تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (٨٤)

____________________________________

بقرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فضرب بقرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى وقيل لأنه رأى فى منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرنى الشمس وقيل لأنه انقرض فى عهده قرنان وقيل لأنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه وقيل لقب به لشجاعته هذا وأما ذو القرنين الثانى فقد قال ابن كثير أنه الاسكندر بن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومى بن ليطى بن يونان ابن يافث بن نونه بن شرخون بن رومية بن ثونط بن نوفيل بن رومى بن الأصفر بن العنر بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام كذا نسبه ابن عساكر المقدونى اليونانى المصرى بانى الإسكندرية الذى يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل أكثر من ألفى سنة كان هذا قبل المسيح عليه‌السلام بنحو من ثلثمائة سنة وكان وزيره ارسطاطاليس الفيلسوف وهو الذى قتل دارا ابن دارا وأذل ملوك الفرس ووطىء أرضهم ثم قال ابن كثير وإنما بينا هذا لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور فى القرآن العظيم هو هذ المتأخر فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير كيف لا والأول كان عبدا صالحا مؤمنا وملكا عادلا وزيره الخضر عليه الصلاة والسلام وقد قيل إنه كان نبيا وأما الثانى فقد كان كافرا وزيره ارسططاليس الفيلسوف وقد كان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفى سنة فأين هذا من ذاك انتهى قلت المقدونى نسبة إلى بلد من بلاد الروم غربى دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية لا زالت مشحونة بالشعائر الدينية بينهما من المسافة مسيرة خمسة عشرة يوما أو نحو ذلك عند مدينة سيروز اسمها بلغة اليونانيين مقدونيا كانت سرير ملك هذا الإسكندر وهى اليوم بلقع لا يقيم بها أحد ولكن فيها علائم تحكى كمال عظمها فى عهد عمرانها ونهاية شوكة واليها وسلطانها ولقد مررت بها عند القفول من بعض المغازى السلطانية فعاينت فيها من تعاجيب الآثار ما فيه عبرة لأولى الأبصار (قُلْ) لهم فى الجواب (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) أى سأذكر لكم (مِنْهُ) أى من ذى القرنين (ذِكْراً) أى نبأ مذكورا وحيث كان ذلك بطريق الوحى* المتلو حكاية عن جهة الله عزوجل قيل سأتلو أو سأتلو فى شأنه من جهته تعالى ذكرا أى قرآنا والسين للتأكيد والدلالة على التحقيق المناسب لمقام تأييده عليه الصلاة والسلام وتصديقه بإنجاز وعده أى لا أترك التلاوة البتة كما فى قول من قال[سأشكر عمرا إن تراخت منيتى * أيادى لم تمنى وإن هى جلت] * لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحى بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهف فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ائتونى غدا أخبركم فأبطأ عليه الوحى خمسة عشرة يوما أو أربعين كما ذكر فيما سلف وقوله عزوجل (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) شروع فى تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له ومعنى الأول جعله قادرا وقويا ومعنى الثانى جعل له قدرة وقوة ولتلازمها فى الوجود وتقاربهما فى المعنى يستعمل كل منهما فى محل الآخر كما فى قوله عز وعلا (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أى جعلناهم

٢٤١

(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (٨٦)

____________________________________

قادرين من حيث القوى والأسباب والآلات على أنواع التصرفات فيها ما لم نجعله لكم من القوة والسعة فى المال والاستظهار بالعدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنكم فيها أى ما لم نجعلكم قادرين على ذلك فيها أو مكنا لهم فى الأرض ما لم نمكن لكم وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية كما أشير إليه فى سورة يوسف عليه الصلاة والسلام والمعنى إنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فى الأرض من حيث التدبير والرأى والأسباب حيث سخر له السحاب ومدله فى الأسباب وبسط له* النور وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير فى الأرض وذللت له طرقها (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) * أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه (سَبَباً) أى طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة (فَأَتْبَعَ) بالقطع أى فأراد بلوغ المغرب فأتبع (سَبَباً) يوصله إليه ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لمراعاة الحركة الشمسبة وقرىء فاتبع من الافتعال والفرق أن الأول فيه معنى الإدراك والإسراع دون الثانى (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أى منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيط الغربى الذى يقال له أو قيانوس الذى فيه* الجزائر المسماة بالخالدات التى هى مبدأ الأطوال على أحد القولين (وَجَدَها) أى الشمس (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أى ذات حمأة وهى الطين الأسود من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها وقرىء حامية أى حارة روى أن معاوية رضى الله عنه قرأ حامية وعنده ابن عباس رضى الله عنهما فقال حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال فى ماء وطين وروى فى ثأط فوافق قول ابن عباس رضى الله عنهما وليس بينهما منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين وكون الياء فى الثانية منقلبة عن الهمزة لانكسار ما قبلها وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس رضى الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته أيضا مسموعة قطعا فلكون قراءة ابن عباس رضى الله عنهما قطعية فى مدلولهما وقراءته محتملة ولعله لما بلغ ساحل المحيط* رآها كذلك إذ ليس فى مطمح بصره غير الماء كما يلوح به قوله تعالى (وَجَدَها تَغْرُبُ (وَوَجَدَ عِنْدَها) عند* تلك العين (قَوْماً) قيل كان لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظه البحر وكانوا كفارا فخيره الله جل* ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) * بالقتل من أول الأمر (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أى أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة إطلاق المصدر على موصوفه مبالغة وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ومحل أن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو الخبرية وإما النصب على المفعولية أى إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك

٢٤٢

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) (٩٠)

