تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

____________________________________

مثل ذلك الارسال العظيم الشأن المصحوب بهذه المعجزة الباهرة (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) أى مضت* (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة قد أرسل إليهم رسل (لِتَتْلُوَا) لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الكتاب* العظيم الشأن وتهديهم إلى الحق رحمة لهم وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما فى قوله تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها (وَهُمْ) أى والحال أنهم (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) بالبليغ الرحمة الذى وسعت كل شىء رحمته وأحاطت* به نعمته والعدول إلى المظهر المتعرض لوصف الرحمة من حيث إن الإرسال ناشىء منها كما قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فلم يقدروا قدره ولم يشكروا نعمه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلك إليهم وإزال القرآن الذى هو مدار المنافع الدينية والدنياوية عليهم وقيل نزلت فى مشركى مكة حين أمروا بالسجود فقالوا وما الرحمن (قُلْ هُوَ) أى الرحمن الذى كفرتم به وأنكرتم معرفته (رَبِّي) الرب فى الأصل بمعنى* التربية وهى تبليغ الشىء إلى كماله شيئا فشيئا ثم وصف به مبالغة كالصوم والعدل وقيل هو نعت أى خالقى ومبلغى إلى مراتب الكمال وإيراده قبل قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أى لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن* استحقاق العبادة منوط بالربوبية وقيل إن أبا جهل سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يا ألله يا رحمن فرجع إلى المشركين فقال إن محمدا يدعو إلهين فنزلت ونزل قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) * فى جميع أمورى لا سيما فى النصرة عليكم لا على أحد سواه (وَإِلَيْهِ) خاصة (مَتابِ) أى توبتى كقوله تعالى* (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أمر عليه‌السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفة الأنبياء وبعثا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه فإنه عليه‌السلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصى مما لا بد منه أصلا وقد فسر المتاب بمطلق الرجوع فقيل مرجعى ومرجعكم وزيد فيحكم بينى وبينكم وقد قيل فيثيبنى على مصابرتكم فتأمل (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) أى قرآنا ما وهو اسم أن والخبر قوله تعالى (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) وجواب لو محذوف لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقفه السامع من التالى والمقصود إما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأى الكفرة حيث لم يقدروا قدره العلى ولم يعدوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتى موسى وعيسى عليهما‌السلام وإما بيان غلوهم فى المكابرة والعناد وتماديهم فى الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرآنا سيرت به الجبال أى بإنزاله أو بتلاوته عليها وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أى شققت وجعلت أنهارا وعيونا* كما فعل بالحجر حين ضربه عليه‌السلام بعصاه أو جعلت قطعا متصدعة (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أى بعد أن*

٢١

أحيى بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه‌السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى فى الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته عزوجل كقوله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) لا فى الإعجاز إذ لا مدخل له فى هذه الآثار ولا فى التذكير والإنذار والتخويف لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقة لها بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول إليها مخل بالمبالغة المقصودة وتقديم المجرور فى المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غير مرة من قصد الإبهام ثم التفسير لزيادة التقرير لأن تقديم ما حقه التأخير تبقى النفس مستشرفة ومترقبة إلى المؤخر أنه ماذا فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن وكلمة أو فى الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع واقتراحهم وإن كان متعلقا بمجرد ظهور مثل هذه الأفاعيل العجيبة على يده عليه‌السلام لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيا على عدم اشتماله فى زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة فى بيان اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم فى شأنه الرفيع كأنه قيل لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذى لم يعدوه آية وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل* ما لا يخفى (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أى له الأمر الذى عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل ما يشاء وبحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة وهو إضراب عما تضمنه الشرطية من معنى النفى لا بحسب منطوقه بل باعتبار موجبه ومؤداه أى لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده فالإضراب ليس بمتوجه إلى كون الأمر لله سبحانه بل إلى ما يؤدى إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة من بناء التكليف على الاختبار* (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أى أفلم يعلموا على لغة هوازن أو قوم من النخع أو على استعمال اليأس فى معنى العلم لتضمنه له ويؤيده قراءة على وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أفلم يتبين بطريق* التفسير والفاء للعطف على مقدر أى أغفلوا عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) * على حذف ضمير الشأن وتخفيف أن (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بإظهار أمثال تلك الآثار العظيمة فالإنكار متوجه إلى المعطوفين جميعا أو اعلموا كون الأمر جميعا لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر فهو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه أى تخلف العلم الثانى عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكار إنكار الوقوع كما فى قوله تعالى (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) لا إنكار الواقع كما فى قولك ألم تخف الله حتى عصيته ثم إن مناط الإنكار ليس عدم علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه لم يشأها وذلك لأنهم كانوا يودون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان وعلى الثانى لو أن قرآنا فعل به ما فعل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) الآية فالإضراب حينئذ متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم فى العناد على ما شرح أى فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعية الحكمة من غير أن يكون لأحد عليه تحكم أو اقتراح واليأس بمعنى القنوط أى ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من إيمانهم حتى أحبوا ظهور مقترحاتهم فالإنكار متوجه

٢٢

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢)

