تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

____________________________________

لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية برزوا فهو معطوف على تبدل ويجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ برزوا له عزوجل أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده* (مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم فى الجرائم والجرائر أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم* أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الردية والأعمال السيئة غب تصور كل منها وتشكلهما بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين (فِي الْأَصْفادِ) فى القيود أو الأغلال وهو إما متعلق بقوله تعالى (مُقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره* أى مصفدين (سَرابِيلُهُمْ) أى قمصانهم (مِنْ قَطِرانٍ) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم فى مقرنين رابطتها الضمير فقط كما فى كلمته فوه إلى فى أو مستأنفة والقطران ما يتحلب من الإبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار يطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقته وإسراع النار فى جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادر قدره فكأن ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها فى الآخرة فبكرمه العميم نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الردية والهنات الوحشية فتجلب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطران المذكور عين ما لابسوه فى هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت فى النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب عصمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولطفه وقرىء من قطرآن أى نحاس مذاب متناه حره (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أى تعلوها* وتحيط بها النار التى تمس جسدهم المسربل بالقطران وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) الخ ولكونها مجمع المشاعر والحواس التى خلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها فى تدبيره كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملئوها بالجهالات ولذلك قيل تطلع على الأفئدة أو لخلوها عن القطران المغنى عن ذكر غشيان النار لها ولعل تخليتها عنه ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزى على رموس الأشهاد وقرىء تغشى أى تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة نصب على الحالية لا على أن الواو حالية لأنه مضارع مثبت بل على أنها معطوفة على الحال قاله أبو البقاء (لِيَجْزِيَ اللهُ) متعلق بمضمر أى يفعل بهم ذلك ليجزى (كُلَّ نَفْسٍ) مجرمة (ما كَسَبَتْ) من أبواع الكفر والمعاصى جزاء موافقا لعملها وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم أو بقوله (بَرَزُوا

٦١

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

____________________________________

على تقدير كونه معطوفا على (تُبَدَّلُ) والضمير للخلق وقوله (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) الخ اعتراض بين المتعلق والمتعلق به أى برزوا للحساب ليجزى الله كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر وقد* اكتفى بذكر عقاب العصاة تعويلا على شهادة الحال لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمة الواسعة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذ لا يشغله شأن عن شأن فيتمه فى أعجل ما يكون من الزمان فيوفى الجزاء بحسبه أو سريع المجىء يأتى عن قريب أو سريع الانتقام كما قال ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (هذا) أى ما ذكر من قوله سبحانه (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى (سَرِيعُ الْحِسابِ (بَلاغٌ) كفاية فى العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون* العظات والقوارع (لِلنَّاسِ) للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم فى قوله تعالى (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) أولهم وللمؤمنين كافة على تقدير شموله لهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على مقدر واللام متعلقة بالبلاغ أى كفاية لهم فى أن ينصحوا وينذروا به أو هذا بلاغ لهم ليفهموه ولينذروا به على أن البلاغ بمعنى الإبلاغ كما فى قوله تعالى (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أو متعلقة بمحذوف أى* ولينذروا به أنزل أو تلى وقرىء لينذروا به من نذر بالشىء إذا علمه وحذره واستعد له (وَلِيَعْلَمُوا) بالتأمل* فيما فيه من الدلائل الواضحة التى هى إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما سبق ولحق (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له وتقديم الإنذار لأنه الداعى إلى التأمل المؤدى إلى ما هو غاية له من العلم* المذكور والتذكر فى قوله تعالى (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى ليتذكروا ما كانوا يعملونه من قبل من التوحيد وغيره من شئون الله عزوجل ومعاملته مع عباده فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التى ينصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم من العقائد الحقة والأعمال الصالحة وفى تخصيص التذكر بأولى الألباب تلويح باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة وحيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولى الألباب الثبات على ذلك حسبما أشير إليه عبر عن الأول بالعلم وعن الثانى بالتذكر وروعى ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته فى الأولى والعقبى آمين. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة إبراهيم أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ومن لم يعبده والحمد لله وحده.

٦٢

١٥ ـ سورة الحجر

(مكية وآياتها تسع وتسعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢)

____________________________________

(سورة الحجر مكية إلا آية ٨٧ فمدنية وآيها تسع وتسعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر) قد مر الكلام فيه وفى محله فى مطلع سورة الرعد وأخواتها (تِلْكَ) إشارة إليه أى تلك السورة العظيمة الشأن (آياتُ الْكِتابِ) الكامل المعهود الغنى عن الوصف به المشهور* بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق أى بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزل إذ ذاك إذ هو المتسارع إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هى فى الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه من التكليف ما لا يخفى كما ذكر فى سورة الرعد (وَقُرْآنٍ) أى قرآن عظيم الشأن (مُبِينٍ) مظهر لما فى تضاعيفه من الحكم والأحكام* أو لسبيل الرشد والغى أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام ولقد فخم شأنه العظيم مع ما جمع فيه من وصفى الكتابية والقرآنية على الطريقتين إحداهما اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها والثانية طريقة كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا فى بابه خارجا عن دائرة البيان وأخرت الطريقة الثانية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل فى المدح كيلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتمال على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وهكذا الكلام فى فاتحة سورة النمل خلا أنه قدم فيها القرآن على الكتاب لما سيذكر هناك ولما بين كون السورة الكريمة بعضا من الكتاب والقرآن لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقى ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع فى بيان ما تتضمنه فقيل (رُبَما) بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحة وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففا وبزيادة التاء مشددا وفيه ثمانى لغات فتح الراء وضمها مشددا ومخففا وبزيادة التاء أيضا مشددا ومخففا ورب حرف جر لا يدخل إلا على الاسم وما كافة مصححة لدخوله على الفعل وحقه الدخول على الماضى ودخوله على قوله تعالى (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما أن المترقب فى أخباره تعالى* كالماضى المقطوع فى تحقق الوقوع فكأنه قيل ربما ود الذين كفروا والمراد كفرهم بالكتاب والقرآن وكونه

