تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤)

____________________________________

أى متكأ (وَاضْرِبْ لَهُمْ) أى للفريقين الكافر والمؤمن (مَثَلاً رَجُلَيْنِ) مفعولان لا ضرب أولهما ثانيهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان أى اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للأولين فى الآخرة كذا وللآخرين كذا بل من حيث عصيان الأولين مع تقلبهم فى نعم الله تعالى وطاعة الآخرين مع مكابدتهم مشاق الفقر مثلا حال رجلين مقدرين أو محققين هما أخوان من بنى إسرائيل أو شريكان كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا اقتسما ثمانية آلاف دينار فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبار فآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى وقيل هما أخوان من بنى مخزوم كافر هو الأسود بن عبد الأسد ومسلم هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد زوج أم سلمة رضى الله عنها أولا (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ) بستانين (مِنْ أَعْنابٍ) من كروم متنوعة والجملة* بتمامها بيان للتمثيل أو صفة لرجلين (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أى جعلنا النخل محيطة بهما مؤزرا بها كرومهما* يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم جعلتهم حافين حوله فيزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) وسطهما (زَرْعاً) ليكون كل منهما جامعا للأفوات والفواكه متواصل العمارة على الهيئة* الرائقة والوضع الأنيق (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ثمرها وبلغت مبلغا صالحا للأكل وقرىء بسكون الكاف وقرىء كل الجنتين آتى أكله (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ) لم تنقص من أكلها (شَيْئاً) كما يعهد ذلك فى سائر البساتين* فإن الثمار غالبا تكثر فى عام وتقل فى آخر وكدا بعض الأشجار يأتى بالثمر فى بعض الأعوام دون بعض (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما) فيما بين كل من الجنتين (نَهَراً) على حدة ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما وقرىء بالتخفيف* ولعل تأخير ذكر تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل مع أن الترتيب الخارجى على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر فى تكميل محاسن الجنتين كما فى قصة البقرة ونحوها ولو عكس لانفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقى عادة وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقى كقوله تعالى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (وَكانَ لَهُ) لصاحب الجنتين (ثَمَرٌ) أنواع من المال غير الجنتين من ثمر ماله إذا كثره قال ابن عباس رضى الله عنهما هو* جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك وقال مجاهد هو الذهب والفضة خاصة (فَقالَ لِصاحِبِهِ) * المؤمن (وَهُوَ) أى القائل (يُحاوِرُهُ) أى صاحبه المؤمن وإن جاز العكس أى يراجعه فى الكلام من حار* إذا رجع (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) حشما وأعوانا أو أولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه

٢٢١

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨)

____________________________________

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) التى شرحت أحوالها وعددها وصفاتها وهيآتها وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرض* بتعدادها وإما لاتصال إحداهما بالأخرى وإما لأن الدخول يكون فى واحدة فواحدة (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) * ضار لها بعجبه وكفره (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه* قيل فماذا قال إذ ذاك فقيل قال (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ) الجنة أى تفنى (أَبَداً) لطول أمله وتمادى غفلته واغتراره بمهلته ولعله إنما قاله بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) كائنة فيما سيأتى (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) بالبعث عند قيامها* كما تقول (إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ) يومئذ (خَيْراً مِنْها) أى من هذه الجنة وقرىء منهما أى من الجنتين (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه فى الدنيا لاستحقاقه الذاتى وكرامته عليه سبحانه ولم يدر أن ذلك استدراج (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) استئناف كما سبق (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) * جملة حالية كما مر فائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوه كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة (أَكَفَرْتَ) حيث قلت ما أظن الساعة قائمة (بِالَّذِي خَلَقَكَ) أى فى ضمن خلق أصلك (مِنْ تُرابٍ) فإن خلق آدم عليه‌السلام منه متضمن لخلقه منه لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه‌السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطوبا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه‌السلام من التراب خلقا للكل منه وقيل خلقك منه لأنه أصل* مادتك إذ به يحصل الغذاء الذى منه تحصل النطفة فتدبر (مِنْ نُطْفَةٍ) هى مادتك القريبة فالمخلوق واحد* والمبدأ متعدد (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أى عدلك وكملك إنسانا ذكرا أو صيرك رجلا والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما فى حين الصلة لإنكار الكفر والتلويح بدليل البعث الذى نطق به قوله عز من قائل (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الخ (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أصله لكن إنا وقد قرىء كذلك فحذفت الهمزة فتلاقت النونان فكان الإدغام وهو ضمير الشأن وهو مبتدأ خبره (اللهُ رَبِّي) وتلك الجملة خبر إنا والعائد منها إليه الضمير وقرىء بإثبات ألف إنا فى الوصل والوقف جميعا وفى الوقف خاصة وقرىء لكنه بالهاء ولكن بطرح إنا ولكن إنا لا إله إلا هو ربى ومدار الاستدارك قوله* تعالى (أَكَفَرْتَ) كأنه قال أنت كافر لكنى مؤمن موحد (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فيه إيذان بأن كفره كان

٢٢٢

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢)

