تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٠

الإحراق ، ولكن الله سبحانه ـ بقدرته ـ بردّ النار التي ألقوه فيها ، وجعلها سلاما عليه ، فلم تضره شيئا ، ولكن كيف ذلك؟ كيف عزلها الله عن التأثير في جسد إبراهيم؟ هل هو بإيجاد طبقة عازلة بينها وبين جسده ، أو بتبريد النار أو بغير ذلك؟ إننا لا نملك الجواب عن ذلك ، لكننا لا نرى ضرورة للخوض في ذلك ، لأن المسألة من مسائل الإعجاز الإلهي التي اختص الله بعلمها في ما يتمثل فيها من روابط التأثير.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) في ما أرادوا اتهامه به ، ومن إصدار الحكم عليه وتنفيذه ليقتلوه ، ويحرقوه ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الذين واجهوا المعجزة الإلهية بالإحباط والسقوط عند ما رأوا كيدهم من دون تأثير ولا نتيجة ، بل ربما كان ذلك موجبا لإيمان الناس بهذا الفتى الذي يتصرف بطريقة عقلانية تجلب انتباه الناس إليه وإلى كلماته ، بحيث ، لو لا قوة تأثير التقاليد على قناعاتهم ، لكان له شأن آخر في حياتهم ، فكيف تكون الحال ، وهو الآن في موقع الإنسان العجائبي الذي يحمل في اللهب الأحمر الناري سرّ المعجزة في هذه البرودة المنعشة. وهكذا يريد الله أن يعزز موقع رسوله في قلوب الناس من حوله بما يؤكده من الدفاع عنه في خط التحديات الكافرة المضادة.

* * *

تجربة النبي لوط عليه‌السلام

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) الذي آمن به وهاجر معه في ما حدّثنا الله به : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] ، (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وهي الأرض المقدسة ، وهي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم عليه‌السلام ، التي جعل الله فيها من البركة الروحية التي تمثلت بالأنبياء الذين قادوا المسيرة الرسالية بكل وعي وإيمان وإخلاص وانفتاح على الناس ، وتلك هي البركة في العمق الروحي الذي يحتوي الفكر والضمير والشعور

٢٤١

والوجدان ، ويهيّئ الحياة لموسم إيمان متحرك جديد.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) بما تمثل كلمة النافلة من معنى العطية الإلهية التي تعبّر عن محبته ورعايته له (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ).

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وذلك عند ما جعلهم الله أنبياء يحملون الرسالة ويقومون بمهمة الإمام الذي يقوم بقيادة الأمة نحو أهدافها الكبيرة ، في ما يعيشه من فكر وخلق وروحانية وانفتاح على كل معاني الخير والحب والسلام من أجل هداية الناس إلى الله حتى لا يقوموا بشيء ولا يتركوا شيئا إلا أن يعلموا أن في ذلك لله رضا ، وتلك هي مهمة النبوة والإمامة أن تتحقق للإنسان الصلة العميقة الواسعة بالله في عملية اهتداء روحيّ وعمليّ ، فلا انفصال بين حركة إنسانيته ، وبين حركة عبوديته ، بل يتواصلان ويتلاقيان ويتداخلان في وحدة إنسانية روحية لا تجزئة فيها ولا ازدواجية ، وهذا هو الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي عنده. ولعل من البديهي ، أن يكون للإمام كل الغنى الروحي والفكري والعصمة الفكرية والعملية ، ليؤكد غنى التجربة في عناصرها الرسالية التي لا انحراف فيها ولا سقوط ولا ابتعاد عن الأهداف ، وهكذا أراد الله لهؤلاء الأئمة أن يهدوا الناس بأمره.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) في مواقع القدوة العملية ، في ما يفعلون ، وما يريدون للآخرين أن يفعلوه ، من خلال ما يريد الله لهم أن يحققوه من حركة ومنهج وهدف ، (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) حيث يلزمون بهما أنفسهم في سلوكهم الشخصي ، ويوجهون الناس إليهما في حياتهم العملية ، (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) إذ إنهم يتمثلون الشعور بالانسحاق أمام الله والانقياد إليه من خلال عبادة واسعة شاملة تتحرك في كل موقع لله فيه أمر فيطيعونه ، وتقف في كل ساحة لله فيها نهي فيتركونه ، ليكونوا عباد الله الذين (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] في خط الرسالة وخط الحياة.