٦٣

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

____________________________________

* من عند الله تعالى (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) منقادين لحكمه ومذعنين لأمره وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونه من عند الله تعالى وتلك الودادة يوم القيامة أو عند موتهم أو عند معاينة حالهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار روى أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أنه قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار فى النار ومعهم من شاء تعالى من أهل القبلة قال لهم الكفار ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة فى النار فيخرجون منها فحينئذ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وروى مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لا يزال الرب يرحم ويشفع إليه حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فعند ذلك يتمنون الإسلام والحق أن ذلك محمول على شدة ودادتهم وأما نفس الودادة فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هى مقررة مستمرة فى كل آن يمر عليهم وأن المراد بيان ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جىء بصيغة التقليل جريا على سنن العرب فيما يقصدون به الإفراط فيما يعكسون عنه تقول لبعض قواد العساكركم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندى أو لا تعدم عندى فارسا وعنده مقانب جمة من الكتائب وقصده فى ذلك التمارى فى تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهار براءته من التزيد وإبراز أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثير ما عنده فضلا عن تكثير القليل وهذه طريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائة ريب فيصار إليه هضما للحق فدل النظم الكريم على ودادة الكافرين للإسلام فى كل آن من آنات اليوم الآخر وأن ذلك من الظهور بحبث لا يشتبه على أحد ولو جىء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادة مع كثرتها فى نفسها مما يستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء وهذا هو الموافق لمقام بيان حقارة شأن الكفار وعدم الاعتداد بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) الآية أو ذهابا إلى الإشعار بأن من شأن العاقل إذا عن له أمر يكون مظنون الحمد أو قليلا ما يكون كذلك أن لا يفارقه ولا يقارف ضده فكيف إذا كان متيقن الحمد كما فى قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإن المقصود ليس بيان كون الندم مرجو الوجود بلا تيقن به أو قليل الوقوع بل التنبيه على أن العاقل لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقل وقوعه فيه فكيف بقطعى الوقوع وأنه يكفى قليل الندم فى كونه حاجزا عن ذلك الفعل فكيف كثيره والمقصود من سلوك هذه الطريقة إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره فالمعنى لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودونه كل آن وهذا أوفق بمقام استنزالهم عما هم عليه من الكفر وهذان طريقان متمايزان ذاتا ومقاما فمن ظنهما واحدا فقد نأى عن توفية المقام حقه (ذَرْهُمْ) دعهم عن النهى عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى إراعوائهم عن ذلك وبالغ فى تخليتهم وشأنهم بل مرهم بتعاطى ما يتعاطونه* (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم وفى تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل

٦٤

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤)

____________________________________

والمشارب والمراد دوامهم على ذلك لا إحداثه فإنهم كانوا كذلك أو تمتعهم بلا استماع ما ينغص عيشهم من القوارع والزواجر فإن التمتع على ذلك الوجه أمر حادث يصلح أن يكون مترتبا على تخليتهم وشأنهم (وَيُلْهِهِمُ) ويشغلهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة فإن* الأكل والتمتع بفضيان إلى ذلك (الْأَمَلُ) والتوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال* وأن لا يلقوا فى العاقبة والمآل إلا خيرا فالأفعال الثلاثة مجزومة على الجوابية للأمر حسبما عرفت من تضمن الأمر بالترك للأمر بها على طريقة المجاز أو على أن يكون المراد بالأفعال المرقومة مباشرتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غير سامعين لسوء مغبتها أصلا ولا ريب فى ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهى عما هم عليه من ارتكاب القبائح مما يشوش عليهم تمتعهم وينغص عليهم عيشهم فأمر عليه‌السلام بتركه ليتمرغوا فيما هم فيه من حظوظهم فيدهمهم ما يدهمهم وهم عنه غافلون (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم* أو وخامة عاقبته أو حقيقة الحال التى ألجأتهم إلى التمنى المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك وهو مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديدا غب تهديد تعليل للأمر بالترك فإن علمهم ذلك علة لترك النهى والنصيحة لهم وفيه إلزام للحجة ومبالغة فى الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء (وَما أَهْلَكْنا) شروع فى بيان سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم نظمهم فى سلك الأمم الدارجة فى تعجيل العذاب أى ما أهلكنا (مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم كما فعل بآخرين (إِلَّا وَلَها) فى ذلك الشأن (كِتابٌ) أى أجل مقدر مكتوب فى اللوح واجب المراعاة بحيث لا يمكن* تبديله لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له (مَعْلُومٌ) لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم* والتأخر فكتاب مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قرية فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكده بكلمة من فى حكم الموصوفة كما أشير إليه والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى فى حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب أى أجل موقت لمهلكها قد كتبناه لا نهلكها قبل بلوغه معلوم لا يغفل عنه حتى يمكن مخالفته بالتقدم والتأخر أو مرتفع بالظرف والجملة كما هى حال أى ما أهلكنا قرية من القرى فى حال من الأحوال إلا وقد كان لها فى حق هلاكها كتاب أى أجل مقدر مكتوب فى اللوح معلوم لا يغفل عنه أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التى هى بدل من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة أى ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما فى قوله تعالى (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ) فإن قوله تعالى (لا يُسْمِنُ) صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذى لا يسمن فى الضريع وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أى ليس لهم طعام من شىء من الأشياء إلا طعام لا يسمن فليس فيه فصل بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما توهم وأما توسيط الواو بينهما