____________________________________

بطريق الإشراك (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ) أى هلا قلت عند ما دخلتها وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول فى آن الدخول من غير ريث لا للقصر (ما شاءَ اللهُ) أى الأمر ما شاء الله أو* ما شاء الله كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل أو أى شىء شاء الله كان على أنها شرطية منصوبة والجواب محذوف والمراد تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أى هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وبأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو* بمعونته تعالى وإقداره عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أنا إما مؤكد لياء المتكلم أو ضمير فصل بين مفعولى الرؤية إن جعلت علمية وأقل ثانيهما وحال إن جعلت بصرية فيكون أنا حينئذ تأكيدا لا غير لأن شرط كونه ضمير فصل توسطه بين المبتدأ والخبر أو ما أصله المبتدا والخبر وقرىء أقل بالرفع خبرا لأنا والجملة مفعول ثان الرؤية أو حال وفى قوله تعالى (وَوَلَداً) نصرة لمن فسر النفر بالولد (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) هو جواب الشرط والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى فيرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب جنتك (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً) هو مصدر* بمعنى الحساب كالبطلان والغفران أى مقدارا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها وقيل عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداه وقيل مرامى جمع حسبانة وهى الصواعق ومساعدة النظم الكريم فيما سيأتى للأولين أكثر (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) مصدر أريد به المفعول مبالغة أى أرضا ملساء يزلق* عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات (أَوْ يُصْبِحَ) عطف على قوله تعالى (فَتُصْبِحَ) وعلى الوجه الثالث على يرسل (ماؤُها غَوْراً) أى غائرا فى الأرض أطلق عليه المصدر مبالغة (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ) أبدا (لَهُ) * أى للماء الغائر (طَلَباً) فضلا عن وجدانه ورده (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما وأصله من إحاطة العدو وهو عطف على مقدر كأنه قيل فوقع بعض ما توقع من المحذور وأهلك أمواله وإنما حذف لدلالة السباق والسياق عليه كما فى المعطوف عليه بالفاء الفصيحة (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ظهرا* لبطن وهو كناية عن الندم كأنه قيل فأصبح بندم (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أى فى عمارتها من المال ولعل تخصيص* الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية ولأن ما اتفق فى عمارتها كان

٢٢٣

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥)

____________________________________

مما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدى الردى ولذلك قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم* على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره فى مثل هذا الشىء السريع الزوال (وَهِيَ) * أى الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل (خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أى دعائمها المصنوعة للكروم لسقوطها قبل سقوطها وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متممانها وإما لأن ذكر هلاكها مغن عن ذكر هلاك الباقى لأنها حيث هلكت وهى مشيدة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق فى عمارتها أكثر وقيل أرسل الله تعالى عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها* (وَيَقُولُ) عطف على يقلب أو حال من ضميره أى وهو يقول (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه قبل ويحتمل أن يكون ذلك توبة من الشرك وندما على ما فرط منه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) وقرىء بالياء التحتانية (فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) يقدرون على نصره بدفع الإهلاك أو على رد المهلك أو الإتيان بمثله وجمع الضمير باعتبار المعنى كما فى قوله عز وعلا* (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ (مِنْ دُونِ اللهِ) فإنه القادر على ذلك وحده (وَما كانَ) فى نفسه (مُنْتَصِراً) ممتنعا بقوته عن انتقامه سبحانه (هُنالِكَ) فى ذلك المقام وفى تلك الحال (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أى النصرة له وحده لا يقدر عليها أحد فهو تقرير لما قبله أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن* ويعضده قوله تعالى (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أى لأوليائه وقرىء الولاية بكسر الواو ومعناه الملك والسلطان أى هنالك السلطان له عزوجل لا يغلب ولا يمتنع منه أولا يعبد غيره كقوله تعالى (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فيكون تنبيها على أن قوله (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) الخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه على أسلوب قوله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) وقيل هنالك إشارة إلى الآخرة كقوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقرىء برفع الحق على أنه صفة للولاية وبنصبه على أنه مصدر مؤكد وقرىء عقبا بضم القاف وعقبى كرجعى والكل بمعنى العاقبة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى واذكر لهم ما يشبهها فى زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يطمئنوا بها ولا يعكفوا عليها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا* بالمرة أو بين لهم صفتها العجيبة التى هى فى الغرابة كالمثل (كَماءٍ) استئناف لبيان المثل أى هى كماء (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) ويجوز كونه مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير (فَاخْتَلَطَ بِهِ) اشتبك بسبيه (نَباتُ

٢٢٤

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦)

____________________________________

الْأَرْضِ) فالتف وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثقه أو نجع الماء فى النبات حتى روى ورف فمقتضى الظاهر حينئذ فاختلط بنبات الأرض وإيثار ما عليه النظم الكريم عليه للمبالغة فى الكثرة فإن كلا من المختلطين موصوف بصفة صاحبه (فَأَصْبَحَ) ذلك النبات الملتف إثر بهجتها ورفيفها (هَشِيماً) مهشوما* مكسورا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرقه وقرىء تذريه من أذراه وتذروه الريح وليس المشبه به نفس الماء بل هو* الهيئة المنتزعة من الجملة وهى حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفا ثم هشيما تطيره الرياح كان لم يغن بالأمس (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها الإنشاء والإفناء (مُقْتَدِراً) قادرا على الكمال* (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما قال الأخ الكافر أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه كما فى الآية المحكية آنفا وقوله تعالى (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) وغير ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك وعمومه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين فى كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ مبلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنين لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم فى الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو فى ضيق حال ونكال وإفراد الزينة مع أنها مسندة إلى الاثنين لما أنها مصدر فى الأصل أطلق على المفعول مبالغة كأنهما نفس الزينة والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شىء يتزين به فى الحياة الدنيا وقد علم شأنها فى سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التى شأنها أن تزول قبل زوالها (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) * هى أعمال الخير وقيل هى الصلوات الخمس وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقيل كل ما أريد به وجه الله تعالى وعلى كل تقدير يدخل فيها أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه دخولا أوليا أما صلاحها فظاهر وأما بقاؤها فبقاء عوائدها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا (خَيْرٌ) أى ممانعت شأنه من المال والبنين وإخراج بقاء تلك الأعمال وصلاحها مخرج* الصفات المفروغ عنها مع أن حقهما أن يكونا مقصودى الإفادة لا سيما فى مقابلة إثبات الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه بل لفظ الباقيات اسم لها وصف ولذلك لم يذكر الموصوف وإنما الذى يحتاج إلى التعرض له خيريتها (عِنْدَ رَبِّكَ) أى فى الآخرة وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا* لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكل فى الأصل إذ لا مشاركة لهما فى الخيرية فى الآخرة (ثَواباً) عائدة تعود إلى صاحبها (وَخَيْرٌ أَمَلاً) حيث ينال بها صاحبها فى الآخرة كل ما كان يؤمله فى الدنيا*

٢٢٥

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (٤٨)

