تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٥٩)

____________________________________

(وَيَجْعَلُونَ) لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أى يفعلون ما يفعلون من الجؤار إلى الله تعالى عند مساس الضر ومن الإشراك به عند كشفه ويجعلون (لِما لا يَعْلَمُونَ) أى لما لا يعلمون حقيقته* وقدره الخسيس من الجمادات التى يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالة وسفاهة ويزعمون أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن ما موصولة والعائد إليها محذوف أو لما لا علم له أصلا وليس من شأنه ذلك فما موصولة أيضا والعائد إليها ما فى الفعل من الضمير المستكن وصيغة جمع العقلاء لكون ما عبارة عن آلهتهم التى وصفوها بصفات العقلاء أو مصدرية واللام للتعليل أى لعدم علمهم والمجعول له محذوف للعلم بمكانه (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ) سؤال توبيخ وتقريع (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) * فى الدنيا بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها وفى تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال الغضب من شدة الوعيد مالا يخفى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) هم خزاعة وكنانة الذين يقولون ٥٧ الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه وتقديس له عزوجل عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جراءتهم* على التفوه بمثل تلك العظيمة (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) من البنين وما مرفوعة المحل على أنه مبتدأ والظرف* المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض فى حق موقعه وجعلها منصوبة بالعطف على البنات أى يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدى إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أى أخبر بولادتها (ظَلَّ وَجْهُهُ) أى صار أو دام النهار كله (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحياء من* الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشويش (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلىء حنقا وغيظا (يَتَوارى) أى يستخفى (مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من أجل سوئه والتعبير عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء (أَيُمْسِكُهُ) أى مترددا فى أمره محدثا نفسه فى شأنه أيمسكه (عَلى هُونٍ) ذل وقرىء هوان (أَمْ يَدُسُّهُ) يخفيه* (فِي التُّرابِ) بالوأد والتذكير باعتبار لفظ ما وقرىء بالتأنيث (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون ما هذا* شأنه عندهم من الهون والحقارة لله المتعالى عن الصاحبة والولد والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه ويجوز أن يكون مداره التعكيس لقوله تعالى (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى).

١٢١

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)

____________________________________

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ممن ذكرت قبائحهم (مَثَلُ السَّوْءِ) صفة السوء الذى هو كالمثل فى القبح وهى الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وإيثار الذكور للاستظهار بهم ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ ووضع الموصول موضع الضمير* للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة (وَلِلَّهِ) سبحانه وتعالى (الْمَثَلُ الْأَعْلى) أى الصفة العجيبة الشأن التى هى مثل فى العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتى والغنى المطلق والجود الواسع* والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما قالوه علوا كبيرا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المتفرد بكمال* القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم (الْحَكِيمُ) الذى يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة وهذا أيضا من جملة صفاته العجيبة تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) الكفار (بِظُلْمِهِمْ) بكفرهم ومعاصيهم التى من جملتها ما عدد من قبائحهم وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وإيذان بأن ما أتوه* من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى* (مِنْ دَابَّةٍ) أى ما ترك عليها شيئا من دابة قط بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين كقوله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال بلى والله حتى أن الحبارى لتموت فى وكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضى الله عنه كاد الجعل يهلك فى حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة وقيل لو أهلك الآباء لم يكن الأبناء فيلزم أن لا يكون فى الأرض دابة لما أنها مخلوقة لمنافع البشر لقوله سبحانه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (وَلكِنْ) لا يؤاخذهم بذلك بل (يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لأعمارهم أو لعذابهم كى يتوالدوا أو* يكثر عذابهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) المسمى (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عن ذلك الأجل أى لا يتأخرون وصيغة* الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له (ساعَةً) فذة وهى مثل فى قلة المدة (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أى لا يتقدمون وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجىء الأجل مبالغة فى بيان عدم الاستئخار بنظمه فى سلك ما يمتنع كما فى قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فإن من مات كافرا مع أنه لا توبة له رأسا قد نظم فى سمط من لم تقبل توبته للإيذان بأنهما سيان فى ذلك وقد مر فى تفسير سورة يونس (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ)

١٢٢

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٥)

