامضة ، وتتوسلون به من وسائل مزيفة خادعة ، وتتمسكون به من شرائع باطلة كاذبة ، (فَيُسْحِتَكُمْ) أي يستأصلكم ويهلكهم ، (بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) لأنه لن ينال الفلاح في الدنيا والآخرة.

* * *

التنازع فيما بين أعوان فرعون

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) بما أثاره موسى في مشاعرهم وأفكارهم من الخوف والقلق والحيرة ، لأنهم شعروا أن هذا الرجل ليس ساحرا لأن لغة السحرة ليست لغة فكر وهدى وإيمان ، بل هي لغة استعراض للقوة ، واستهانة بالآخرين ، وشعور بالاستعلاء. ولهذا فقد دبّ فيهم الخوف من صدق هذا الرجل ، ومن قوته الروحية الخفية التي لا تتحرك من حالة استعراض ذاتي ، وبدأ الخلاف بينهم ، ولكن قوما منهم ، أو من خارجهم ، حاولوا أن يصرفوا المسألة عن الموقع الحقيقي للنزاع والخلاف ، وهو الإيمان بالله وحده ، والكفر بكل الآلهة المزيفة المدّعاة ، ليثيروا الجانب القومي أو الإقليمي الذي يربط الناس بالفئة الحاكمة من خلال الإيحاء بأنها هي التي تحمي للناس أرضهم ووجودهم فيها ، أمام الجهات التي تريد أن تلغي وجودهم في أرضهم وتصادر حريتهم.

١٣٠

وهكذا دبروا الفكرة بطريقة خفية ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) وأخفوها وطرحوا الشعار المثير الذي يستهوي القلب ، ويلهب المشاعر ، (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) لا يملكان أية صفة للرسالة أو للنبوة ، ولكنهما يتظاهران بذلك ليسيطرا على الناس بطريقة الإيحاء بقداسة موقعهما ليحققا أهدافهما العدوانية ، فإنهما (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) ليكون لهما ولشعبهما السيطرة على الأرض كلها ، (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ويغيّرا كل أوضاعكم التي درجتم عليها مئات السنين ، فأصبحت جزءا من شخصيتكم القومية وحققت لكم الغلبة على من حولكم ، وحصلت لكم ، بها ، الامتيازات في الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، فما ذا تنتظرون منهما؟ هل تنتظرون منهما أن يحققا ما يريدان فتندموا على ذلك من حيث لا ينفعكم الندم ، (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) بما تملكونه من حيلة سحرية ، وبكل وسائلكم وإمكاناتكم ، (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) واحدا لا مجال فيه للاختلاف ولا للتنازع ، لتكونوا قوة قاهرة ساحقة في مواجهة هذين ، (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) فوقف في موقف التحدي ، ونجح فيه ، وحصل على الموقف الأعلى في ساحة الصراع. ونجحت الخطة في إبعاد الموقف عن مواقع الفكر والحوار ، إلى موقف المجابهة والتحدّي ، ولكن إلى حين.

* * *

السحرة يلقون حبالهم وعصيهم

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) إن الساحة جاهزة للتحدي ، فهل تحب أن تكون البادئ بإلقاء عصاك لنرى ماذا تفعل ، أو ترغب أن نلقي حبالنا وعصينا لترى عظمة السحر الذي نملكه ، وقوة الموقع الذي نقف فيه ، (قالَ بَلْ أَلْقُوا) لأن الخطة الإلهية هي أن يستنفدوا كل جهدهم لتكون النتيجة لموسى ، في التحدي الكبير. فألقوا حبالهم وعصيهم (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) واستعملوا كل فنون السحر التي يتقنونها من أجل الإيحاء

١٣١

بالرهبة التي تزلزل قلب موسى وروحه ، وتهزم موقفه. وكانوا يملكون الفن العظيم الذي يسحر العيون ويخلب الألباب حتى كاد موسى أن يتأثّر بها كبشري ، طاف به خيال الإنسان الذي يتأثر بسرعة بما يحيط به ، (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) حين راوده الضعف البشري خاصة وأن موسى لم يطلع على التدبير الإلهي بكافة تفاصيله وجزئياته فتسرب إلى نفسه الخوف. ولذا فإنه كان ينتظر نداء الله وتعليماته حتى يطمئن قلبه للفوز.