____________________________________

أو إما تفعل تعذيبك وهكذا الحال فى الاتخاذ ومن لم يقل بنبوته قال كان ذلك الخطاب بواسطة نبى فى ذلك العصر أو كان ذلك إلها مالا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبى (قالَ) أى ذو القرنين لذلك النبى أو لمن عنده من خواصه بعد ما تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أى* نفسه ولم يقبل دعوتى وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذى هو الشرك (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل* وعن قتادة أنه كان يطبخ من كفر فى القدور ومن آمن أعطاه وكساه (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) فى الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ) * فيها (عَذاباً نُكْراً) أى منكرا فظيعا وهو عذاب النار وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق* الوحى إليه وأن مقاولته كانت مع النبى أو مع من عنده من أهل مشورته (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بموجب دعوتى (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) حسبما يقتضيه الإيمان (فَلَهُ) فى الدارين (جَزاءً الْحُسْنى) أى فله المثوبة الحسنى* أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أى نجزى بها جزاء والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو حال أى مجزيا بها أو تمييز وقرىء منصوبا غير منون على أنه سقط تنوينه لالتقاء الساكنين ومرفوعا منونا على أنه المبتدأ والحسنى بدله ولخبر الجار والمجرور وقيل خير بين القتل والأسر والجواب من باب الأسلوب الحكيم لأن الظاهر التخيير بينهما وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى فى حقه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب ويجوز أن تكون إما وإما للتوزيع دون التخيير أى وليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقى على حاله والثانى لمن تاب (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا) أى مما نأمر به (يُسْراً) أى سهلا متيسرا* غير شاق وتقديره ذا يسر أو أطلق عليه المصدر مبالغة وقرىء بضمتين (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أى طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) يعنى الموضع الذى تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض وقرىء بفتح اللام على تقدير مضاف أى مكان طلوع الشمس فإنه مصدر قيل بلغه فى اثنتى عشرة سنة وقيل فى أقل من ذلك بناء على ما ذكر من أنه سخر له السحاب وطوى له الأسباب (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) من اللباس والبناء قيل هم الزنج وعن كعب أن أرضهم* لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبغلتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى ومعى صاحب يعرف لسانهم فقالوا له جئتنا تنظر كيف

٢٤٣

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (٩٤)

____________________________________

تطلع الشمس قال فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشى على ثم أفقت وهم يمسحوننى بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه فى الشمس فينضج لهم وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض (كَذلِكَ) أى أمر ذى القرنين كما وصفناه لك فى رفعة المحل وبسطة الملك أو أمره فيهم كأمره فى أهل المغرب من التخيير والاختيار ويجوز أن يكون صفة مصدر مجذوف لوجد أو نجعل أو صفة قوم أى على قوم مثل ذلك القبيل الذى تغرب عليهم الشمس فى* الكفر والحكم أو سترا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال وغير ذلك (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من* الأسباب والعدد والعدد (خُبْراً) يعنى أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير هذا على الوجه الأول وأما على الوجوه الباقية فالمراد بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أى طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من الجنوب إلى الشمال (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين الذين سد ما بينهما وهو منقطع أرض الترك مما يلى المشرق لا جبلا أرمينيه وأذربيجان كما توهم وقرىء بالضم قيل ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التى تستعمل أسماء أيضا كما* ارتفع فى قوله تعالى (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وانجر فى قوله تعالى (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أى من* ورائهما مجاوزا عنهما (قَوْماً) أى أمة من الناس (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم وقرىء من باب الإفعال أى لا يفهمون السامع كلامهم واختلفوا فى أنهم من أى الأقوام فقال الضحاك هم جيل من الترك وقال السدى الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجة فجميع الترك منهم وعن قتادة أنهم اثنتان وعشرون قبيلة سد ذو القرنين على إحدى وعشرين قبيلة منهم وبقيت واحدة فسموا الترك لأنهم تركوا خارجين قال أهل التاريخ أولاد نوح عليه‌السلام ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج (قالُوا) أى بواسطة مترجمهم أو بالذات على أن يكون فهم

٢٤٤

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦)

____________________________________

ذى القرنين كلامهم وإفهام كلامه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) قد ذكرنا أنهما من أولاد يافث بن نوح عليه‌السلام وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل واختلف فى صفاتهم فقيل فى غاية صغر الجثة وقصر القامة لا يزيد قدهم على شبر واحد وقيل فى نهاية عظم الجسم وطول القامة تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعا وفيهم من عرضه كذلك وقيل لهم مخالب وأضراس كالسباع وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم وقد قرىء بغير همزة ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) * أى فى أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه وقيل كانوا يأكلون الناس أيضا (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أى جعلا من* أموالنا والفاء لتفريع العرض على إفسادهم فى الأرض وقرىء خراجا وكلاهما واحد كالنول والنوال وقيل الخراج ما على الأرض والذمة والخرج المصدر وقيل الخرج ما كان على كل رأس والخراج ما كان على البلد وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) وقرىء بالضم* (قالَ ما مَكَّنِّي) بالإدغام وقرىء بالفك أى ما مكننى (فِيهِ رَبِّي) وجعلنى فيه مكينا قادرا من الملك والمال ٩٥ وسائر الأسباب (خَيْرٌ) أى مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بى إليه (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أى* بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبآلات لا بد منها فى البناء والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم (أَجْعَلْ) جواب للأمر (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) تقديم* إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه فى قولهم بيننا وبينهم (رَدْماً) أى حاجزا حصينا وبرزخا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال* ثوب مردم أى فيه رقاع فوق رقاع وهذا إسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) جمع زبرة كغرف فى غرفة وهى القطعة الكبيرة وهذا لا ينافى رد خراجهم لأن المأمور به الإيتاء بالثمن أو المناولة كما ينبىء عنه القراءة بوصل الهمزة أى جيئونى بزبر الحديد على حذف الباء كما فى أمرتك الخير ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل ولعل تخصيص الأمر بالإيتاء بها دون سائر الآلات من الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هى الركن فى السد ووجودها أعز قيل حفر للأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائة فرسخ وذلك قوله عز قائلا (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أى أتوه إياها فأخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناحيتى الجبلين من البنيان مساويا لهما

