تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٥٥)

____________________________________

عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل أنهم كانوا اثنى عشر ملكا وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بل إلى قوم لوط حسبما يأتى ذكره (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) نصب بفعل مضمر معطوف على نبىء أى واذكر وقت دخولهم عليه أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف أى خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه أو بنفس ضيف على أنه مصدر فى الأصل (فَقالُوا) عند ذلك (سَلاماً) أى نسلم سلاما أو سلمنا أو سلمت سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أى خائفون* فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه قاله عليه الصلاة والسلام حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ لما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة والسلام بسبب دخولهم بغير إذن ولا بغير وقت إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا حينئذ به ولم يتصد عليه الصلاة والسلام لتقريب الطعام إليهم وإنما لم يذكر ههنا اكتفاء بما بين فى غير هذا الموضع ألا يرى إلى أنه لم يذكر ههنا رده عليه الصلاة والسلام لسلامهم (قالُوا لا تَوْجَلْ) لا تخف وقرىء لا تاجل ولا توجل من أوجله أى أخافه ولا تواجل من واجله بمعنى أوجله (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) * استئناف لتعليل النهى عن الوجل فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله فى عافية وسلامة زمانا طويلا (بِغُلامٍ) هو إسحق عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى* (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) ولم يتعرض ههنا لبشارة يعقوب عليه الصلاة والسلام اكتفاء بما ذكر فى سورة هود (عَلِيمٍ) * إذا بلغ وفى موضع آخر (بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بذلك (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) وأثر فى تعجب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد فى حالة مباينة للولادة وزاد فى ذلك فقال (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أى بأى أعجوبة* تبشروننى فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شىء أو بأى طريقة تبشروننى وقرىء بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع فى نون الوقاية (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ) أى بما يكون لا محالة أو باليقين الذى لا لبس فيه أو بطريقة هى حق وهو أمر الله تعالى وقوله (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) من الآيسين* من ذلك فإن الله قادر على أن يخلق بشرا بغير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر وقرىء من القنطين وكان مقصده عليه الصلاة والسلام استعظام نعمته تعالى عليه فى ضمن التعجب العادى المبنى على سنة الله

٨١

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٩)

____________________________________

تعالى المسلوكة فيما بين عباده لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قول الملائكة (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) استفهام إنكارى أى لا يقنط (مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) المخطئون طريق المعرفة والصواب فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ومراده نفى القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أى ليس بى قنوط من رحمته تعالى وإنما الذى أقول لبيان منافاة حالى لفيضان تلك النعمة الجليلة على وفى التعرض لوصف الربوبية والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرىء بضم النون وبكسرها من قنط بالفتح ولم تكن هذه المفاوضة من الملائكة مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام خاصة بل مع سارة أيضا حسبما شرح فى سورة هود ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هذه هناك اكتفاء بما ذكر ههنا (قالَ) أى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتوسيطه بين قوله السابق وبين قوله (فَما خَطْبُكُمْ) أى أمركم وشأنكم الخطير الذى لأجله أرسلتم سوى البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) صريح فى أن بينهما مقالة مطوية لهم أشير به إلى مكانها كما فى قوله تعالى (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الآية فإن قوله الأخير ليس موصولا بقوله الأول بل هو مبنى على قوله تعالى (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) فإن توسيط قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثانى بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابه لهم عليهم الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء دليل على أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة لبيان أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام إن لم يكن شأنكم مجرد البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة والسلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوى عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بالواحد فى زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه فى تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لا بتدموا بها فتأمل (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) هم قوم لوط لكن وصفوا بالإجرام وجىء بهم بطريق التنكير ذما لهم واستهانة بهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء متصل من الضمير فى مجرمين أى إلى قوم أجرموا جميعا إلا آل لوط فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط لنهلك الأولين* وننجى الآخرين ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) أى لوطا وآله (أَجْمَعِينَ) أى مما يصيب القوم فإنه

٨٢

(إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٦٣)

____________________________________

استئناف للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامهم أو لبيان ما فهم من الاستثناء من مطلق عدم شمول العذاب لهم فإن ذلك قد يكون بكون حالهم بين بين أو لتعليله فإن من تعلق بهم التنجية بمنجى من شمول العذاب أو منقطع من قوم وقوله تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) متصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن وعلى هذا فقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من (آلَ لُوطٍ) أو من ضميرهم وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) اعتراضا وقرىء بالتخفيف (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين مع الكفرة* لتهلك معهم وقرىء قدرنا بالتخفيف وإنما علق فعل التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز حمله على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قول وأصله جعل الشىء على مقدار غيره وإسنادهم له إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الزلفى والاختصاص فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) شروع فى بيان كيفية إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط حسبما أجمل فى الاستثناء ثم فصل فى التعليل نوع تفصيل ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من الإهلاك والتنجية وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إنما قاله عليه الصلاة والسلام بعد اللتيا والتى حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل لما لم يشاهد من المرسلين عند مقاساته الشدائد ومعاناته المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتى ويذر عند تجشمه فى تخليصهم إنكارا لخذلانهم له وترك نصرته فى مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد حسبما فصل فى سورة هود لا أنه قاله عند ابتداء ورودهم له خوفا أن يطرقوه بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكى بقوله تعالى (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى بالعذاب الذى كنت تتوعدهم به فيمترون فيه ويكذبونك قد قشروا العصا وبينوا له عليه الصلاة والسلام جلية الأمر فأنى يمكن أن يعتر به بعد ذلك المساءة وضيق الذرع وليست كلمة بل إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل بما يسرك وتقربه عينك بل هى إضراب عما فهمه عليه الصلاة والسلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذى كانوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه الصلاة والسلام بإهلاك