____________________________________

أى يثبتون له سبحانه وينسبون إليه فى زعمهم (ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم مما ذكر وهو تكرير لما سبق تثنية* للتقريع وتوطئة لقوله تعالى (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أى يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف* ألسنتهم الكذب وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) العاقبة الحسنى عند الله تعالى كقوله (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي* عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وقرىء الكذب وهو جمع الكذوب على أنه صفة الألسنة (لا جَرَمَ) رد لكلامهم ذلك* وإثبات لنقيضه أى حقا (أَنَّ لَهُمُ) مكان ما أملوا من الحسنى (النَّارَ) التى ليس وراء عذابها عذاب وهى* علم فى السو أى (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أى مقدمون إليها من أفرطته أى قدمته فى طلب الماء وقيل منسيون* من أفرطت فلانا خلفى إذا خلفته ونسيته وقرىء بالتشديد وفتح الراء من فرطته فى طلب الماء وبكسر الراء المشددة من التفريط فى الطاعات وبكسر المخففة من الإفراط فى المعاصى فلا يكونان حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يناله من جهالات الكفرة ووعيد لهم على ذلك أى أرسلنا إليهم رسلا فدعوهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) القبيحة فعكفوا عليها مصرين (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أى قرينهم وبئس القرين (الْيَوْمَ) أى يوم زين* لهم الشيطان أعمالهم فيه على طريق حكاية الحال الماضية أو فى الدنيا أو يوم القيامة على طريق حكاية الحال الآتية وهى حال كونهم معذبين فى النار والولى بمعنى الناصر أى فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره مبالغة فى نفى الناصر عنهم ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى مشركى قريش والمعنى زين للأمم السالفة أعمالهم فهو ولى هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذف المضاف أى ولى أمثالهم (وَلَهُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) * هو عذاب النار (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أى القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ) استثناء مفرغ من أعم العلل أى ما أنزلنا ٦٤ عليك لعلة من العلل الالتبين (لَهُمُ) أى للناس (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من التوحيد والقدر وأحكام الأفعال* وأحوال المعاد (وَهُدىً وَرَحْمَةً) معطوفان على محل لتبين أى وللهداية والرحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما* انتصبا لكونهما أثرى فاعل الفعل المعلل بخلاف التبيين حيث لم ينتصب لفقدان شرطه ولعل تقديمه عليهما لتقدمه فى الوجود وتخصيص كونهما هدى ورحمة بالمؤمنين لأنهم المغتنمون آثاره (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من السحاب أو من جانب السماء حسبما مر وهذا تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوطئة لما يعقبه من أدلة التوحيد (السَّماءِ) نوعا خاصا من الماء هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب لما مر مرارا*

١٢٣

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٦٦)

____________________________________

* من التشويق إلى المؤخر فأحيا به الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات (بَعْدَ مَوْتِها) أى بعد يبسها وما* يفيده الفاء من التعقيب العادى لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى إنزال الماء من* السماء وإحياء الأرض الميتة به (لَآيَةً) وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر فكأن من ليس كذلك أصم (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) عظيمة وأى عبرة تحار فى دركها العقول وتهيم فى فهمها ألباب الفحول (نُسْقِيكُمْ) استئناف* لبيان ما أبهم أولا من العبرة (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أى بطون الأنعام والتذكير هنا لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع ولذلك عده سيبويه فى المفردات المبنية على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه فى سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ومن جعله جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن ليس لجميعها أوله على* المعنى فإن المراد به الجنس وقرىء بفتح النون ههنا وفى سورة المؤمنين (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً) الفرث فضالة ما يبقى من العلف فى الكرش المنهضمة بعض الانهضام وكثيف ما يبقى فى المعاء وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف فى كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ولعل المراد به أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذى يغذو البدن لأن عدم تكونهما فى الكرش مما لا ريب فيه بل الكبد تجذب صفاوة الطعام المنهضم فى الكرش ويبقى ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين الصفراء والسوداء وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ثم توزع الباقى على الأعضاء بحسبها فتجرى على كل حقه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها فيندفع الزائد أولا لأجل الجنين إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع فيبيض لمجاورته لحومها العذوية البيض ويلذ طعمه فيصير لبنا ومن تدبر فى بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وأعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه وقدرته وحكمته وتناهى رأفته ورحمته فمن الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما فى بطونه لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التى فى الفرث حسبما فصل والثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء وهى متعلقة بنسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذى نحن فيه فإن بين وصفى المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر

١٢٤

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

____________________________________

كما فى قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) أو حال من (لَبَناً) قدم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضع العبرة (خالِصاً) عن شائبة ما فى الدم والفرث من الأوصاف ببرزخ من القدرة القاهرة* الحاجزة عن بغى أحدهما عليه مع كونهما مكتنفين له (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور فى حلقهم قيل لم* يغص أحد باللبن وقرىء سيغا بالتشديد وبالتخفيف مثل هين وهين (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) ٦٧ متعلق بما يدل عليه الإسقاء من مطلق الإطعام المنتظم لإعطاء المطعوم والمشروب فإن اللبن مطعوم كما أنه مشروب أى ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أى من عصيرهما وقوله تعالى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) استئناف لبيان كنه الإطعام وكشفه أو بقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) وتكرير الظرف للتأكيد أو خبر لمبتدأ محذوف صفته تتخذون أى ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وحذف الموصوف إذا كان فى الكلام كلمة من سائغ نحو قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف أعنى العصير أو لأن المراد هو الجنس والسكر مصدر سمى به الخمر وقيل هو النبيذ وقيل هو الطعم (وَرِزْقاً حَسَناً) كالتمر والدبس والزبيب والخل والآية إن كانت سابقة النزول* على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) باهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) * يستعملون عقولهم فى الآيات بالنظر والتأمل (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أى ألهمها وقذف فى قلوبها ٦٨ وعلمها بوجه لا يعلمه إلا العليم الخبير وقرىء بفتحتين (أَنِ اتَّخِذِي) أى بأن اتخذى على أن أن مصدرية* ويجوز أن تكون مفسرة لما فى الإيحاء من معنى القول وتأنيث الضمير مع أن النحل مذكر للحمل على المعنى أو لأنه جمع نحلة والتأنيث لغة أهل الحجاز (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أى أو كارا مع ما فيها من الخلايا* وقرىء بيوتا بكسر الباء (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أى يعرشه الناس أى يرفعه من كرم أو سقف وقيل* المراد به ما يرفعه الناس ويبنونه للنحل والمعنى اتخذى لنفسك بيوتا من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذى ما يعرشونه لك وإيراد حرف التبعيض لما أنها لا تبنى فى كل جبل وكل شجر وكل عرش ولا فى كل مكان منها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من كل ثمرة تشتهينها حلوها ومرها (فَاسْلُكِي) ما أكلت منها (سُبُلَ رَبِّكِ) أى مسالكه التى برأها بحيث يحيل فيها بقدرته القاهرة النور المر عسلا من أجوافك أو* فاسلكى الطرق التى ألهمك فى عمل العسل أو فاسلكى راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا

١٢٥

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٧٠)

____________________________________

* تلتبس (ذُلُلاً) جمع ذلول وهو حال من السبل أى مذللة غير متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك أو* من الضمير فى اسلكى أى أسلكى منقادة لما أمرت به (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) استئناف عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التى هى موضع العبرة بعد ما أمرت بما أمرت* (شَرابٌ) أى عسل لأنه مشروب واحتج به وبقوله تعالى (كُلِي) من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل فى بطنها عسلا ثم تقىء إدخارا للشتاء ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء قليلة حلوة صغيرة متفرقة على الأزهار والأوراق وتضعها فى بيوتها فإذا اجتمع فيها شىء كثير يكون عسلا فسر* البطون بالأفواه (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أبيض وأسود وأصفر وأحمر حسب اختلاف سن النحل أو الفصل* أو الذى أخذت منه العسل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) إما بنفسه كما فى الأمراض البلغمية أو مع غيره كما فى سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعية ويجوز كونه للتفخيم وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن أخى يشتكى بطنه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع فقال اذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرىء كأنما أنشط من عقال وقيل الضمير للقرآن أو لما بين الله تعالى من أحوال النحل وعن ابن مسعود رضى الله عنه العسل شفاء لكل داء والقرآن شفاء لما فى الصدور فعليكم بالشفاءين العسل والقرآن* (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر من أعاجيب آثار قدرة الله تعالى (لَآيَةً) عظيمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر فى اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة المشتملة على حسن الصنعة وصحة القسمة التى لا يقدر عليها حذاق المهندسين إلا بآلات رقيقة وأدوات أنيقة وأنظار دقيقة جزم قطعا بأن له خالقا قادرا حكيما يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) لما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتب العمر فى أربع الأولى سن النشو والنماء والثانية سن الوقوف وهى سن الشباب والثالثة سن الانحطاط القليل وهى سن الكهولة والرابعة سن الانحطاط* الكبير وهى سن الشيخوخة (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على حكم بالغة بآجال مختلفة أطفالا* وشبابا وشيوخا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) قبل توفيه أى يعاد (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة على ما روى عن على رضى الله عنه وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضى الله عنه وقيل خمس وتسعون وإيثار الرد على الوصول والبلوغ ونحوهما للإيذان بأن بلوغه والوصول إليه رجوع فى الحقيقة إلى الضعف بعد القوة كقوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) ولا عمر أسوا حالا من عمر* الهرم الذى يشبه الطفل فى نقصان العقل والقوة (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ) كثير (شَيْئاً) من العلم أو من

١٢٦

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)

____________________________________

المعلومات أو لكيلا يعلم شيئا بعد علم بذلك الشىء وقيل لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) * بمقادير أعماركم (قَدِيرٌ) على كل شىء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفانى وفيه تنبيه على أن تفاوت* الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم ركب أبنيتهم وعدل أمزجتهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أى جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) فيه على غيرهم (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) الذى رزقهم إياه (عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم الذين هم شركاؤهم فى المخلوقية والمرزوقية (فَهُمْ) أى الملاك والمماليك (فِيهِ) * أى فى الرزق (سَواءٌ) أى لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم فى التصرف ويشاركونهم فى التدبير والفاء* للدلالة على ترتيب التساوى على الرد أى لا يردونه عليهم ردا مستتبعا للتساوى وإنما يردون عليهم منه شيئا يسيرا فحيث لا يرضون بمساواة مماليكهم لأنفسهم وهم أمثالهم فى البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فى شىء لا يختص بهم بل يعمهم وإياهم من الرزق الذى هم أسوة لهم فى استحقاقه فما بالهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذى هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثل ضرب لكمال قباحة ما فعله المشركون تقريعا عليهم كقوله تعالى (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) الآية (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) حيث يفعلون* ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضى أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضة عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عند الله تعالى أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم الله بها عليهم والباء لتضمين الجحود معنى الكفر نحو (وَجَحَدُوا بِها) والفاء للعطف على مقدر وهى داخلة فى المعنى على الفعل أى أيشركون به فيجحدون نعمته وقرىء تجحدون على الخطاب أو ليس الموالى برادى رزقهم على مماليكهم بل أنا الذى أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئا وإنما هو رزقى أجريه على أيدهم فهم جميعا فى ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله فهو رد على زعم المفضلين أو على فعلهم المؤذن بذلك أو ما المفضلون برادى بعض فضلهم على مماليكهم فيتساووا فى ذلك جميعا مع أن التفضيل ليس إلا ليبلوهم أيشكرون أم يكفرون ألا يعرفون ذلك فيجحدون نعمة الله تعالى كأنه قيل فلم يردوه علمهم والجملة الاسمية للدلالة على استمرارهم على عدم الرد يحكى عن أبى ذر رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون فما رؤى عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أى