٢٤٥

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

____________________________________

فى السمك على النهج المحكى قيل كان ارتفاعه مائتى ذراع وعرضه خمسين ذراعا وقرىء سوى من التسوية* وسووى على البناء للمجهول (قالَ) للعملة (انْفُخُوا) أى بالكيران فى الحديد المبنى ففعلوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) * أى المنفوخ فيه (ناراً) أى كالنار فى الحرارة والهيئة وإسناد الجعل المذكور إلى ذى القرنين مع أنه فعل* الفعلة للتنبيه على أنه العمدة فى ذلك وهم بمنزلة الآلة (قالَ) للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها* (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أى آتونى قطرا أى نحاسا مذابا أفرغ عليه قطرا فحذف الأول لدلالة الثانى عليه وقرىء بالوصل أى جيئونى كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذى وقفت عليه آنفا وكذا الكلام فى قوله تعالى (ساوى) وقوله تعالى (أَجْعَلْ) (فَمَا اسْطاعُوا) بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقى المتقاربين وقرىء بالإدغام وفيه جمع بين الساكنين على غير حده وقرىء بقلب السين صادا والفاء فصيحة أى فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغه عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما استطاعوا (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أى يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لصلابته وثخانته وهذه معجزة عظيمة لأن تلك الزبر الكثيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها فضلا عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شىء قدير وقيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب فى تجاويفها بحيث لم يبق هناك فرجة أصلا (قالَ) أى ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم (هذا) إشارة إلى السد وقيل إلى تمكينه من بنائه والفضل للمتقدم أى هذا الذى ظهر على يدى وحصل بمباشرتى من السد الذى شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال (رَحْمَةٌ) أى أثر رحمة عظيمة عبر عنه بها مبالغة (مِنْ رَبِّي) على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهى محض وإن ظهر بمباشرتى والتعرض لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة لا خروج يأجوج ومأجوج كما قيل إذ لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئة ما ينتظم مجيئه ومجىء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قيل فإن بعض الأمور التى ستحكى تقع بعد مجيئه حتما (جَعَلَهُ) أى السد المشار إليه مع متانته ورصانته وفيه من الجزالة ما ليس فى توجيه الإشارة السابقة إلى التمكين المذكور (دَكَّاءَ) أى أرضا مستوية وقرىء دكا أى مدكوكا مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك ومنه الجمل الأدك أى المنبسط السنام وهذا الجعل وقت مجىء الوعد بمجىء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته عز

٢٤٦

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١)

____________________________________

وجل بعد بيان سعة رحمته (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي) أى وعده المعهود أو كل ما وعد به فيدخل فيه ذلك دخولا* أوليا (حَقًّا) ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذى القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية ومقرر* مؤكد لمضمونها وهو آخر ما حكى من قصته وقوله عزوجل (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) كلام مسوق من جنابه تعالى معطوف على قوله تعالى (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ومحقق لمضمونه أى جعلنا بعض الخلائق (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ جاء الوعد* بمجىء بعض مباديه (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) آخر منهم يضطربون اضطراب أمواج البحر ويختلط إنسهم وجنهم* حيارى من شدة الهول ولعل ذلك قبل النفخة الأولى أو تركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج فى بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين فى البلاد روى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عزوجل نغفا فى أقفائهم فيدخل آذانهم فيموتون موت نفس واحدة فيرسل الله تعالى عليهم طيرا فتلقيهم فى البحر ثم يرسل مطرا يغسل الأرض ويطهرها من نتنهم حتى يتركها كالزلفة ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هى النفخة الثانية بقضية الفاء فى قوله تعالى (فَجَمَعْناهُمْ) ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى* لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار ولئلا يقع الفصل بين ما يقع فى النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها فى النشأة الاخرة أى جمعنا الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم فى صعيد واحد للحساب والجزاء (جَمْعاً) أى جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) أى أظهرناها وأبرزناها (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ جمعنا الخلائق كافة (لِلْكافِرِينَ) منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون* لها تغيظا وزفيرا (عَرْضاً) أى عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من* أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) وهم فى الدنيا (فِي غِطاءٍ) كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذاك من جميع الجوانب (عَنْ ذِكْرِي) عن الآيات المؤدية لأولى الأبصار المتدبرين فيها إلى* ذكرى بالتوحيد والتمجيد أو كانت أعين بصائرهم فى غطاء عن ذكرى على وجه يليق بشأنى أو عن القرآن الكريم (وَكانُوا) مع ذلك (لا يَسْتَطِيعُونَ) لفرط تصامهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَمْعاً) * استماعا لذكرى وكلامى الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار والموصول نعت للكافرين أو بدل منه أو بيان جىء به لذمهم بما فى حين الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم

٢٤٧

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٣)