٨٣

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦)

____________________________________

قومه وتنجية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهما وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالا ثم ذكر ما فعل القوم وما فعل بهم ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعى ثقة بمراعاته فى مواقع أخر ونسبة المجىء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ) أى باليقين الذى لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابهم عبر عنه بذلك تنصيصا على نفى الامتراء عنه أو المراد بالحق الإخبار بمجىء العذاب المذكور* وقوله تعالى (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد له أى أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أى المطابق للواقع وإنا لصادقون فى ذلك الخبر أو فى كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيد إثر تأكيد وقوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) شروع فى ترتيب مبادى النجاة أى اذهب بهم فى الليل وقرىء بالوصل وكلاهما من* السرى وهو السير فى الليل وقرىء فسر من السير (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بطائفة منه أو من آخره قال[افتحى الباب وانظرى فى النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم] وقيل هو بعد ما مضى منه شىء صالح (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر للمبالغة فى ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه* عادة الغفلة عن حال المتأخر والالتفات المنهى عنه بقوله تعالى (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) أى منك ومنهم (أَحَدٌ) فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف منكم أحد ولا يتخلف لغرض فيصيبه العذاب وقيل نهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهى عن ربط القلب بما خلفوه أو هو للإسراع فى السير فإن الملتفت قلما يخلو عن أدنى وقفة وعدم ذكر استثناء المرأة من الإسراء* والالتفات لا يستدعى عدم وقوعه فإن ذلك لما عرفت مرارا للاكتفاء بما ذكر فى مواضع أخر (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله تعالى بالمضى إليه وهو الشام أو مصر وحذف الصلتين على الاتساع المشهور وإيثار المضى إلى ما ذكر على الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين (وَقَضَيْنا) أى أوحينا (إِلَيْهِ) مقضيا ولذلك عدى بإلى (ذلِكَ الْأَمْرَ) مبهم* يفسره (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) على أنه بدل منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحة التى هى مدار ثبوت الحكم أى دابر هؤلاء المجرمين وإيراد صيغة المفعول بدل صيغة المضارع لكونها أدخل فى الدلالة على الوقوع وفى لفظ القضاء والتعبير عن العذاب بالأمر والإشارة

٨٤

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) (٧٠)

____________________________________

إليه بذلك وتأخيره عن الجار والمجرور وإبهامه أولا ثم تفسيره ثانيا من الدلالة على فخامة الأمر وفظاعته مالا يخفى وقرىء بالكسر على الاستئناف والمعنى أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد (مُصْبِحِينَ) داخلين فى الصبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير فى مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن* دابر هؤلاء بمعنى مدبرى هؤلاء (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) شروع فى حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل والقول وما ترتب عليه بعد ما أشير إلى ذلك إجمالا حسبما نبه عليه أى جاء أهل سدوم منزل لوط عليه الصلاة والسلام (يَسْتَبْشِرُونَ) أى مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة* والسلام طمعا فيهم (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) الضيف حيث كان مصدرا فى الأصل أطلق على الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وإطلاقه على الملائكة بحسب اعتقاده عليه الصلاة والسلام لكونهم فى زى الضيف والتأكيد ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتصافهم به وإظهار اعتنائه بشأنهم وتشمره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم من السوء ولذلك قال (فَلا تَفْضَحُونِ) أى عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه* ليس لى عندكم قدر وحرمة أولا تفضحون بفضيحة ضيفى فإن من أسىء إلى ضيفه فقد أسىء إليه يقال فضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مباشرتكم لما يسوؤنى (وَلا تُخْزُونِ) أى لا تذلونى ولا تهينونى بالتعرض لمن أجرتهم بمثل تلك الفعلة الخبيثة وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله (فَلا تَفْضَحُونِ) أكثر تأثيرا فى جانبه عليه الصلاة والسلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل شعور المجير بذلك ربما يتسامح فيه وأما بعد الشعور به والمناصبة لحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار عبر عليه الصلاة والسلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهى المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزى وأمرهم بتقوى الله تعالى فى ذلك وإنما لم يصرح بالنهى عن نفس تلك الفاحشة لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل المراد تقوى الله تعالى فى ركوب الفاحشة ولا يساعده توسيطه بين النهيين عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصلاة والسلام وكذلك قوله تعالى (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أى عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتهم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر أى ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه الصلاة والسلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه وكانوا قد نهوه عليه الصلاة والسلام عن أن يجير أحدا فكأنهم قالوا ما ذكرت من الفضيحة والخزى إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لو لا تعرضك لما نتصدى له لما اعتراك