٦٥

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦)

____________________________________

وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الالتصاق بينهما من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لصوقا بالموصوف منها به فى قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدر عقلى وعن الإنذار عادى جرى عليه السنة الإلهية ولما بين أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا فى اللوح بين أن كل أمة من ٥ الأمم منهم ومن غيرهم لها كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقيل (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من* الأمم المهلكة وغيرهم (أَجَلَها) المكتوب فى كتابها أى لا يجىء هلاكها قبل مجىء كتابها أو لا تمضى أمة قبل مضى أجلها فإن السبق إذا كان واقعا على زمانى فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإذا كان واقعا على زمان كان الأمر بالعكس والسر فى ذلك أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى المتكلم فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزمانى فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتى من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق* كما أن إيراده بعنون الكتاب المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أى وما يتأخرون وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثار صيغة المضارع فى الفعلين بعد ما ذكر نفى الإهلاك بصيغة الماضى لأن المقصود بيان دوامهما واستمرار هما فيما بين الأمم الماضية والباقية وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة دون القرية مع ما فى الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة وتأخير ذكر عدم تأخرهم عن ذكر عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة فى بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق فى الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببيان ودادتهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنهم إلى أن يعلموا حقيقة الحال إنما هو لتأخر أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم البالغة ومن جملتها ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم إلى يوم القيامة (وَقالُوا) شروع فى بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب وما يئول إليه حالهم والقائلون مشركو* مكة لغاية تماديهم فى العتو والغى (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) خاطبوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسليما لذلك* واعتقادا له بل استهزاء به عليه الصلاة والسلام وإشعارا بعلة حكمهم الباطل فى قولهم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كدأب فرعون إذ قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر البديع الخارق للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدعى أنه ينزل عليك لمجنون

٦٦

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨)

____________________________________

وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما فى قوله تعالى (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله تعالى وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى استناده إلى الفاعل (لَوْ ما تَأْتِينا) كلمة لو عند تركبها مع ما تفيد ما تفيده عند تركبها مع لا من معنى امتناع الشىء لوجود غيره ومعنى التحضيض خلا أنه عند إزادته لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة المعنى الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين والمراد ههنا هو الثانى أى هلا تأتينا (بِالْمَلائِكَةِ) يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك فى الإنذار كقوله تعالى (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) * فيكون معه نذيرا أو يعاقبوننا على التكذيب كما تأتى الأمم المكذبة لرسلهم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) * فى دعواك فإن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه فى تمشية أمرك فإنا لا نصدقك بدون ذلك أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وقرىء من الإنزال وقرىء تنزل مضارعا من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ومن التنزيل بحذف إحدى التاءين وماضيا منه ومن التنزيل ومن الثلاثى وهو كلام مسوق إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعنى قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) الآية كما فعل فى قوله تعالى (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) فإنه مع كونه جوابا عن قولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) قدم على قوله (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) الآية مع كونه جوابا عن أول كلامهم الذى هو قولهم (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) لما ذكر من شدة اقتضائه للجواب وليكون أحد الجوابين متصلا بالسؤال وفى العكس يلزم انفصال كل من الجوابين عن سؤاله والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح وهو أن يقال ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطئوا فى التعبير حسبما أخطئوا فى الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذى يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالى وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل (إِلَّا بِالْحَقِّ) أى ملبتسا بالوجه الذى يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجرى به السنة الإلهية كقوله سبحانه (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) والذى اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم فى الحقارة والهوان منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحى الذى لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام من