____________________________________

فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم فى الدنيا من الآيات وإعراضهم عنها مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به فى الآخرة (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى كفروا بى كما يعرب عنه قوله تعالى (عِبادِي) والحسبان بمعنى الظن وقد قرىء أفظن والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه كما فى قولك أضربت أباك لا إنكار الوقوع كما فى قوله أأضرب أبى والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ إلى المعطوفين جميعا كما إذا قدر المعطوف عليه فى قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) منفيا أى ألا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قدر مثبتا أى أتسمعون فلا تعقلون والمعنى* أكفروا بى مع جلالة شأنى فحسبوا (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي) من الملائكة وعيسى وعزير عليهم* السلام وهم تحت سلطانى وملكوتى (أَوْلِياءَ) معبودين ينصرونهم من بأسى وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى (كانَتْ) الخ وكانوا الخ دلالة على أن الحسبان ناشىء من التعامى والتصام وأدخل عليها همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم يأباه ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامى والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكروا من حيث أنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عزوجل وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى وما فى حين صلة أن ساد مسد مفعولى حسب كما فى قوله تعالى (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ فى شىء لما أنه إنما يكون من الجانبين وهم عليهم الصلاة والسلام منزهون عن ولايتهم بالمرة لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم وقيل مفعوله الثانى محذوف أى أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم والوجه هو الأول لأن فى هذا تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به فى الجملة وقرىء أفحسب الذين كفروا أى أفحسبهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر أو الفعل والفاعل فإن النعت إذا اعتمد الهمزة ساوى الفعل فى العمل فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع* (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ) أى هيأناها (لِلْكافِرِينَ) المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتاد* بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل (نُزُلاً) أى شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام للنزيل أى الضيف مما حضر من الطعام وفيه تخطئة لهم فى حسبانهم وتهكم بهم حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل إعتاد العتاد وإعداد الزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة وفى إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له وقيل النزل موضع النزول ولذلك فسره ابن عباس رضى الله عنهما بالمثوى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) الخطاب الثانى للكفرة على وجه

٢٤٨

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٠٥)

____________________________________

التوبيخ والجمع فى صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) نصب على التمييز والجمع للإيذان بتنوعها وهذا بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة فى أنفسها وفى حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان حالهم باعتبار أعمالهم السيئة فى أنفسها مع كونها حسنة فى حسبانهم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) فى إقامة تلك الأعمال أى ضاع وبطل بالكلية (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بالسعى لا بالضلال لأن بطلان سعيهم غير* مختص بالدنيا قيل المراد بهم أهل الكتابين قاله ابن عباس وسعد بن أبى وقاص ومجاهد رضى الله عنهم ويدخل فى الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات وقيل الرهابنة الذين يحبسون أنفسهم فى الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة ولعله ما يعمهم وغيرهم من الكفرة ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم فقيل الذين الخ وجعله مجرورا على أنه نعت للأخسرين أو بدل منه أو منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتى من قوله تعالى (أُولئِكَ) الآية يأباه أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعى كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على حبوطها لكنه ساكت عن أنباء ما هو العمدة فى تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثانى مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لا دراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الإحسان الإتيان بالأعمال على* الوجه اللائق وهو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى أى يحسبون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق وذلك لإعجابهم بأعمالهم التى سعوا فى إقامتها وكابدوا فى تحصيلها والجملة حال من فاعل ضل أى بطل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسبون أنهم يحسنون فى ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه لكونه فى محل الرفع نحو قوله تعالى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أى بطل سعيهم والحال أنهم الخ والفرق بينهما أن المقارن لحال حسبانهم المذكور فى الأول ضلال سعيهم وفى الثانى نفس سعيهم والأول أدخل فى بيان خطئهم (أُولئِكَ) كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين سبب خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر أى أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعى مع الحسبان المزبور (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بدلائله الداعية* إلى التوحيد عقلا ونقلا والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم فى الكفر المذكور (وَلِقائِهِ) * بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هى عليه (فَحَبِطَتْ) لذلك (أَعْمالُهُمْ) المعهودة حبوطا كليا (فَلا *

٢٤٩

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧)

____________________________________

* نُقِيمُ لَهُمْ) أى لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال وقرىء بالياء (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أى فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مداره الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجىء بعد ذلك أولا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنه إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز به مقادير الطاعات والمعاصى ليترتب عليه التكفير أو عدمه لأن ذلك فى الموحدين بطريق الكمية وأما الكفر فإحباطه للحسنات بحسب الكيفية دون الكمية فلا يوضع لهم الميزان قطعا (ذلِكَ) بيان لمآل* كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان مآل أعمالهم المحبطة بذلك أى الأمر ذلك وقوله عزوجل (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) جملة مبينة له أو ذلك مبتدأ والجملة خبره والعائد محذوف أى جزاؤهم به أو جزاؤهم بدله وجهنم* خبره أو جزاؤهم خبره وجهنم عطف بيان للخبر (بِما كَفَرُوا) تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن* لسائر القبائح التى أنبأ عنها قوله تعالى (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أى مهزوا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة إثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أى آمنوا بآيات ربهم* ولقائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال (كانَتْ لَهُمْ) فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده وفيه إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب* ما حدث من سوء اختيارهم (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية وقال عكرمة هو الجنة بالحبشية وقال الضحاك هو الجنة الملتفة الأشجار وقيل هى الجنة التى تنبت ضروبا من النبات وقيل هى الجنة من الكرم خاصة وقيل ما كان غالبه كرما وقال المبرد هو فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه أن يكون من العنب وعن كعب أنه ليس فى الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجة مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإن* فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة (نُزُلاً) خبر كانت والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من نزلا أو على أنه بيان أو حال من جنات الفردوس والخبر هو الجار والمجرور فإن جعل النزول بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة فى الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله أعددت لعبادى الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة وإن جعل بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر.