____________________________________

إلى المعطوفين أو أعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أى إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور والإنكار على التقديرين إنكار الواقع كما فى قوله تعالى (أَفَلا تَتَّقُونَ) ونظائره لا إنكار الوقوع فإن عدم قنوطهم منه مما لا مرد له وقوله تعالى (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) الخ متعلق بمحذوف أى أفلم يبأسوا من إيمانهم علما منهم أو عالمين بأنه لو يشأ الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك أو بآمنوا أى أفلم بقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون بمضمون الشرطية وبعدم تحقق مقدمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمة لو فالوصف المذكور من دواعى إنكار يأسهم وقيل أن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت نبيا سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا ونتخذ فيها لبساتين والقطائع وقد سخرت لداود عليه‌السلام فلست بأهون على الله منه إن كنت نبيا كما زعمت أو سخر لنا به الريح كما سخرت لسليمان عليه‌السلام لنتجر عليها إلى الشام فقدشق علينا قطع الشقة البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت فمعنى تقطيع الأرض حينئذ قطعها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعتذار فى إسناد الأفاعيل المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه فى الوجهين الأولين وعن الفراء أنه متعلق بما قبله من قوله (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وما بينهما اعتراض وهو بالحقيقة دال على الجواب والتقدير ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن والتذكير فى كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) أى بسبب* ما صنعوه من الكفر والتمادى فيه وعدم بيانه إما للقصد إلى تهويله أو استهجانه وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له مع ما فى صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم فى ذلك (قارِعَةٌ) * داعية تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب وتقديم المجرور على الفاعل لما مر مرارا من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والإحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم آثر ذى أثير (أَوْ تَحُلُّ) تلك القارعة (قَرِيباً) أى مكانا قريبا* (مِنْ دارِهِمْ) فيفزعون منها ويتطاير إليهم شرارها شبهت القارعة بالعدو المتوجه إليهم فاسند إليها الإصابة* تارة والحلول أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيح (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) أى موتهم أو القيامة* فإن كلا منهما وعد محتوم لامر دله وفيه دلالة على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب فى غاية الشدة وأن ما ذكر سابقة نفحة يسيرة بالنسبة إليه ثم حقق ذلك بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أى الوعد كالميلاد* والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة لاستحالة ذلك على الله سبحانه وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أراد بالقارعة السرايا التى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثها وكانوا بين إغارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم فى ديارهم فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أن يكون قوله تعالى (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرادا به حلوله الحديبية والمراد بوعد الله ما وعد به من فتح مكة (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ) كثيرة خلت (مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى تركتهم ملاوة من الزمان فى أمن

٢٣

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

____________________________________

ودعة كما يلى للبهيمة فى المرعى وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقى من المشركين من التكذيب والاقتراح على طريقة الاستهزاء به ووعيد لهم والمعنى إن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر مطرد قد فعل ذلك برسل كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم والعدول فى الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غير المستهزئين* بل لإرادة الجمع بين الوصفين أى فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أى عقابى إياهم وفيه من الدلالة على تناهى كيفيته فى الشدة والفظاعة ما لا يخفى (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) أى رقيب مهيمن (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) كائنة من كانت (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر لا يخفى عليه شىء من ذلك بل يجازى كلا بعمله وهو الله تعالى والخبر محذوف أى كمن ليس كذلك إنكارا لذلك وإدخال الفاء لتوجيه الإنكار إلى توهم المماثلة غب ما علم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديد والأخذ الشديد ومن كون الأمر كله لله تعالى وكون هداية الناس جميعا منوطة بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارع على الكفرة إلى أن يأتى وعد الله كأنه قيل أألأمر كذلك فمن هذا شأنه كما ليس فى عداد الأشياء حتى تشركوه به فالإنكار متوجه إلى ترتب المعطوف أعنى توهم المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعنى كون الأمر كما ذكر كما فى قولك أتعلم الحق فلا تعمل به لا إلى المعطوفين جميعا كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعمل* به وقوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) جملة مستقلة جىء بها للدلالة على الخبر أو حالية أى أفمن هذه صفاته كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاء لا شريكا واحدا أو معطوفة على الخبر إن قدر ما يصلح لذلك أى أفمن هذا شأنه لم يوحدوه وجعلوا له شركاء ووضع المظهر موضع المضمر للتنصيص على وحدانيته ذاتا واسما وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولا للدلالة على* التفخيم وقوله تعالى (قُلْ سَمُّوهُمْ) تبكيت لهم إثر تيكيت أى سموهم من هم وماذا أسماؤهم أو صفوهم* وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أى بل أتنبئون الله (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات* والأرض وقرىء بالتخفيف (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أى بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقة كتسمية الزنجى كافورا كقوله تعالى (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) وهاتيك الأساليب البديعة التى ورد عليها الآية الكريمة منادية على أنها خارجة عن قدرة البشر من كلام خلاق القوى والقدر* فتبارك الله رب العالمين (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الموصول موضع المضمر ذما لهم وتسجيلا عليهم* بالكفر (مَكْرُهُمْ) تمويههم الأباطيل أو كيدهم للإسلام بشركهم (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أى سبيل الحق من صده صدا وقرىء بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليها وقرىء بفتحها أى صدوا الناس أو

٢٤

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣٦)

____________________________________

من صد صدودا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أى يخلق فيه الضلال بسوء اختياره أو يخذله (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) وفقه* للهدى (لَهُمْ عَذابٌ) شاق (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبة على كفرهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) من ذلك بالشدة والمدة (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) من عذابه* المذكور (مِنْ واقٍ) من حافظ يعصمهم من ذلك فمن الأولى صلة للوقاية والثانية مزيدة للتأكيد (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أى صفتها العجيبة الشأن التى فى الغرابة كالمثل (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر والمعاصى وهو* مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه أى فيما قصصنا عليك مثل الجنة وقوله تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) * تفسير لذلك المثل على أنه حال من الضمير المحذوف من الصلة العائد إلى الجنة أى وعدها وهو الخبر عند غيره كقولك شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه أو على حذف موصوف أى مثل الجنة جنة تجرى الخ (أُكُلُها) ثمرها (دائِمٌ) لا ينقطع (وَظِلُّها) أيضا كذلك لا تنسخه الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا (تِلْكَ) * الجنة المنعوتة بما ذكر (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصى أى مآلهم ومنتهى أمرهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير وفيه ما لا يخفى من إطماع المتقين وإقناط الكافرين (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم المسلمون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إذ هو الكتاب الموعود فى* التوراة والإنجيل (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أى من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم* بالعداوة نحو كعب بن الأشرف والسيد والعاقب اسقفى نجران وأتباعهما (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو الشرائع* الحادثة إنشاء أو نسخالا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنعى عليهم من أول الأمر أن مدار ذلك إنما هو جنايات أيديهم وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به وقيل يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتهم فإنهم أيضا يفرحون به لكونه مصداقا لكتبهم فى الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى (وَمِنَ الْأَحْزابِ) الخ تتمة بمنزلة أن يقال ومنهم من ينكر بعضه (قُلْ) إلزاما لهم وردا لإنكارهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أى شيئا من الأشياء أولا أفعل الإشراك به والمراد قصر الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصر الأمر مطلقا على عبادته تعالى خاصة أى قل لهم إنما أمرت فيما أنزل إلى بعبادة الله وتوحيده وظاهر أن لا سبيل