* * *

٢٤٢

الآيات

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧)

* * *

الله ينجّي أنبياءه .. لوط ونوح عليه‌السلام

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) من أجل أن يفتح عقول أبناء المجتمع وقلوبهم على الله وعلى الحياة ، ويقودهم إلى السلام في الأمور التي يتنازعون فيها ، أو التي يختلفون عليها ، وذلك من خلال حكمه الذي ينفذ إلى عمق المشاكل ليحللها فيفهم كل خصوصياتها ، وذلك أن النبوة هي إلى جانب أنها حالة رسالية فكرية هي حالة قيادية حركية تنفيذية تصل إلى الواقع النظري بالعقل العملي.

٢٤٣

إلا أن لوطا العالم الحاكم الحكيم عاش حياة صعبة بين قوم لا يفهمونه ولا يعرفون تطلعاته وأهدافه ، ولا ينفذون ـ في وعيهم ـ إلى الجانب العميق من تعاليمه ، وإلى الأفق الواسع من حكمته ، بل كانوا مستسلمين لشهواتهم الجسدية ، فقد كانوا يعملون الخبائث ويثيرون المشاكل في وجهه ، ويتعرّضون لكل الناس القادمين إليه ليعتدوا عليهم بالعمل السيّئ ، وقد عمل لوط على هدايتهم ، وصبر عليهم كأشد ما يصبر نبي على قومه حتى استنفد تجاربه كلها ، إلا أن ذلك كله لم يؤد إلى نتيجة إيجابية في حساب الإيمان ، فكان مثله مثل العالم الحكيم الصابر الثابت في موقفه ، المتمرد على كل نقاط الضعف في الموقف فلا يكل ولا يمل ولا ييأس ، خلافا للعلماء الذين ينظرون إلى المسؤولية من خلال مزاجهم فلا يرتاحون للمصاعب التي تواجههم ، ويتعقدون من الكلمات التي يسمعونها ، والتحديات التي يواجهونها ، فيسقطون أمام ذلك كله ويتراجعون عن الرسالة ، في موقف ضعف وهروب ، فينسون الآفاق الواسعة التي تتيح لهم الحركة للوصول إلى الهدف المنشود.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) والمقصود أهل تلك القرية (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فلا يستحقون رحمة الله ، التي عرضها عليهم فرفضوها ، لأنها ترتكز على الإيمان والعمل الصالح في موقف العباد من الله. أما لوط فقد فتح كل قلبه لله ، وجعل كل حياته بكل إمكاناتها في خدمته ، فمنحه الله بذلك كل خير ورحمة ، (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) في ما أفاض الله عليه من لطفه ورضوانه ، وأنقذه من الواقع الصعب الذي كان يعيشه ، ومن العذاب الذي نزل على قومه ، (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في فكره وروحه وموقفه من الحياة ومن الناس.

* * *

٢٤٤

نجاة نوح عليه‌السلام

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) حيث واجه تمرد قومه وتعنّتهم وكفرهم وجحودهم ، بالرغم من كل الأساليب المتنوعة ، والوسائل الكثيرة ، التي سلك سبلها من أجل هدايتهم إلى الله ، في مدى ما يقارب الألف سنة ، حتى طلب الاستغاثة ـ في نهاية تجاربه ـ لكي ينزّل الله عذابه بهم ، ويستبدل بهم جيلا جديدا خاليا من العقد التي تمنع من ولوج طريق الإيمان ، فكان نداؤه في استغاثته الأخيرة نداء النبي ـ الرسول الذي لا يحمل عقدة اليأس في روحه ـ ولكنه يعيش هم الرسالة في تطلعاته ، ليبحث لها عن أفق جديد ، وجيل جديد ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) نداءه عند ما قال : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] ، (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) الصالحين (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي كان يعانيه في ذلك الجو الكافر الساخر الذي يمارس القوة ضده ، ويحاصر دعوته في كل مكان ، ويمنع الناس من الاستماع إليه ، ويضيق عليه غاية التضييق حتى يحبس عليه أنفاسه ، الأمر الذي جعله يشعر بأن كل جهوده تذهب هباء ، وأن الناس من حوله يتجهون إلى الانتحار الروحي من خلال أجواء الكفر والتمرد والطغيان .. وكان يحب لهؤلاء الناس أن ينفتحوا على الله ، وأن يهتدوا بهداه ، وأن يقتربوا من ساحة رحمته ورضوانه ، لأن ذلك هو سر سعادة الدنيا والآخرة. وكان يتألم للمستضعفين منهم أنهم يخضعون للقوى المستكبرة ، وينسحقون تحت وطأة ظلمهم ، من دون أي أساس لذلك ، ومن دون أية فائدة لهم على مستوى الحاضر والمستقبل.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فكانوا يمارسون الاستعلاء والسيطرة ويوحون لأنفسهم وللآخرين بأنهم هم الذين يقررون الصواب والخطأ في الأشياء ، ولا يريدون لأحد ، مهما كانت درجته ، أن يقرر لهم ما يعتقدونه وما يلتزمونه وما يفعلونه. ولذا فإن أي طرح جديد لأي مفهوم مضاد لما