٢٥٠

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

____________________________________

(خالِدِينَ فِيها) نصب على الحالية (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) مصدر كالعوج والصغر أى لا يطلبون تحولا عنها إذ لا يتصور أن يكون شىء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح نحوه أبصارهم ويجوز أن يراد نفى التحول وتأكيد الخلود والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالا متداخلة (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أى جنس البحر (مِداداً) وهو ما تمد به الدواة من الحبر (لِكَلِماتِ رَبِّي) لتحرير كلمات علمه وحكمته التى من جملتها ما ذكر من الآيات الداعية إلى التوحيد المحذرة من الإشراك (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) * مع كثرته ولم يبق منه شىء لتناهيه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ) وقرىء بالياء والمعنى من غير أن تنفد (لِكَلِماتِ رَبِّي) * لعدم تناهيها فلا دلالة للكلام على نفادها بعد نفاد البحر وفى إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه مالا يخفى وإظهار البحر والكلمات فى موضع الإضمار لزيادة التقرير (وَلَوْ جِئْنا) كلام من جهته تعالى غير داخل فى الكلام الملقن جىء به لتحقيق مضمونه* وتصديق مدلوله مع زيادة مبالغة وتأكيد والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكورة عليها دلالة واضحة أى لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى لو لم نجىء بمثله مددا ولو جئنا بقدرتنا الباهرة (بِمِثْلِهِ مَدَداً) عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل مجموع ما يدخل تحت الوجود من الأجسام* لا يكون إلا متناهيا لقيام الأدلة القاطعة على تناهى الأبعاد وقرىء مددا جمع مدة وهى ما يستمده الكاتب وقرىء مدادا (قُلْ) لهم بعد ما بينت لهم شأن كلماته تعالى (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا أدعى الإحاطة بكلماته التامة (يُوحى إِلَيَّ) من تلك الكلمات (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فى الخلق ولا فى سائر أحكام الألوهية* وإنما تميزت عنكم بذلك (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الرجاء توقع وصول الخير فى المستقبل والمراد بلقائه* تعالى كرامته وإدخال الماضى على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحال المؤمن الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء أى فمن استمر على رجاء كرامته تعالى (فَلْيَعْمَلْ) لتحصيل تلك الطلبة العزيزة (عَمَلاً صالِحاً) * فى نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) إشراكا* جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب به أجرا وإيثار وضع المظهر موضع المضمر فى الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهى ووجوب الامتثال فعلا وتركا. روى أن جندب بن زهير رضى الله عنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى لأعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرنى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله لا يقبل ما شورك فيه

٢٥١

١٩ ـ سورة مريم عليها‌السلام

(مكية وآياتها ثمان وتسعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢)

____________________________________

فنزلت تصديقا له وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له لك أجران أجر السر وأجر العلانية وذلك إذا قصد أن يقتدى به وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتقوا الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ عند مضجعه قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى الخ كان له مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ الحمد لله سبحانه على نعمه العظام.

(سورة مريم عليها‌السلام مكية إلا الآيات ٥٨ و ٧١ فمدنيتان وآياتها ٩٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (كهيعص) بإمالة الهاء والياء وإظهار الدال وقرىء بفتح الهاء وإمالة الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النون قبل الصاد لتقاربهما وقد سلف أن مالا يكون من هذه الفواتح مفردة ولا موازنة لمفرد فطريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء للسور أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لكونه مغتفرا فى باب الوقف قطعا فحق هذه الفاتحة الكريمة أن يوقف عليها جريا على الأصل وقرىء بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما فى المخرج فإن جعلت اسما للسورة على ما عليه إطباق الأكثر فمحله الرفع إما على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هذا كهيعص أى مسمى به وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار فى حكم الحاضر المشاهد كما يقال هذا ما اشترى فلان أو على أنه مبتدأ خبره (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) أى المسمى به ذكر رحمة الخ فإن ذكرها لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هى عليه جعلت كأنها نفس ذكرها والأول هو الأولى لأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا علم بالتسمية من قبل فحقها الإخبار بها كما فى الوجه الأول وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد حسبما جنح إليه أهل التحقيق فذكر الخ خبر لمبتدأ محذوف هو ما ينبىء عنه تعديد الحروف كأنه قيل المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة ذكر الرحمة الخ أو اسم إشارة أشير به إليه تنزيلا لحضور المادة منزلة حضور المؤلف منها أى هذا ذكر رحمة الخ وقيل هو مبتدأ قد حذف خبره

٢٥٢

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤)

____________________________________

أى فيما يتلى عليك ذكرها وقرىء ذكر رحمة ربك على صيغة الماضى من التذكير أى هذا المتلو ذكرها وقرىء ذكر على صيغة الأمر والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيذان بأن تنزيل السورة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكميل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (عَبْدَهُ) مفعول ل (رَحْمَةِ رَبِّكَ) على* أنها مفعول لما أضيف إليها وقيل للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرنى معروف فلان أى بلغنى وقوله عز وعلا (زَكَرِيَّا) بدل منه أو عطف* بيان له (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف إلى فاعله اتساعا لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل هو بدل اشتمال من زكريا كما فى قوله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب فى إخفاء دعائه فإنه مع كونه بالنسبة إليه عزوجل كالجهر أدخل فى الإخلاص وأبعد من الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مباد لا يليق به تعاطيها فى أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم وقيل كان ذلك منه عليه‌السلام لضعف الهرم قالوا كان سنه حينئذ ستين وقيل خمسا وستين وقيل سبعين وقيل خمسا وسبعين وقيل ثمانين وقيل أكثر منها كما مر فى تفسير سورة آل عمران (قالَ) جملة مفسرة لنادى لا محل لها من الإعراب (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إسناد الوهن إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا* أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وإفراده للقصد إلى الجنس المنبىء عن شمول الوهن لكل فرد من أفراده ومنى متعلق بمحذوف هو حال من العظم وقرىء وهن بكسر الهاء وبضمها أيضا وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) شبه عليه الصلاة والسلام الشيب فى البياض والإنارة بشواظ* النار وانتشاره فى الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرجه مخرج التمييز وأطلق الرأس اكتفاء بما قيد به العظم وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى حيث كان الأصل اشتعل شيب رأسى فأسند الاشتعال إلى الرأس كما ذكر لإفادة شموله لكلها فإن وزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعل النار فى بيته ولزيادة تقريره بالإجمال أولا والتفصيل ثانيا ولمزيد تفخيمه بالتنكير وقرىء بإدغام السين فى الشين (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أى ولم أكن بدعائى إياك خائبا فى وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لى والجملة معطوفة على ما قبلها أو حال من ضمير المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسى شيبا وهذا توسل منه عليه الصلاة والسلام بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعى الرحمة ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا لا يكاد

