تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

البداية التي تحدد له خط السير ، لتلمس ملامح خط النهاية ، تماما ، كما هو المفهوم من الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠].

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) وهذا هو الوحي الثاني الذي يضع المسألة في دائرة المسؤولية ، من خلال الموعد الذي حدده الله ، والنتائج التي تنتظر الإنسان هناك ، وهو يوم القيامة الذي يعبّر عنه بالساعة التي لم يبينها الله للإنسان ، (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) في ما تقدمه من أعمال الخير التي تنال بها رضا الله ، وأعمال الشر التي تستنزل عقابه.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) ممن يعيش العمر في الدنيا باعتبارها نهاية المطاف ، أو الفرصة الأولى والأخيرة ، فيعمل على ممارسة الضغوط الفكرية والنفسية والعملية ، للوقوف في وجه الالتزام الفكري والعملي بالخط الإيماني الذي يطل على الدار الآخرة في عملية اقتناع وإيمان ، والحؤول دون الوصول به إلى نتيجة حاسمة في حركة الإنسان والحياة. إن مثل هذا النموذج من الناس لا يمثل قيمة كبيرة في ميزان التقييم الاجتماعي على مستوى الحق والواقع ، لأن عدم الإيمان ليس ناشئا من حالة فكرية مضادة ، بل هو ناشئ من حالة مزاجية معقّدة ، وقلق ذهني ساذج ، ونزعة شهوانية منحرفة. فقد ركب رأسه (وَاتَّبَعَ هَواهُ) فكان مقياسه للرفض وللقبول في مواقفه ، ما يقوده إليه هوى النفس بعيدا عن العقل ، فلا تستسلم لأساليبه ، (فَتَرْدى) لأنه يصل بك إلى الهلاك المحتوم في قضية المصير.

وها هي المفاجأة الثانية التي تعطيه الدليل على أن الرسالة تنتظره في مواقع التحديات،. وأن الله لن يتركه وحده ، بل سيؤيده ويدعمه بقوة عجيبة لا يثبت أمامها أي شيء. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ولم يكن السؤال استفهاما لمعرفة الحقيقة الكامنة في صعيد الواقع ، لأن المسألة ليست غامضة

١٠١

بالمستوى الذي تحتاج المعرفة فيها إلى سؤال ، بل هي على العكس من ذلك ، واضحة من دون شبهة ، لأنها تمثل الصورة الحسية البارزة للعيان ، مع ملاحظة طبيعية وهي أن السائل هو الله الذي يعلم كل شيء ولكن السؤال كان من أجل أن يكون جسرا يتحرك فيه الحديث الذي يؤدي إلى الحوار.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) عند ما يثقلني الجهد ، ويضعفني التعب ، (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي ، أجعلها وسيلة لإطعامها ، من خلال خبط ورق الشجر وضربه بالعصا ليتساقط على الغنم فيأكله ، (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) مثل الدفاع بها عن النفس أو عن الآخرين الذين تتصل مسئوليتي بحياتهم العامة والخاصة أو غير ذلك ..

* * *

اكتشاف المعجزة

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى) لتكتشف في ذلك شيئا جديدا لم تكن تتصوره ، (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) وكانت هذه أول دلالة لموسى عليه‌السلام على أن هناك حدثا يتجاوز المألوف قد دخل حياته. فكيف حدث كل هذا التطور في لحظات ، وكيف تحولت العصا الجامدة اليابسة إلى حياة تتحرك في صورة أفعى؟ وبدأ الخوف الغريزي يدب إلى قلبه من هذه الأفعى التي قد تؤذيه أو تهجم عليه ، (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) فلن تؤذيك لأن المسألة ليست مسألة حية يراد لها أن تعيش في الأرض كبقية الحيات ، ولكن أريد لها أن تؤدي دورا سريعا ، لتحقق انطباعا معينا ، ولتواجه تحديا ضاغطا ، (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) لترجع ، كما كانت ، مجرد عصا جامدة تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك وتمارس فيها مآربك الأخرى. وكانت هذه هي العلامة الأولى.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي تحت إبطك ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) في نقاء

١٠٢

البياض وإشراقه ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير مرض أو عاهة كالبرص ونحوه ، (آيَةً أُخْرى) وهذه هي العلامة الثانية التي تدل على الرسالة التي أو كل الله إلى موسى عليه‌السلام التحرك في مواقعها.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) التي ستكون التحدي الكبير لما قد تصادفه من ضغط وإنكار وجحود وتمرّد .. ، لتنطلق إلى المهمة الصعبة بقلب قوي ثابت ، لا تهزه كل التهاويل المحيطة به ، الضاغطة عليه.