٢٤٥

يحملونه من مفاهيم ، لا ينال قبولهم ، بل يبادرون إلى تكذيبه من دون تفكير أو مناقشة. وهذا ما فعلوه عند ما جاءهم نوح ـ النبي ـ بآيات الله فكذّبوا بها ، وسخروا منه ، واضطهدوه ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) إذ تتمثل عناصر السوء في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم ، (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لينتهي جيل البشرية الأول الذي تحجّر فيه الكفر وامتد به الضلال ، وأغلق كل منافذ الوعي في شخصيته ، ليستسلم للأجواء المتعفّنة الخانقة في حياته.

* * *

٢٤٦

الآيات

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ(٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٨٢)

* * *

معاني المفردات

(الْحَرْثِ) : الزرع.

(نَفَشَتْ) : النّفش : رعي الماشية بالليل دون راع.

(لَبُوسٍ) : اللبوس : اسم للسلاح عند العرب ، وقيل هو الدرع.

(يَغُوصُونَ) : الغوص : النزول إلى قاع البحر لاستخراج ما في البحر من اللآلي وغيرها.

٢٤٧

داود وسليمان عليهما‌السلام يحكمان في الحرث

يشير الله إلى داود في قصة حكمه وسليمان ، كنموذج للأنبياء الذين كانوا يملكون النفاذ إلى حياة الناس في تفاصيلها اليومية من مواقع الامتيازات النوعية في القوة والقدرة ، وفي الخصائص التي خصّهم الله بها ، وذلك ، كجزء من التصور العام الذي يريد القرآن أن يتمثّله المؤمنون في مسألة النبوّة والأنبياء ليقفوا حيث يريد الله منهم أن يقفوا في قضايا الغيب المحدودة ، فلا يتوسعون إلى أبعد من ذلك في ما تثيره الأوهام ، مما قد يقترب إلى أجواء الخرافة ، كما يريد لهم أن يدرسوا الجوانب السلبية في الأجواء المحيطة بهم ، كما يدرسون الجوانب الإيجابية في ذلك.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) في قضية تتعلق بالزرع أو الكرم ، (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) فدخلت إلى الأرض المملوءة بالزرع أو الشجر وعبثت فيه حتى أفسدته وأتلفت البعض منه ، وجاء أصحاب الحرث إلى داود وسليمان فاختلف داود وسليمان في الحكم في المسألة ، فقضى داود بالغنم لصاحب الزرع ، ولما علم سليمان بذلك قال لأبيه : الأرفق بالرجلين أن يأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بها ، لا على سبيل الملك ، وأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزرع ، كما كان ، وعندها يترادان فيأخذ هذا غنمه وذاك زرعه ، فاستحسن داود حكم ولده وعمل به ، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) فقد كان حكم كل واحد منهما تحت رقابة الله وفي حضوره ، فهو الشاهد على ما يصدر من خلقه سواء كانوا من الأنبياء أم غيرهم ، ولا مانع من الإتيان بضمير الجمع في مورد التثنية باعتبار معنى الجمع ، فقد يرد ذلك في بعض الأساليب ، أمّا إعادة الضمير إلى الأنبياء ، كما قال به صاحب تفسير الميزان ، ففيه غموض ، لعدم تقدّم ذكر لهم في مجال الحكم بصيغة الجمع من

٢٤٨

خلال الواقع الخارجي.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي أوضحنا له الفهم الحقيقي للقضية أو للحكومة ، فكان قضاؤه أقرب إلى الحق من فهم داود ، (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) في ما ينطلقان به من توجيه الناس إلى الحق في حياتهم العامة والخاصة ، وفي منازعاتهم واختلافاتهم للوصول إلى الموقف الصواب ، لأن مهمة الرسول تتحرك في خطين ، خط الوعي للحياة من خلال فكر يرفع به مستواها إلى الدرجات العليا ، وخط العدل ، الذي يحل المشاكل على صعيد الفرد والمجتمع. وبذلك كان العلم يمثل قوّة الرسول في شخصيته ، كما أن الحكم ، يؤكد التزام العدل في حركته.