١٢٧

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧٤)

____________________________________

* من جنسكم (أَزْواجاً) لتأنسوا بها وتقيموا بذلك جميع مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم وقيل هو خلق* حواء من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) وضع الظاهر موضع المضمر للإيذان* بأن المراد جعل لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره (بَنِينَ) وبأن نتيجة الأزواج هو التوالد (وَحَفَدَةً) جمع حافد وهو الذى يسرع فى الخدمة والطاعة ومنه قول القانت وإليك نسعى ونحفد أى جعل لكم خدما يسرعون فى خدمتكم وطاعتكم فقيل المراد بهم أولاد الأولاد وقيل البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فإنهن يخدمن البيوت أتم خدمة وقيل أولاد المرأة من الزوج الأول وقيل البنون والعطف لاختلاف الوصفين وقيل الأختان على البنات وتأخير المنصوب فى الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمداد للتشويق وتقوية له أى جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجا وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبة لكم بنين وحفدة* (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ أو من الحلالات ومن للتبعيض إذ المرزوق فى الدنيا أنموذج لما فى* الآخرة (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو أن الأصنام تنفعهم وأن البحائر ونحوها حرام والفاء فى المعنى داخلة على الفعل وهى للعطف على مقدر أى أيكفرون بالله الذى شأنه هذا فيؤمنون بالباطل أو أبعد* تحقق ما ذكر من نعم الله تعالى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) تعالى الفائضة عليهم مما* ذكرو مما لا يحيط به دائرة البيان (هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث يضيفونها إلى الأصنام وتقديم الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية الفواصل والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) * لعله عطف على (يَكْفُرُونَ) داخل تحت الإنكار التوبيخى أى أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) إن جعل الرزق مصدرا فشيئا نصب على المفعولية منه أى مالا يقدر على أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا وإن جعل اسما للمرزوق فنصب على البدلية منه بمعنى قليلا ومن السموات والأرض صفة لرزقا أى كائنا منهما ويجوز كونه تأكيدا* للا يملك أى لا يملك رزقا ما شيئا من الملك (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن يملكوه إذ لا استطاعة لهم رأسا لأنها موات لا حراك بها فالضمير للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين فى الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذى لا حس به (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهى أى لا تشركوا به شيئا والتعبير عن ذلك بضرب المثل للقصد إلى النهى عن الإشراك به تعالى فى شأن من الشئون فإن ضرب المثل مبناه تشبيه حالة بحالة وقصة بقصة أى لا تشبهوا بشأنه تعالى شأنا من الشئون واللام مثلها فى قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) لا مثلها فى قوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ

١٢٨

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥)

____________________________________

ونظائره والفاء للدلالة على ترتب النهى على ما عدد من النعم الفائضة عليهم من جهته سبحانه وكون ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملك لهم من أقطار السموات والأرض شيئا من رزق ما فضلا عما فصل من نعمة الخلق والتفضيل فى الرزق ونعمة الأزواج والأولاد (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) تعليل للنهى المذكور ووعيد على* المنهى عنه أى أنه تعالى يعلم كنه ما تأتون وما تذرون وأنه فى غاية العظم والقبح (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك* وإلا لما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم وقفوا مواقف الامتثال لما ورد عليكم من الأمر والنهى ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوى الردى والضلال ثم علمهم كيفية ضرب الأمثال فى هذا الباب فقال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أى ذكر وأورد شيئا يستدل به على تباين الحال بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جليا (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) بدل من (مَثَلاً) وتفسير له والمثل فى الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما فى كونهما عبدان لله سبحانه وقد أدمج فيه أن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف فى الجملة وفى إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر مالا يخفى من الفخامة والجزالة (وَمَنْ رَزَقْناهُ) من موصوفة معطوفة* على (عَبْداً) أى رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حالى ضرب المثل والرزق (مِنَّا) من جنابنا الكبير المتعالى (رِزْقاً حَسَناً) حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) تفضلا وإحسانا والفاء لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار ما عليه النظم الكريم من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددى (سِرًّا وَجَهْراً) أى حال السر والجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشمول* إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا والإشارة إلى أصناف نعم الله تعالى الباطنة والظاهرة وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لتوخى تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته سبحانه وتعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل فى ذلك مع محاولة المبالغة فى الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين (هَلْ يَسْتَوُونَ) جمع الضمير للإيذان بأن المراد بما* ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معنيان منهما أى هل يستوى العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان فى البشرية والمخلوقية لله سبحانه

١٢٩

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٧٧)