* * *

الله يطمئن نبيه

(قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) لأن موقفك هو موقف الحق الذي يستمد مصداقيته وقوته من الله سبحانه خالق كل شيء ومصدر القوة لكل قوي ، فلا قوة إلّا منه ، وهو الأعلى في كل موقع.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) فتتحول إلى حية عظيمة تأكل كل هذه الحبال والعصي التي تشبه الحيات الوهمية والتي لا حقيقة لها ، (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) بما تعنيه الحيلة من سرعة الحركة ، واللعب على العيون ، وتغيير الشكل بطريقة فنية ساحرة ، (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) لأن ما يقوم به السحر ليس إلا مجموعة حيل وخدع يسحر بها عيون الناس وعقولهم وهو يعلم ذلك تماما. وهذا يجعل مواقعه سريعة الاهتزاز والسقوط في ما يمثله الباطل من الاهتزاز على أكثر من صعيد.

وألقى موسى ما في يده فإذا هي حية تسعى تتحرك باتجاه ما صنعوا ، فأكلت كل الحبال والعصي ، فلم يبق منها شيء .. وحدقت عيون السحرة بها ، ثم بدأوا يمسحون عيونهم .. هل هناك غشاوة عليها؟ أو أن ما يرونه حقيقة؟ إن هذا ليس سحرا ، فهم يعرفون جيدا فنون السحر في ما يعلمونه منه أو

١٣٢

يعلّمونه للناس. وبدأوا يستذكرون كلامه عن الله وعن الإيمان به ، وعما ينتظره المفترون عليه من العذاب ، وبدأت عملية المقارنة بين ما سمعوه منه في البداية ، وما رأوه الآن ، فآمنوا بأن هذا الرجل رسول من الله وليس ساحرا مثلهم ، وتعاظم شعورهم بالإيمان ، وبالمستقبل وبالمصير ، وأعلنوا الموقف بشكل مفاجئ سريع.

* * *

سجود السحرة وإيمانهم

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أمام هذه الآية الواضحة العظيمة الدالة على أنها من عند الله ، لا من البشر ، (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) وكفرنا بفرعون وبما يأمرنا به من عبادة غير الله.

وفوجئ الطاغية الجبار ، وأسقط في يديه ، فقد أراد أن يسخر من موسى بإظهار ضعفه أمام قوة السحرة ، ليدفع الناس بعيدا عنه من خلال ذلك. لقد أراد أن يربح الشوط على موسى في ساحة المعركة ، فإذا بموسى يربح المعركة كلها عليه ، وها هو يفقد قوته أمام الشعب كله ، ويخشى أن يفقد موقعه الألوهي أو الملكي على الأقل ، فيتحرر العبيد من هذا الشعب ، ويتجرأ السادة الأحرار عليه.

ولهذا أراد أن يقوم بعملية استعراض للسلطنة أمام هؤلاء السحرة الذين أعلنوا إيمانهم قبل أن يستأذنوه ، فهو كان يعتقد أن كل شيء لا بد أن يمر بساحته وأن يحظى بموافقته ، لأنه يملك الفكر والإنسان والحياة ، فلا بد أن يمنح الإذن الرسمي للمؤمنين ليكون إيمانهم شرعيا قانونيا ، وإلا فقد صفته الشرعية ، واستحق على ذلك العقاب الأليم!

* * *

١٣٣

السحرة المؤمنون أمام تهديدات فرعون

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) فكيف فعلتم ذلك ، إنها الجرأة على الإله السيد العظيم الذي لا يجوز لأحد مهما كانت رتبته أن يقوم بأي عمل ، أو يعلن أي موقف يتعلق بنفسه أو بالآخرين ، إلا بعد أن يحصل على موافقته ، فهو الذي يحدد لهم ما يصلحهم ، وما يفسد حياتهم ، لأنه الذي يعرف من ذلك ما لا يعرفون من أمور الحياة. ثم حاول أن يغطي فشله وضعفه ، ويمنع تأثر الناس بموقف السحرة الإيماني أمام موسى عليه‌السلام ، فحاول أن يهرب من المسألة بتصويرها بصورة الحالة التآمرية الخفية الحاصلة بين موسى وبين السحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية ، للإيقاع بفرعون ، وإضعاف ملكه ، وإخراج أهل مصر من مصرهم. و (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وبذلك كان دوركم دور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم في ما يأمرهم به ، وينهاهم عنه ، وفي ما يوجههم إليه. وهكذا أوحى أن دورهم كان امتدادا لدوره.

وبذلك حاول أن يستوعب مشاعر الجماهير لمصلحته ، تماما كالكثيرين من الطغاة الذين يحاولون أن يدرسوا مع الأجهزة الإعلامية الفنية ما هي أفضل الواجهات التي يثيرونها أمام الفئات المعارضة التي تهدد سياستهم وحكمهم ، ليلصقوا بهم مختلف التهم التي تحاصرهم في الساحة الجماهيرية لتخفف من تأثيرهم على الآخرين. وبذلك ينجحون في عزلهم عن الأمة مستغلين عجزها عن فهم ألاعيبهم وأسرارهم ، وهذا ما يجعلنا نستوحي من هذا الأسلوب الفرعوني كيف نواجه أسلوب الكثيرين من الفراعين المعاصرين والمستقبلين في ما يضللون به شعوبهم تجاه التحديات التي توجه إليهم من المصلحين الرساليين.