____________________________________

وأما مامر من المال والبنين فليس لصاحبه أمل يناله وتكرير خير للإشعار باختلاف حيثيتى الخيرية والمبالغة فيها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) منصوب بمضمر أى اذكر حين نقلعها من أماكنها ونسيرها فى الجو على هيئاتها كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا والمراد بتذكيره تحذير المشركين مما فيه من الدواهى وقيل هو معطوف على ما قبله من قوله تعالى (عِنْدَ رَبِّكَ) أى الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة وقرىء تسير على صيغة البناء للمفعول من التفعيل جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه وقرىء* تسير (وَتَرَى الْأَرْضَ) أى جميع جوانبها والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية* وقرىء ترى على صيغة البناء للمفعول (بارِزَةً) أما بروز ما تحت الجبال فظاهر وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك فالآن أضحى قاعا صفصفا لا ترى فيها ولا أمتا (وَحَشَرْناهُمْ) جمعناهم إلى الموقف من كل أوب وإيثار صيغة الماضى بعد نسير وترى للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذى ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا وقيل هو للدلالة* على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك (فَلَمْ نُغادِرْ) * أى لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذى هو ترك الوفاء والغدير الذى هو ماء يتركه السيل فى الأرض الغائرة وقرىء بالياء وبالفوقانية على إسناد الفعل إلى ضمير الأرض كما فى قوله تعالى (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) شبهت حالهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر وفى الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى* ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تربية المهابة والجرى على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا يخفى (صَفًّا) أى غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده وقد ورد فى الحديث الصحيح يجمع الله الأولين* والآخرين فى صعيد واحد صفوفا (لَقَدْ جِئْتُمُونا) على إضمار القول على وجه يكون حالا من ضمير عرضوا أى مقولا لهم أو وقلنا لهم وأما كونه عاملا فى يوم نسير كما قيل فبعيد من جزالة التنزيل الجليل كيف لا ويلزم منه أن هذا القول هو المقصود بالأصالة دون سائر القوارع مع أنه خاص التعلق بما قبله من العرض والحشر دون* تسيير الجبال وبروز الأرض (كَما خَلَقْناكُمْ) نعت لمصدر مقدر أى مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أو حال من ضمير جئتمونا أى كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شىء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ

٢٢٦

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠)

____________________________________

والتقريع أى زعمتم فى الدنيا أنه لن نجعل لكم أبدا وقتا ننجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه وأن مخففة من المثقلة فصل بحرف النفى بينها وبين خبرها لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاء والظرف إما مفعول ثان للجعل وهو بمعنى التصيير والأول هو موعدا أو حال من موعد أو هو بمعنى الخلق والإبداع (وَوُضِعَ الْكِتابُ) عطف على عرضوا داخل تحت الأمور الهائلة التى أريد تذكيرها بتذكير وقتها أورد فيه ما أورد فى أمثاله من صيغة الماضى دلالة على التقرر أيضا أى وضع صحائف الأعمال وإيثار الإفراد للاكتفاء بالجنس والمراد بوضعها إما وضعها فى أيدى أصحابها يمينا وشمالا وإما فى الميزان (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا (مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا فِيهِ) من* الجرائم والذنوب (وَيَقُولُونَ) عند وقوفهم على ما فى تضاعيفه نقيرا وقطميرا (يا وَيْلَتَنا) منادين لهلكتهم* التى هلكوها من بين الهلكات مستدعين لها ليهلكوا ولا يروا هول مالا قوه أى يا ويلتنا احضرى فهذا أوان حضورك (ما لِهذَا الْكِتابِ) أى أى شىء له وقوله تعالى (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) * أى حواها وضبطها جملة حالية محققة لما فى الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأنه حتى يتعجب منه فقيل لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) فى الدنيا من السيئات أو جزاء ما عملوا (حاضِراً) مسطورا عتيدا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) فيكتب ما لم يعمل من السيئات أو يزيد فى عقابه المستحق فيكون إظهارا لمعدلة القلم الأزلى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) أى اذكر وقت قولنا لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحية وتكريم وقد مر تفصيله (فَسَجَدُوا) جميعا امتثالا بالأمر (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه لم يسجد بل أبى واستكبر وقوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ) كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين كأنه قيل ماله لم يسجد فقيل كان أصله جنيا (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أى خرج عن طاعته كما ينبىء عنه الفاء أو صار فاسقا كافرا بسبب* أمر الله تعالى إذ لو لاه لما أبى والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قبح ما فعله والمراد بتذكير قصته تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام فى سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنهم فى ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه قوله تعالى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الخ فإن الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب أى أعقيب علمكم بصدور تلك القبائح عنه* تتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ) أى أولاده وأتباعه جعلوا ذريته مجازا قال قتادة يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وقيل يدخل ذنبه فى دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) فتستبدلونهم بى فتطيعونهم*

٢٢٧

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١)

____________________________________

* بدل طاعتى (وَهُمْ) أى والحال أن إبليس وذريته (لَكُمْ عَدُوٌّ) أى أعداءكما فى قوله تعالى (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) وقوله تعالى (هُمُ الْعَدُوُّ) وإنما فعل به ذلك تشبيها له بالمصدر نحو القبول والولوع وتقيد الاتخاذ* بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ) أى الواضعين للشىء فى غير موضعه (بَدَلاً) من الله سبحانه إبليس وذريته وفى الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع الضمير من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح مالا ٥١ يخفى (ما أَشْهَدْتُهُمْ) استئناف مسوق لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور فى أنفسهم بعد بيان الصوارف* عن ذلك من خباثة المحتد والفسق والعداوة أى ما أحضرت إبليس وذريته (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) * حيث خلقتهما قبل خلقهم (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أى ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هذا ما أجمع عليه الجمهور حذارا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ولك أن ترجع الضمير الثانى إلى الظالمين وتلتزم التفكيك بناء على قود المعنى إليه فإن نفى إشهاد الشياطين خلق الذين يتولونهم هو الذى يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولى حضور الولى خلق المتولى وحيث لا حضور لا مصحح للتولى قطعا وأما نفى إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مدارية الإنكار المذكور فى شىء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولى الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا فى خلق المشهود فى الجملة فهو مخل بتولى المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفى الإشهاد المذكور متمحضا فى نفى الكمال المصحح للتولى عن الكل وهو المناط* للإنكار المذكور (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) أى متخذهم وإنما وضع موضعه المظهر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء (عَضُداً) أعوانا فى شأن الخلق أو فى شأن من شئونى حتى يتوهم شركتهم فى التولى بناء على الشركة فى بعض أحكام الربوبية وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلى الذى لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به وإيثار نفى الإشهاد على نفى شهودهم ونفى اتخاذهم أعوانا على نفى كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته وإرادته فيهم وأنهم بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فى شأنهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله عزوجل ولم يكد ذلك يكون وقيل الضمير للمشركين والمعنى ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بفضائل لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا يلتفت إلى قولهم طمعا فى نصرتهم للدين فإنه لا ينبغى لى أن أعتضد بالمضلين ويعضده القراءة بفتح التاء خطابا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم ووصفهم بالإضلال