٦٧

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

____________________________________

أفراد كمل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللثام وإنما الذى يدخل فى حقهم تحت الحكمة فى الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا* بالمرة (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) جزاء الشرط مقدر وفيه إيذان بإنتاج مقدماتهم لنقيض مطلوبهم كما فى قوله تعالى (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) قال صاحب النظم لفظة إذن مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين تقول أتيتك إذ جئتنى أى حين جئتنى ثم ضم إليه أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فمجىء لفظة أن دليل على إضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا إذ أن كان ما طلبوه منظرين والمعنى لو نزلناهم ما كانوا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل فى قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) الخ وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعض ذراريهم وأما نظم إيمان بعضهم فى سمط الحكمة فيأباه مقام بيان تماديهم فى الكفر والفساد ولجاجهم فى المكابرة والعناد هذا هو الذى يستدعيه إعجاز التنزيل الجليل وأما ما قيل فى تعليل عدم موافقة التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدقين عن اضطرار أو أنه لا حكمة فى أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا أو أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا فمع إخلال كل من ذلك بقطعية الباقى لا يلزم من فرض وقوع شىء من ذلك تعجيل العذاب الذى يفيده قوله تعالى (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) هذا على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بالحق الذى تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة حتما بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيل ملتبسا بمقتضى الحكمة الموجبة لتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لا رفقا بهم بل تشديدا عليهم كما مر من قبل وحيث كان فى نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقته الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابهم لتشديد عقابهم وقيل المراد بالحق الوحى وقيل العذاب فتدبر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم التنزيل واستهزائهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وتسلية له أى نحن بعظم شأننا وعلو جنابنا نزلنا ذلك الذكر الذى أنكروه وأنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعموا منزله حيث بنوا الفعل* للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولا أوليا فيكون وعيدا للمستهزئين وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلة فى حقيته ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلا على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند

٦٨

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢)

____________________________________

غير الله لتطرق عليه الزيادة والنقص والاختلاف وفى سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل مالا يخفى وفى إيراد الثانية بالجملة الاسمية دلالة على دوام الحفظ والله سبحانه أعلم وقيل الضمير المجرور للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وتأخير هذا الكلام وإن كان جوابا عن أول كلامهم الباطل ردا له لما ذكر آنفا ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أى رسلا وإنما لم يذكر لدلالة ما بعده عليه (مِنْ قَبْلِكَ) متعلق ب (أَرْسَلْنا) أو بمحذوف هو نعت للمفعول المحذوف أى* رسلا كائنة من قبلك (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أى فرقهم وأحزابهم جمع شيعة وهى الفرقة المتفقة على طريقة* ومذهب من شاعه إذا تبعه وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أى شيع الأمم الأولين ومعنى إرسالهم فيهم جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه فى كل ما يأتى ويذر من أمور الدين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) المراد نفى إتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفى إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة على طريقة حكاية الحال الماضية فإن مالا تدخل فى الأغلب على مضارع إلا وهو فى معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أى ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما يفعله هؤلاء الكفرة والجملة فى محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير* المفعول فى (يَأْتِيهِمْ) إذا كان المراد بالإتيان حدوثه أو فى محل الرفع على أنها صفة رسول فإن محله الرفع على الفاعلية أى إلا رسول كانوا به يستهزءون وأما الجر على أنها صفة باعتبار لفظه فيفضى إلى زيادة من الاستغراقية فى الإثبات ويجوز أن يكون منصوبا على الوصفية بأن يقدر الموصوف منصوبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء عليهم‌السلام وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قيل (كَذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحى مقرونا بالاستهزاء أى مثل ذلك السلك الذى سلكناه فى قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب (نَسْلُكُهُ) أى الذكر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أى أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا* ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال منه أى نسلكه سلكا مثل ذلك السلك أو نسلك السلك حال كونه مثله أى مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقضيه الحكمة فإنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدرا فى الوجود وهو السلك الواقع فى الأمم السالفة أو للدلالة على استحضار الصورة والسلك إدخال الشىء فى آخر يقال سلكت الخيط فى الإبرة

٦٩

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧)

____________________________________

والرمح فى المطعون (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أى بالذكر حال من ضمير (نَسْلُكُهُ) أى غير مؤمن به أو بيان للجملة السابقة فلا محل لها وقد جعل الضمير للاستهزاء فيتعين البيانية إلا أن يجعل الضمير المجرور أيضا له على أن الباء للملابسة أى نسلك الاستهزاء فى قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسته والحال إما مقدرة أو* مقارنة للإيذان بأن كفرهم مقارن للإلقاء كما فى قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أى قد مضت طريقتهم التى سنها الله تعالى فى إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء وهو استئناف جىء به تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أى* على هؤلاء المقترحين المعاندين (باباً مِنَ السَّماءِ) أى بابا مالا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل ويسرنا لهم* الرقى والصعود إليه (فَظَلُّوا فِيهِ) فى ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عيانا كما يفيده الظلول أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون فى ذلك الباب وهم يرونه عيانا مستوضحين طول نهارهم (لَقالُوا) لفرط عنادهم وغلوهم فى المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أى سدت من الإحساس من السكر كما يدل عليه القراءة بالتخفيف أو حيرت كما* يعضده قراءة من قرأ سكرت أى حارت (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة وفى كلمتى الحصر والإضراب دلالة على أنهم يبتون القول بذلك وأن ما يرونه لا حقيقة له وإنما هو أمر خيل إليهم بالسحر وفى اسمية الجملة الثانية دلالة على دوام مضمونها وإيرادها بعد تسكير الأبصار لبيان إنكارهم لغير ما يرونه فإن عروج كل منهم إلى السماء وإن كان مرئيا لغيره فهو معلوم بطريق الوجدان مع قطع النظر عن الإبصار فهم يدعون أن ذلك نوع آخر من السحر غير تسكير الأبصار (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قصورا ينزلها السيارات وهى البروج الإثنا عشر المشهورة المختلفة الهيئات والخواص حسبما يدل عليه الرصد والتجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء والجعل إن جعل بمعنى الخلق والإبداع وهو الظاهر فالجار متعلق به وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعول ثان له متعلق* بمحذوف أى جعلنا بروجا كائنة فى السماء (وَزَيَّنَّاها) أى السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والكواكب* سيارات كانت أو ثوابت (لِلنَّاظِرِينَ) إليها فمعنى التزيين ظاهر أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها فتزيينها ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ

٧٠

(إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠)

____________________________________

شَيْطانٍ رَجِيمٍ) مرمى بالنجوم فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس فى أهلها ويتصرف فيها ويقف على أحوالها (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) محله النصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها فى الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها. عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلها واستراق السمع اختلاسه سرا شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات بما بينهم من المناسبة فى الجوهر أو بالاستدلال من الأوضاع (فَأَتْبَعَهُ) أى تبعه ولحقه (شِهابٌ) لهب محرق وهو شعلة نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب* والسنان لما فيهما من البريق (مُبِينٌ) ظاهر أمره للمبصرين قال معمر قلت لابن شهاب الزهرى أكان يرمى* بالنجوم فى الجاهلية قال نعم وإن النجم ينقض ويرمى به الشيطان فيقتله أو يخبله لئلا يعود إلى استراق السمع ثم يعود إلى مكانه قال أفرأيت قوله تعالى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) الآية قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لم يكن فى شدة الحراسة كما بعد مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عباس رضى الله عنهما إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب فلا يخطىء أبدا فمنهم من يقتّله ومنهم من يحرق وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله تعالى ومنهم من يخبله فيصير غولا فيضل الناس فى البوادى. قال القرطبى اختلفوا فى أن الشهاب هل يقتل أم لا قال ابن عباس رضى الله عنهما يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل وقال الحسن وطائفة يقتل قال والأول أصح (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ولم يقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية أعنى قوله تعالى (وَلَقَدْ جَعَلْنا) الخ وليوافق ما بعده أعنى قوله تعالى (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أى جبالا ثوابت وقد مر بيانه فى أول الرعد (وَأَنْبَتْنا فِيها) * أى فى الأرض أو فيها وفى رواسيها (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) بميزان الحكمة ذاتا وصفة ومقدارا وقيل* ما يوزن من الذهب والفضة وغيرهما أو من كل شىء مستحسن مناسب أو ما يوزن ويقدر من أبواب النعمة (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء وهى بياء صريحة وقرىء بالهمزة تشبيها له بالشمائل (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على (مَعايِشَ) أو على محل (لَكُمْ) كأنه قيل* جعلنا لكم معايش وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبانهم أنهم يكفون مؤناتهم ولتحقيق أن الله تعالى هو الذى يرزقهم وإياهم أو وجعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين.

٧١

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣)

____________________________________

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) إن للنفى ومن مزيدة للتأكيد وشىء فى محل الرفع على الابتداء أى ما من شىء من الأشياء* الممكنة فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الظرف خبر للمبتدأ و (خَزائِنُهُ) مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو خبر له والجملة خبر للمبتدأ الأول والخزائن جمع الخزانة وهى ما يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلب فى العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة فى كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع كمال افتقارهم إليها ورغبتهم فيها وكونها مهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة فى الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على* طريقة الاستعارة التخييلية (وَما نُنَزِّلُهُ) أى ما نوجد وما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشىء من* الأشياء (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أى إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها لا بما تقتضيه القدرة فإن ذلك غير متناه فإن تخصيص كل شىء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ماعدا ذلك مع استواء الكل فى الإمكان واستحقاق تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضى اختصاص كل من ذلك بما اختص به وهذا البيان سر عدم تكوين الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو فى خزائن القدرة وهو إما عطف على مقدر أى ننزله وما ننزله الخ أو حال بما سبق أى عندنا خزائن كل شىء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر معلوم فالأول لبيان سعة القدرة والثانى لبيان بالغ الحكمة وحيث كان إنشاء ذلك بطريق التفضل من العالم العلوى إلى العلم السفلى كما فى قوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وكان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) عطف على (جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق أى أرسلنا الرياح* (لَواقِحَ) أى حوامل شبهت الريح التى تجىء بالخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه بالعقيم مالا يكون كذلك أو ملقحات بالشجر والسحاب ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات فى قوله [ومختبط مما تطيح الطوائح] أى المهلكات وقرىء وأرسلنا الريح على إرادة الجنس (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) بعد ما أنشأنا بتلك* الرياح سحابا ماطرا (ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أى جعلناه لكم سقيا وهو أبلغ من سقينا كموه لما فيه من الدلالة* على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاءوا (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى عنهم ما أثبته لجنابه بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزنه فى السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه فى الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها لنجعلها سقيا لكم مع أن طبيعة الماء تقتضى الغور (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) بإيجاد الحياة فى بعض الأجسام القابلة لها