____________________________________

وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل فى إيجاده ولا فى تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث* لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أى كله لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحد غيره وإن ظهرت على أيدى بعض الوسايط فضلا عن استحقاق العبادة وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق مما ذكر راجع إلى الله سبحانه* كما لوح به قوله تعالى (رَزَقْناهُ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ونفى العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعملون بموجبه عنادا كقوله تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أى مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح وأظهر وبعد ما أبهم ذلك لتنتظر النفس إلى وروده وتترقبه حتى* يتمكن لديها عند وروده بين فقيل (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) وهو من ولد أخرس (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) * من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره بحدس أو فراسة لقلة فهمه وسوء إدراكه (وَهُوَ كَلٌّ) ثقل وعيال* (عَلى مَوْلاهُ) على من يعوله ويلى أمره وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته* على شىء مطلقا وقوله تعالى (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) أى حيث يرسله مولاه فى أمر بيان لعدم قدرته على إقامة* مصالح مولاه ولو كانت مصلحة يسيرة وقرىء على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضى من التوجه (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) بنجح وكفاية مهم البتة (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) مع ما فيه من الأوصاف المذكورة (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) * أى من هو منطيق فهو ذو رأى وكفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل (وَهُوَ) * فى نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومقابلة الصفات المذكورة بهذين الوصفين لأنهما فى حاق ما يقابلها فإن محصل الصفات المذكورة عدم استحقاق المأمورية وملخص هذين استحقاق كمال الآمرية المستتبع لحيازة المحاسن بأجمعها وتغيير الأسلوب حيث لم يقل والآخر آمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين القرينتين واعلم أن كلا من الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضى بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه ولا يبعد أن يقال إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوى بينه سبحانه وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضى (وَلِلَّهِ) تعالى خاصة* لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين

١٣٠

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨)

____________________________________

قاطبة بحيث لا سبيل لهم إليها لا مشاهدة ولا استدلالا ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسبما ينبىء عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك فى نفس الأمر وفيه إشعار بأن علمه سبحانه حضورى فإن تحقق الغيوب فى نفسها علم بالنسبة إليه تعالى ولذلك لم يقل ولله علم غيب السموات والأرض (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) التى هى أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بهما من حيث* غيبتها عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها فإن وقت وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كان إنيتها من الغيوب التى نصبت عليها الأدلة أى ما شأنها فى سرعة المجىء (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) أى كرجع* الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها (أَوْ هُوَ) أى بل أمرها فيما ذكر (أَقْرَبُ) من ذلك وأسرع زمانا* بأن يقع فى بعض من زمانه فإن ذلك وإن قصر عن حركة أنية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هوية كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هى أزمنة أيضا بل فى آن غير منقسم من ذلك الزمان وهو آن ابتداء تلك الحركة أو ما أمرها إلا كالشىء الذى يستقرب ويقال هو كلمح البصر أو هو أقرب وأيا ما كان فهو تمثيل لسرعة مجيئها حسبما عبر عنها فى فاتحة السورة الشريفة بالإتيان (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة* الأشياء أن يجىء بها أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك أو وما أمر إقامة الساعة التى كنهها وكيفيتها من الغوب الخاصة به سبحانه وهى إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل مالا يدخل تحت الإمكان فى سرعة الوقوع وسهولة التأتى إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين إن الله على كل شىء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة وقيل غيب السموات والأرض عبارة عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائب عن أهلهما فوضع الساعة موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ٧٨ عطف على قوله تعالى (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) منتظم معه فى سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) وقوله تعالى (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) والأمهات بضم الهمزة وقرىء بكسرها أيضا جمع الأم زيدت الهاء فيه كما زيدت فى إهراق من إراق وشذت زيادتها فى الواحدة قال [أمهتى خندف واليأس أبى] (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) فى موقع الحال أى غير عالمين شيئا أصلا* (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) عطف على (أَخْرَجَكُمْ) وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور* عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو الجمع مطلقا لا الترتيب على أن أثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الإخراج أى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساس فيحصل لكم علوم

١٣١

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٨٠)

____________________________________

بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدور وهو من جموع القلة التى جرت مجرى جموع الكثرة وتقديم المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذان من أول الأمر بكون المجعول نافعا لهم وتشويق النفس إلى المؤخر ليتمكن* عند وروده عليها فضل تمكن (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كى تعرفوا ما أنعم به عليكم طورا غب طور فتشكروه وتقديم السمع على البصر لما أنه طريق تلقى الوحى أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر وإفراده باعتبار كونه مصدرا فى الأصل (أَلَمْ يَرَوْا) وقرىء بالتاء (إِلَى الطَّيْرِ) جمع طائر أى ألم ينظروا إليها* (مُسَخَّراتٍ) مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة له وفيه مبالغة من حيث إن معنى التسخير جعل الشىء منقادا لآخر يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفلك والدواب للإنسان والواقع ههنا تسخير الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعة الطير السقوط فسخرها الله تعالى للطيران وفيه تنبيه على أن الطيران ليس بمقتضى طبع الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى* (فِي جَوِّ السَّماءِ) أى فى الهواء المتباعد من الأرض والسكاك واللوح أبعد منه وإضافته إلى السماء لما أنه* فى جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة (ما يُمْسِكُهُنَّ) فى الجوحين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن* (إِلَّا اللهُ) عزوجل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها وهو إما حال من الضمير المستتر فى مسخرات أو من الطير وإما مستأنف* (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير* (لَآياتٍ) ظاهرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتى من المجرور والمنصوب لما مر من* الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفس إلى وروده وقوله تعالى (مِنْ بُيُوتِكُمْ) أى من بيوتكم المعهودة التى تبنونها من الحجر والمدر تبيين لذلك المجعول المبهم فى الجملة وتأكيد لما سبق* من التشويق (سَكَناً) فعل بمعنى مفعول أى موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم أو تسكنون إليه من غير* أن ينتقل من مكانه أى جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ

١٣٢

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٨٢)