٢٥٣

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

____________________________________

يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره والتعرض فى الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إضافة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة فى التضرع ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) عطف على قوله تعالى (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ) مترتب مضمونه على مضمونه فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادى خوفه عليه‌السلام من يلى أمره بعد موته ومواليه* بنو عمه وكانوا أشرار بنى إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته فى أمته ويبدلوا عليهم دينهم وقوله (مِنْ وَرائِي) أى بعد موتى متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى فعل الموالى من بعدى أو جور الموالى وقد قرىء كذلك أو بما فى الموالى من معنى الولاية أى خفت الذين يلون الأمر من ورائى لا بخفت لفساد المعنى وقرىء وراى بالقصر وفتح الياء وقرىء خفت الموالى من ورائى أى قلوا وعجزوا عن القيام بأمور الدين بعدى أو خفت الموالى القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة من خف القوم أى ارتحلوا مسرعين* أى درجوا قدامى ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد فالظرف حينئذ متعلق بخفت (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) * أى لا تلد من حين شبابها (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف معنييهما فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده ويجوز تعلق الثانى بمحذوف وقع حالا من المفعول ولدن فى الأصل ظرف بمعنى أول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات وقد مر تفصيله فى أوائل سورة آل عمران أى أعطنى من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع* لا بواسطة الأسباب العادية (وَلِيًّا) أى ولدا من صلبى وتأخيره عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مستشرفة فعند وروده لها يتمكن عندها فضل تمكن ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل أو توسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظم الكريم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قيلها فإن ما ذكره عليه الصلاة السلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه‌السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة ولا يقدح فى ذلك أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور من مشاهدته عليه‌السلام للخوارق الظاهرة فى حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) الآية وعدم ذكره ههنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هناك للاكتفاء بذكره ههنا فإن الاكتفاء مما ذكر فى موطن عما ترك فى موطن آخر من النكت التنزيلية وقوله تعالى (يَرِثُنِي) صفة لوليا وقرىء هو وما عطف عليه بالجزم جوابا للدعاء أى يرثنى من حيث العلم والدين والنبوة فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورثون المال قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٥٤

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧)

____________________________________

نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة وقيل يرثنى الحبورة وكان عليه‌السلام حبرا (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يقال ورثه وورث منه لغتان وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة فى الدين وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم أى ويرث منهم الملك قيل هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وقال الكلبى ومقاتل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه‌السلام وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريا قال الكلبى كان بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بنى ماثان ملكهم وقرىء ويرث وارث آل يعقوب على أنه حال من المستكن فى يرث وقرىء أو يرث آل يعقوب بالتصغير ففيه إيماء إلى وراثته عليه‌السلام لما يرثه فى حالة صغره وقرىء وارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثنى على طريقة التجريد أى يرثنى به وارث وقيل من للتبعيض إذ لم يكن كل آل يعقوب عليه‌السلام أنبياء ولا علماء (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيا عندك قولا وفعلا وتوسيط رب بين مفعولى اجعل للمبالغة* فى الاعتناء بشأن ما يستدعيه (يا زَكَرِيَّا) على إرادة القول أى قال تعالى يا زكريا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) لكن لا بأن يخاطبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات بل بواسطة الملك على أن يحكى له عليه الصلاة والسلام هذه العبارة عنه عزوجل على نهج قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية وقد مر تحقيقه فى سورة آل عمران وهذا جواب لندائه عليه الصلاة والسلام ووعد بإجابة دعائه لكن لا كلا كما هو المتبادر من قوله تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) الخ بل بعضا حسبما تقتضيه المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابى الدعوة لكنهم ليسوا كذلك فى جميع الدعوات ألا يرى إلى دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى حق أبيه وإلى دعوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبه يحيى نبيا مرضيا ولا يرثه فاستجيب دعاؤه فى الأول دون الثانى حيث قتل قبل موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهور وقيل بقى بعده برهة فلا إشكال حينئذ وفى تعيين اسمه عليه الصلاة والسلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه الصلاة والسلام وفى تخصيصه به عليه‌السلام حسبما يعرب عنه قوله تعالى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) * أى شريكا له فى الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى مزيد تشريف وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسمية بالأسامى البديعة الممتازة عن أسماء سائر الناس تنويه بالمسمى لا محالة وقيل سميا شبها فى الفضل والكمال كما فى قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) فإن المتشاركين فى الوصف بمنزلة المتشاركين فى الاسم قالوا لم يكن له عليه الصلاة والسلام مثل فى أنه لم يعص الله تعالى ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد من شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصورا فيكون هذا إجمالا لما نزل بعده من قوله تعالى (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) والأظهر أنه اسم أعجمى وإن كان عربيا فهو منقول عن الفعل كيعمر ويعيش قيل سمى به لأنه حى به رحم أمه أوحى دين الله تعالى بدعوته.