٢٢٨

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) (٥٥)

____________________________________

لتعليل نفى الاتخاذ وقرىء متخذا المضلين على الأصل وقرىء عضدا بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالإتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرصد وراصد (وَيَوْمَ يَقُولُ) أى الله عزوجل للكافرين توبيخا وتعجيزا وقرىء بنون العظمة (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شفعاؤكم* ليشفعوا لكم والمراد بهم كل ما عبد من دونه تعالى وقيل إبليس وذريته (فَدَعَوْهُمْ) أى نادوهم للإغاثة وفيه* بيان لكمال اعتنائهم بإعانتهم على طريقة الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) * فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفى إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم فى الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) بين الداعين والمدعوين (مَوْبِقاً) اسم مكان أو مصدر من وبق وبوقا* كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أى مهلكا يشتركون فيه وهو النار أو عداوة هى فى الشدة نفس الهلاك كقول عمر رضى الله عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وقيل البين الوصل أى وجعلنا تواصلهم فى الدنيا هلاكا فى الآخرة ويجوز أن يكون المراد بالشركاء الملائكة وعزير أو عيسى عليهم‌السلام ومريم وبالموبق البرزخ البعيد أى جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده لأنهم فى قعر جهنم وهم فى أعلى الجنانئ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك (فَظَنُّوا) أى فأيقنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعة (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) انصرافا أو معدلا ينصرفون إليه (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أى كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ) لمصلحتهم ومنفعتهم (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من جملته ما مر من مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا أو من كل نوع من أنواع المعانى البديعة الداعية إلى الإيمان التى هى فى الغرابة والحسن واستجلاب النفس كالمثل ليتلقوه بالقبول فلم يفعلوا (وَكانَ الْإِنْسانُ) بحسب جبلته (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أى أكثر الأشياء التى يتأتى منها الجدل وهو ههنا شدة الخصومة بالباطل والمماراة من الجدل الذى هو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المجادلين يلتوى على صاحبه وانتصابه على التمييز والمعنى أن جدله أكثر من جدل كل مجادل (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أى أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أى القرآن العظيم الهادى إلى الإيمان بما فيه من فنون المعانى الموجبة له (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) عما فرط منهم من أنواع الذنوب

٢٢٩

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧)

____________________________________

* التى من جملتها مجادلتهم للحق بالباطل (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أى إلا طلب إتيان سنتهم أو إلا انتظار* إتيانها أو إلا تقديره فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وسنتهم الاستئصال (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) * أى عذاب الآخرة (قُبُلاً) أى أنواعا جمع قبيل أو عيانا كما فى قراءة قبلا بكسر القاف وفتح الباء وقرىء بفتحتين أى مستقبلا يقال لقيته قبلا وقبلا وقبلا وانتصابه على الحالية من الضمير أو العذاب والمعنى إن ما تضمنه القرآن الكريم من الأمور المستوجبة للإيمان بحيث لو لم يكن مثل هذه الحكمة القوية لما امتنع الناس من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدل المفرط (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) إلى الأمم ملتبسين بحال* من الأحوال (إِلَّا) حال كونهم (مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) للكفرة والعصاة بالعقاب* (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات والسؤال عن قصة أصحاب الكهف* ونحوها تعنتا (لِيُدْحِضُوا بِهِ) أى بالجدال (الْحَقَّ) أى يزيلوه عن مركزه ويبطلوه من إدحاض القدم وهو إزلاقها وهو قولهم للرسل عليهم الصلاة والسلام ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة* ونحوهما (وَاتَّخَذُوا آياتِي) التى تخر لها صم الجبال (وَما أُنْذِرُوا) أى أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم (هُزُواً) استهزاء وقرىء بسكون الزاى وهو ما يستهزأ به (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) وهو القرآن العظيم (فَأَعْرَضَ عَنْها) ولم يتدبرها ولم يتذكر بها وهذا السبك وإن كان مدلوله الوضعى نفى الأظلمية من غير تعرض لنفى المساواة فى الظلم إلا أن مفهومه العرفى أنه أظلم من كل ظالم وبناء الأظلمية على ما فى حين الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلم من يجادل فيه ويتخذه هزوا* خارج عن الحد (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أى عمله من الكفر والمعاصى التى من جملتها ما ذكر من المجادلة* بالباطل والاستهزاء بالحق ولم يتفكر فى عاقبتها (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية كثيرة جمع كنان* وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) مفعول لما دل عليه الكلام أى* منعناهم أن يقفوا على كنهه أو مفعول له أى كراهة أن يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ) أى جعلنا فيها (وَقْراً) ثقلا* يمنعهم من استماعه (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أى فلن يكون منهم اهتداء البتة مدة التكليف وإذن جزاء للشرط وجواب عن سؤال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم كأنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالى لا أدعوهم فقيل إن تدعهم الخ وجمع الضمير الراجع إلى الموصول فى هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده فى المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظه.