٧٢

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦)

____________________________________

(وَنُمِيتُ) بإزالتها عنها وقد يعمم الإحياء والإماتة لما يشمل الحيوان والنبات وتقديم الضمير للحصر* وهو إما تأكيد للأول أو مبتدأ خبره الفعل والجملة خبر لأنا ولا يجوز كونه ضمير الفصل لا لأن اللام مانعة من ذلك كما قيل فإن النجاة جوزوا دخول لام التأكيد على ضمير الفصل كما فى قوله تعالى (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) بل لأنه لم يقع بين اسمين (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أى الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون* للملك عند انقضاء زمان الملك المجازى الحاكمون فى الكل أولا وآخرا وليس لهم إلا التصرف الصورى والملك المجازى وفيه تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) من تقدم منكم ولادة وموتا (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) من تأخر ولادة وموتا أو من* خرج من أصلاب الآباء ومن لم يخرج بعد أو من تقدم فى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر فى ذلك لا يخفى علينا شىء من أحوالكم وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يدل عليها دليل عليه وفى تكرير قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْنَا) مالا يخفى من الدلالة على كمال التأكيد وقيل رغب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدم بعض الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليروها فنزلت والأول هو المناسب لما سبق وما لحق من قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أى للجزاء وتوسيط ضمير العظمة للدلالة على أنه هو القادر على حشرهم والمتولى له لا غير لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أى هو يحشرهم لا غير وفى الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلة الحكم وفى الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام (إِنَّهُ حَكِيمٌ) بالغ الحكمة متقن فى أفعاله فإنها عبارة عن العلم بحقائق* الأشياء على ما هى عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغى (عَلِيمٌ) وسع علمه كل شىء ولعل تقديم صفة الحكمة* للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أى هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا كما مر تحقيقه فى سورة الأنعام (مِنْ صَلْصالٍ) * من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أى يصوت عند نقره قيل إذا توهمت فى صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن (مِنْ حَمَإٍ) من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء* وهو صفة لصلصال أى من صلصال كائن من حمأ (مَسْنُونٍ) أى مصور من سنة الوجه وهى صورته أو* مصبوب من سن الماء صبه أى مفرغ على هيئة الإنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة فى القوالب وقيل منتن فهو صفة لحما وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن حمأ تنبيها على أن ابتداء

٧٣

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩)

____________________________________

مسنونيته ليس فى حال كونه صلصالا بل فى حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره إلى جوهر آخر (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وَالْجَانَّ) أبا الجن وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها وقرىء بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره* (خَلَقْناهُ) وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية (مِنْ قَبْلُ) من قبل خلق الإنسان ومن هذا* يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله (مِنْكُمْ) للكل (مِنْ نارِ السَّمُومِ) من نار الحر الشديد النافذ فى المسام ولا امتناع من خلق الحياة فى الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها فى الجواهر المجردة فضلا عن الأجسام المؤلفة التى غالب أجزائها الجزء النارى فإنها أقبل لها من التى غالب أجزائها الجزء الأرضى وقوله تعالى (مِنْ نارِ) باعتبار الغالب كقوله تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ومساق الآية الكريمة كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التى يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجمع والإحياء (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) نصب بإضمار اذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل فى تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفى التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن تبليغ الشىء إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أى اذكر وقت قوله تعالى* (لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ) فيما سيأتى وفيه ما ليس فى صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من* غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه (بَشَراً) أى إنسانا قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على* الاسم وقيل جسما كثيفا يلاقى ويباشر وقيل خلقا بادى البشر بلا صوف ولا شعرة (مِنْ صَلْصالٍ) متعلق* بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أى بشرا كائنا من صلصال كائن (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تقدم تفسيره ولا ينافى هذا ما فى قوله تعالى فى سورة ص من قوله (بَشَراً مِنْ طِينٍ) فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والاسوداد ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكى غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أى صورته بالصورة الإنسانية* والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أى فإذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التى هى من أمرى

٧٤

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣٢)

____________________________________

(فَقَعُوا لَهُ) أمر من وقع يقع وفيه دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أى اسقطوا له* (ساجِدِينَ) تحية له وتعظيما أو اسجدوا لله تعالى على أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه* تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته كقول حسان رضى الله تعالى عنه[أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن](فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) أى فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة (كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (أَجْمَعُونَ) بحيث لم يتأخر فى ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا* المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضا فإن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل فى الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشىء ولا ريب فى أن السجود معا أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيدا وأقيم مقام كل فى إفادة معنى الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء وقيل أكد بتأكيدين مبالغة فى التعميم هذا وأما أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقى كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتى فى سورة ص أو على الأمر التنجيزى كما يستدعيه ما فى غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عزوجل عن عهدة تحقيقه فى تفسير سورة البقرة (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أى لكن إبليس أبى أن يكون معهم وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج فى معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام فى سلك أولئك المقربين الكرام (قالَ) استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال الله تعالى عند ذلك فقيل قال (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ) أى أى سبب لك لا أى غرض لك كما قيل لقوله تعالى (ما مَنَعَكَ* (أَلَّا تَكُونَ) فى أن لا تكون (مَعَ السَّاجِدِينَ) لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم فى الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصى الثلاث المذكورة قال تعالى فى سورة الأعراف (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) وفى سورة ص (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ولكن اقتصر عند الحكاية فى كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر فى موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من تلك المعاصى الثلاث كافية فى التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا فى سورة البقرة وسورة بنى إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه.