٢٥

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨)

____________________________________

لكم إلى إنكاره لإطباق جميع الأنبياء والكتب على ذلك كقوله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فما لكم تشركون به عزير او المسيح وقرىء ولا* أشرك به بالرفع على الاستئناف أى وأنا لا أشرك به (إِلَيْهِ) إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد* أو إلى ما أمرت به من التوحيد (أَدْعُوا) الناس لا إلى غيرة أولا إلى شىء آخر مما لم يطبق عليه الكتب الإلهية* والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فما وجه إنكاركم (وَإِلَيْهِ) إلى الله تعالى وحده (مَآبِ) مرجعى للجزاء وحيث كانت هذه الحجة الباهرة لازمة لهم لا يجدون عنها محيصا أمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبهم بذلك إلزاما وتبكيتا لهم ثم شرع فى رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة فى ذلك فقيل (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أى ما أنزل إليك وذلك إشارة إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك ومحله النصب على المصدرية أى مثل ذلك الإنزال البديع المنتظم لأصول مجمع عليها وفروع* متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسبما تقتضيه قضية الحكمة والمصلحة أنزلناه (حُكْماً) حاكما يحكم فى القضايا والواقعات بالحق أو يحكم به كذلك والتعرض لذلك العنوان مع أن بعضه ليس بحكم لتربية وجوب* مراعانه وتحتم المحافظة عليه (عَرَبِيًّا) مترجما بلسان العرب والتعرض لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدارك إعجازه والاقتصار على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) الخ بأباه التعرض لاتباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وأن لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور* فيه الاستتباع والإتباع (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) التى يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفة لما أنزل* إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) العظيم الشأن الفائض* من ذلك الحكم العربى أو العلم بمضمونه (ما لَكَ مِنَ اللهِ) من جنابه العزيز والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة قال الأزهرى لا يكون إلها حتى يكون معبودا وحتى يكون خالقا ورازقا* ومدبرا (مِنْ وَلِيٍّ) بلى أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل (وَلا واقٍ) يقيك من مصارع السوء وحيث لم يستلزم نفى الناصر على العدو نفى الواقى من نكايته أدخل على المعطوف حرف النفى للتأكيد كقولك مالى دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم وأمثال هاتيك القوارع إنما هى لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات فى الدين واللام فى لئن موطئة ومالك ساد مسد جوابى الشرط والقسم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً) كثيرة كائنة (مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً)

٢٦

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

____________________________________

نساء وأولادا كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يعيبونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزواج والولاد كما كانوا يقولون ما لهذا الرسول يأكل الطعام الخ (وَما كانَ لِرَسُولٍ) منهم أى ما صح وما استقام ولم يكن فى وسعه (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) مما اقترح عليه وحكم مما التمس منه (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التى عليها يدور* أمر الكائنات لا سيما مثل هذه الأمور العظام والالتفات لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملة بالإيماء إلى العلة (لِكُلِّ أَجَلٍ) أى لكل مدة ووقت من المدد والأوقات (كِتابٌ) حكم معين يكتب على العباد حسبما* تقتضيه الحكمة فإن الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم فى المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلاف أحوالهم المتغيرة حسب تغير الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) أى ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت (وَيُثْبِتُ) بدله ما فيه المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما شاء إثباته مطلقا أعم منهما ومن* الإنشاء ابتداء أو يمحو من ديوان الحفظة الذين ديدنهم كتب كل قول وعمل ما لا يتعلق به الجزاء ويثبت الباقى أو يمحو سيئات التائب ويثبت مكانها الحسنة أو يمحو قرنا ويثبت آخرين أو يمحو الفاسدات من العالم الجسمانى ويثبت الكائنات أو يمحو الرزق ويزيد فيه أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة وبه قال ابن مسعود وابن عمر رضى الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالى الى أن يجعلهم سعداء وهذا رواه جابر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل فى ذلك مواد الإنكار دخولا أوليا وقرىء بالتشديد (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أى أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شىء من* الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة ألحقت النون بالفعل (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أى وعدناهم من إنزال العذاب عليهم والعدول إلى* صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفى إيراد البعض رمز إلى إرادة بعض الموعود (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أى تبليغ* أحكام الرسالة بتمامها لا تحقيق مضمون ما بلغته من الوعيد الذى هو من جملتها (وَعَلَيْنَا) لا عليك (الْحِسابُ) * محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها أى كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوى أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية ثم طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) استفهام إنكارى والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أأنكروا نزول

٢٧

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢)