٢٣٠

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٦٠)

____________________________________

(وَرَبُّكَ) مبتدأ وقوله تعالى (الْغَفُورُ) خبره وقوله تعالى (ذُو الرَّحْمَةِ) أى الموصوف بها خبر بعد خبر وإيراد المغفرة على صيغة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب ولأن المغفرة ترك المضار وهو سبحانه قادر على ترك مالا يتناهى من العذاب وأما الرحمة فهى فعل وإيجاد ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال إذا لمقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله عزوجل (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) أى لو يريد مؤاخذتهم (بِما كَسَبُوا) من المعاصى التى من جملتها ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) لاستيجاب أعمالهم لذلك وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفى المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضى لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضى يفيد استمرار انتفاء الفعل فيما مضى كما حقق فى موضعه (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) اسم زمان هو يوم بدر أو يوم القيامة والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتة (لَنْ يَجِدُوا) البتة (مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) منجى أو ملجأ يقال وأل أى نجا ووأل إليه أى لجأ إليه (وَتِلْكَ الْقُرى) أى قرى عاد وثمود وأضرابها وهى مبتدأ على تقدير المضاف أى وأهل تلك القرى خبره قوله تعالى (أَهْلَكْناهُمْ) أو مفعول مضمر مفسر به (لَمَّا ظَلَمُوا) أى وقت ظلمهم كما فعلت قريش بما حكى عنهم من القبائح وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أى لما فعلوا الظلم ولما إما حرف كما قال ابن عصفور وإما ظرف استعمل للتعليل وليس المراد به الوقت المعين الذى عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) أى عينا لهلاكهم (مَوْعِداً) أى وقتا معينا لا محيد لهم عن ذلك وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب وقرىء بضم الميم وفتح اللام أى إهلاكهم وبفتحهما (وَإِذْ قالَ مُوسى) نصب بإضمار فعل أى اذكر وقت قوله عليه‌السلام (لِفَتاهُ) وهو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف عليه‌السلام سمى فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه وقيل كان يتعلم منه ويسمى التلميذ فتى وإن كان شيخا ولعل المراد بتذكيره عقيب بيان أن لكل أمة موعدا تذكير ما فى القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافع الجليلة (لا أَبْرَحُ) من برح الناقص كزال يزال أى لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على

٢٣١

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) (٦٢)

____________________________________

* قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله (حَتَّى أَبْلُغَ) فإن ذلك غاية تستدعى ذا غاية يؤدى إليها ويجوز أن يكون أصل الكلام لا يبرح مسيرى حاصلا حتى أبلغ فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه فينقلب الضمير البارز المجرور المحل مرفوعا مستكنا والفعل من صيغة الغيبة إلى* التكلم ويجوز أن يكون من برح التام كزال يزول أى لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) هو ملتقى بحر فارس والروم مما يلى المشرق وقيل طنجة وقيل هما الكر والرس بار مينية وقيل أفريقية وقرىء* بكسر الميم كمشرق (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أسير زمانا طويلا أتيقن معه فوات المطلب والحقب الدهر أو ثمانون سنة وكان منشأ هذه العزيمة أن موسى عليه‌السلام لما ظهر على مصر مع بنى إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط أمره الله عزوجل أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا بخطبة بديعة رقت بها القلوب وذرفت العيون فقالوا له من أعلم الناس قال أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه عزوجل فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لى عند مجمع البحرين وهو الخضر عليه‌السلام وكان فى أيام أفريذون قبل موسى عليه‌السلام وكان على مقدمة ذى القرنين الأكبر وبقى إلى أيام موسى وقيل إن موسى عليه‌السلام سأل ربه أى عبادك أحب إليك قال الذى يذكرنى ولا ينسانى قال فأى عبادك أقضى قال الذى يقضى بالحق ولا يتبع الهوى قال فأى عبادك أعلم قال الذى يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى فقال إن كان فى عبادك من هو أعلم منى فدلنى عليه قال أعلم منك الخضر قال أين أطلبه قال على ساحل البحر عند الصخرة قال يا رب كيف لى به قال تأخذ حوتا فى مكتل فحيثما فقدته فهو هناك فأخذ حوتا فجعله فى مكتل فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرنى فذهبا يمشيان (فَلَمَّا بَلَغا) الفاء فصيحة كما أشير إليه (مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أى مجمع البحرين وبينهما ظرف أضيف إليه اتساعا أو بمعنى الوصل (نَسِيا حُوتَهُما) الذى جعل فقدانه أماراة وجدان المطلوب أى نسيا تفقد أمره وما يكون منه وقيل نسى بوشع أن يقدمه وموسى عليه أن يأمره فيه بشىء. روى أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرة وعين الحياة التى لا يصيب ماؤها ميتا إلا حيى وصغار رءوسهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوت برد الماء وروحه عاش وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه‌السلام وقيل توضأ عليه‌السلام من تلك العين فانتضح الماء على الحوت* فعاش فوقع فى الماء (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) مسلكا كالسرب وهو النفق قيل أمسك الله عزوجل جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزة لموسى أو للخضر عليهما‌السلام وانتصاب سربا على أنه مفعول ثان لاتخذ وفى البحر حال منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ (فَلَمَّا جاوَزا) أى مجمع البحرين الذى جعل موعدا للملاقاة قيل أدلجا وسارا الليلة والغد إلى الظهر وألقى على لموسى عليه‌السلام* الجوع فعند ذلك (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) أى ما نتغدى به وهو الحوت كما ينبىء عنه الجواب (لَقَدْ لَقِينا مِنْ

٢٣٢

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤)