١٣٤

ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب ، في محاولة فرعونية لدفعهم إلى التراجع عن موقفهم ، والابتعاد عن موسى ، ليضمن بذلك الحصول على بعض ما فقده من القوة المعنوية أمام الجماهير.

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أنا أو موسى ، لتعرفوا من هو الأقوى ، ومن هو الأبقى. وستندمون لأن موسى عليه‌السلام لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها ، فلن تحصلوا منه على شيء ، بينما أملك كل شيء من حولي وكل مواقع القوة والنفوذ ، فأعطى من أشاء وأمنع من أشاء ، وأقتل من أريد ، وأعفوا عمن أريد ..

ولكن القوم قد دخلوا في عالم آخر .. فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به ، وقد انفتحوا من خلاله على عالم القدس والطهارة ، وعاشوا مع عالم الغيب المطلق الذي لا تحده أية حدود. ولم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء في غناها وفقرها ، ورفعتها وضعتها ، وقوتها وضعفها ، بل أصبحت الآخرة أكبر همهم وأفضل طموحاتهم ، ولذلك كانت مواجهتهم له من موقع القوة الكبيرة المتحدية في روحيتهم الهادئة الصافية المطمئنة.

* * *

السحرة يواجهون فرعون بقوة الإيمان

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) الواضحة التي تؤكد لنا الحقيقة من دون شك أو شبهة ، فكيف نتنكر لها ، ونتركها من دون أساس؟ وماذا تمثل أنت لنا أمام حقيقة الإيمان؟ وماذا تمثل طريقتك في الحياة؟ ما هي قيمك؟ وما هي شريعتك؟ وما هي مفاهيمك؟ هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان وشرائعه

١٣٥

ومفاهيمه؟ إن الحقيقة تفرض نفسها علينا وهي ان شريعة الله هي الشريعة الحقّة ، وأن شريعة البشر هي شريعة الباطل ، ولن نؤثر الباطل على الحق ، مهما كانت الإغراءات ، ومهما كانت التهديدات ، ولن نؤثرك على الله رّبنا (وَالَّذِي فَطَرَنا) وخلقنا وأوجدنا ، وما زال يرعى حياتنا بنعمه ولطفه ورحمته .. ، فمن أنت أمام الله؟ وما حجمك وما قيمتك؟ وما هي قوتك؟ وما دورك بالنسبة إلينا وإلى بقية الناس ، ليكون لك علينا وعلى الناس حق الطاعة؟ من أنت؟ إنك مجرد مخلوق ضعيف لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرّا ولا حياة ولا موتا إلا بالله. وما قدرتك؟ ومن أين لك كل هذه الإمكانات والوسائل؟ إنها من الله. فقد أعطاك إياها لحكمة ، وسيسلبك إياها في أي وقت. فما ذا تريد وماذا تستطيع أن تفعل؟ إنك قد تملك السيطرة الغاشمة على أجسادنا ، ولكنك لن تملك السلطة على أفكارنا وأرواحنا ومشاعرنا التي ترفضك وترفض كل طريقتك وكل الواقع المنحرف الكافر الذي تتحرك فيه وتتحكم به ، (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) هل تريد أن تقتلنا ، هل عندك أكثر من التمثيل والصلب والقتل؟ إننا لن نخسر الكثير ، إنها حياتنا الدنيا نفقدها ، ونفقد شهواتها ومنافعها وملذاتها ، ونخسرها ، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة ، فهناك الدار الآخرة التي تنتظر المؤمنين ، لهم فيها رحمة الله في ما أعد لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) التي أسلفناها في ماضي حياتنا في ممارستنا الذاتية تجاه أنفسنا ، وفي معاونتنا لك في تضليل الناس وحرفهم عن صراط الحق ، وها نحن نتوب إليه من موقع الإيمان به والالتزام بخطه المستقيم في الحياة ، ليغفر لنا ذلك كله ، (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) الذي كان أداة من أدوات الخداع والحيلة والضلال ، واستعراض القوة لمصلحتك. ولكننا كنا مستكرهين في ما فرضته علينا من سلطة ، وأغرقتنا فيه من ضلال ، وحددته لنا من دور ، وهددتنا به من قوة غاشمة ، وأغريتنا به من مال وجاه