* * *

الآية في خط العصمة

وقد نستطيع أن نثير السؤال كما أثاره الكثيرون ، كيف نفهم هذا الاختلاف بين سليمان وداود في فهم حكم الشريعة في هذه القضية ، وكيف يصيب سليمان من حيث أخطأ داود مع أن مسألة العصمة في عقيدتنا في الأنبياء أساسية ، لا سيما في مسألة التبليغ للأحكام أو في مسألة التطبيق في مقام القضاء.

وقد ورد في الجواب عن ذلك أكثر من وجه ، فقيل إن حكم سليمان كان ناسخا لحكم داود ، فقد حكم داود بما حكم به الأنبياء من قبله ، ولكن الله أوحى إلى سليمان أن كل غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها ، وقيل : إن داود أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيّه من بعده ، فلم يختلفا في الحكم ، لأن داود لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي

٢٤٩

بل في مجال إظهار موقع سليمان في النبوة ، بالطريقة التي توحي بالثقة به. ولكن الجوابين لا يخلوان من غموض ، لأن النسخ لا يمنع خطأ داود في حكمه ، ولو بلحاظ هذه الحالة في هذا الزمان ، كما أن الظاهر من الآية أنهما كانا ينطلقان من منطلق واحد ، فلا تباين ولا تعدد أمام إظهار الخطأ ليبدو حكم سليمان في دائرة الصواب ، فهذا لا يتناسب مع طبيعة الواقع ، باعتبار أن مجرد اعتماد داود على سليمان ووضعه في موقع الحكم يمكن أن يؤدي هذه المهمة ، من دون الإساءة إلى مقام داود ، فإن مثل هذا الأسلوب يبعث على فقدان الثقة بحكمه.

وربما كان أساس الحكم واحدا في المسألة ، وهو ضمان صاحب الغنم للزرع ، ولكن الاختلاف هو في طريقة تنفيذه ، فحكم داود برقابها لصاحب الحرث ، وحكم سليمان بما هو أرفق منه ، وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة ، مع ملاحظة أن قيمة الزرع تساوي قيمة رقاب الغنم كما أن قيمة الرقبة تساوي منافعها المستوفاة في كل سنة عادة. وبذلك لم يختلفا في حكم الله وإنما اختلفا في إجرائه في الدائرة التي يملكان فيها الحرية في التطبيق ، في ما يكون مرجع الأمر فيه إلى رأي الحاكم في الموارد التي لا تشتمل على تشريع محدّد ، كما في موارد التعزيرات وأمثالها من التفاصيل التي تقع في منطقة الفراغ التشريعي ، فيكون للحاكم أن يملأه بما يكون صالحا ، وبذلك يكون تفهيم الله لسليمان المسألة ، هو الإيحاء له بالأسلوب الأرفق في إجراء الحكم بالضمان. وقد لا يكون هناك أي مانع عقليّ في خطأ النبيّ بهذا المستوى ، إذا كان ذلك لمصلحة أخرى ، في تربية نبي آخر على الحكم ، وإظهار فضله ، وإذا كان هذا النبي الموعود ابنا للنبي الأول ، وخاضعا له ومعترفا بفضله ، مما لا يبعث على الإساءة إليه. وقد لا يكون من الضروريّ أن يكون في ذلك إساءة لموقعه لدى الناس ، لأن الناس قد اعتادوا على اختلاف الحاكمين في الحكم ، مع اعترافهم بأنهما ينطلقان من علم ومعرفة ، لا سيما

٢٥٠

إذا لم يكن هناك تشريع محدّد في تفاصيل الحكم ، بل كان الأمر تابعا لاجتهاد الحاكم وإن كان نبيّا.

وربما لا نجد في أدلة عصمة الأنبياء ما يفرض مثل هذه الدقة في صواب الحكم ، في ما لا يؤدّي إلى ترك الحكم الواقعي ، كما في مثل هذه الحالة التي جاء فيها الحكم على لسان سليمان مع موافقة داود عليه كما يبدو.