* * *

١٠٣

الآيات

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١)

* * *

معاني المفردات

(اشْرَحْ لِي صَدْرِي) : شرح الصدر : توسيعه.

١٠٤

(وَاحْلُلْ) : الحل : ضد العقد.

(عُقْدَةً) : العقدة : جملة مجتمعة يصعب تفكيكها.

(يَفْقَهُوا) : يفهموا.

(أَزْرِي) : الأزر : الظهر.

(بَصِيراً) : عالما.

(سُؤْلَكَ) : مطلوبك.

(مَنَنَّا) : أنعمنا.

(أَوْحَيْنا) : ألهمنا.

(فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) : اطرحيه في البحر.

(وَفَتَنَّاكَ) : ابتليناك واختبرناك.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) : جعلتك موضع صنيعتي وإحساني.

* * *

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ)

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) في نظرته إلى نفسه ، فرأى نفسه إلها أو شبه إله ؛ وفي نظرته إلى الناس ، فرآهم عبيدا له أو أقل من العبيد ؛ وفي نظرته إلى الله سبحانه فأنكره وتمرّد عليه واستخفّ بالعقيدة التي ترتبط به وتشير إليه.

ولكن موسى يشعر بثقل المهمة الملقاة على عاتقه ، وضخامة المسؤولية في ما تمثله من التحدّي المضاد في عملية الصراع التي يخوضها في مسيرة

١٠٥

الرسالة ، لا سيما وأن الشخص المعنى بالمسألة الرسالية هو فرعون الطاغية الذي كان يستعبد المجتمع كله من حوله ، وكان المجتمع يخضع له في ذلك ، ولا يفكر أن يثور في وجهه. وجاءت رسالته تستهدف تغيير المفاهيم العقيدية والقانونية والأخلاقية بالطريقة التي تختلف فيها اختلافا كليا مع مفاهيم العامة والخاصة من الناس ، فكيف يمكن أن يقوم بالعبء وحده؟ (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) وافتحه على كل القضايا التي تواجهه في الدعوة وفي ساحة الصراع ، واجعلني أواجه الموقف برحابة الصدر ، وسعة الخلق ، ومرونة الفهم ، وانفتاح الوعي ... ، فلا أضيق بأيّة مشكلة وأيّ موقف ، ولا أتعقد من أيّ شخص في ما يثيره من إرباك وتعقيد ، (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) في كل مواطن العسر لأستطيع أن أقوم بهذه الرسالة من دون صعوبة تذكر.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي) فقد كان يعيش حبسا في لسانه بحيث يمنعه من الطلاقة التي تفصح الكلمة بحيث يفهم الناس ما يريد أن يقوله ، لأن الرسالة تتصل بطريقته في التعبير عنها.

وتلك هي مشكلته التي أراد العون من الله على تجاوزها وتسهيل صعوباتها ، في ما يريد أن يمارسه من جهد ذاتي ، (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) لأن المهمة تحتاج إلى جهد آخر يشترك مع جهده في الدعوة والحركة والانطلاق ، ليعاون أحدهما الآخر في ما يمكن أن يواجههما من مشاكل وقضايا وصعوبات ، خصوصا في جانب الدعوة التي تتطلب طبيعة خاصة للكلمة والمنهج والأسلوب ، حيث يتمتع هارون بمميزات جيدة لأن لسانه أفصح من لسان موسى ، كما جاء في سورة أخرى ، وتلك هي الروح المتواضعة الجادة التي تدرس حجم المسؤولية ، وحجم إمكاناتها ، فإذا رأت بعضا من الخلل الذي قد يصيب المسؤولية أمام ضعف الإمكانات ، فإنها لا تتعقد ولا تهرب من الواقع ، لتلجأ إلى الذات في عملية استغراق في الإيحاء بالقدرة الشاملة غير الموجودة لينعكس ذلك سلبا على حركة الموقف العملي ،