____________________________________

سَفَرِنا هذا) إشارة إلى ما سارا بعد مجاوزة الموعد (نَصَباً) تعبا وإعياء قيل لم ينصب ولم يجمع قبل ذلك* والجملة فى محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتيار أن النصب إنما يعترى بسبب الضعف الناشىء عن الجوع وإما باعتبار ما فى أثناء التغدى من استراحة ما (قالَ) أى فتاه عليه‌السلام (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أى النجأنا إليها وأقمنا عندها وذكر الإواء إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد المذكور بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الأواء إليها والنوم عندها مما يؤدى إلى النسيان عادة والرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه‌السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التى لا تكاد تنسى وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد فيما بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب أرأيت ما نابنى يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه لا استخباره عن ذلك كما قيل والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله عزوجل (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسى وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإتيانه للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان المسافر زاده فى المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة أى نسيت أن أذكر لك أمره وما شاهدت منه من الأمور العجيبة (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) بوسوسته الشاغلة عن ذلك وقوله تعالى (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من الضمير أى ما أنسانى ان* اذكره لك وفى تعليق الإنساء بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبىء عن تنحية المبدل منه إشارة إلى ان متعلق النسيان أيضا ليس نفس الحوت بل ذكر أمره وقرىء أن أذكره وإيثار أن أذكره على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفس الحدث عند وقوعه والحال وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها لكنه لما تعود بمشاهدة أمثالها عند موسى عليه‌السلام وألفها قل اهتمامه بالمحافظة عليها (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) بيان لطرف من أمر الحوت منبىء عن طرف آخر منه وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيى واضطرب ووقع فى البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا فعجبا ثانى مفعولى اتخذ والظرف حال من أولهما أو ثانيهما أو هو المفعول الثانى وعجبا صفة مصدر محذوف أى اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب أو مصدر فعل محذوف أى أتعجب منه عجبا وقد قيل إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك (قالَ) أى موسى عليه الصلاة والسلام (ذلِكَ) الذى ذكرت من أمر الحوت (ما كُنَّا

٢٣٣

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩)

____________________________________

نَبْغِ) وقرىء بإثبات الياء والضمير العائد إلى الموصول محذوف أصله نبغيه أى نطلبه لكونه أمارة للفوز* بالمرام (فَارْتَدَّا) أى رجعا (عَلى آثارِهِما) طريقهما الذى جاء امنه (قَصَصاً) يقصان قصصا أى يتبعان آثارهما إتباعا أو مقتصين حتى أتيا الصخرة (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) التنكير للتفخيم والإضافة للتشريف* والجمهور على أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وقيل اليسع وقيل إلياس عليهم الصلاة والسلام (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) هى الوحى والنبوة كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصها بجناب الكبرياء (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) خاصا لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب (قالَ لَهُ مُوسى) استئناف مبنى على* سؤال نشأ من السباق كأنه قيل فماذا جرى بينهما من الكلام فقيل قال له موسى (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) * استئذانا منه فى اتباعه له على وجه التعلم (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أى علما ذا رشد أرشد به فى دينى والرشد إصابة الخير وقرىء بفتحتين وهو مفعول تعلمن ومفعول علمت محذوف وكلاهما منقول من علم المتعدى إلى مفعول واحد ويجوز كونه علة لأتبعك أو مصدرا بإضمار فعله ولا ينافى نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من نبى آخر مالا تعلق له بأحكام شريعته من أسرار العلوم الخفية ولقد راعى فى سوق الكلام غاية التواضع معه عليهما‌السلام(قالَ) أى الخضر (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصح ولا يستقيم وعلله بقوله (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) إيذانا بأنه يتولى امورا خفية المدار منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وفى صحيح البخارى قال الخضر يا موسى إنى على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وخبرا تمييز أى لم يحط به خبرك (قالَ) موسى عليه الصلاة* والسلام (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك غير معترض عليك وتوسيط الاستثناء بين مفعولى الوجدان* لكمال الاعتناء بالتيمن ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) عطف على صابرا أى ستجدنى صابرا وغير عاص وفى وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس فى الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على ستجدنى فلا محل له من الإعراب والأول هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقه بالاستثناء حينئذ وفيه دليل على أن أفعال العباد بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

٢٣٤

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤)

____________________________________

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) إذن له فى الاتباع بعد اللتيا والتى والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من النزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تشاهده من أفعالى أى لا تفاتحنى بالسؤال* عن حكمته فضلا عن المناقشة والاعتراض (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أى حتى أبتدىء ببيانه وفيه إيذان* بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع وقرىء فلا تسألنى بالنون المثقلة (فَانْطَلَقا) أى موسى والخضر عليهما الصلاة السلام على الساحل يطلبان السفينة وأما يوشع فقد صرفه موسى عليه الصلاة والسلام إلى بنى إسرائيل قيل إنهما مرا بسفينة فكلما أهلها فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) استعمال الركوب فى أمثال هذه المواقع بكلمة فى* مع تجريده عنها فى مثل قوله عزوجل (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) على ما يقتضيه تعديته بنفسه لما أشرنا إليه فى قوله تعالى (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) لا لما قيل من أن فى ركوبها معنى الدخول (خَرَقَها) قيل خرقها بعد ما لججوا حيث* أخذ فاسا فقلع من ألواحها لوحين مما يلى الماء فعند ذلك (قالَ) موسى عليه‌السلام (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) * من الإغراق وقرىء بالتشديد من التغريق وليغرق أهلها من الثلاثى (لَقَدْ جِئْتَ) أتيت وفعلت (شَيْئاً إِمْراً) أى عظيما هائلا من أمر الأمر إذا عظم قيل الأصل أمرا فخفف (قالَ) أى الخضر عليه‌السلام (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) تذكير لما قاله من قبل وتحقيق لمضمونه متضمن للإنكار على عدم* الوفاء وعده (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) بنسيانى أو بالذى نسيته أو بشىء نسيته وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسى كما ورد فى صحيح البخارى من أن الأول كان من موسى نسيانا أو أخرج الكلام فى معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسى ليبسط عذره فى الإنكار وهو من معاريض الكلام التى يتقى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض أو أراد بالنسيان الترك أى لا تؤاخذنى بما تركت من وصيتك أول مرة (وَلا تُرْهِقْنِي) * أى لا تغشنى ولا تحملنى (مِنْ أَمْرِي) وهو اتباعه إياه (عُسْراً) أى لا تعسر على متابعتك ويسرها على بالإغضاء* وترك المناقشة وقرىء عسرا بضمتين (فَانْطَلَقا) الفاء فصيحة أى فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا (حَتَّى

٢٣٥

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧)