وإننا ندعو إلى دراسة المسألة من جديد ، على مستوى البحث القرآني من خلال ما صوّره القرآن من الملامح العامة لشخصية النبيّ ، في ما يؤكد بشريته ، مع الإيحاء بالموقع المميّز من الوحي والانفتاح على آفاق الكمال الإنساني من مواقع القيادة.

* * *

تسخير الجبال لداود عليه‌السلام

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) كيف كان هذا التسبيح؟ هل هو صوت ينبعث من الجبال ، ومن الطير ، كما ينبعث من الإنسان ، أو هو شيء خفيّ اختصت به الجمادات الصامتة ، ولغة الطير المتمثلة بالأصوات المنبعثة منها في الهديل والزقزقة والتغريد ونحوها؟ أو هو الإبداع الفني الذي يتمثل في الصوت التسبيحيّ لداود في لحنه وأنغامه ، الذي يهتز له الشعور حتى ليخيّل للإنسان بأن الكون يسبّح معه ، من خلال ما يثيره من الأجواء الخاشعة في الأفق الذي يسبّح فيه ، فتشعر كما لو كانت الجبال والطير يسبّحن معه؟! وربما كان هذا قريبا إلى أجواء الخصوصية التي يثيرها التسبيح في الكون ، ولكن كلمة التسخير توحي بوجود نوع من المشاركة الحقيقية التي لا نحيط بعلمها ، ولكنا نؤمن بها من خلال الله الذي يعلم من أسرار خلقه ، ما لا نعلمه ، مما اختص بعلمه ، ولم يعطه لأحد من عباده ، (وَكُنَّا فاعِلِينَ) في ما نريد أن

٢٥١

نخض به الأنبياء من الكرامات المعنوية التي نريد من خلالها ، إظهار فضلهم على العالمين.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) حيث علّمه الله صنعة الدروع ، (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) فتحميكم من ضربات السلاح الموجهة إلى أجسادكم ، وذلك حين ألان الله الحديد لداود مما جعل إنتاجه للدروع سهلا بحيث يمكنه صنع الكثير منه ، (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) لهذه النعمة الكبيرة التي تحمي حياتكم من الهلاك ، من دون أن تبعدكم عن ساحة الصراع.

* * *

الريح لسليمان عليه‌السلام

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي سخّرنا له الريح في شدّة هبوبها ، وسرعة حركتها ، وقوّة اندفاعها ، (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) فيوجهها في أغراضه حيث يشاء ، ولعلّ التأكيد على الريح العاصفة التي لا تختلف في تسخيرها له عن الريح الهادئة ، يعود إلى أن تسخير العاصفة أكثر دلالة على القدرة من الهادئة ، (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الأرض المقدسة ، أرض الشام ، وربما كان المراد من تسخيرها وجريانها بأمره ، هو أنها تحمله إلى حيث أراد منها لا جريانه إليها لتردّه إليها وتنزله فيها بعد ما حملته ، والله العالم.

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) إذ نحيط بحقائق الأشياء وأسرارها ، ونسيطر عليها ، مما يجعلنا نتصرف بها كما نريد وحيث نريد.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) فيستخرجون له من البحر ما يشاء من اللآلئ وغيرها ، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) في ما حدثنا الله عنه بقوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣] ، (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) حيث نحفظ دورهم في خدمته ، فلا يهربون منه ، ولا يمتنعون عنه ، ولا يفسدون أمره وعمله.

* * *

٢٥٢

الآيات

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١)

* * *

٢٥٣

معاني المفردات

(الْكِفْلِ) : الحظّ.

(النُّونِ) : الحوت ، و (وَذَا النُّونِ) : النبي يونس عليه‌السلام.

(نَقْدِرَ) : نضيق عليه ، من قدر عليه رزقه : أي ضيق.

* * *

مع أيوب عليه‌السلام الصابر

... وتمضي آيات القرآن في جولة سريعة على تاريخ الأنبياء في إيحاءات متلاحقة بالرعاية الإلهية التي كانت تحوطهم في قضاياهم الخاصة والعامة حتى في المفردات الصغيرة من الواقع ، لتوحي من خلال ذلك ، أن الله لا يترك عباده ورسله الذين أخلصوا له الإيمان والعمل ، ولا يهمل أوضاعهم ، وأنه يسمع دعاءهم ومناجاتهم وشكاواهم ، ليستجيب لذلك كله ، بطريقة سريعة تحمل الكثير من اللطف ، والكثير من الحنان.