١٠٦

بل تعمل على أن تستكمل القوة من جانب آخر ، لمصلحة العمل المسؤول. وهذا ما فعله النبي موسى عليه‌السلام عند ما أراد من الله أن يجعل له شريكا في أمره ، لأنه يعيش بعض نقاط الضعف التي يملك فيها هرون نقاط قوة ..

وهذا ما يجب على العاملين في سبيل الله ، أن يواجهوه في ما يتحملونه من مسئوليات ، ليخلصوا للدور العملي في استكمال كل الإمكانات التي يحتاجونها ، ولو كانت لدى الآخرين ، لأن ما نعانيه في ساحة العمل هو أن بعض العاملين قد يدفعهم الشعور الأناني بالعظمة الفارغة ، فيسيئون إلى مسئولياتهم ، لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحجم المحدود لقدراتهم ، وبالإمكانات المتوفرة لدى الآخرين.

وهكذا انطلق موسى عليه‌السلام ليعلن موقفه أمام الله في ما يريد أن يقوم به مع أخيه ، بعد صدور الأمر الإلهي لهما بالانطلاق معا في دور النبوة ، (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) في ما يوحي به التسبيح من تعظيم لله في المواقف العامة والخاصة التي يتحركان فيها ليثيرا عظمة الله في حياة الناس ، وفي ما يوحي به ذكر الله من الإحساس بحضوره الدائم في الوعي الإنساني في حركة المسؤولية ليلتزم بأوامره ونواهيه ، ولينضبط في ما يفرض عليه من مواقف والتزامات ، (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) في ما نملك من قدرات محدودة ، وفي ما نتطلع إليه للحصول على رضاك من خلال الالتزام بما توحي إلينا به من وصايا وتعاليم. (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) فقد استجاب الله طلبك ، وجعل هرون وزيرا لك من موقع المسؤولية ، وشريكا في أمرك في خط النبوة ..

* * *

١٠٧

النبوة .. والضعف البشري

وقد نلاحظ في هذه القصة ، أن النبوة لا تتنافي مع الضعف البشرى الذي قد يعيشه النبي ويعترف به ، فيطلب إلى الله أن يقويه بإنسان آخر عليه ، لأداء مهمته كما ينبغي ، مما يوحي بأن الجانب الغيبي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي على حساب بشريته العادية ، بل يترك المسألة للطبيعة البشرية لتتكامل بطريقة عادية ، وهذا ما قد يحتاج إلى مزيد من الدراسة في ما يطلقه علماء الكلام حول صفات النبي ، بأن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكملهم في المطلق. فإن تأكيد القرآن على نقاط الضعف في شخصية الأنبياء ، لا سيما في شخصية موسى عليه‌السلام قد توحي بما لا يتفق مع ذلك.

* * *

موسى عليه‌السلام في اليم

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) في ما أراده الله لك من رعاية وعناية ، فقد رعاك بلطفه ومحبته في بداية ولادتك في الوقت الذي كان فرعون يذبح أطفال بني إسرائيل (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) فألهمناها إلهاما أودعناه في وعيها من هذه الفكرة الغريبة الخطرة التي لا يمكن أن تخطر لها على بال ، لأن الأم لا يمكن أن تدفع عن ولدها الخطر بخطر آخر ، (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) وأغلقيه عليه إلا قليلا ، (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) في ماء النهر ، أو البحر ، (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) بفعل الأمواج ، أو اندفاع التيار في اتجاه الساحل ، (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون ، فتكون قد وقعت في ما هربت منه. ولكن هذا الوحي الإلهي قد خلق عندها نوعا من الطمأنينة النفسية ، تماما كما يحدث للإنسان عند ما يخضع

١٠٨

لفكرة معينة بشكل لا شعوري ، فيستسلم من دون أن يعرف لماذا حدث ذلك ، وكيف تحرك في هذا الاتجاه. وهكذا كانت أم موسى واقعة تحت تأثير هذا الهاجس الروحي الذي صوّر لها المسألة بتفاصيلها المحتملة التي تؤدي إلى الشعور بالأمان في ما يمكن أن يتطور إليه أمر ولدها موسى باتجاه الأمان ، الذي يوحي به القرآن ..