____________________________________

* ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا فى ذلك ولم يروا (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أى أرض الكفر (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بأن نفتحها على المسلمين شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك ومثله قوله عز سلطانه (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) وقوله (نَنْقُصُها) حال من فاعل (نَأْتِي) أو من مفعوله وقرىء ننقصها بالتشديد وفى لفظ الإتيان المؤذن بالاستواء المحتوم والاستيلاء العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما فى قوله عزوجل (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (وَاللهُ يَحْكُمُ) ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهد من المخايل والآثار وفى الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى وهى* جملة اعتراضية جىء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) اعتراض فى اعتراض لبيان علو شأن حكمه جل جلاله وقيل نصب على الحالية كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه كما تقول جاء زيد لا عمامة على رأسه أى حاسرا والمعقب من يكر على الشىء فيبطله وحقيقته من يعقبه ويقفيه بالرد* والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم فى الآخرة بأفانين العذاب غب ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء حسبما يرى وقال ابن عباس رضى الله عنهما سريع الانتقام (وَقَدْ مَكَرَ) الكفار (الَّذِينَ) خلوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل كفار مكة بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له فى الحقيقة ولم يصرح بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعنى قوله* تعالى (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ) أى جنس المكر (جَمِيعاً) لا وجود لمكرهم أصلا إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون وما يذرون بعلم الله تعالى وقدرته وإنما لهم مجرد* الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله عزوجل (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ومن قضيته عصمة أوليائه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما تكسبه ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وأن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصى التى من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون أو لله المكر الذى باشروه جميعا لا لهم على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالأنبياء* بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) * حين يقضى بمقتضى علمه فيوفى كل نفس جزاء ما تكسبه (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أى العاقبة الحميدة من الفريقين وإن جهلوا ذلك يومئذ وقيل السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمهم به حينئذ وقرىء سيعلم الكافر على إرادة الجنس والكافرون والكفر أى أهله والذين كفروا وسيعلم على صيغة المجهول من الإعلام أى سيخبر

٢٨

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

____________________________________

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل قاله رؤساء اليهود وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك واستمراره منهم (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه قد أظهر على* رسالتى من الحجج القاطعة والبينات الساطعة ما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) * أى علم القرآن وما عليه من النظم المعجز أو من هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام فى كتبهم والآية مدنية بالاتفاق أو من عنده علم اللوح المحفوظ وهو الله سبحانه أى كفى به شاهدا بيننا بالذى يستحق العبادة فإنه قد شحن كتابه بالدعوة إلى عبادته وأيدنى بأنواع التأييد وبالذى يختص بعلم ما فى اللوح من الأشياء الكائنة الثابتة التى من جملتها رسالتى وقرىء من عنده بالكسر وعلم الكتاب على الأول مرتفع بالظرف المعتمد على الموصول أو مبتدأ خبره الظرف وهو متعين على الثانى ومن عنده علم الكتاب بالكسر وبناء المفعول ورفع الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الرعد أعطى من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزوجل والله أعلم بالصواب.

٢٩

١٤ ـ سورة إبراهيم عليه‌السلام

(مكية وآياتها اثنان وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٢)

____________________________________

(سورة إبراهيم عليه‌السلام مكية إلا آيتى ٢٨ و ٢٩ فمدنيتان وآيها اثنان وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر) مر الكلام فيه وفى محله غير مرة وقوله تعالى (كِتابٌ) خبر له على تقدير كون الر مبتدأ أو لمتدأ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدأ محذوف أو مسرودا على نمط التعديد* ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لهذا المبتدأ المحذوف وقوله تعالى (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفة له وقوله تعالى (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) متعلق بأنزلناه أى لتخرجهم كافة بما فى تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند* الله عزوجل الكاشفة عن العقائد الحقة وقرىء ليخرج الناس (مِنَ الظُّلُماتِ) أى ليخرج به الناس من عقائد* الكفر والضلال التى كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة (إِلَى النُّورِ) إلى الحق الذى هو نور بحت لكن لا* كيفما كان فإنك لا تهدى من أحببت بل (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أى بتيسيره وتوفيقه وللأنباء عن كون ذلك منوطا بإقبالهم إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) استعير له الإذن الذى هو عبارة عن تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود وأضيف إلى ضميرهم اسم الرب المفصح عن التربية التى هى عبارة عن تبليغ الشىء إلى كماله المتوجه إليه وشمول الإذن بهذا المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الإنزال لإخراجهم جميعا وعدم تحقق الإذن بالفعل فى بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم غير مخل بذلك والباء متعلقة بتخرج أو بمضمر وقع حالا من مفعوله أى ملتبسين بإذن ربهم وجعله حالا من فاعله يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه وحيث كان الحق مع وضوحه فى نفسه وإيضاحه لغيره موصلا إلى الله عزوجل* استعير له النور تارة والصراط أخرى فقيل (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) على وجه الإبدال بتكرير العامل كما فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) وإخلال البدل والبيان بالاستعارة إنما هو فى الحقيقة لا فى المجاز كما فى قوله سبحانه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وقيل هو استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل إلى أى نور فقيل إلى صراط العزيز الحميد وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له وتخصيص الوصفين بالذكر للترغيب فى سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبة الحميدة (اللهِ) بالجر عطف بيان للعزيز الحميد لجريانه مجرى الأعلام الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق

٣٠

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

____________________________________

كالنجم فى الثريا وقرىء بالرفع على هو الله أى العزيز الحميد الذى أضيف إليه الصراط الله (الَّذِي لَهُ) * ملكا وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى ما وجد فيهما داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما* كما مر فى آية الكرسى ففيه على القراءتين بيان لكمال فخامة شأن الصراط وإظهار لتحتم سلوكه على الناس قاطبة وتجويز الرفع على الابتداء بجعل الموصول خبرا مبناه الغفول عن هذه النكتة وقوله عزوجل (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل وهو نقيض الوال* وهو النجاة وأصله النصب كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدلالة على الثبات كسلام عليك (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله تعالى (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أى يؤثرونها استفعال من المحبة فإن المؤثر للشىء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من غيره (عَلَى الْآخِرَةِ) أى الحياة الآخرة الأبدية* (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) التى بين شأنها والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوى* على كل وصف جميل لروم الاختصار وهو من صده صدا وقرىء يصدون من أصد المنقول من صد صدودا إذا نكب وهو غير فصيح كأوقف فإن فى صده ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل (وَيَبْغُونَها) * أى يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أى يطلبون لها (عِوَجاً) أى زيغا واعوجاجا وهى* أبعد شىء من ذلك أى يقولون لمن يريدون صده وإضلاله إنها سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل من الكافرين أو صفة له فيعتبر كل وصف من أوصافهم بإزاء ما يناسبه من المعانى المعتبرة فى الصراط فالكفر المنبىء عن الستر بإزاد كونه نورا واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون سلوكه محمود العاقبة والصد عنه بإزاء كونه مأمونا وفيه من الدلالة على تماديهم فى الغى ما لا يخفى أو النصب على الذم أو الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) وعلى الأول جملة مستأنفة وقعت معللة لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيدا* لما أشعر به بناء الحكم على الموصول أى أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورة من استحباب الحياة الدنيا على الآخرة وصد الناس عن سبيل الله المستقيمة ووصفها بالاعوجاج وهى منه بنزه فى ضلال عن طريق الحق بعيد بالغ فى ذلك غاية الغايات الفاصية والبعد وإن كان من أحوال الضال إلا أنه قد وصف به وصفه مجازا للمبالغة كجد جده وداهية دهياء ويجوز أن يكون المعنى فى ضلال ذى بعد أو فيه بعد فإن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وقد يضل بعيدا وفى جعل الضلال محيطا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة.

٣١

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

____________________________________

(وَما أَرْسَلْنا) أى فى الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إجمالا (مِنْ رَسُولٍ إِلَّا) ملتبسا (بِلِسانِ قَوْمِهِ) متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا وقرىء بلسن وهو* لغة فيه كريش ورياش وبلسن بضمتين وضمة وسكون كعمد وعمد (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما أمروا به فيلتقوا منه بيسر وسرعة ويعملوا بموجبه من غير حاجة إلى الترجمة ممن لم يؤمر به وحيث لم يمكن مراعاة هذه القاعدة فى شأن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثته للثقلين كافة على اختلاف الكلمة لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدى التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز دون غيره مثنة لقدح القادحين واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء وحصر البيان بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمة اتحاد النظم المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل أمة من معرفة وافق الكل وتحاذيه حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو فى خصلة فذة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناع ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث فيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المتين بلسان عربى مبين وانتشرت أحكامه فيما بين الأمم أجمعين وقيل الضمير فى قومه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه تعالى أنزل الكتب كلها عربية ثم ترجمها جبريل عليه الصلاة والسلام أو كل من نزل عليه من الأنبياء عليهم‌السلام بلغة من نزل عليهم ويرده قوله تعالى (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فإنه ضمير القوم وظاهر أن جميع الكتب لم ينزل لتبيين العرب وفى رجعه إلى قوم كل نبى كأنه قيل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبين الرسول لقومه الذين أرسل* إليهم ما لا يخفى من التكلف (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إضلاله أى يخلق فيه الضلال لمباشرة أسبابه المؤدية إليه* أو يخذله ولا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الألطاف (وَيَهْدِي) بالتوفيق ومنح الألطاف (مَنْ يَشاءُ) هدايته لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوى على الصفات لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما والفاء فصيحة مثلها فى قوله تعالى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) كأنه قيل فبينوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلاله لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايته لاستحقاقه لها والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته أمر محقق غنى عن الذكر والبيان والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار حسب تجدد البيان من الرسل المتعاقبة عليهم‌السلام وتقديم الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة فى بيان أن لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة على ذلك أسرع من

٣٢

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

____________________________________

ترتب الاهتداء وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغالب فى مشيئته (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل شيئا من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغة وفيه* أن ما فوض إلى الرسل إنما هو تبليغ الرسالة وتبيين طريق الحق وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) شروع فى تفصيل ما أجمل فى قوله عزوجل ٥ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية (بِآياتِنا) أى ملتبسا بها وهى معجزاته التى* أظهرها لبنى إسرائيل (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بمعنى أى أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول أو بأن أخرج* كما فى قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) فإن صيغ الأفعال فى الدلالة على المصدر سواء وهو المدار فى صحة الوصل والمراد بذلك إخراج بنى إسرائيل بعد مهلك فرعون (مِنَ الظُّلُماتِ) من الكفر والجهالات التى أدتهم* إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (إِلَى النُّورِ) إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائر ما أمروا به* (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أى بنعمائه وبلائه كما ينبىء عنه قوله (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) لكن لا مما جرى عليهم فقط* بل عليهم وعلى من قبلهم من الأمم فى الأيام الخالية حسبما ينبى عنه قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآيات أو بأيامه المنطوية على ذلك كما يلوح به قوله تعالى (إِذْ أَنْجاكُمْ) والالتفات من التكلم إلى الغببة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإبذان بفخامة شأنها والإشعار بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما توهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم أى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد وقيل أيام الله وقائعه التى وقعت على الأمم قبلهم وأيام العرب وقائعها وحروبها وملاحمها أى أنذرهم وقائعه التى دهمت الأمم الدارجة ويرده ما تصدى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى التذكير بها أو فى مجموع تلك النعماء والبلاء أو* فى أيامها (لَآياتٍ) عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته فهى على الأول عبارة* عن الأيام سواء أريد بها أنفسها أو ما فيها من النعماء والبلاء ومعنى ظرفية التذكير لها كونه مناطا لظهورها وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر وأما على الثانى وهو كونه إشارة إلى مجموع النعماء فعن كل واحدة من تلك النعماء والبلاء والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع أو كلمة فى تجريدية مثلها فى قوله تعالى (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه وقيل لكل مؤمن* والتعبير عنهم بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن أى لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إليها لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكر المؤدى إلى تلك المرتبة فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على من قبله من النعماء والبلاء وتنبه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها وتخصيص الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية

٣٣

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧)

____________________________________

عن غيرهم فإن النبيين حاصل بالنسبة إلى الكل وتقديم الصبار على الشكور لتقدم متعلق الصبر أعنى البلاء على متعلق الشكر أعنى النعماء وكون الشكر عاقبة الصبر (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) شروع فى بيان تصديه عليه الصلاة والسلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره* غير مرة أى اذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لقومه (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهى إليه أميل والظرف متعلق بنفس النعمة إن جعلت مصدرا أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما أى اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمته كائنة عليكم وكذلك* كلمة إذ فى قوله تعالى (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أى اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه إياكم من آل فرعون أو اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم وقت إنجائه إياكم منهم أو بدل اشتمال من نعمة الله مرادا بها الإنعام* أو العطية (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما وأصل السوم الذهاب فى طلب الشىء* (سُوءَ الْعَذابِ) السوء مصدر ساء يسوء والمراد به جنس العذاب السيىء أو استعبادهم واستعمالهم فى* الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك مما لا يحصرو نصبه على أنه مفعول ليسومونكم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد وإنما فعلوا ذلك لأن فرعون رأى فى المنام أو قال له الكهنة أنه سيولد منهم من يذهب بملكه فاجتهدوا فى ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله* شيئا (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أى يبقونهن فى الحياة مع الذل والصغار ولذلك عد من جملة البلاء والجمل أحوال* من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما (وَفِي ذلِكُمْ) أى فيما ذكر من* أفعالهم الفظيعة (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أى ابتلاء منه لا أن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل فى تجريدية* فنسبته إلى الله تعالى إما من حيث الخلق أو الأقدار والتمكين (عَظِيمٌ) لا يطاق ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة وهو الأنسب كما يلوح به التعرض لوصف الربوبية وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذى هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) من جملة مقال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوف على نعمة الله أى اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أى آذن إيذانا بليغا لا تبقى معه شائبة شبهة لما فى صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول فى حقه سبحانه على غايته التى هى الكمال وقيل هو معطوف على قوله تعالى (إِذْ أَنْجاكُمْ) أى اذكروا نعمته تعالى فى هذين الوقتين فإن هذا التأذن أيضا نعمة من الله تعالى عليهم ينالون بها خيرى الدنيا والآخرة وفى قراءة ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وإذ قال ربكم ولقد ذكرهم عليه الصلاة والسلام أولا بنعمائه تعالى

٣٤

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩)

____________________________________

عليهم صريحا وضمنه تذكير ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ثم أمرهم ثانيا بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيد بالعذاب على تقدير الكفر والمراد بتذكير الأوقات تذكير ما وقع فيها من الحوادث مفصلة إذ هى محيطة بذلك فإذا ذكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهد معاين (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك من النعم والآلاء الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ذلك وغمصتموه (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريح بالوعد والتعريض الوعيد فما ظك بأكرم الأكرمين ويجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أى لأعذبنكم واللام فى الموضعين موطئة للقسم وكل من الجوابين سادمسد جوابى الشرط والقسم والجملة إما مفعول لتأذن لأنه ضرب من القول أو لقول مقدر بعده كأنه قيل وإذ تأذن ربكم فقال الخ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا) نعمه ٨ تعالى ولم تشكروها (أَنْتُمْ) يا بنى إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الخلائق (جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ) عن* شكركم وشكر غيركم (حَمِيدٌ) مستوجب للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو* محمود بحمد ، الملائكة بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله سبحانه وهو تعليل لما حذف من جواب إن أى إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم فإن الله تعالى لغنى عن شكر الشاكرين ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله عند ما عاين منهم دلائل العناد ومخايل الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب أو قاله غب تذكيرهم بما ذكر من قول الله عز سلطانه وتحقيقا لمضمونه وتحذيرا لهم من الكفران ثم شرع فى الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبى المؤمن والكافر فيقلعوا عما هم عليه من الشر وينيبوا إلى الله تعالى وقيل هو ابتداء كلام من الله تعالى خطابا للكفرة فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيختص تذكير موسى عليه الصلاة والسلام بما اختص ببني اسرائيل من السراء والضراء والأيام بالأيام الجارية عليهم فقط وفيه ما لا يخفى من البعد وأيضا لا يظهر حينئذ وجه تخصيص تذكير الكفرة الذين فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوة لهم فى الخلو قبل هؤلاء (قَوْمِ نُوحٍ) بدل من الموصول أو عطف بيان (وَعادٍ) معطوف* على (قَوْمِ نُوحٍ (وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى من هؤلاء المذكورين عطف عام على (قَوْمِ نُوحٍ) وما عطف*

٣٥

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠)