____________________________________

(إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) قيل كان الغلام يلعب مع الغلمان ففتل عنقه وقيل ضرب برأسه الحائط وقيل أضجعه* فذبحه بالسكين (قالَ) أى موسى عليه الصلاة والسلام (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) طاهرة من الذنوب وقرىء* زاكية (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أى بغير قتل نفس محرمة وتخصيص نفى هذا المبيح بالذكر من بين سائر المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان لأنه الأقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام ولعل تغيير النظم الكريم بجعل ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام ههنا من جملة الشرط وإبراز ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام فى معرض الجزاء المقصود إفادته مع أن الحقيق بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفس إلى ورود خبرها لقلة وقوعها فى نفس الأمر وندرة وصول خبرها إلى الأذهان ولذلك روعيت تلك النكتة فى الشرطية الأولى لما أن صدور الخوارق منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة فانصرفت النفس عن ترقبه إلى ترقب أحوال موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده الأكيد عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما مر فى المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله در شأن التنزيل وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة فى الكلام فليس من دفع الشبهة فى شىء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادى قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعى جعله مقصودا بالذات وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضى جعله* كذلك (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) قيل معناه أنكر من الأول إذ لا يمكن تداركه كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه وقيل الأمر أعظم من النكرة لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زيد لك لزيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وفلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد فى النكير فى المرة الثانية (قالَ) أى* موسى عليه الصلاة والسلام (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أى بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) وقرىء من* الإفعال أى لا تجعلنى صاحبك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أى قد أعذرت ووجدت من قبلى عذرا حيث خالفتك ثلاث مرات عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحم الله أخى موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب وقرىء لدنى بتخفيف النون وقرىء بسكون الدال كعضد فى عضد (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا

٢٣٦

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

____________________________________

أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هى أنطاكية وقيل أيلة وهى أبعد أرض الله من السماء وقيل هى برقة وقيل بلدة بأندلس عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أهل قرية لئاما وقيل شر القرى التى لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه وقوله تعالى (اسْتَطْعَما أَهْلَها) فى محل الجر على أنه صفة لقرية ولعل العدول عن استطعماهم على أن* يكون صفة للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم فإن الإباء من الضيافة وهم أهلها قاطنون بها أقبح وأشنع روى أنهما طافا فى القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) بالتشديد* وقرىء بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا له وحقيقة ضاف مال إليه من ضاف السهم عن الغرض ونظيره زاره من الإزورار (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) * أى يدانى أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة فى ذلك والانقضاض الإسراع فى السقوط وهو انفعال من القض يقال قضضته فانقض ومنه انقضاض الطير والكوكب لسقوطه بسرعة وقيل هو افعلال من النقض كاحمر من الحمرة وقرىء أن ينقض من النقض وأن ينقاض من انقاضت السن إذا انشقت طولا (فَأَقامَهُ) قيل مسحه بيده فقام وقيل نقضه وبناه وقيل أقامه بعمود عمده به قيل* كان سمكه مائة ذاع (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) تحريضا له على أخذ الجعل لينتعشا به أو تعريضا* بأنه فضول لما فى لو من النفى كأنه لما راى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك الصبر واتخذ افتعل من تخذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين وقرىء لتخذت أى لأخذت وقرىء بإدغام الذال فى التاء (قالَ) أى الخضر عليه الصلاة والسلام (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا وقد قرىء على الأصل والمشار إليه إما نفس الفراق كما فى هذا أخوك أو الوقت الحاضر أى هذا الوقت وقت فراق بينى وبينك أو السؤال الثالث أى هذا سبب ذلك الفراق حسبما هو الموعود (سَأُنَبِّئُكَ) السين للتأكيد لعدم تراخى التنبئة (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) التأويل رجع* الشىء إلى مآله والمراد به ههنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل وهو خلاص السفينة من اليد العادية وخلاص أبوى الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز وفى جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما أنوع تعريض به عليه الصلاة والسلام وعتاب (أَمَّا السَّفِينَةُ) التى خرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) لضعفاء لا يقدون على مدافعة الظلمة وقيل كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) * وإسناد العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عمل الموكلاء بمنزلة عمل الموكلين (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أى أجعلها ذات عيب (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أى أمامهم وقد قرىء به أو خلفهم وكان رجوعهم

٢٣٧

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

____________________________________

عليه لا محالة واسمه جلندى بن كركر وقيل منولة بن جلندى الأزدى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أى صالحة وقد* قرىء كذلك (غَصْباً) من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ ولعل تفريع إرادة تعييب السفينة على مسكنة أصحابها قبل بيان خوف الغصب مع أن مدارها كلا الأمرين للاعتناء بشأنها إذ هى المحتاجة إلى التأويل وللإيذان بأن الأقوى فى المدارية هو الأمر الأول ولذلك لا يبالى بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق خوف الغصب فى حقهم أيضا ولأن فى التأخير فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذى قتلته (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) لم يصرح بكفرانه أو بكفره* إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين (طُغْياناً) * عليهما (وَكُفْراً) لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شرا وبلاء أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع فى بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وإنما خشى الخضر عليه الصلاة والسلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وقرىء فخاف ربك أى كره سبحانه كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره ويجوز أن تكون القراءة المشهورة على الحكاية بمعنى فكرهنا كقوله تعالى (لِأَهَبَ لَكِ) (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً) منه بأن يرزقهما بدله ولدا* خيرا (مِنْهُ) وفى التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما مالا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير* إليهما (زَكاةً) طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أى رحمة وعطفا قيل ولدت لهما جارية تزوجها نبى فولدت نبيا هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم وقيل ولدت سبعين نبيا وقيل أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما وقرىء يبدلهما بالتشديد وقرىء رحما بضم الحاء أيضا وانتصابه على التمييز مثل زكاة (وَأَمَّا الْجِدارُ) المعهود* (فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) هى القرية المذكورة فيما سبق ولعل التعبير عنها بالمدينة لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح قيل اسماهما إصرم وصريم واسم المقتول جيسور (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) من فضة وذهب كما روى مرفوعا والذم على كنزهما فى قوله عزوجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) لمن لا يؤدى زكاتهما وسائر حقوقهما وقيل كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل

٢٣٨

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (٨٣)

____________________________________

صحف فيها علم (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) تنبيه على أن سعيه فى ذلك كان لصلاحه قيل كان بينهما وبين الأب الذى* حفظا فيه سبعة آباء (فَأَرادَ رَبُّكَ) أى مالكك ومدبر أمورك ففى إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه* الصلاة والسلام دون ضمير هما تنبيه له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة (أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أى* حلمهما وكمال رأيهما (وَيَسْتَخْرِجا) بالكلية (كَنزَهُما) من تحت الجدار ولو لا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنز* من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مصدر فى موقع الحال أى مرحومين* منه عزوجل أو مفعول له أو مصدر مؤكد لأراد فإن إرادة الخير رحمة وقيل متعلق بمضمر أى فعلت ما فعلت من الأمور التى شاهدتها رحمة من ربك ويعضده إضافة الرب إلى ضمير المخاطب دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أى عن رأيى واجتهادى تأكيد لذلك (ذلِكَ) إشارة إلى* العواقب المنظومة فى سلك البيان وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها فى الفخامة (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ) * أى لم تستطع فحذف التاء للتخفيف (عَلَيْهِ صَبْراً) من الأمور التى رابته أى مآله وعاقبته فيكون إنجازا* للنبئة الموعودة أو إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم وفى جعل الصلة عين ما مر تكرير للنكير وتشديد للعتاب. تنبيه : اختلفوا فى حياة الخضر عليه الصلاة والسلام فقيل إنه حى وسببه إنه كان على مقدمة ذى القرنين فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد قالوا وإلياس أيضا فى الحياة يلتقيان كل سنة بالموسم وقيل إنه ميت لما روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى العشاء ذات ليلة ثم قال أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حينئذ حيا لما عاش بعد مائة عام. روى أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه قال أوصنى قال لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) هم اليهود سألوه على وجه الامتحان أو سأله قريش بتلقينهم وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب وهو ذو القرنين الأكبر واسمه الإسكندر ابن فيلفوس اليونانى وقال ابن إسحق اسمه مرزبان بن مردبه من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام وكان أسود وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله بن فينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان وقال السهيلى قيل إن اسمه مرزبان بن مدركة ذكره ابن هشام وهو أول التبابعة وقيل إنه افريذون بن النعمان الذى قتل الضحاك وذكر أبو الريحان البيروتى فى كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمى ابن عيرين بن افريقيس الحميرى وأن ملكه بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو الذى افتخر به التبع اليمانى حيث قال[قد كان ذو القرنين جدى مسلما * ملكا علا فى الأرض غير مفند] * [بلغ المشارق والمغارب يبتغى * أسباب أمر من حكيم مرشد] وجعل هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن كذى المنار وذى نواس وذى النون وذى

٢٣٩

رعين وذى يزن وذى جدن قال الإمام الرازى والأول هو الأظهر لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التى نطق بها التنزيل الجليل إنما هو الإسكندر اليونانى كما تشهد به كتب التواريخ يروى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ثم دخل الشأم وقصد بنى إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح فى مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودان له العراقيون والقبط والبربر ثم توجه نحو دار ابن دارا وهزمه مرارا إلى أن قتله صاحب حرسه واستولى على ممالك الفرس وقصد الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديب وغيرها من المدن العظام ثم قصد الصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى بها مدائن كثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات انتهى كلام الإمام وروى أن أهل النجوم قالوا له إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماء من خشب وكان يدفن كنز كل بلدة فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعه فبلغ بابل فرعف وسقط عن دابته فبسطت له دروع فنام عليها فآذته الشمس فأظلوه بترس فنظر فقال هذه أرض من حديد وسماء من خشب فأيقن بالموت فمات وهو ابن ألف وستمائة سنة وقيل ثلاثة آلاف سنة قال ابن كثير وهذا غريب وأغرب منه ما قاله ابن عساكر من أنه بلغنى أنه عاش ستا وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة وأنه كان بعد داود وسليمان عليهما‌السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذى القرنين الثانى كما سنذكره قلت وكذا ما ذكره الإمام من قصد بنى إسرائيل وورود بيت المقدس والذبح فى مذبحه فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبته إلى الأول واختلف فى نبوته بعد الاتفق على إسلامه وولايته فقيل كان نبيا لقوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) وظاهر أنه متناول للتمكين فى الدين وكماله بالنبوة ولقوله تعالى (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) ومن جملة الأشياء النبوة ولقوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ونحو ذلك وقيل كان ملكا لما روى أن عمر رضى الله عنه سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال اللهم غفرا أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة قال ابن كثير والصحيح أنه ما كان نيبا ولا ملكا وإنما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم ودانت له البلاد وأنه كان داعيا إلى الله تعالى سائرا فى الخلق بالمعدلة التامة والسلطان المؤيد المنصور وكان الخضر على مقدمة جيشه بمنزلة المستشار الذى هو من الملك بمنزلة الوزير وقد ذكر الأزرقى وغيره أنه أسلم على يدى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيل عليهم‌السلام وروى أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ويقال إنه أتى بفرس ليركب فقال لا أركب فى بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب وطوى له الأسباب وبشره إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحاب تحمله وعساكره وجميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم وقال أبو الطفيل سئل عنه على كرم الله وجهه أكان نبيا أم ملكا فقال لم يكن نبيا ولا ملكا لكن كان عبدا أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سخر له السحاب ومد له الأسباب واختلف فى وجه تسميته بذى القرنين فقيل لأنه بلغ قرنى الشمس مشرقها ومغربها وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل الروم والترك وقيل لأنه كان فى رأسه أو فى تاجه ما يشبه القرنين وقيل لأنه كان له ذؤابتان وقيل لأنه كانت صفحتا رأسه من النحاس وقيل لأنه دعا الناس إلى الله عزوجل فضرب

٢٤٠