* * *

موسى عليه‌السلام في بيت فرعون

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فقد أبصره فرعون ، وأمر خدمه أن يأتوا به إليه عند ما وقف التابوت في زاوية من الشاطئ. وما إن أبصره حتى وقع حبه في قلبه ، وبدأ الاستعداد لتدبير من يكفله ويحضنه ويرعاه ويربيه.

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي ليكون صنع شخصيتك ، ونمو تربيتك ، وحركة حياتك تحت رعاية الله ، وبعينه التي تلاحقه في كل أجواء طفولته الأولى ، في ما أوحى به إلى أمه من تدابير الإنقاذ ، وما أودعه من محبة له في قلب فرعون الذي لم يعرف قلبه الحب للطفولة البائسة المعذبة في شعبه ، وفي ما يدبره له من رجوع كريم إلى أمه من جديد.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) فتدخل إلى بيت فرعون كإنسانة عادية لا علاقة لها بالصبي ، فتجد القوم مشغولين به ، متسائلين عن المرأة الصالحة لرعايته وكفالته ، فتستفيد من هذه الحالة الحائرة لتوجيه الاهتمام إلى أمه ، باعتبارها الإنسانة القادرة على إرضاعه والعناية به .. (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) قالتها ، بكل عفوية ، لتوحي إليهم بأن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد اقتراح

١٠٩

بريء. وهكذا تقبل القوم الاقتراح بكل بساطة ، (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) لتعود إليها بصفة جديدة ، وهي صفة المرضعة المربية التي تملك حرية التصرف في ظل الرعاية والحماية الرسمية التي تبتعد به عن نقطة الخطر ، وتمنحه إمكانية العيش الرغيد ..

* * *

موسى عليه‌السلام في خضم التجربة

ومرت الأيام .. ونشأ موسى قويا في بدنه ، جريئا في موقفه ، شجاعا في حركته ، وجاءت المشكلة التي اصطدم بها بشخص من قوم فرعون فقتله ، وعاش حياة التشرّد من خلال ذلك خوفا من مطالبتهم له بدمه ، (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) الذي كان يثقل صدرك ، في ما كنت تعيشه من قلق وحيرة وخوف ، (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي واختبرناك اختبارا في ما ابتليناك به من أحداث وأوضاع تثير المشاكل في حياتك ، وتعرضك للأخطار ، وجعلناك تعيش أكثر من تجربة قاسية من أجل أن يشتد عودك ، وتقوى إرادتك ، وينمو عقلك من قلب الأحداث الصعبة.

وتلك هي الفكرة الإيمانية القرآنية التي تعتبر الفتنة التي يفتن بها الإنسان المؤمن في حياته ، في ما يواجه من بلاء وخطر وخوف ، امتحانا واختبارا من أجل التدريب على مواجهة الصعوبات والخروج منها بقوة وسلام ، للوصول إلى النتيجة المطلوبة الحاسمة ، وهي إعداد الإنسان المؤمن القوي الذي لا يواجه الحياة من موقع السهولة والاسترخاء ، بل من موقع الصعوبة والمسؤولية ، ليكون أقدر على حمل الرسالة ، ومواجهة التحديات أمام الأعداء.