____________________________________

* عليه وقوله تعالى (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) اعتراض أو الموصول مبتدأ ولا يعلمهم إلى آخره خبره والجملة اعتراض والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أبا لا يعرفون وكان ابن مسعود رضى الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية* قال كذب النسابون يعنى أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمها عن العباد (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) * استئناف لبيان نبئهم (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرة والبينات الباهرة فبين كل رسول لأمته طريق الحق* وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدر عنها من المقالة اعتناء منهم بشأنها وتنبيها للرسل على تلقيها والمحافظة عليها وإقناطا لهم عن التصديق* والإيمان بإعلام أن لا جواب لهم سواه (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أى على زعمكم وهى البينات التى أظهروها حجة على صحة رسالاتهم كقوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالاتهم أو فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله تعالى (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أو وضعوها عليها تعجبا منه واستهزاء به كمن غلبه الضحك أو إسكاتا للأنبياء عليهم‌السلام وأمرا لهم بإطباق الأفواه أوردوها فى أفواه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقا أو تمثيلا أو جعلوا أيدى الأنبياء فى أفواههم تعجبا من عتوهم وعنادهم كما ينبىء عنه تعجبهم بقولهم أفى الله شك الخ وقيل الأيدى بمعنى الأيادى عبربها عن مواعظهم ونصائحهم وشرائعهم التى هى مدار النعم* الدينية والدنياوية لأنهم لما كذبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ) عظيم* (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان بالله والتوحيد فلا ينافى شكهم فى ذلك كفرهم القطعى بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعا حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا فأتونا* بسلطان مبين وقرىء تدعون بالإدغام (مُرِيبٍ) موقع فى الريبة من أرابه أو ذى ريبة من أراب الرجل وهى قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشىء (قالَتْ رُسُلُهُمْ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه المقال كأنه* قيل فماذا قالت لهم رسلهم فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء (أَفِي اللهِ شَكٌّ) بإدخال الهمزة على الظرف للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا منقادين عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا أأنتم فى شك مريب من الله تعالى مبالغة فى تنزيه ساحة السبحان عن شائبة الشك وتسجيلا عليهم بسخافة العقول أى أفى شأنه سبحانه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلى حتى تكونوا من قبله فى شك مريب وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد

٣٦

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

____________________________________

وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرة إنا كفرنا بما أرسلتم به واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى ثم عقبوا ذلك الإنكار بما يوجبه من الشواهد الدالة على انتفاء المنكر فقالوا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى مبدعهما وما فيها من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق* ما أنتم منه فى شك وهو صفة للاسم الجليل أو بدل منه وشك مرتفع بالظرف لاعتماده على الاستفهام وجعله مبتدأ على أن الظرف خبره يفضى إلى الفصل بين الموصوف والصفة بالأجنبى أعنى المبتدأ والفاعل ليس بأجنبى من رافعه وقد جوز ذلك أيضا (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان بارساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من* تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم مما تدعوننا إليه (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة كقولك دعوته* ليأكل معى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أى بعضها وهو ما عدا المظالم مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام بحبه قيل هكذا* وقع فى جميع القرآن فى وعد الكفرة دون وعد المؤمنين تفرقة بين الوعدين ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت فى خطاب الكفرة مرتبة على محض الإيمان وفى شأن المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصى ونحو ذلك فيتناول الخروج من المظالم وقيل المعنى ليغفر لكم بدلا من ذنوبكم (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان (قالُوا) * استئناف كما سبق (إِنْ أَنْتُمْ) أى ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) من غير فضل يؤهلكم لما تدعونه من النبوة* (تُرِيدُونَ) صفة ثانية لبشر حملا على المعنى كقوله تعالى (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أو كلام مستأنف أى تريدون بما* تتصدون له من الدعوة والإرشاد (أَنْ تَصُدُّونا) بتخصيص العبادة بالله سبحانه (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) * أى عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته من غير شىء يوجبه وإلا (فَأْتُونا) أى وإن لم يكن الأمر كما قلنا* بل كنتم رسلا من جهة الله تعالى كما تدعونه فأتونا (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقكم لتلك* الرتبة أو على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد ولقد كانوا آتوهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ما تخر له صم الجبال ولكنهم إنما يقولون ما يقولون من العظائم مكابرة وعنادا وإراءة لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطان المبين (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراة معهم فى أول مقالتهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك فى الله سبحانه فإن ذلك عام وإن اختص بهم ما يعقبه (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما تقولون* (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ) بالنبوة (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعنون أن ذلك عطية من الله تعالى يعطيها من يشاء* من عباده بمحض الفضل والامتنان من غير داعية توجبه قالوه تواضعا وهضما للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم فى الصورة أو فى الدخول تحت الجنس ولكن الله يمن بالفضائل والكمالات والاستعدادات على من يشاء المن وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها وتلك الفضائل والكمالات والاستعدادات هى التى يدور عليها فلك الاصطفاء للنبوة (وَما كانَ) وما صح وما استقام (لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ *

٣٧

(وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤)

____________________________________

* بِسُلْطانٍ) أى بحجة من الحجج فضلا عن السلطان المبين بشىء من الأشياء وسبب من الأسباب (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا (وَعَلَى اللهِ) وحده دون ما عداه مطلقا* (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصودهم حمل أنفسهم عليه آثر ذى أثير ألا يرى إلى قوله عزوجل (وَما لَنا) أى أى عذر لنا (أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أى فى أن لا نتوكل عليه والإظهار* لإظهار النشاط بالتوكل عليه والاستلذاذ بذكر اسمه تعالى وتعليل التوكل (وَقَدْ هَدانا) أى والحال أنه قد* فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا (سُبُلَنا) أى أرشد كلامنا سبيله ومنهاجه الذى شرع له وأوجب عليه سلوكه فى الدين وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح فى التوكل قالوا على* سبيل التوكيد القسمى مظهرين لكمال العزيمة (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) بالعناد واقتراح الآيات وغير* ذلك مما لا خير فيه (وَعَلَى اللهِ) خاصة (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أى فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل والمراد هو المراد مما سبق من إيجاب التوكل على أنفسهم والمراد بالمتوكلين المؤمنون والتعبير عنهم بذلك لسبق ذكر اتصافهم به ويجوز أن يراد وعليه فليتوكل من توكل دون غيره (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين العاتين الغالين فى الكفر من أولئك الأمم الكافرة التى نقلت مقالاتهم* الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب وأضرابهم ولذلك لم يقل وقالوا (لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) لم يقنعوا بعصيانهم الرسل ومعاندتهم الحق بعد ما رأوا البينات الفائتة للحصر حتى اجترءوا على مثل هاتيك العظيمة التى لا يكاد يحيط بها دائرة الإمكان فحلفوا على أن يكون أحد المحالين والعود إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليب المؤمنين على الرسل وقد مر فى الأعراف وسيأتى* فى الكهف (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أى إلى الرسل (رَبُّهُمْ) مالك أمرهم عند تناهى كفر الكفرة وبلوغهم من* العتو إلى غاية لا مطمع بعدها فى إيمانهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) على إضمار القول أو على إجراء الإيحاء مجراه لكونه ضربا منه (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ) أى أرضهم وديارهم عقوبة لهم بقولهم لنخرجنكم من أرضنا كقوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا (مِنْ بَعْدِهِمْ) أى من بعد* إهلاكهم وقرىء ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتبارا لأوحى كقولهم حلف زيد ليخرجن غدا (ذلِكَ) * إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أى ذلك الأمر محقق ثابت (لِمَنْ خافَ