٨٥

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

____________________________________

تلك الحالة ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) يعنى نساء القوم فإن نبى كل أمة بمنزلة أبيهم أو بناته حقيقة أى فتزوجوهن وقد كانوا من قبل يطلبونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا* لعدم مشروعية المناكحة بين المسلمات والكفار وقد فصل فى سورة هود (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أى قضاء الوطر أو ما أقول لكم (لَعَمْرُكَ) قسم من الله تعالى بحياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من الملائكة بحياة لوط عليه الصلاة والسلام والتقدير لعمرك قسمى وهى لغة فى العمر يختص به القسم إيثارا للخفة لكثرة دورانه على* الألسنة (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) غوايتهم أو شدة غلمتهم التى أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب* (يَعْمَهُونَ) يتحيرون ويتمادون فكيف يسمعون النصح وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أى الصيحة العظيمة الهائلة وقيل صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام (مُشْرِقِينَ) داخلين فى وقت شروق الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها) عالى المدينة أو عالى قراهم وهو المفعول الأول لجعلنا* وقوله تعالى (سافِلَها) مفعول ثان له وهو أدخل فى الهول والفظاعة من العكس كما مر (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) * فى تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلاب (حِجارَةً) كائنة (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر أو طين عليه كتاب وقد فصل ذلك فى سورة هود (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من القصة (لَآياتٍ) لعلامات يستدل بها على* حقيقة الحق (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أى المتفكرين المتفرسين الذين يثبتون فى نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشىء بسمته (وَإِنَّها) أى المدينة أو القرى (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أى طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها ٧٧ (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر من المدينة أو القرى أو فى كونها بمرأى من الناس يشاهدونها فى ذهابهم وإيابهم* (لَآيَةً) عظيمة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسوله فإنهم الذين يعرفون أن ما حاق بهم العذاب الذى ترك ديارهم بلاقع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية وإفراد الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهد ههنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف.

٨٦

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (٨٣)

____________________________________

(وَإِنْ كانَ) إن مخففة من إن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف واللام هى الفارقة أى وإن الشأن كان (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام والأيكة والليكة الشجرة الملتفة المتكائفة وكان* عامة شجرهم المقل وكانوا يسكنونها فبعثه الله تعالى إليهم (لَظالِمِينَ) متجاوزين عن الحد (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالعذاب روى إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام ثم بعث سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح فبعث الله تعالى عليهم منها نارا فأحرقتهم فهو عذاب يوم الظلة (وَإِنَّهُما) يعنى سدوم والأيكة وقيل الأيكة ومدين* فإنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إليهما فدكر أحدهما منبه على الآخر (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح* والإمام اسم ما يؤتم به سمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذى يكتب فيه لأنها مما يؤتم به (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) يعنى ثمود (الْمُرْسَلِينَ) أى صالحا فإن من كذب واحدا من الأنبياء عليهم‌السلام فقد كذب* الجميع لا تفاقهم على التوحيد والأصول التى لا تخلف باختلاف الأمم والأعصار وقيل المراد صالح ومن معه من المؤمنين كما قيل الخبيبون لخبيب بن عبد الله بن الزبير وأصحابه والحجر واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) وهى الآيات المنزلة على نبيهم أو المعجزات من الناقة وسقيها وشربها ودرها أو الأدلة المنصوبة لهم (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) إعراضا كليا بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا* (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها أو من العذاب لحسبانهم أن ذلك يحميهم منه. عن جابر رضى الله تعالى عنه أنه قال مررنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحجر فقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذارا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) وهكذا وقع فى سورة هود قيل صاح بهم جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء فى الأرض فتقطعت قلوبهم فى صدورهم وفى سورة الأعراف (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء تموجا شديدا يفضى إليها كما مر فى سورة هود.

٨٧

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧)

____________________________________

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ولم يدفع عنهم ما نزل بهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة والأموال الوافرة والعدد المتكاثرة وفيه تهكم بهم والفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا ٨٥ يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أى إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ولذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقى إلى الصلاح أو إلا بسبب* العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فينتقم الله تعالى* لك فيها ممن كذبك (فَاصْفَحِ) أى أعرض عنهم (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) إعراضا جميلا وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم وقيل هى منسوخة بآية السيف (إِنَّ رَبَّكَ) الذى يبلغك* إلى غاية الكمال (هُوَ الْخَلَّاقُ) لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق (الْعَلِيمُ) بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شىء مما جرى بينك وبينهم فهو حقيق بأن تكل جميع الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذى خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين وفى مصحف عثمان وأبى رضى الله تعالى عنهما هو الخالق وهو صالح للقليل والكثير والخلاق مختص بالكثير (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) سبع آيات وهى الفاتحة وعليه عمر وعلى وابن مسعود وأبو هريرة رضى الله تعالى عنهم والحسن وأبو العالية ومجاهد والضحاك وسعيد ابن جبير وقتادة رحمهم‌الله تعالى وقيل سبع سور وهى الطوال التى سابعتها الأنفال والتوبة فإنهما فى حكم سورة واحدة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية وقيل يونس أو الحواميم السبع وقيل الصحائف السبع* وهى الأسباع (مِنَ الْمَثانِي) بيان للسبع من التثنية وهى التكرير فإن كان المراد الفاتحة وهو الظاهر فتسميتها مثانى لتكرر قراءتها فى الصلاة وأما تكرر قراءتها فى غير الصلاة كما قيل فليس بحيث يكون مدار للتسمية ولأنها تثنى بما يقرأ بعدها فى الصلاة وأما تكرر نزولها فلا يكون وجها للتسمية لأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثانى إذ السورة مكية بالاتفاق وإن كان المراد غيرها من السور فوجه كونها من المثانى أن كلا من ذلك تكرر قراءته وألفاظة أو قصصه ومواعظه أو من الثناء لاشتماله على ما هو ثناء على الله واحدتها مثناة أو مثنية صفة للآية وأما الصحائف وهى الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص

٨٨

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١)

____________________________________

والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ولما فيها من الثناء على الله تعالى كأنها تثنى عليه سبحانه بأفعاله وصفاته الحسنى ويجوز أن يراد بالمثانى القرآن لما ذكر أو لأنه مثنى عليه بالإعجاز أو كتب الله تعالى كلها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض* أو العام على الخاص وإن أريد به الأسباع أو كل القرآن فهو عطف أحد الوصفين على الآخر كما فى قوله[إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتائب فى المزدحم] أى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) ما يقال له السبع (الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب ولا تدم نظرك (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) من زخارف الدنيا وزينتها ومحاسنها وزهرتها (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفرة فإن ما فى الدنيا من* أصناف الأموال والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيته مستحقر لا يعبأ به أصلا وفى حديث أبى بكر رضى الله تعالى عنه من أوتى القرآن فرأى أن أحدا أوتى أفضل مما أوتى فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وروى أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل ليهود بنى قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها فى سبيل الله فقيل لهم قد أعطيتم سبع آيات وهى خير من هذه القوافل السبع (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) حيث لم يؤمنوا ولم ينتظموا أتباعك فى* سلك ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين وقيل أوانهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتعهم به لا يكون مدارا للحزن عليهم (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أى تواضع لهم وارفق بهم وألن جانبك لهم وطب نفسا* من إيمان الأغنياء (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أى المنذر المظهر لنزول عذاب الله وحلوله (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قيل إنه متعلق بقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) الخ أى أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أى قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعدوانا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء حيث كان يقول بعضهم سورة البقرة لى وبعضهم سورة آل عمران لى وهكذا أو قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه وحمل توسط قوله تعالى (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية وعقب ذلك بأنه جل المقام عن التشبيه ولقد أوتى عليه الصلاة والسلام ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله وقيل

٨٩

إنه متعلق بقوله (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) فإنه فى قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين يعنى اليهود وهو ما جرى على بنى قريظة والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك وأنت خبير بأن ما يشبه به العذاب المنذر لا بد أن يكون محقق الوقوع معلوم الحال عند المنذرين إذ به تتحقق فائدة التشبيه وهى تأكيد الإنذار وتشديده وعذاب بنى قريظة والنضير مع عدم وقوعه إذ ذاك لم يسبق به وعد ووعيد فهم منه فى غفلة محضة وشك مريب وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما فى قوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ونظائره على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى فى الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة وفى الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسام تخصيص من غير مخصص وقد جعل الموصول مفعولا أول لأنذر أى أنذر المعضين الذين جزءوا القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعد كل منهم فى مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر شاعر والآخر كذاب فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق فى عدم كون العذاب الذى شبه به العذاب المنذر واقعا ولا معلوما للمنذرين ولا موعود الوقوع أنه لا داعى إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم فى ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل عاما لكلا الفريقين وغيرهم مع أن بعض المنذرين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود ابن المطلب قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ولا إلى تقديم المفعول الثانى على الأول كما ترى وقيل إنه وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم القاعدون فى مداخل مكة كما حرر وفيه مع ما مر أن قوله تعالى (كَما أَنْزَلْنا) صريح فى أنه من قول الله تعالى لا من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاعتذار بأن ذلك من باب ما يقوله بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الآمر هو الملك حسبما سلف فى قوله تعالى (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) تعسف لا يخفى وأن إعمال الوصف الموصوف مما لم يجوزه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين أو المصير إلى جعله مفعولا غير صريح أى أنا النذير المبين بعذاب مثل عذاب المقتسمين وقيل المراد بالمقتسمين الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى وأنت تدرى أن عذابهم حيث كان متحققا ومعلوما للمنذرين حسبما نطق به القرآن العظيم صالح لأن يقع مشبها به العذاب المنذر لكن الموصول المذكور عقيبه حيث لم يمكن كونه صفة للمقتسمين حينئذ فسواء جعلناه مفعولا أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية فى حين الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور فى حين المفعول الثانى فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه

٩٠

تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم فى السبب فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبيت الذى هو السبب لهلاك أولئك كما أن أولئك بمعزل من التعضية التى هى السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما فى جانب والآخر فى جانب واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذى هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقرب من الأقوال المذكورة أنه متعلق بالأول وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائج النظر الجليل والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما والعدول عن تطبيق ما فى جانب المشبه به على ما فى جانب المشبه بأن يقال كما آتينا المقتسمين حسبما وقع فى قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائى فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان وشتان بينه وبين الثانى ولا يقدح ذلك فى وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته كما فى الصلاة الخليلية فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضة على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله أتم وأكمل مما فاض على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما ذلك للتقدم فى الوجود والتنصيص عليه فى القرآن العظيم فليس فى التشبيه شائبة إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام أفضلية ما تعلق به الأول مما تعلق به الثانى وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك فى العلة والاتحاد فى الحقيقة التى هى مطلق الوحى وتوسيط قوله تعالى (لا تَمُدَّنَ) الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ثم نهى عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنبىء عن وشك زوالها عنهم ثم عن الحزن بعدم إيمان المنهمكين فيها بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قيامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل فى تضاعيف ما أوتى من القرآن العظيم ثم رجع إلى كيفية إيتائه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم عن العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم فى كونه وحيا صادقا فتأمل والله عنده علم الكتاب هذا وقد قيل المعنى قل إنى أنا النذير المبين كما قد أنزلنا فى الكتب إنك ستأتى نذيرا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى يريد أن ما فى كما موصولة والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهى مع ما فى حيزها فى محل النصب على الحالية من مفعول قل أى قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أى موافقا لذلك فالأنسب حينئذ حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (عِضِينَ) جمع عضة وهى الفرقة