٢٥٥

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩)

____________________________________

(قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال (رَبِّ) ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بتوسيط الملك للمبالغة فى التضرع والمناجاة والجد فى التبتل إليه تعالى والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على* توسطه كما أن علم البشر مما يصدر عنه سبحانه متوقف على ذلك فى عامة الأوقات (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين وكان إما تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أى كيف أو من أين يحدث لى غلام ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له أى أنى يحدث كائنا لى غلام أو ناقصة اسمها ظاهر* وخبرها إما أنى ولى متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية وقوله تعالى (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد أى كانت امرأتى عاقرا لم تلد فى شبابها وشبابى فكيف وهى الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن جساوة وقحولا فى المفاصل والعظام أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا من عتا يعتو وأصله عتو وكقعود فاستثقل توالى الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لها لما بعدها وقرىء بضمها ولعل البداءة ههنا بذكر حال امرأته على عكس ما فى سورة آل عمران لما أنه قد ذكر حاله فى تضاعيف دعائه وإنما المذكور ههنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنالك فلم يسبق فى الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة فى سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته تعالى عليه فى ذلك بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله مع كونه فى نفسه من الأمور المستحيلة عادة لا استبعادا له وقيل إنما قاله ليجاب بما أجيب به فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون وقيل كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام استفهاما عن كيفية حدوثه وقيل بل كان ذلك بطريق الاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسى دعاءه وهو بعيد (قالَ) استئناف كما مر مبنى على* سؤال نشأ مما سلف والكاف فى قوله تعالى (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ) مقحمة كما فى مثلك لا يبخل محلها إما النصب على أنه مصدر تشبيهى لقال الثانى وذلك إشارة إلى مصدره الذى هو عبارة عن الوعد السابق لا إلى قول* آخر شبه هذا به وقد مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وقوله تعالى (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) جملة مقررة للوعد المذكور دالة على إنجازه داخلة فى حين قال الأول كأنه قيل قال الله عزوجل مثل

٢٥٦

ذلك القول البديع قلت أى مثل ذلك الوعد الخارق للعادة وعدت هو على خاصة هين وإن كان فى العادة مستحيلا وقرىء وهو على هين فالجملة حينئذ حال من ربك والياء عبارة عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراض وعلى كل حال فهى مؤكدة ومقررة لما قبلها ثم أخرج القول الثانى مخرج الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة وإدخال الروعة كقول الخلفاء أمير المؤمنين يرسم لك مكان أنا أرسم ثم أسند إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره عليه‌السلام تشريفا له وإشعارا بعلة الحكم فإن تذكير جريان أحكام ربوبيته تعالى عليه عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفه فى أطوار الخلق من حال إلى حال شيئا فشيئا إلى أن يبلغ كماله اللائق به مما يقلع أساس استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعود ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنان بإنجازه لا محالة ثم التفت من ضمير الغائب العائد إلى الرب إلى ياء العظمة إيذانا بأن مدار كونه هينا عليه سبحانه هو القدرة الذاتية لا ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيدا لما يعقبه وقيل ذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله تعالى (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) على طريقة قوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) ولا يخرج هذا الوجه على القراءة بالواو لأنها لا تدخل بين المفسر والمفسر وإما الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وذلك إشارة إلى ما تقدم من وعده تعالى أى قال عز وعلا الأمر كما وعدت وهو واقع لا محالة وقوله تعالى (قالَ رَبُّكَ) الخ استئناف مقرر لمضمونه والجملة المحكية على القراءة الثانية معطوفة على المحكية الأولى أو حال من المستكن فى الجار والمجرور وأيا ما كان فتوسيط قال بينهما مشعر بمزيد الاعتناء بكل منهما والكلام فى إسناد القول إلى الرب ثم الالتفات إلى التكلم كالذى مر آنفا وقيل ذلك إشارة إلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام أى قال تعالى الأمر كما قلت تصديقا له فيما حكاه من الحالة المباينة للولادة فى نفسه وفى امرأته وقوله تعالى (قالَ رَبُّكَ) الخ استئناف مسوق لإزالة استبعاده بعد تقريره أى قال تعالى هو مع بعده فى نفسه على هين والقراءة الثانية أدخل فى إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف وأما جعلها للحال فمخل بسداد المعنى لأن مآله تقرير صعوبته حال سهولته عليه تعالى مع أن المقصود بيان سهولته عليه سبحانه مع صعوبته فى نفسه وقوله تعالى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها والمراد به ابتداء خلق البشر هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه الصلاة والسلام وهو المخلوق من العدم حقيقة بأن يقال وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته فى إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه الصلاة والسلام لتأكيد الاحتجاج به وتوضيح منهاج القياس حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم إذ لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرية سائر آحاد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان إبداعه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك ولما كان خلقه عليه الصلاة والسلام على هذا النمط السارى إلى جميع أفراد ذريته أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم

٢٥٧

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٢)