____________________________________

الْأَنْعامِ بُيُوتاً) أى بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة هى الخيام والقباب والأخبية والفساطيط (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة سهلة المأخذ (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) وقت ترحالكم فى النقض والحمل والنقل وقرىء* بفتح العين (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) وقت نزولكم فى الضرب والبناء (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) عطف* على قوله تعالى (مِنْ جُلُودِ) والضمائر للأنعام على وجه التنويع أى وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز (أَثاثاً) أى متاع البيت وأصله الكثرة والاجتماع ومنه شعر أثيث (وَمَتاعاً) أى* شيئا يتمتع به بفنون التمتع (إِلى حِينٍ) إلى أن تقضوا منه أوطاركم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه فى معرض* البلا والفناء وقيل إلى أن تموتوا والكلام فى ترتيب المفاعيل مثل ما مر من قبل (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من غير صنع من قبلكم (ظِلالاً) أشياء تستظلون بها من الحركا لغمام والشجر والجبل وغيرها امتن سبحانه* بذلك لما أن تلك الديار غالبة الحرارة (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) مواضيع تسكنون فيها من الكهوف* والغيران والسروب والكلام فى الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذى مر غير مرة (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) * جمع سربال وهو كل ما يلبس أى جعل لكم ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) * خصه بالذكر اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر أو لأن وقايته هى الأهم عندهم لما مر آنفا (وَسَرابِيلَ) * من الدروع والجواشن (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أى البأس الذى يصل إلى بعضكم من بعض فى الحرب من الضرب* والطعن ولقد من الله سبحانه علينا حيث ذكر جميع نعمه الفائضة على جميع الطوائف فبدأ بما يخص المقيمين حيث قال والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرة على الخيام وأضرابها حيث قال وجعل لكم من جلود الأنعام الخ ثم بما يعم من لا يقدر على ذلك ولا يأويه إلا الظلال حيث قال وجعل لكم مما خلق ظلالا الخ ثم بما لا بد منه لأحد حيث قال وجعل لكم سرابيل الخ ثم بمالا غنى عنه فى الحروب حيث قال وسرابيل تقيكم بأسكم ثم قال (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الإتمام البالغ (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أى إرادة أن تنظروا فيما أسغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية فتعرفوا حق منعهما فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شىء قليل وقرىء تسلمون أى تسلمون من العذاب أو من الشرك وقيل من الجراح بلبس الدروع (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فعل ماض على طريقة الالتفات وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له أى فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقى إليهم من البينات والعبرة والعظات (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أى فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هى البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب

١٣٣

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦)

____________________________________

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) استئناف لبيان أن توليهم وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عدد من نعم الله تعالى أصلا فإنهم يعرفونها ويعترفون أنها من الله تعالى (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بأفعالهم حيث يعبدون غير منعمها أو بقولهم أنها بشفاعة آلهتنا أو بسبب كذا وقيل نعمة الله تعالى نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها لا الإنكار وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل كقولهم بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم فإن* بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أى المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافى كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية هذا وقد قيل ذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرفوا لنقصان العقل أو التفريط فى النظر أو لم يقم عليه ٨٤ الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم* بالكفر والعصيان وهو نبيها (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فى الاعتذار إذ لا عذر لهم وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكلى وهو عند ما يقال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون* أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم‌السلام عليهم وأطم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يسترضون أى لا يقال لهم أرضوا ربكم إذا الآخرة دار الجزاء لا دار العمل وانتصاب الظرف بمحذوف تقديره اذكر أو خوفهم يوم نبعث الخ أو يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) الذى يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) ذلك (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ٨٦ أى يمهلون كقوله تعالى (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) الذين كانوا يدعونهم فى الدنيا وهم الأوثان أو الشياطين الذين شاركوهم فى الكفر بالحمل عليه وقارنوهم فى الغى والضلال (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أى نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا فى توزيع العذاب بينهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه (فَأَلْقَوْا) أى شركاؤهم (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونة وإنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم ويطيعونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم

١٣٤

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

____________________________________

السلام بل كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم فى تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله سبحانه عن الشريك والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فكأنهم قالوا ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم (وَأَلْقَوْا) أى الذين أشركوا (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد لحكمه العزيز الغالب بعد الاستكبار عنه فى الدنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أى ضاع وبطل* (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرءوا* منهم (الَّذِينَ كَفَرُوا) فى أنفسهم (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) الذى كانوا يستحقونه بكفرهم قيل فى زيادة عذابهم حيات أمثال البخت* وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا وقيل يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) متعلق بقوله (زِدْناهُمْ) أى زدنا عذابهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد المذكور (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) تكرير لما سبق تثنية للتهديد (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ) أى نبيا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من جنسهم قطعا لمعذرتهم وفى قوله تعالى (عَلَيْهِمْ) إشعار بأن شهادة أنبيائهم على الأمم تكون بمحضر منهم (وَجِئْنا بِكَ) إيثار لفظ المجىء على البعث لكمال العناية بشأنه عليه‌السلام وصيغة الماضى للدلالة على تحقق الوقوع (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) الأمم وشهدائهم كقوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) وقيل على أمتك والعامل فى الظرف محذوف كما مر والمراد به يوم القيامة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الكامل فى الكتابية الحقيق بأن يخص باسم الجنس وهو إما استئناف أو حال بتقدير قد (تِبْياناً) بيانا بليغا (لِكُلِّ شَيْءٍ) يتعلق بأمور الدين ومن جملة ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم عليهم‌السلام فيكون كالدليل على كونه عليه‌السلام شهيدا عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآية الكريمة من بعث الشهداء وبعثه عليه‌السلام شهيدا عليهم الصلاة والسلام والتبيان كالتلقاء فى كسر أوله وكونه تبيانا لكل شىء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصا على بعضها وإحالة لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته وقيل فيه وما ينطق عن الهوى وحثا على الإجماع وقد رضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان

١٣٥

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٩١)

____________________________________

الكتاب ولم يضر ما فى البعض من الخفاء فى كونه تبيانا فإن المبالغة باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل فى قوله تعالى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) إنه من قولك فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ* (وَهُدىً وَرَحْمَةً) للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثاره من تفريطهم لا من جهة الكتاب (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) خاصة أو يكون كل ذلك خاصا بهم لأنهم المنتفعون بذلك (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) أى فيما نزله تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده* لإفادة التجدد والاستمرار (بِالْعَدْلِ) بمراعاة التوسط بين طرفى الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مرة والبلادة وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والخمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أن العدل هو التوحيد والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر ومن الحكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ومن الحكم الخليقية الجود المتوسط* بين البخل والتبذير (وَالْإِحْسانِ) أى الإتيان بما أمر به على الوجه اللائق وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسان أن تعبد الله* كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أى إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو* تخصيص إثر تعميم اهتماما بشأنه (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الإفراط فى مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلا* (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر شرعا أو عقلا من الإفراط فى إظهار آثار القوة الغضبية (وَالْبَغْيِ) الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التى هى حاصلة من رذيلتى القوتين المذكورتين الشهوية والغضبية وليس فى البشر شر إلا وهو مندرج فى هذه الأقسام صادر عنه بواسطة هذه القوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضى الله عنه هى أجمع آية فى القرآن للخير* والشر ولو لم يكن فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت فى كونه تبيانا لكل شىء وهدى (يَعِظُكُمْ) بما يأمر* وينهى وهو إما استئناف وإما حال من الضميرين فى الفعلين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) طلبا لأن تتعظوا بذلك (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) هو البيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها مبايعة لله سبحانه لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ (إِذا عاهَدْتُمْ) أى حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٣٦

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣)

____________________________________

(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) التى تحلفون بها عند المعاهدة (بَعْدَ تَوْكِيدِها) حسبما هو المعهود فى أثناء العهود* لا على أن يكون النهى مقيدا بالتوكيد مختصا به (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) شاهدا رقيبا فإن الكفيل* مراع لحال المكفول به محافظ عليه (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من نقض الأيمان والعهود فيجازيكم على* ذلك (وَلا تَكُونُوا) فيما تصنعون من النقض (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) أى ما غزلته مصدر بمعنى المفعول (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) متعلق ب (نَقَضَتْ) أى كالمرأة التى نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه (أَنْكاثاً) طاقات* نكثت فتلها جمع نكث وانتصابه على الحالية من غزلها أو على أنه مفعول ثان لنقضت فإنه بمعنى صيرت والمراد تقبيح حال النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاء المعتوهة. قيل هى ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هى وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من* الضمير فى لا تكونوا أو فى الجار والمجرور الواقع موقع الخبر أى مشابهين لامرأة شأنها هذا حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم وأصل الدخل ما يدخل الشىء ولم يكن منه (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) أى بأن* تكون جماعة (هِيَ أَرْبى) أى أزيد عددا وأوفر مالا (مِنْ أُمَّةٍ) من جماعة أخرى أى لا تغدروا بقوم* لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة منابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة فى أعادى حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أى بأن تكون أمة أربى من أمة أى يعاملكم بذلك معاملة من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) حين* جازاكم بأعمالكم ثوابا وعقابا (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة قسر وإلجاء (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على الإسلام (وَلكِنْ) لا يشاء ذلك لكونه مزاحما لقضية الحكمة بل (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله أى يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره الجزئى إليه (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته حسبما يصرف اختياره إلى تحصيلها (وَلَتُسْئَلُنَّ) جميعا يوم القيامة (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا وهذا إشارة إلى ما لوح به من الكسب الذى عليه يدور أمر الهداية والضلال.