١١٠

(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي المدينة التي وصلها عند خروجه هاربا من ملاحقة السلطات الفرعونية له ، بعد أن قتل الفرعوني القبطي ، والتقى بها شعيبا النبي عليه‌السلام الذي رعاه واستقبله بكل رحابة وإكرام ، وزوّجه ابنته واستطاع أن يكتسب في هذه المرحلة الكثير من الدروس في ما تعلمه من شعيب وفي ما مر به من تجارب.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) في ما قدره الله وخططه لك من هذه المرحلة الصعبة من حياتك ، التي استكملت فيها عناصر شخصيتك القوية بعد كل هذه الابتلاءات العظيمة ، ليجعلك صالحا لحمل الرسالة بكفاءة وقوة ، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فأخلصتك لنفسي في ما أحسنت به إليك من اللطف والرعاية لفكرك وروحك ، وخطواتك العملية في الخط المستقيم في الحياة ، لتكون الرسول الذي يحمل رسالتي إلى الناس من موقع الإخلاص الروحي الكبير.

* * *

١١١

الآيات

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤٨)

* * *

معاني المفردات

(وَلا تَنِيا) : ونى في الأمر ، يني ونيا : وونيا ووناء وونى : فتر ، وضعف.

(يَفْرُطَ) : الفرط : التقدم. والمراد به هنا أن يعجل علينا بعقوبته.

* * *

دعوة فرعون لعبادة الله

.. وجاء التكليف الإلهي المباشر لموسى وهارون بالتحرك من أجل حمل الرسالة بشكل حاسم إلى فرعون ، لدعوته إلى الإيمان بالله والالتزام

١١٢

بأوامره ونواهيه ... وكان النداء الأول موجها إلى موسى باعتباره النبي الأصيل ، بينما كان هارون نبيا في موقع الوزارة له ..

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) التي أنزلت عليك قسما منها وستتلوها الآيات الأخرى ، (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي لا يعتركما الفتور والوهن في ذكري ، في ما يمثله ذكر الله من الدعوة إلى الإيمان في خط الصراط المستقيم الذي يقود عباده المؤمنين إليه ، وفي ما يوحيه في وعيهما الفكري والروحي ، ليستمدا منه القوة على مواصلة الجهد ، وتحمل الصعوبات ، وليراقباه في كل موقف من مواقف المسيرة التي تدفع للقلق وللاهتزاز في مواقع الزلزال النفسي والعملي.

وهذا هو ما يحتاجه كل داعية في مسيرة الدعوة إلى الله ، على مستوى الجهاد الفكري ، أو على صعيد الجهاد العملي الحركي وذلك بأن ينفتح على الله في عمق فكره وشعوره ، ليبقى مرتبطا بالهدف الذي يتحرك نحوه وهو رضا الله ، لأن الاستغراق في العمل الحركي قد يجعل الإنسان مشدودا إليه بحيث ينسى الغاية في حركة الوسيلة ، وربما انحرف عن بعض خصوصيات المسؤوليات الشرعية في الممارسات العملية في نظرته الذاتية إلى طبيعة العمل والعلاقات ، ولكي لا تتحول حركة الدعوة إلى حالة صنمية في الوعي الحزبي أو الطائفي ، في الدائرة الفكرية أو الشعورية.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) فادّعى الربوبية لنفسه ، واستعبد الناس ، ومضى يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويعيث في الأرض فسادا هو وحاشيته المنحرفة الطاغية. ولما كان هذا الطغيان ناشئا من الجهل بحقائق الأمور في ما ينبغي للإنسان أن يحمله من فكر ، أو يعتنقه من عقيدة ، ومن الغفلة عن الإيمان بالله الواحد القادر الحكيم الخالق الذي هو مالك السماوات والأرض ، ومالك الموت والحياة ، الذي يجعل الإنسان مستغرقا في ذاته ، وفي عناصر القوة الذاتية ، وفي مظاهر العظمة المادية المحيطة به ، فيتعاظم في درجات الغرور