٩١

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦)

____________________________________

أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة تعضية إذا جعلها أعضاء وإنما جمعت جمع السلامة جبرا للمحذوف كسنين وعزين والتعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التى هى تفريق الأعضاء من ذى الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض من المثليات للتنصيص على كمال قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم وقيل هى فعلة من عضهته إذا بهته وعن عكرمة العضه السحر بلسان قريش فنقصانها على الأول واو وعلى الثانى هاء (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أى لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤال توبيخ وتقريع (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فى الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا ولنجزينهم بذلك جزاءا موفورا وفيه من التشديد وتأكيد الوعيد مالا يخفى والفاء لترتيب الوعيد على أعمالهم التى ذكر بعضها وفى التعرض لوصف الربوبية مضافا إليه عليه الصلاة والسلام إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فاجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو افرق بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرية أو موصوله والعائد محذوف أى ما تؤمر به من الشرائع المودعة فى تضاعيف ما أوتيته من المثانى* السبع والقرآن العظيم (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أى لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم ولا تتصد للانتقام منهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بقمعهم وتدميرهم قيل كانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحرث بن قيس بن الطلاطلة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب يبالغون فى إيذاء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستهزاء به فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال قد أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا فى عقبه فقطه فمات وأومأ إلى اخمص العاص فدخلت فيه شوكة فقال لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات وأشار إلى عينى الأسود بن المطلب فعمى وإلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهوينا للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام بل اجترءوا على العظيمة التى هى الإشراك بالله سبحانه* (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ما يأتون ويذرون.

٩٢

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

____________________________________

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من كلمات الشرك والطعن فى القرآن والاستهزاء به وبك وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تتضمنه من التسلية وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقة باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فافزع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدر والحرج بالتسبيح والتقديس ملتبسا بحمده وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسّلام مالا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسّلام والإشعار بعلة الحكم أعنى الأمر بالتسبيح والحمد (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أى المصلين يكفيك ويكشف الغم عنك* أو فنزهه عما يقولون ملتبسا بحمده على أن هداك للحق المبين وعنه عليه الصلاة والسّلام أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) دم على ما أنت عليه من عبادته تعالى وإيثار الإظهار بالعنوان السالف آنفا لتأكيد ما سبق من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسّلام والإشعار بعلة الأمر بالعبادة (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أى الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حى مخلوق وإسناد الإتيان* إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحى طالب للوصول إليه والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا من غير إخلال بها لحظة. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٩٣

١٦ ـ سورة النحل

(مكية وآياتها مائة وثمان وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

____________________________________

(سورة النحل مكية إلا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها ، وهى مائة وثمان وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (أَتى أَمْرُ اللهِ) أى الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب الموعود للكفرة عبر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققه فى نفسه وإتيانه منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع فى سلك الواقع أو عن إتيان مباديه القريبة على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات وأبا ما كان ففيه تنبيه على كمال قربه من الوقوع واتصاله* وتكميل لحسن موقع التفريع فى قوله عزوجل (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن النهى عن استعجال الشىء وإن صح تفريعه على قرب وقوعه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعه على وقوعه إذ بالوقوع يستحيل الاستعجال رأسا لا بما ذكر من قرب وقوعه ووقوع مباديه والخطاب للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءة على صيغة نهى الغائب واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله ما ذكر أو العذاب الموعود للكفرة خاصة أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب حتى يعمهم النهى عنه وأما الثانى فلأن استعجالهم له بطريق الحقيقة واستعجال الكفرة بطريق الاستهزاء كما عرفته فلا ينتظمهما صيغة واحدة والالتجاء إلى إرادة معنى مجازى يعمهما معا من غير أن يكون هناك رعاية نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل الجليل وما روى من أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرفع الناس رموسهم فلما نزل فلا تستعجلوه اطمأنوا فليس فيه دلالة على عموم الخطاب كما قيل لا لما توهم من أن التصدير بالفاء يأباه فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققته بل لأن مناط اطمئنانهم إنما وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائى لا الحقيقى الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزم لامتناع النهى عنه لما أن النهى عن الشىء يقتضى إمكانه فى الجملة ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهى عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضى لعدم وقوع المستعجل بعد ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم

٩٤

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

____________________________________

العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وقد عرفت استحالة صدور استعجالها عن المؤمنين نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله عبارة عن العذاب الموعود للكفرة خاصة لكن الذى يقضى به الإعجاز التنزيلى أنه خاص بالكفرة كما ستقف عليه ولما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله عزوجل إلى مالا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقاد أن احدا يحجزه عن إنجاز وعده وإمضاء وعيده وقد قالوا فى تضاعيفه إن صح مجىء العذاب فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها رد ذلك فقيل بطريق الاستئناف (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أى تنزه وتقدس بذاته وجل عن* إشراكهم المؤدى إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وصيغة الاستقبال للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم لغيرهم وعلى تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين تفوت هذه النكتة كما يفوت ارتباط المنهى عنه بالمتنزه عنه وقرىء على صيغة الخطاب (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) بيان لتحتم التوحيد حسبما نبه عليه تنبيها إجماليا ببيان تقدس جناب الكبرياء وتعاليه عن أن يحوم حوله شائبة أن يشاركه شىء فى شىء وإيذان بأنه دين أجمع عليه جمهور الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وأمروا بدعوة الناس إليه مع الإشارة إلى سر البغتة والتشريع وكيفية إلقاء الوحى والتنبيه على طريق علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتيان ما اوعدهم به وباقترابه إزاحة لاستبعادهم اختصاصه عليه الصلاة والسّلام بذلك وإظهارا لبطلان رأيهم فى الاستعجال والتكذيب وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادة مستمرة له سبحانه والمراد بالملائكة إما جبريل عليه‌السلام قال الواحدى يسمى الواحد بالجمع إذا كان رئيسا أو هو ومن معه من حفظة الوحى بأمر الله تعالى وقرىء ينزل من الإنزال وتنزل بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبنى للمفعول من التنزيل (بِالرُّوحِ) أى بالوحى الذى من جملته* القرآن على نهج الاستعارة فإنه يحيى القلوب الميتة بالجهل أو يقوم فى الدين مقام الروح فى الجسد والباء متعلقة بالفعل أو بما هو حال من مفعوله أى ملتبسين بالروح (مِنْ أَمْرِهِ) بيان للروح الذى أريد به* الوحى فإنه أمر بالخير أو حال منه أى حال كونه ناشئا ومبتدا منه أو صفة له على رأى من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أى بالروح الكائن من أمره الناشىء منه أو متعلق بينزل ومن للسببية كالباء مثل ما فى قوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أى ينزلهم بأمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أن ينزلهم به عليهم لاختصاصهم* بصفات تؤهلهم لذلك (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح أى ينزلهم ملتبسين بأن أنذروا أى بهذا القول* والمخاطبون به الأنبياء الذين نزلت الملائكة عليهم والآمر هو الله سبحانه والملائكة نقلة للأمر كما يشعر به الباء فى المبدل منه وأن إما مخففة من أن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف أى ينزلهم ملتبسين بأن

٩٥

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥)

____________________________________

الشأن أقول لكم أنذروا أو مفسرة على أن تنزيل الملائكة بالوحى فيه معنى القول كأنه قيل يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أنذروا فلا محل لها من الإعراب أو مصدرية لجواز كون صلتها إنشائية كما فى قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) حسبما ذكر فى أوائل سورة هود فمحلها الجر على البدلية أيضا والإنذار الإعلام خلا أنه مختص بإعلام المحذور من نذر بالشىء إذا علمه فحذره وأنذره بالأمر إنذارا أى أعلمه وحذره وخوفه فى إبلاغه* كذا فى القاموس أى أعلموا الناس (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) فالضمير للشأن ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن التصريح به وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقرير له فى الذهن فإن الضمير لا يفهم منه ابتداء إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن لديه عند وروده فضل تمكن كأنه قيل أنذروا أن الشأن الخطير هذا وأنباء مضمونه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك وذلك كاف فى كون إعلامه إنذارا* وقوله سبحانه (فَاتَّقُونِ) خطاب للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أى إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له فى الألوهية فاتقون فى الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه من الإشراك وفروعه التى من جملتها الاستعجال والاستهزاء وبعد تمهيد الدليل السمعى للتوحيد شرع فى تحرير الأدلة العقلية فقيل (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أى أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمط اللائق (تَعالى) * وتقدس بذاته لا سيما بأفعاله التى من جملتها إبداع هذين المخلوقين (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم المعهود أو عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذى لا يبدىء ولا يعيد وبعد ما نبه على صنعه الكلى المنطوى على تفاصيل مخلوقاته شرع فى تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أى* هذا النوع غير الفرد الأول منه (مِنْ نُطْفَةٍ) جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا* (فَإِذا هُوَ) بعد الخلق (خَصِيمٌ) منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم (مُبِينٌ) لحجته لقن بها وهذا أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدته أو مخاصم لخالقه منكر له قائل من يحيى العظام وهى رميم وهذا أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة روى أن أبى بن خلف الجمحى أنى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم فقال يا محمد أترى الله تعالى يحيى هذا بعد ما قدرم فنزلت (وَالْأَنْعامَ) وهى* الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز وانتصابه بمضمر يفسره قوله تعالى (خَلَقَها) أو بالعطف* على الإنسان وما بعده بيان ما خلق لأجله والذى بعده تفصيل لذلك وقوله تعالى (لَكُمْ) إما متعلق بخلقها* وقوله (فِيها) خبر مقدم وقوله (دِفْءٌ) مبتدأ وهو ما يدفأ به فيقى من البرد والجملة حال من المفعول أو

٩٦

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧)