٧٥

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥)

____________________________________

(قالَ) أى إبليس وهو أيضا استئناف مبنى على السؤال الذى ينساق إليه الكلام (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفى أى ينافى حالى ولا يستقيم منى لأنى مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن أسجد* (لِبَشَرٍ) أى جسم كثيف (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) اقتصر ههنا على الإشارة الإجمالية إلى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذى هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقا منه فى أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى فى سورة الأعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا فى سورة بنى إسرائيل حيث قيل (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وفى جوابه دليل على أن قوله تعالى (ما لَكَ) ليس استفسارا عن الغرض بل هو استفسار عن السبب وفى عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصى عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظام فى سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأنى من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلى بالمعارف الربانية والتخلى عن الملكات الردية التى أقبحها الكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أى من زمرة الملائكة المعززين لا من السماء فإن وسوسته لآدم عليه الصلاة والسلام فى الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد وقوله تعالى (فَاهْبِطْ مِنْها) ليس نصافى ذلك فإن الخروج من بين الملأ الأعلى هبوط وأى هبوط أو من الجنة على أن وسوسته كانت بطريق النداء من بابها كما روى عن الحسن البصرى أو بطريق المشافهة بعد أن احتال فى دخولها وتوسل إليه بالحية كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولا ينافى هذا طرده على رموس* الأشهاد لما يقتضيه من الحكم البالغة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) الإبعاد عن الرحمة وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان* جاريا على ألسنة العباد قيل فى سورة ص وإن عليك لعنتى (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) إلى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إشعار بتأخير عقابه وجزائه إليه وأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ وفيه من التهويل مالا يوصف وجعل ذلك أقصى أمد اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هى كالزائل وقيل إنما حدت به لأنه أبعد غاية يضربها الناس كقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وحيث أمكن كون تأخير العقوبة مع الموت

٧٦

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

____________________________________

كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة طلب اللعين تأخير موته كما حكى عنه بقوله تعالى (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أى أمهلنى وأخرنى ولا تمتنى والفاء متعلق بمحذوف ينسحب عليه الكلام أى إذ جعلتنى رجيما فأمهلنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم* ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لاستحالته بعد يوم البعث (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم فى ذلك دليل على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلالا إنشاء لإنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أى إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين فالفاء ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبار المذكور به كما فى قوله [فإن ترحم فأنت لذاك أهل] فإنه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمة للرحمة بوقوع الرحمة الحادثة بل هى لربط الإخبار بتلك الأهلية للرحمة بوقوعها وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ونظمه فى ذلك فى سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة فى علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته فى السؤال إلى البعث كما عرفته وفى سورة الأعراف (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) بترك التوقيت والنداء والفاء فى الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفى سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز فى الكتاب العزيز وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريم لا بد أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره وأن ما حكى من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابه لم يقع إلا دفعة فمقام المحاورة إن اقتضى أحد الأساليب المذكورة فهو المطابق لمقتضى الحال والبالغ الى طبقة الإعجاز وما عداه قاصر عن رتبة البلاغة فضلا عن الارتقاء إلى معالم الإعجاز فقد مر تحقيقه بتوفيق الله تعالى فى سورة الأعراف (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو وقت النفخة الأولى التى علم أنه يصعق عندها من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله تعالى ويجوز أن يكون المراد بالأيام واحدا والاختلاف فى العبارات لاختلاف الاعتبارات فالتعبير بيوم البعث لأن غرض اللعين به يتحقق وبيوم الدين لما ذكر من الجزاء وبيوم الوقت المعلوم لما ذكر أو لاستئثاره تعالى بعلمه فلعل كلا من هلاك الخلق جميعا وبعثهم وجزائهم فى يوم واحد يموت اللعين فى أوله ويبعث فى أواسطه ويعاقب فى بقيته يروى أن بين موته وبعثه أربعين سنة من سنى الدنيا مقدار ما بين النفختين ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه‌الله تعالى أنه قال قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين عمر رضى الله تعالى عنه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث

٧٧

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠)