١١٣

حتى ليخيل إليه أنه في مواقع الآلهة ، لا سيما إذا عاش في مجتمع يعيش الانسحاق أمام مظاهر العظمة المادية لدى هؤلاء. ولهذا كان من الضروري للرساليين أن يخططوا في الدعوة ، من أجل تغيير المفهوم المنحرف لدى هؤلاء ، لتتغير القاعدة الفكرية التي ينطلقون منها في ما يفكرون وفي ما يتحركون. ولا بد في هذا المجال من دراسة أفضل الأساليب الفنية للخصائص الفكرية والروحية من أجل تحقيق الاتصال الهادىء الذي ينفذ إلى القلب بمرونة ، بعيدا عن كل عوامل الإثارة القاسية التي تشبه الصدمة القوية المضادة ، لأن الأسلوب هو العنصر الحيوي في تحريك الفكر والشعور ، نحو الارتباط بالقناعات الرسالية ، لأنه هو الذي يهيّئ الجو النفسي للانسجام مع الفكرة في خطواتها العملية ، ولهذا أكد الله سبحانه لهما أن عليهما أن يختارا الأسلوب اللين في الكلمة والجو ، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) لا خشونة فيه ولا عنف ، ولا إثارة ، (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) عند ما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التفكير (أَوْ يَخْشى) عند ما تثير فيه الذكرى الخوف أمام قضية المصير في ما ينتظره من عذاب الله.

* * *

أسلوب موسى عليه‌السلام في الدعوة إلى الله

وربما يوحي التحدث عن الغاية بكلمة (لَعَلَّهُ) بالترقّب لحصول التذكّر والخشية ، انطلاقا من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في النتيجة ، بعيدا عن الجانب الذاتي الخاص في الشخص المدعو ، فإن الأساليب الرقيقة الهادئة التي تتعامل مع الأشخاص من موقع الدراسة الواعية لكل العوامل المؤثرة في أفكارهم ومشاعرهم ، لا بد أن تؤدي إلى النتائج المرجوة.

وعلى هذا الأساس فإن المسألة لا تخرج عن طبيعتها ، بوجود بعض العوامل المعاندة في حياة هذا الشخص أو ذاك .. لأن المبدأ يبقى قائما في

١١٤

علاقة النتائج بالمقدمات ، بنسبة غالبة.

وقد لا يرد في هذا المجال الاعتراض الذي يقول كيف يقدم الله المسألة بأسلوب الترقّب الذي يعني إمكانية التذكّر والخشية من قبل فرعون ، مع أن الله يعلم بأن فرعون لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرسالية التي يلقيها موسى وهارون عليه ..

إن المسألة ، في ملاحظتنا للموضوع ، هي أن الترجّي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب لا بلحاظ خصوصية الشخص والموقع ، والله العالم.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) وكانت قوة فرعون وسطوته وجبروته في وعيهما ، حيث عاشاه في الواقع الظالم القاسي الذي كان يمثل الظلم كأبشع ما يكون ، والطغيان كأقسى ما يكون. ولذلك فقد كانا يخافان ألا يستمع إليهما ولا يستقبلهما ، لأنهما لا يملكان أمامه أي موقع اجتماعي متقدم ، يسمح لهما بمقابلته والجلوس إليه ، فكيف يتمكنان إذا من مواجهته بالموعظة والنصح والدعوة إلى الإيمان ، وما يستلزمانه من التنازل عن امتيازاته؟ لقد كانت التجربة شبه مستحيلة ، ولهذا أعلنا خوفهما هذا أمام الله بأن يتقدم إليهما بالعقوبة ، ويطردهما ولا يسمح لهما بالحديث وإتمام الدعوة ، وتقديم الحجة ، أو يتجاوز الحد في ظلمه لهما أو لقومهما باللجوء إلى وسائل ضاغطة قاسية.

وربما أثار بعض المفسرين الرأي القائل ، إن هذه الآية لا تنسجم مع الجو الذي توحي به آية سورة القصص : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) [القصص : ٣٥] إذ إنها توحي بأن الله قد أعطاهما الأمان في مثل هذا الموقف فكيف يخافان بعد ذلك؟ والجواب أن آية القصص تمثل اختصار الموقف الذي فصلته هذه الآية على الطريقة القرآنية التي تشير إلى جزئيات الموقف في مورد ، وتهمله في مورد آخر ، وربما كان الأمر

١١٥

بالعكس بأن كانت هذه الآية تصويرا للحالة النفسية التي يعيشانها في مواجهة الموقف ، لتكون الآية الأخرى تقريرا للموقف في طبيعته ، فتكون المسألة هنا مسألة اختلاف في الأسلوب. وقد أجاب بعضهم بأن خوفهما في تلك الآية على نفسيهما ، وفي هذه الآية على الدعوة ، أو على قومهما ، وهو غير ظاهر ، لأن الظاهر أن الموقف واحد في الآيتين. والله العالم.