١٣٦

وسلطة ... وها نحن نضرع إلى الله أن يغفر لنا واقعنا المنحرف كله ، وستزول أنت ، وسيزول ملكك إن عاجلا أو آجلا. وسيزول كل هؤلاء الذين من حولك ، ممن يزينون لك الباطل ويشوهون لك الحق ، ويساعدونك في ظلم الناس ، ويمنعونك عن العدل ، ويبقى الله .. ، ويبقى ملكه .. ، (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) للإنسان في الدنيا والآخرة ، لأنه الرب العظيم الذي يرحم خلقه ويرعاهم ، ويهيّئ لهم سعادة الدنيا والآخرة إذا أطاعوه وعملوا بما يحب.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) عاصيا منحرفا من دون أن يتوب إلى الله من ذنوبه ، أو يصحح طريقه ، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) لأنه لن يذوق فيها لذة الحياة ، ولن يستريح فيها في هدأة الموت وراحته ، بل يظل في عذاب متحرك بين الموت والحياة ، جزاء على تمرده على الله وانحرافه عنه من دون حجة ولا هدى.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) فكان إيمانه متحركا في مواقع الفكر والروح والشعور ، ومتجسدا في حركة الواقع العملي في حياته وحياة الناس من حوله ، بما يصلح أمره وأمرهم ، ويرفع مستوى حياته وحياتهم ، طاعة لله ، وطلبا لرضاه ، (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) التي أعدّها الله لعباده المؤمنين الصالحين ، تبعا لدرجاتهم في الايمان والتقوى والالتزام ، فكل درجة في الآخرة تقابل درجة في الإيمان في الدنيا ، (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) وطهر فكره وروحه من كل أرجاس الباطل والشهوات والمطامع والضلال ، وذلك هو الفوز العظيم.

وهكذا استطاع هؤلاء أن يقفوا الموقف الذي يؤكدون من خلاله إيمانهم وتمردهم على كل التهديدات القاسية التي وجهها إليهم فرعون ، لأنهم ارتفعوا بإيمانهم بالله ، وانفتاحهم على عالم الغيب ، عن كل مواقع الخوف ونقاط الضعف ، وانطلقوا مع قوة الله التي لا قوة فوقها أو معها .. إلا من خلالها ..

* * *

١٣٧

دروس للمجاهدين

وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه القرآن للمجاهدين الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم ، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب ، ليتنازلوا عن مواقفهم ، وليتركوا مواقعهم ، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة ، فيتعلمون من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون من مال وسطوة وجاه ، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر ، والهدى على الضلال ، والتزموا بالله وتركوا فرعون. فلم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء ، أمام الآخرة التي تمثل لهم كل شيء.

* * *

انتصار موسى عليه‌السلام وهلاك فرعون

استطاع موسى أن يؤكد مواقع القوة في حركة رسالته بحيث ترك تأثيره على قومه ، فعاشوا لأول مرة ، إرادة الحرية ونعمتها بعد ان كانوا يخافون من مجرد التفكير فيها ولو في سرهم. وبدأت عملية المواجهة على الأرض بين موسى وفرعون.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) إلى أرض الحرية الجديدة بعيدا عن سطوة فرعون ، فإذا لم تستطع أن تحصل على الإذن منه بأن يرسل معك بني إسرائيل ، فتقدم لتتسلم زمام المبادرة من دون حاجة إلى إذنه ، لأنك لم تعد بحاجة إليه بعد أن أصبحت في موقف القوة ، وأصبح هو ، في موقف الضعف. وستجد أمامك معجزة جديدة ، فستدخل البحر من دون أن يكون هناك جسر

١٣٨

تقطعه ، ولا سفينة تقلّك وقومك ، وسيحوّل الله البحر إلى أرض يابسة حتى تنتهي إلى الشاطئ الآخر ، فأسر بقومك ، (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) فإذا ضربت البحر بعصاك فسينشق الماء أمامك ، وتبدو الأرض بشكل مفاجئ معجز ، (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) لأنك تسير بأمان الله ، فلا تخاف نقصا ولا تخشى ملاحقة ومضايقة من فرعون وقومه.

وسار موسى بقومه ، وانفتح لهم الطريق في البحر ، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) وقد هالهم ما استطاع موسى أن يبلغه بتنفيذ خطته من دون رضاهم ، وساروا خلفهم ، وقد رأوا البحر مفتوحا أمامهم ، حتى إذا استكملوا عددهم ولم يبق منهم أحد في الشاطئ ، جاءهم الموج من كل مكان ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) من الماء ، وماتوا جميعا غرقا ، ولم يستفد أحد منهم في ما عاشه من كفر وطغيان ، (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) وضيّع عليهم الدنيا والآخرة ، (وَما هَدى) لأنه استغلّ حياتهم لذاته ، فلم يهدهم سواء السبيل.

* * *

١٣٩

الآيات

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)

١٤٠