____________________________________

الناس وهو يقول لما حضر آدم عليه الصلاة والسلام الوفاة قال يا رب سيشمت بى عدوى إبليس إذا رآنى ميتا وهو منظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ثم قال لملك الموت صف كيف تذيقه الموت فلما وصفه قال يا رب حسبى فضج الناس وقالوا يا أبا إسحق كيف ذلك فأبى فألحوا فقال يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات السبع وأهل الأرضين السبع وإنى ألبستك اليوم أثواب السخط والغضب كلها فانزل بغضبى وسطوتى على رجيمى إبليس فأذقه الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هو لها فينتهى إلى إبليس فيقول قف لى يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرون أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فتنز منه البحار فلا تقبله فلا يزال يهرب فى الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم فى وسط الدنيا عند قبر آدم ويتمرغ فى التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان فى الموضع الذى أهبط فيه آدم عليه الصلاة والسلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ويبقى فى النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ويقال لآدم وحواء اطلعا اليوم إلى عدوكما كيف يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) * الباء للقسم وما مصدرية والجواب (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) أى أقسم بإغوائك إياى لأزينن لهم المعاصى (فِي الْأَرْضِ) أى فى الدنيا التى هى دار الغرور كقوله تعالى (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) وإقسامه بعزة الله المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافى إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة فسمه بهذا وأخرى بذاك أو للسببية وقوله (لَأُزَيِّنَنَ) جواب قسم محذوف والمعنى بسبب تسببك لإغوائى أقسم لأفعلن بهم مثل ما فعلت بى من التسبيب لإغوائهم بتزيين المعاصى وتسويل الأباطيل والمعتزلة أولوا الإغواء بالنسبة إلى الغى أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطه له على إغواء بنى آدم بأنه تعالى قد علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر* ويصيرون إلى النار أمهل أم لم يمهل وأن فى إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لأحملنهم على الغواية (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب

٧٨

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٤٥)

____________________________________

فلا يعمل فيهم كيدى وقرىء بكسر اللام أى الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى (قالَ هذا صِراطٌ) أى حق (عَلَيَّ) أن أراعيه (مُسْتَقِيمٌ) لا عوج فيه والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه* أو الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدى إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلال والأظهر أن ذلك لما وقع فى عبارة إبليس حيث قال (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الآية وقرىء على من علو الشرف (إِنَّ عِبادِي) وهم المشار إليهم بالمخلصين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) تسلط وتصرف بالإغواء (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) وفيه مع كونه تحقيقا لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين* وبيان لمنزلتهم ولا نقطاع مخالب الإغواء عنهم وأن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) أى موعد المتبعين أو الغاوين والأول أنسب وأدخل فى الزجر عن اتباعه وفيه دلالة على أن جهنم مكان الوعد وأن الموعود مما لا يوصف فى الفظاعة (أَجْمَعِينَ) * تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعل مصدرا على تقدير المضاف أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يدخلونها لكثرتهم أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم فى الغواية والمتابعة وهى جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الأتباع* أو الغواة (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) حزب معين مفرز من غيره حسبما يقتضيه استعداده فأعلاها للموحدين والثانية* لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما إن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين ولعل حصرها فى السبع لانحصار المهلكات فى المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوية والغضبية وقرىء بضم الزاى وبحذف الهمزة وإلقاء حركتها إلى ما قبلها مع تشديدها فى الوقف والوصل ومنهم حال من جزء أو من ضميره فى الظرف لا فى مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من اتباعه فى الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أى مستقرون فيها خالدين لكل واحد منهم جنة وعين* منهما كقوله تعالى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وقرىء بكسر العين حيث وقع فى القرآن العظيم.

٧٩

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١)

____________________________________

(ادْخُلُوها) على إرادة القول أمرا من الله تعالى لهم بالدخول وقرىء أدخلوها أمرا منه تعالى للملائكة* بإدخالهم وقرأ الحسن أدخلوها مبنيا للمفعول على صيغة الماضى من الإدخال (بِسَلامٍ) ملتبسين بسلام أى سالمين أو مسلما عليكم (آمِنِينَ) من الآفات والزوال (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) أى حقد كان فى الدنيا وعن على رضى الله تعالى عنه أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم رضوان الله* تعالى عليهم أجمعين (إِخْواناً) حال من الضمير فى قوله تعالى (فِي جَنَّاتٍ) أو من فاعل (ادْخُلُوها) أو من الضمير* فى (آمِنِينَ) أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافة وكذلك قوله تعالى (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ويجوز كونهما صفتين ل (إِخْواناً) أو حالين من ضميره لأنه بمعنى متصافين وكون الثانى حالا من المستكن فى الأول وعن مجاهد تدور بهم الأسرة حيثما داروا فهم متقابلون فى جميع أحوالهم (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أى تعب بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من الكد فى تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلا أو بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم وهو استئناف* أو حال بعد حال أو حال من الضمير فى متقابلين (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أبد الآباد لأن تمام النعمة بالخلود (نَبِّئْ عِبادِي) وهم الذين عبر عنهم بالمتقين (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له وفى ذكر المغفرة إشعار بأن ليس المراد بالمتقين من يتقى جميع الذنوب كبيرها وصغيرها وفى وصف ذاته تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذان بأنهما مما يقتضيهما الذات وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج (وَنَبِّئْهُمْ) عطف على (نَبِّئْ عِبادِي) والمقصود اعتبارهم بما جرى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أهله من البشرى فى تضاعيف الخوف وبما حل بقوم لوط من العذاب ونجاته عليه الصلاة والسلام مع أهله التابعين له فى ضمن الخوف وتنبيههم بحلول* انتقامه تعالى من المجرمين وعلمهم بأن عذاب الله هو العذاب الأليم (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنهم جبريل عليه الصلاة والسلام وملكان معه وقال محمد بن كعب وسبعة معه وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم الصلاة والسلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن السدى كانوا أحد

٨٠