(وَأَيُّوبَ) هذا النبيّ الذي ابتلاه الله بأشد أنواع البلاء ، فذهب ماله ومات أولاده ، وابتلي بمرض شديد ، مدّة طويلة ، من دون أن يتأفف أو يتضجر ، أو يعترض على الله في حكمه ، أو يتعقّد من ذلك في حركة إيمانه ، مما جعله مثلا يضرب به للصبر ، عند ما يتحدث الناس عن الصبر ، فيذكرون صبر أيّوب ، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستغاثة بالله ، والابتهال إليه لأن ذلك ما يريده الله من عباده الصالحين الذين يستشعرون الإحساس بالحاجة المطلقة إليه ، لا سيما في حال البلاء.

٢٥٤

وهكذا رفع أيوب صوته بالدعاء إلى الله ، بعد أن تمرّد على كل نوازع الجزع في نفسه ، وارتفع عن كل عوامل الإشفاق من حوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فقد أكل المرض كل مظاهر العافية في جسدي ، (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وليس هناك من يرحمني غيرك ، وأنت الذي خلقت عبادك ، وأنعمت عليهم ، وسخّرت لهم الوجود كله برحمتك ولطفك ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه الذي يتضمن الإخلاص والخشوع والانقطاع والانفتاح الإيماني على الاستعانة بالله دون غيره ، (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) فرجع إلى صحته وعافيته ، (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وعاد إلى حياته العائلية المليئة بالعاطفة الغنية بالحنان حيث رزقه الله ذلك ، (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) في ما يتمثل فيه من مظاهر الرحمة التي تحركت بإرادة الله بطريقة غير عادية ، في شبه معجزة ، ليظهر عنايته ورعايته لعبده الذي أخلص له ، (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) الذين أخلصوا لله العبادة ليتذكروا الحقيقة الإلهية التي تتحرك في حياة الناس ، لتوحي إليهم بأن البلاء الذي ينزل بهم ليس عقوبة لهم دائما ، بل قد يكون امتحانا لإيمانهم واختبارا لصبرهم ، وإظهارا للآخرين بأن المؤمن لا يسقط أمام البلاء ، ولا يتراجع عن مواقفه .. ثم يلطف الله به ويرحمه ويكشف ما به من ضرّ ويحسن إليه لأنه لا يضيع لديه أجر من أحسن إليه عملا.

وقد أراد الله لهذه الحقيقة المزدوجة في البلاء الذي يرتكز على الصبر ، وفي كشف الضر الذي ينطلق من الرحمة ، في هذا النموذج الإيماني الرائع الذي يريد للمؤمنين أن يتمثلوه في كل زمان ومكان ، ليعرفوا بأن المؤمن لا يجزع من البلاء ، مهما كان شديدا وقاسيا ، وبأن الله لا يخذل عبده ، بل يرحمه ويلطف به ويحوّل عسره إلى يسر في نهاية المطاف.

* * *

٢٥٥

وإسماعيل وإدريس وذو الكفل

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) فقد حمل كل واحد منهم الدعوة إلى الله وإلى دينه ، وتحمّل الكثير من الآلام في سبيل إبلاغها إلى الناس ، وصبر على ذلك كله ، من موقع الوعي العميق للرسالة في مواجهة الأفكار المضادة ، والأهواء المعادية ، ولم تكن المسألة عندهم هي ما يحصل لهم من نتائج إيجابية على مستوى أنصار الدعوة ، بل المسألة عندهم هي ما يحققونه من رضا الله في تحقيق إرادته في أداء مهماتهم بأكمل وجه ، هذا بالإضافة إلى ما عاشوه من المعاناة في التجربة الإيمانية الذاتية ، كانقياد إسماعيل عليه‌السلام للذبح وصدقه بالوعد ، وما إلى ذلك. وكان الإيمان الصابر ، والروح الرسالية القوية هي ما يجمع بينهم ، وكان الالتجاء إلى رحمة الله هو سرّ مواقفهم. ولكننا قد لا نملك الإحاطة بالتفصيلات الدقيقة لشخصيات هؤلاء ، إلا في ما ذكره الله من ملامح شخصية إسماعيل مع أبيه إبراهيم ، وفي صدقه للوعد ، وفي الخطوط العامة لشخصية إدريس ، وذي الكفل الذي اختلف في أنه هل كان نبيا أو أنه عبد صالح ..