____________________________________

الظرف الأول خبر للمبتدأ المذكور وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة (وَمَنافِعُ) هى درها* وركوبها وحملها والحراثة بها وغير ذلك وإنما عبر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم وتقديم الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقى إلى الأعلى (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أى تأكلون ما يؤكل* منها من اللحوم والشحوم وغير ذلك وتغيير النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما فى السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع والجمال يحصل منها وهى باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل وتقديم الظرف للإيذان بأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد فى المعاش لأن الأكل مما عداها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر من قبيل التفكه مع أن فيه مراعاة للفواصل ويحتمل أن يكون معنى الأكل منها أكل ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب بإكراء الإبل وبإثمار نتاجها وألبانها وجلودها (وَلَكُمْ فِيها) مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية (جَمالٌ) أى زينة فى أعين الناس ووجاهة عندهم (حِينَ تُرِيحُونَ) تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشى (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرجونها بالغداة من حظائرها* إلى مسارحها فالمفعول محذوف من كلا الفعلين لرعاية الفواصل وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية والأكناف بها وبتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند ورودها وصدورها فى ذينك الوقتين وأما عند كونها فى المراعى فينقطع إضافتها الحسية إلى أربابها وعند كونها فى الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر وتقديم الإراحة على السرح لتقدم الورود على الصدور ولكونها أظهر منه فى استتباع ما ذكر من الجمال وأتم فى استجلاب الأنس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطون مرتفعة الضلوع حافلة الضروع وقرىء حينا تريحون وحينا تسرحون على أن كلا الفعلين وصف لحينا بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) جمع ثقل وهو متاع المسافر وقيل أثقالكم أجرامكم (إِلى بَلَدٍ) قال ابن عباس رضى الله عنهما أريد به اليمن ومصر* والشام ولعله نظر إلى أنها متاجر أهل مكة وقال عكرمة أريد به مكة ولعله نظر إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لو لا الإبل (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فضلا عن استصحابها* معكم وقرىء بفتح الشين وهما لغتان بمعنى الكلفة والمشقة وقيل المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذى هو الصدع والمكسور النصف كأنه يذهب نصف القوة لما يناله من الجهد فالإضافة إلى الأنفس مجازية أو على تقدير مضاف أى وإلا بشق قوى الأنفس وهو استثناء مفرغ من أعم الأشياء أى لم تكونوا بالغيه بشىء من الأشياء إلا بشق الأنفس ولعل تغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الأنعام مدارا للنعم السابقة إلى الجملة الفعلية المفيدة لمجرد الحدوث للإشعار بأن

٩٧

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

____________________________________

هذه النعمة ليست فى العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفى الشمول للأوقات والاطراد فى الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ وخاصة بالإبل وبحسب المتعلق بالضاربين فى الأرض المتقلبين فيها للتجارة وغيرها فى أحايين غير مطردة وأما سائر النعم المعدودة فموجودة فى جميع أصناف* الأنعام وعامة لكافة المخاطبين دائما أو فى عامة الأوقات (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ولذلك أسبغ عليكم هذه النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة (وَالْخَيْلَ) هو اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل* وهو عطف على الأنعام أى خلق الخيل (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) تعليل بمعظم منافعها وإلا فالإنتفاع* بها بالحمل أيضا مما لا ريب فى تحققه (وَزِينَةً) عطف على محل (لِتَرْكَبُوها) وتجريده عن اللام لكونه فعلا لفاعل الفعل المعلل دون الأول وتأخيره لكون الركوب أهم منه أو مصدر لفعل محذوف أى وتتزينوا بها زينة وقرىء بغير واو أى خلقها زينة لتركبوها ويجوز أن يكون مصدرا واقعا موقع الحال من فاعل* تركبوها أو مفعوله أى متزينين بها أو متزينا بها (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أى يخلق فى الدنيا غير ما عدد من أصناف النعم فيكم ولكم ما لا تعلمون كنهه وكيفية خلقه فالعدول إلى صيفة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة أو يخلق لكم فى الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية مالا تعلمون أى ما ليس من شأنكم أن تعلموه وهو ما أشير إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى أعددت لعبادى الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يكون هذا إخبارا بأنه سبحانه يخلق من الخلائق مالا علم لنا به دلالة على قدرته الباهرة الموجبة للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة. عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه‌السلام كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نور وجمالا إلى جمال وعظما إلى عظم ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيل قصد وقاصد أى مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه كأنه يقصد الوجه الذى يؤمه السالك لا يعدل عنه أى حق عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعده المحتوم بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق الذى هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل قاله أبو البقاء أى عليه عزوجل تقويمها وتعديلها أى جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق لكن لا بعد ما كانت فى نفسها منحرفة عنه بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج قوله سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التى كل واحد منها