٣٨

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧)

____________________________________

مَقامِي) موقفى وهو الموقف الذى يقف فيه العباد يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامى عليه وحفظى لأعماله وقيل لفظ المقام مقحم (وَخافَ وَعِيدِ) وعيدى بالعذاب أو عذابى الموعود للكفار والمعنى* إن ذلك حق للمتقين كقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (وَاسْتَفْتَحُوا) أى استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أو استحكموا وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهى الحكومة كقوله تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) فالضمير للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن ينصر المحق ويهلك المبطل وهو معطوف على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمر عطفا على لنهلكن الظالمين أى أوحى إليهم ربهم لنهلكن وقال لهم استفتحوا (وَخابَ) أى خسرو هلك (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متصف بضد* ما اتصف به المتقون أى فنصروا عند استفتاحهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا وإنما قيل وخاب كل جبار عنيد ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك وأنه لم يصبهم الخيبة أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد وخاب كل عات متمرد فالخيبة بمعنى الحرمان غب الطلب وفى إسناد الخيبة إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أى بين يديه فإنه مرصد لها واقف على شفيرها فى الدنيا مبعوث إليها فى الآخرة وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك (وَيُسْقى) معطوف على* مقدر جوابا عن سؤال سائل كأنه قيل فما ذا يكون إذن فقيل يلقى فيها ويسقى (مِنْ ماءٍ) مخصوص لا* كالمياه المعهودة (صَدِيدٍ) وهو قيح أو دم مختلط بمدة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من* أجساد أهل النار وهو عطف بيان لما أبهم أولا ثم بين بالصديد تهويلا لأمره وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه يَتَجَرَّعُهُ) قيل هو صفة لماء أو حال منه والأظهر أنه استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا يفعل به فقيل يتجرعه أى يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أى لا يقارب أن يسيغه فضلا عن الإساغة بل يغص به فيشربه* بعد اللتيا والتى جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحال فإن السواغ انحدار الشراب فى الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يوجب نفى ما ذكر جميعا وقيل لا يكاد يدخله فى جوفه وعبر عنه بالإساغة لما أنها المعهودة فى الأشربة وهو حال من فاعل يتجرعه أو من

٣٩

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩)

____________________________________

* مفعوله أو منهما جميعا (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أى أسبابه من الشدائد (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ويحيط به من جميع الجهات* أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أى والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجىء أسبابه لا سيما من جميع الجهات حتى لا يتألم بما غشيه من أصناف* الموبقات (وَمِنْ وَرائِهِ) من بين يديه (عَذابٌ غَلِيظٌ) يستقبل كل وقت عذابا أشد وأشق مما كان قبله ففيه دفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما فى عذاب الدنيا وقيل هو الخلود فى النار وقيل هو حبس الأنفاس وقيل المراد بالاستفتاح والخيبة استسقاء أهل مكة فى سنيهم التى أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم فى ذلك وقد وعد لهم بدل ذلك صديد أهل النار (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) * أى صفتهم وحالهم العجيبة الشأن التى هى كالمثل فى الغرابة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) كقولك صفة زيد عرضه مهتوك وماله منهوب وهو استئناف مبنى على سؤال من قال ما بال أعمالهم التى عملوها فى وجوه البر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف* وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرهم إلى هذا المآل فأجيب بأن ذلك كرماد (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) حملته وأسرعت الذهاب به (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) العصف اشتداد الريح وصف به زمانها مبالغة كقولك ليلة ساكرة وإنما السكور لريحها شبهت صنائعهم المعدودة لا بتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجه بها إليه تعالى برماد طيرته الريح العاصفة أو استئناف مسوق لبيان أعمالهم للأصنام أو مبتدأ خبره محذوف كما هو رأى سيبويه أى فيما يتلى عليك مثلهم وقوله (أَعْمالُهُمْ) جملة مستأنفة مبنية على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كيت وكيت سواء أريد بها صنائعهم أو أعمالهم لأصنامهم* وقيل أعمالهم بدل من مثل الذين وقوله (كَرَمادٍ) خبره (لا يَقْدِرُونَ) أى يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُوا) من تلك* الأعمال (عَلى شَيْءٍ) ما أى لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب كدأب الرماد المذكور وهو فذلكة التمثيل والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات هائلة للتصريح ببطلان* اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى وفيه تهكم بهم (ذلِكَ) أى ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من* ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شىء (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب. (أَلَمْ تَرَ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته وقيل لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى (يُذْهِبْكُمْ) والرؤية* رؤية القلب وقوله تعالى (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ساد مسد مفعوليها أى ألم تعلم أنه تعالى* خلقهما (بِالْحَقِّ) ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذى يحق أن تخلق عليه وقرىء خالق السموات* والأرض (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يعدمكم بالمرة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أى يخلق بدلكم خلقا مستأنفا لا علاقة

٤٠