____________________________________

زكريا حينئذ أظهر عنده وأجلى وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين فى قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) توفية لمقام الامتنان حقه فكأنه قيل وقد خلقتك من قبل فى تضاعيف خلق آدم ولم تكن إذ ذاك شيئا أصلا بل عدما بحتا ونفيا صرفا هذا وأما حمل الشىء على المعتد به أى ولم تكن شيئا معتدا به فيأباه المقام ويرده نظم الكلام وقرىء خلقناك (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أى علامة تدلنى على تحقق المسؤول ووقوع الحبل ولم يكن هذا السؤال منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البشارة وتحقيقها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصب الرسالة وإنما كان ذلك لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفى لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه الله تعالى عليه ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا وقد مرت الإشارة فى تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤال ينبغى أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روى أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب فى أن دعاء زكريا عليه الصلاة والسلام كان فى صغر مريم لقوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) وهى إنما ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام وهى بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة والجعل إبداعى واللام متعلقة به وتقديمها على المفعول به لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف وقع حالا من آية إذ لو تأخر لكان صفة لها وقيل بمعنى التصيير المستدعى لمفعولين أولهما آية وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون آية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ* وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أى أن لا* تقدر على أن تكلمهم بكلام الناس مع القدرة على الذكر والتسبيح (ثَلاثَ لَيالٍ) مع أيامهن للتصريح* بها فى سورة آل عمران (سَوِيًّا) حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أى تمنع الكلام فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أى من المصلى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا مالك (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أى أوما إليهم لقوله تعالى (إِلَّا رَمْزاً) وقيل كتب على الأرض وأن فى قوله تعالى (أَنْ سَبِّحُوا) إما مفسرة لأوحى أو مصدرية والمعنى أى صلوا أو بأن صلوا (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) هما ظرفا زمان للتسبيح. عن أبى العالية أن المراد بهما صلاة الفجر وصلاة العصر أو نزهوا ربكم طرفى النهار ولعله كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه بذلك (يا يَحْيى) استئناف طوى قبله جمل كثيرة مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أى قلنا

٢٥٨

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧)

____________________________________

يا يحيى (خُذِ الْكِتابَ) التوراة (بِقُوَّةٍ) أى بجد واستظهار بالتوفيق (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال ابن عباس* رضى الله عنهما الحكم النبوة استنبأه وهو ابن ثلاث سنين وقيل الحكم الحكمة وفهم التوراة والفقه فى الدين روى أنه دعاه الصبيان إلى اللعب فقال ما للعب خلقنا (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) عطف على الحكم وتنوينه للتفخيم وهو التحنن والاشتياق ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى وآتيناه رحمة عظيمة علية كائنة من جنابنا أو رحمة فى قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما (وَزَكاةً) أى طهارة من الذنوب أو صدقة تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصدق على الناس (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا متجنبا عن المعاصى (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) عطف على تقيا أى بارا بهما لطيفا بهما محسنا إليهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) متكبرا عاقا لهما أو عاصيا لربه (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) من الله عزوجل (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله ١٥ الشيطان بما ينال به بنى آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من عذاب القبر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من هول القيامة وعذاب النار (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) مستأنف خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا لما بينهما من كمال الاشتباك والمراد بالكتاب السورة الكريمة لا القرآن إذ هى التى صدرت بقصة زكريا المستتبعة لذكر قصتها وقصص الأنبياء المذكورين فيها أى واذكر للناس (مَرْيَمَ) أى نبأها فإن الذكر لا يتعلق* بالأعيان وقوله تعالى (إِذِ انْتَبَذَتْ) ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند* انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل فى حين الظرف متمم للنبأ وقيل بدل اشتمال من مريم على أن المراد بها نبؤها فإن الظروف مشتملة على ما فيها وقيل بدل الكل على أن المراد بالظرف ما وقع فيه وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كما فى قولك أكرمتك إذ لم تكرمنى أى لأن لم تكرمنى فهو بدل اشتمال لا محالة وقوله تعالى (مِنْ أَهْلِها) متعلق بانتبذت وقوله (مَكاناً شَرْقِيًّا) مفعول له باعتبار ما فى ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل فى الجار والمجرور وهو السر فى تأخيره عنه أى اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنالك للعبادة وقيل قعدت فى مشرقة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بشىء يسترها وذلك قوله تعالى (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبيناهى

٢٥٩

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)

____________________________________

فى مغتسلها أتاها الملك عليه الصلاة والسلام فى صورة آدمى شاب أمرد وضىء الوجه جعد الشعر وذلك* قوله تعالى (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أى جبريل عليه الصلاة والسلام عبر عنه بذلك توفية للمقام حقه وقرىء بفتح الراء لكونه سببا لما فيه روح العباد الذى هو عدة المقربين فى قوله تعالى (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا وقبل تمثل فى صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته وأما ما قبل من أن ذلك لتهييج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة يكذبه قوله تعالى (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة نعم كان تمثيله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف مالا غاية وراءه وذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة فى العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التى هى العصمة مما دهمها وقوله تعالى* (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أى تتقى الله تعالى وتبالى بالاستعاذة به وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السباق عليه أى فإنى عائذة به أو فتعوذ بتعوذى أو فلا تتعرض لى (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) يريد عليه الصلاة* والسلام إنى لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر وإنما أنا رسول ربك الذى استعذت به (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) أى لأكون سببا فى هبته بالنفخ فى الدرع ويجوز أن يكون ذلك حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها والإشعار بعلة الحكم فإن هبة* الغلام لها من أحكام تربيتها وفى بعض المصاحف أمرنى أن أهب لك غلاما (زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب أو ناميا على الخير أى مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) كما وصفت* (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أى والحال أنه لم يباشرنى بالنكاح رجل وإنما قيل بشر مبالغة فى بيان تنزهها من مبادى* الولادة (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) عطف على لم يمسسنى داخل معه فى حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالنكاح أى ولم أكن فاجرة تبغى الرجال وهى فعول بمعنى الفاعل أصلها بغوى فأدغمت الواو بعد قلبها ياء فى الياء وكسرت الغين للياء وقيل هى فعيل بمعنى الفاعل وإلا لقيل بغو كما يقال فلان نهو عن المنكر وإنما لم تلحقه التاء لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أى يبغيها الرجال للفجور بها (قالَ) أى

٢٦٠