وقد لا يكون ذلك من الأمور المهمة على الصعيد القرآني ، إذ إن هذه السورة تستهدف التأكيد على الثبات كقيمة كبيرة في حياة هذه الطليعة المتقدمة التاريخية من الأنبياء أو الصالحين ، والإعلان عن رعاية الله لهم في حالات البلاء بالوسائل الكفيلة برفعه أو تخفيفه عنهم ، ولو بعد حين.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) وأنجيناهم من القوم الظالمين ، ومن كل الضغوط القاسية التي كانت تثقل حياتهم بالمشاكل والآلام ، (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين يستحقون كل رحمة وعناية ورعاية لأن أفكارهم وكلماتهم وأعمالهم كانت صلاحا للحياة والإنسان في خط الرسالات الإلهية.

* * *

٢٥٦

الله يستجيب لذي النون

و (وَذَا النُّونِ) وهو يونس بن متى الذي نسب إلى النون ، وهو الحوت ، لالتقامه إياه فأرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون فلبث فيهم مدة طويلة ، فتمردوا عليه ، ولم يؤمنوا به فدعا الله عليهم ، وخرج من بينهم ، فتابوا فرفع الله عنهم العذاب ، وهكذا يريد الله أن يحدّثنا عنه ، (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) كما توحي به بعض التفاسير ، من خلال الشعور بخيبة الأمل في ما بذله من جهد كبير لهدايتهم ، وما عاناه من آلام ومشاكل في المدة التي قضاها بينهم. فكان محكوما بجو الداعية الذي يشعر بأنّ مهمته قد انتهت من دون أن ينجح في الوصول إلى نتائج كبيرة. فانفصل عنها في حالة انفعال وغضب إزاء الذين شاركوا في هذا الفشل.

وربما جاء في بعض القصص القرآني ، في ما يذكره الرواة من قصة يونس ، أنه انفعل من رفع العذاب عنهم فذهب مغاضبا ، لأنّ ذلك قد يسقط موقعه من قومه ، لأن ما وعدهم به من العذاب لم يتحقق ، فكأن المسألة ، بالنسبة إليه ، انفعال ثأريّ للذات. ولكن هذا الرأي لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الذي يتميّز به هذا الرسول الصالح في حركة الدعوة إلى الله ، وفي ابتهالاته الروحية في حالة الشدّة وفي حديث الله عنه بأنه من المؤمنين الذين يستجيب الله لهم ..

(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قد يتبادر إلى الذهن أنه انطلق في غضبه من حالة تمرّد في الذات ، وهروب انفعاليّ يستغرق فيه الإنسان حتى ليخيّل إليه أنه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكان شاء ، بعيدا عن قدرة الله التي تحيط بكل شيء. وهكذا يبدو ، لأوّل وهلة ، أنه كان يظن في غفلة من الذات

٢٥٧

أنه حرّ في حركته ، وفي هروبه ، وبذلك انحرف عن خط العقيدة والإيمان وظلم نفسه. ولكن المراد هنا من كلمة (نَقْدِرَ) المعنى الذي يلتقي بالتضييق ، أو بالتحديد كما في قوله تعالى: (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] ، وهكذا يكون معنى الآية ، إن هذا العبد الصالح خرج مغاضبا لقومه ، وهو يظن أنه قد ملك حريته ، بعد أن انتهت مهمته ، باستنفاد كل تجاربه في الدعوة إلى الله وعدم تجاوب قومه معه ، واستحقاقهم العذاب على ذلك ، وقرب نزوله عليهم ، فلم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله ، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة على هذا الصعيد ، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب ، الذي ثبت ـ بعد ذلك ـ أنه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلى عقولهم ، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله وبرسالاته من جديد. كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخرى ..

لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله ، ولكنها لم تنطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلى الله ، التي تعمل على أن تطل على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه لتنتظر منه انفتاحة إيمان ، ويقظة روح ، وخفقة قلب ... وفي هذا الجو كان خروجه السريع ، سرعة انفعالية في اتخاذ القرار ، وقد لا يكون ذلك تهرّبا من المسؤولية ، وحبّا للراحة ، وابتعادا عن أثقال الرسالة ومشاكلها ، فربّما كان الجو يتحرك في حالة شديدة من الحيرة والغمّ والحزن ، مما يريد معه أن يخرج من هذا الجوّ الخانق ليجد لنفسه ملجأ جديدا ، أو موقعا آخر للدعوة ، أو لأي مشروع جديد ، في هذا الاتجاه ، وهو يظن أن الله لن يضيق عليه أمره ، في رزقه ، وفي حركته. وجاءت النتيجة غير ما كان يتصوره أو ينتظره ، فالتقمه الحوت ، بعد أن وقعت القرعة عليه ، وعاش في ظلمات البحر ، وجوف الحوت وظلمات الهمّ والغمّ ، وانفتحت أمامه من جديد ، آفاق إيمانه الواسع ، فعاش روحيته مع الله في ابتهال وخشوع ، وبدأ يتذكر لطف الله به ، ورحمته له ، ورعايته ، وتكريمه إيّاه من خلال ما اختصه به