٩٨

لاحب يهتدى بمناره وعلم يستضاء بناره وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحى الناطق بحقيقة الحق الفاحص عن كل ماجل من الأسرار ودق الهادى إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى المنحية عن فيافى الضلالة ومهاوى الردى ألا يرى كيف بين أولا تنزه جناب الكبرياء وتعاليه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبة توهم الإشراك ثم أوضح سر إلقاء الوحى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكيفية أمرهم بإنذار الناس ودعوتهم إلى التوحيد ونهيهم عن الإشراك ثم كر على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعال مرشدا إلى طريقة الاستدلال فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجسمانى ومركزه بقوله تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم فصل أفعاله المتعلقة بما بينهما فبدأ بفعله المتعلق بأنفس المخاطبين ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه فى معايشهم ثم بين قدرته على خلق ما لا يحيط به علم البشر بقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) وكل ذلك كما ترى بيان لسبيل التوحيد غب بيان وتعديل له أيما تعديل فالمراد بالسبيل على الأول الجنس بدليل إضافة القصد إليه وقوله تعالى (وَمِنْها) فى محل الرفع على الابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف كما فى* قوله تعالى ومنادون ذلك وقد مر فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الخ أى بعض السبيل أو بعض من السبيل فإنها تؤنث وتذكر (جائِرٌ) أى مائل عن الحق منحرف عنه لا يوصل* سالكه إليه وهو طرق الضلال التى لا يكاد يحصى عددها المندرج كلها تحت الجائر وعلى الثانى نفس السبيل المستقيم والضمير فى منها راجع إليها بتقدير المضاف أى ومن جنسها لما عرفت من أن تعديل السبيل وتقويمه إبداعه ابتداء على وجه الاستقامة والعدالة لا تقويمه بعد انحرافه وأياما كان فليس فى النظم الكريم تغيير الأسلوب رعاية لأمر مطلوب كما قيل فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه كما فى قوله سبحانه (الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فإن مقتضى الظاهر أن يقال والذى يسقمنى ويشفين ولكن غير إلى ما عليه النظم الكريم تفاديا عن إسناد ما تكرهه النفس إليه سبحانه وليس المراد ببيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذاك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة وقد بين ذلك فى مواضع غير معدودة بل المراد ما مر من نصب الأدلة لهداية الناس إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال وجائرها ثم يغير سبك النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملة الظرفية اعتراضية جىء بها لبيان الحاجة إلى البيان والتعديل وإظهار جلالة قدر النعمة فى ذلك والمعنى على الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته بل هو مخل بحكمته حيث يستدعيه تسوية المحسن والمسىء والمطيع والعاصى بحسب الاستعداد وإليه أشير بقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية موصلة إليه* البتة مستلزمة لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأه لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها ولا

٩٩

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)

____________________________________

حكمة فى تلك المشيئة لما أن الذى عليه يدور فلك التكليف وإليه ينسحب الثواب والعقاب إنما هو الاختيار الجزئى الذى عليه يترتب الأعمال التى بها نيط الجزاء هذا هو الذى يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام وقد فسر كون قصد السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه على نهج الاستقامة وإيثار حرف الاستعلاء على أداة الانتهاء لتأكيد الاستقامة على وجه تمثيلى من غير أن يكون هناك استعلاء لشىء عليه سبحانه وتعالى عنه علوا كبيرا كما فى قوله تعالى (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) فالقصد مصدر بمعنى الفاعل والمراد بالسبيل الجنس كما مر وقوله تعالى (وَمِنْها جائِرٌ) معطوف على الجملة الأولى والمعنى أن قصد السبيل واصل إليه تعالى بالاستقامة وبعضها منحرف عنه ولو شاء لهداكم جميعا إلى الأول وأنت خبير بأن هذا حق فى نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبة لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيد وبين ما لحق ولما بين الطريق السمعى للتوحيد على وجه إجمالى وفصل بعض أدلته المتعلقة بأحوال الحيوانات وعقب ذلك ببيان السر الداعى إليه بعثا للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثا على حسن التلقى لما لحق أتبع ذلك ذكر ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) بقدرته القاهرة (مِنَ السَّماءِ) أى من السحاب أو من* جانب السماء (السَّماءِ) أى نوعا منه وهو المطر وتأخره عن المجرور لما مر مرارا من أن المقصود هو الإخبار بأنه أنزل من السماء شيئا هو الماء لا أنه أنزله من السماء والسر فيه ما سلف من أن عند تأخير ما حقه* التقديم يبقى الذهن مترقبا له مشتاقا إليه فيتمكن لديه عند وروده عليه فضل تمكن (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أى ما تشربونه وهو إما مرتفع بالظرف الأول أو مبتدأ وهو خبره والجملة صفة لماء والظرف الثانى نصب على الحالية من شراب ومن تبعيضية وليس فى تقديمه إيهام حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياه العيون والأبيار منه لقوله تعالى (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وقيل الظرف الأول متعلق بأنزل والثانى خبر لشراب والجملة صفة لماء وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثانى منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة نظم* التنزيل الجليل (وَمِنْهُ شَجَرٌ) من ابتدائية أى ومنه يحصل شجر ترعاه المواشى والمراد به ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا أو تبعيضية مجازا لأنه لما كان سقيه من الماء جعل كأنه منه كقوله أسنمة الآبال فى ربابه يعنى به المطر الذى ينبت به الكلأ الذى تأكله الإبل فتسمن أسنمتها وفى حديث عكرمة لا تأكلوا* ثمن الشجر فإنه سحت يعنى الكلأ (فِيهِ تُسِيمُونَ) ترعون من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهى العلامة لأنها تؤثر بالرعى علامات فى الأرض (يُنْبِتُ) أى الله عزوجل وقرىء بالنون (لَكُمْ بِهِ) بما أنزل من السماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض

١٠٠