* * *

الله يشدد عزم موسى عليه‌السلام وهارون

ونلاحظ في هذه الآية نقاط الضعف البشرى التي يعيشها النبي والتي تتحرك في شخصيته بشكل طبيعي ، حتى في مقام حمل الرسالة ، فيتدخل اللطف الإلهي من أجل أن يمنحه القوة الروحية التي تفتح قلبه ، بعمق ، على التأييد الإلهي في أوقات الشدة ، الأمر الذي يعطي الفكرة بأن النبي يتكامل في وعيه وقوته وحركته في الرسالة. (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) فإنكما لا تحملان رسالة عادية تبلغانها بالطرق العادية المألوفة لتواجها الموقف بهذه الطريقة ، بل إنكما تحملان رسالة الله الذي يملك الأمر كله ، ويحيط بالموقف كله ، فلا يعجزه شيء ، ولا يغيب عنه شيء. فلا تتعاملا مع المسألة من زاوية المعطى المادي فقط ، بل انظرا إلى إيمانكما في العمق لتنفتحا على الله سبحانه في حضوره الشامل الذي يوحي بالثقة والاطمئنان إليه ، ولا تكترثا للقوة البشرية الطاغية مهما علا شأنها. لا تخافا من فرعون وجبروته لأنكما تؤمنان بالله ، وتحملان رسالته ، وتعيشان رعايته وعنايته فأنتما مستندان إلى قوة الله ، فلا تخافا إنني معكما ، كأقوى ما يكون الحضور ، أسمع وأرى ، كأفضل ما يكون السماع الذي لا يغيب عنه شيء ، وكأوضح ما تكون الرؤية التي لن يحجبها شيء.

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أعلنا صفتكما ليكون لكما قوة التأثير عليه ،

١١٦

ليتوازن الموقف في ميزان القوة أمامه. قولا له إنا رسولا ربك ، اذكرا له أن له ربا خلقه وأنعم عليه فهو يملك ما لا يملكه غيره ، وهو الذي يملك حياته وموته ، لأن هذه الكلمة هي التي تخفف من كبريائه ، وتسقط سطوته الطاغية عند نفسه ، وتوحي إليه بمشاعر الضعف ، فهو ليس ربا ولكنه مربوب ، وليس سيدا ولكنه عبد ..

ثم أعلنا له المطلب الذي يتحدى موقعه ، واختصرا المسألة وقدماها بشكل حاسم ..

* * *

المواجهة بين موسى عليه‌السلام وفرعون

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أطلق سراحهم ، أعطهم حريتهم ولا تضطهدهم بألوان العذاب ، فلطالما استعبدتهم بدون حق لأنهم أحرار ، ولطالما أهدرت إنسانيتهم ، وأذللت عزتهم وكرامتهم .. إنها رسالة الله إليك وليست كلمتنا الشخصية ، وإذا لم تصدق ذلك فسترى أنا (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) تعرفك طبيعة الصدق في كلامنا في ما ندعيه من رسالة الله.

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) إنها دعوة سلام للمهتدين المنسجمين مع دعوة الهدى ، على مستوى التحية والعلاقة والانتماء ، في لفتة إيحائية لفرعون أنه لا سلام معه إذا بقي على نهجه الاستكباري الكافر المتحرك في طريق الضلال ، وأنه إذا أراد أن يمنح نفسه سلاما فعليه أن يتبع الهدى في خط الرسالة الإلهية ، وهذا هو سر القوة في الموقف النبوي من موسى وهارون. ثم يتصاعد الموقف في لهجة تهديدية قوية ضاغطة لا عهد له بها من قبل في ما كان يستمع إليه من حديث الناس معه ، (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ

١١٧

وَتَوَلَّى) إن ربك الذي خلقك والذي يملك حياتك وموتك قد أوحى إلينا أن مسألة التمرد على خط الرسالة ليست مسألة هامشية في حياة الإنسان المتمرد ليأخذ حريته فيها من دون أن يواجه أية نتائج سلبية على مستوى حياته الشخصية في موضوع المصير ، بل هي مسألة خطرة يواجه فيها عذاب الآخرة جزاء تكذيبه بالرسالة والرسول بعد قيام الحجة عليه ، وعقوبة على إعراضه عن السير في الاتجاه الإيجابي للإيمان ، بعد فقدانه للعذر المبرر له. وفي ضوء ذلك لا بد لك أن تحدد موقفك في الإسلام لله من خلال الرسالة ، هل تصدق أو تكذب؟ هل تستجيب أو تعرض؟ لتحدد مصيرك على هذا الأساس ..

وقد يتساءل الإنسان القارئ لهذه الآيات هل هذا الكلام هو من القول اللين ، أو هو من القول الخشن؟ ويتابع بأن تفسير الآيات بهذه الطريقة التي توحي بالتهديد أو بالقوة لا تتناسب مع الأسلوب الليّن.

ويجاب عن ذلك ، أن لين الكلام لا يعني الابتعاد عن الخط الأصيل في الدعوة للفكرة ، بل يعني مواجهة الإنسان بالفكرة بالطريقة التي لا تثير حساسيته وعدوانيته ، وذلك بالأسلوب التي جرت عليه هذه الآيات في إثارة المسألة بطريقة اللمحة واللفتة ، لا بطريقة المواجهة المباشرة ، مما يفسح المجال للمخاطب ألا يعتبر نفسه معنيا بالمسألة ، لأن القضية كانت مطروحة في نطاق العموميات التي لا تسبب الإحراج المباشر لقائلها وسامعها ..

وهذا هو معنى القول اللين ، ألا تتنازل عن الفكرة بكل عناصرها الحية ، ولكن بشرط أن تعالجها بالأسلوب الذي يجعلها تدخل الفكر والروح والشعور من باب واسع.

* * *

١١٨

الآيات

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩)

* * *

معاني المفردات

(أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) : أتقن خلق كل شيء.

(لا يَضِلُّ رَبِّي) : لا يخطئ ولا يجهل.

(وَسَلَكَ) : سهّل.

١١٩

(أَزْواجاً) : أصنافا متعددة.

(النُّهى) : جمع نهية ، أي العقل. ويقال لأولي العقول : أولي النّهى لأنهم ينهون الناس عن القبائح.

(مَوْعِداً) : اسم زمان ، بمعنى : ميعادا معينا.

(مَكاناً سُوىً) : مستوي الأطراف لا انخفاض فيه ولا ارتفاع.

(يَوْمُ الزِّينَةِ) : يوم العيد.

* * *

فرعون يتحدى وموسى عليه‌السلام يقبل التحدي

... وكان فرعون يستمع إلى موسى بهدوء غريب ، فلم يثر ولم يتشنّج ولم يتعقّد من هذا الكلام .. هذا ما يوحي به الجو على الأقل ، وربما أثار فيه نوعا من التساؤل والفضول الباحث عن المعرفة ، فاستسلم لهذا الجو الغامض الجديد الذي أخذ عليه كل شعوره حتى ليخيل إليه أنه يعيش في جو مسحور ، (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) إنهما يحدثانه عن ربه ، كما لو كان معترفا به ولكن الرب يحتاج إلى اعتراف من المربوب ليستكمل علاقة الربوبية بطريقة طبيعية ، لأن الناس قد اعتادوا أن يتخذ كل واحد منهم ربا لنفسه ، في ما يتعبّد له ، أو يقدم له القرابين ، أو يمارس معه الطقوس ، انطلاقا من شعوره بالضعف أمامه ، أو بحاجته إلى قوة فوقية يخترعها خياله إذا لم تكن حقيقة ، أو بالإيحاء الداخلي بأنه يملك أسرارا غيبية مقدسة بالمستوى الذي يجعله أقرب إلى رب الكون من غيره ، فيقرب الناس إليه ليكون معبودهم.

وهكذا كان اعتراف موسى وهارون به موجبا لحدوث علاقة الربوبية

١٢٠