١٣٧

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

____________________________________

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنهى عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة فى بيان قبح المنهى* عنه وتمهيدا لقوله سبحانه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجة الحق (بَعْدَ ثُبُوتِها) عليها ورسوخها فيها بالإيمان وإفراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أى قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام* كثيرة (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أى العذاب الدنيوى (بِما صَدَدْتُمْ) بصدودكم أو بصدكم غيركم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) * الذى ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره (وَلَكُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ عَظِيمٌ) (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) أى لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى وبيعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو آياته الناطقة بإيجاب المحافظة على العهود والأيمان (ثَمَناً قَلِيلاً) أى لا تستبدلوا بها عرضا يسيرا وهو ما كانت قريش يعدون ضعفة المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حطام الدنيا (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) عزوجل من النصر والتغنيم والثواب الأخروى (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) مما يعدونكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى إن كنتم من أهل العلم والتمييز وهو تعليل للنهى على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى (ما عِنْدَكُمْ) تعليل للخيرية بطريق* الاستئناف أى ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعا (يَنْفَدُ) وإن جم عدده وينقضى* وإن طال أمده (وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية (باقٍ) لا نفاد له أما الأخروية فظاهرة وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت فى سمط الباقيات الصالحات* وفى إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام مالا يخفى وقوله تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّ) بنون العظمة على طريقة الالتفات تكرير للوعد المستفاد من قوله تعالى (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) على نهج التوكيد القسمى مبالغة فى الحمل على الثبات فى الدين والالتفات عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعار بعليتها للجزاء أى والله لنجزين* (الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذية المشركين ومشاق الإسلام التى من جملتها الوفاء بالعهود والفقر وقرىء بالياء من غير التفات (أَجْرَهُمْ) مفعول ثان (لَنَجْزِيَنَ) أى لنعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم على ما منوا به من الأمور المذكورة (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكور وإنما أضيف إليه الأحسن للإشعار بكمال حسنه كما فى قوله سبحانه (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى (أَجْرَهُمْ) أو (لَنَجْزِيَنَّهُمْ) بحسب أحسن أفراد أعمالهم المذكورة على معنى لنعطيهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطى الأجر بحسب

١٣٨

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨)

____________________________________

أفرادها المتفاوتة فى مراتب الحسن بأن نجزى الحسن منها بالأجر الحسن والأحسن بالأحسن وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم فى تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه فى سلك الصبر الجميل أو لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم وأما التفسير بما ترجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا كالمحرمات والمكروهات دلالة على أن ذلك هو المدار للجزاء دون ما يستوى فعله وتركه كالمباحات فلا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب فى تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم عن مدارية الجزاء من قبيل تحجير الرحمة الواسعة فى مقام توسيع حماها (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) أى عملا صالحا أى عمل كان وهذا شروع فى تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم فى الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم اختصاص الأجر الموفور بهم وبعملهم المذكور وقوله تعالى (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) * مبالغة فى بيان شموله للكل (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيده به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة فى استحقاق الثواب أو* تخفيف العذاب لقوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) وإيثار إيراده بالجملة الاسمية الحالية على نظمه فى سلك الصلة لإفادة وجوب دوامه ومقارنته للعمل الصالح (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فى* الدنيا يعيش عيشا طيبا أما إن كان موسرا فظاهر وأما إن كان معسرا فيطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم كالصائم يطيب نهاره بملاحظة نعيم ليله بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فلا يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) فى الآخرة* (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حسبما نفعل بالصابرين فليس فيه شائبة تكرار والجمع فى الضمائر العائدة* إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ وإيثار ذلك على العكس لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما فى حين الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للإفراد وإذ قد انتهى الأمر إلى أن مدار الجزاء المذكور هو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح ويخلص عن شوب الفساد فقيل (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أى إذا أردت قراءته عبر بها عن إرادتها على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب إيذانا بأن المراد هى الإرادة المتصلة بالقراءة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فاسأله عز جاره أن يعيذك (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) من* وساوسه وخطراته كيلا يوسوسك عند القراءة فإن له همة بذلك قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآية وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى سائر الأعمال

١٣٩

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١)

____________________________________

الصالحة أهم فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما ظكم بمن عداه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما عدا القراءة من الأعمال والأمر للندب وهذا مذهب الجمهور وعند عطاء للوجوب وقد أخذ بظاهر النظم الكريم فاستعاذ عقيب القراءة أبو هريرة رضى الله عنه ومالك وابن سيرين وداود وحمزة من القراء وعن ابن مسعود رضى الله عنه قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه‌السلام عن لقلم عن اللوح المحفوظ (إِنَّهُ) الضمير للشأن أو للشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) تسلط وولاية (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أى إليه يفوضون أمورهم وبه يعوذون فى كل ما يأتون وما يذرون فإن وسوسته لا تؤثر فيهم ودعوته غير مستجابة عندهم وإيثار صيغة الماضى فى الصلة الأولى للدلالة على التحقق كما أن اختيار صيغة الاستقبال فى الثانية لإفادة الاستمرار التجددى وفى التعرض لوصف الربوبية عدة كريمة بإعاذة المتوكلين والجملة تعليل للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنوى أى يعذك أو نحوه (إِنَّما سُلْطانُهُ) أى تسلطه وولايته بدعوته المستتبعة للاستجابة لا سلطانه بالقسر والإلجاء فإنه منتف عن الفريقين لقوله سبحانه حكاية عنه وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى وقد* أفصح عنه قوله تعالى (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أى يتخذونه وليا ويستجيبون دعوته ويطيعونه فإن المقصور* بمعزل من ذلك (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) سبحانه وتعالى (مُشْرِكُونَ) أو بسبب الشيطان مشركون إذ هو الذى حملهم على الإشراك بالله سبحانه وقصر سلطانه عليهم غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أن لا واسطة فى الخارج بين التوكل على الله تعالى وبين تولى الشيطان وإن كان بينهما واسطة فى المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم فى سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل ففيه مبالغة فى الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية فى الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرار التجددى كما أن اختيار الجملة الاسمية فى الثانية للدلالة على الثبات وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه وتقديم الأولى على الثانية التى هى بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعى الترتيب السابق لانفصل كل من القرينتين عما يقابلها (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أى إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) أولا وآخرا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن

١٤٠