٢٥٨

من رسالته وما سهّل له من سبل الحياة ، وهداه إليه من وسائلها ، وكيف خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك ، أو ينتظر ما يحدث لقومه ، فانطلقت صرخته المثقلة بالهم الكبير الروحي والرسالي والذاتي ، من كل أعماقه ، في استغاثة عميقة بالله وحده لا سيما في مثل ظروفه التي لا يملك أحد فيها أن يقدّم إليه شيئا.

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) فلا ملجأ لأيّ هارب أو ضائع أو حائر إلّا إليك ، ولا ملاذ إلّا أنت ، فأنت القادر على كل شيء ، والرحيم لكل مخلوق ، والعليم بكل الخفايا والمهيمن على الأمر كله ، والغافر لكل ذنب ، والمستجيب لكل داع ، والمغيث لكل ملهوف ، والمفرّج عن كل مهموم ومكروب ... وليس لي غيرك أسأله كشف ضرّي والنظر في أمري ، فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور ، (سُبْحانَكَ) إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور ، وفي حركة القدرة في الواقع ، في مظاهر الخلق والإبداع .. ، فيتحول ذلك إلى تسبيح منفتح خاشع مبتهل إلى الله ، (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فقد ظلمت نفسي في تحركي ، أو تقصيري في سبيل الدعوة ، من غير قصد ، ولا عمد ، وها أنا ذا ـ يا رب ـ راجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي ، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك ، ولتكشف عني كل أجواء الحيرة والغمّ التي تغمرني بالآلام والمشاكل ، فهل تستجيب لي؟ إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك.

* * *

الله ينجّي يونس من الغمّ

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) الذي كان يسبب له مشاكل في نفسه ، وفي واقعه ، في تطلعه نحو مستقبله ، لأنه كان الإنسان الرساليّ الذي لم يتمرد

٢٥٩

من المواقع التي يريد الله له أن يكون فيها ، بل كان ذلك من موقع الاعتقاد بأن المهمة قد انتهت بالفشل ، من دون أن يكون لها بديل ، (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الذين عاشوا الإيمان في روحيتهم وفي فكرهم وفي حياتهم فكرا ودينا ورسالة ودعوة وموقفا للحياة ، حيث أخلصوا لله العبادة. هؤلاء يتعهدهم الله برعايته فينجيهم من كل بلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة من أوسع الآفاق الرحيمة المنطلقة بالعفو والرضوان.

وهكذا نستوحي من هذه القصة الخاطفة ، أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين من عباده ورسله ، في ما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه ، أو تهرّبوا منه من مسئوليات ، وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولى ، أو أوضاع الضغط القاسية ، أو مشاكل الظروف الصعبة .. ، كنتيجة لفكرة انفعالية سريعة أو لشعور حادّ غاضب ، ثم يلطف الله بهم ، بعد أن يتراجعوا عن ذلك ، ويرجعوا إليه ، فينجيهم من بلائه ، ويحوطهم بنعمائه ، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه ، لئلا يتعقد الخطأ ، أو الانفعال في شخصيتهم ، لينطلقوا إلى الحياة من روحية الصفاء الروحي ، والنقاء الشعوري من جديد ، ليبدأوا الدعوة من حيث انتهوا ، ويتابعوا المسيرة بعزم وقوة وإخلاص.

ثم نلتقي مع الموقف المبدئي ، بالابتهالات الخاشعة الخاضعة لله المنطلقة من روحيّة الإحساس بالعبودية التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة ، مهما كانت الخطايا والذنوب ، وأن الخطأ لا يتحوّل الى عقدة ، بل إلى فرصة للقاء بالله من جديد في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة التي يبدأ فيها التائب تاريخا جديدا وصفحة بيضاء من حياته.

* * *

٢٦٠