تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢)

____________________________________

بطريق الاستئناف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأنها سنته الجارية على مر الدهور أو لاستحضار صورة الإنبات وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر آنفا مع ما فى تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء وتقديم الزرع على ما عداه لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وتقديم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتها وبقائها وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة وتخصيص الأنواع المعدودة بالذكر مع اندراجها تحت قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) للإشعار بفضلها* وتقديم الشجر عليها مع كونه غذاء للأنعام لحصوله بغير صنع من البشر أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاق فإن مقتضاها أن يكون اهتمام الإنسان بأمر ما تحت يده وأكمل من اهتمامه بأمر نفسه أو لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشى ليس لهم زرع ولا ثمر وقيل المراد تقديم ما يسام لا تقديم غذائه فإنه غذاء حيوانى للإنسان وهو أشرف الأغذية وقرىء ينبت من الثلاثى مسندا إلى الزرع وما عطف عليه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى إنزال الماء وإنبات ما فصل (لَآيَةً) عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على* كمال العلم والقدرة والحكمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر فى أن الحبة أو النواة تقع فى الأرض* وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط فى أعماق الأرض وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة فى الوقوع ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شىء فى شىء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء فى أخص صفاته التى هى الألوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية قطع الآية الكريمة بالتفكر (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان خلفة لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يدأبان فى* سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه من المكونات التى من جملتها ما فصل وأجمل كل ذلك لمصالحكم ومنافعكم وليس المراد بتسخيرها لهم تمكينهم من تصرفها كيف شاءوا كما فى قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ونظائره بل هو تصريفه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كان ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم وفى التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماء إلى ما فى المسخرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين وإيثار صيغة الماضى للدلالة على أن ذلك أمر واحد مستمر وإن تجددت آثاره (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) مبتدأ وخبر أى سائر النجوم فى*

١٠١

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣)

____________________________________

حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخرات لله تعالى أو لما خلقن له بإرادته ومشيئته وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم فى الظهور بمثابة ما قبلها من الملوين والقمرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد كونها تحت ملكوته تعالى من غير دلالة على شىء آخر ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار وقرىء برفع الشمس والقمر أيضا وقرىء بنصب النجوم على أنه مفعول أول لفعل مقدر ينبىء عنه الفعل المذكور ومسخرات مفعول ثان له أى وجعل النجوم مسخرات بأمره أو على أنه معطوف على المنصوبات المتقدمة ومسخرات حال من الكل والعامل ما فى سخر من معنى نفع أى نفعكم بها حال كونها مسخرات لله الذى خلقها ودبرها كيف شاء أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه أو مصدر ميمى جمع لاختلاف الأنواع أى أنواعا من التسخير وما قيل من أن فيه إيذانا بالجواب عما عسى يقال أن المؤثر فى تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها بأن ذلك إن سلم فلا ريب فى أنها أيضا أمور ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه الممكنة فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل فمبناه حسبان ما ذكر أدلة على وجود الصانع تعالى وقدرته واختياره وأنت تدرى أن ليس الأمر كذلك فإنه ليس مما ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم فى قبوله قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث إن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شىء فى شىء* فضلا عن أن يشاركه الجماد فى الألوهية (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من التسخير المتعلق بما ذكر مجملا ومفصلا* (لَآياتٍ) باهرة متكاثرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير حاجة إلى التأمل والتفكر ويجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك فالمشار إليه حينئذ تعاجيب الدقائق المودعة فى العلويات المدلول عليها بالتسخير التى لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة من أساطين علماء الحكمة ولا ريب فى أن احتياجها إلى التفكر أكثر (وَما ذَرَأَ) عطف على قوله تعالى (وَالنُّجُومُ) رفعا ونصبا على أنه مفعول لجعل أى وما خلق (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات حال كونه (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أى أصنافه فإن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان أى الأصناف لتتمتعوا من ذلك بأى صنف شئتم وقد عطف على ما قبله من المنصوبات وعقب بأن ذكر الخلق لهم مغن عن ذكر التسخير واعتذر بأن الأول لا يستلزم الثانى لزوما عقليا لجواز كون ما خلق لهم عزيز المرام صعب المنال وقيل هو منصوب بفعل مقدر أى خلق وأنبت على أن قوله (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) حال* من مفعوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر من التسخيرات ونحوها (لَآيَةً) بينة الدلالة على أن من هذا شأنه* واحد لاند له ولا ضد (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن ذلك غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم

١٠٢

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥)

____________________________________

الضرورية وأما ما يقال من أن اختلافها فى الطباع والهيآت والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم فمداره ما لوحنا به من حسبان ما ذكر دليلا على إثبات الصانع تعالى وقد عرفت حقيقة الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذكر من صفات الكمال ليس بطريق الاستدلال عليه بل من المقدمات المسلمة جىء به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شىء فى الألوهية (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) شروع فى تعداد النعم المتعلقة بالبحر إثر تفصيل النعم المتعلقة بالبر حيوانا ونباتا أى جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) هو* السمك والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للتلويح بانحصار الانتفاع به فى الأكل ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على وجوب المسارعه إلى اكله كيلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل البحر مبتدأ أكله وللإيذان بكمال قدرته تعالى فى خلقه عذبا طريا فى ماء زعاق ومن إطلاق اللحم عليه ذهب مالك والثورى أن من حلف لا يأكل اللحم حنث بأكله والجواب أن مبنى الأيمان العرف ولا ريب فى أنه لا يفهم من اللحم عند الإطلاق ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحم فجاء بالسمك لم يكن ممتثلا بالأمر ألا يرى إلى أن الله تعالى سمى الكافر دابة حيث قال إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ولا يحنث بركوبه من حلف لا يركب دابة (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) كاللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها) عبر فى مقام الامتنان* عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم (وَتَرَى الْفُلْكَ) السفن (مَواخِرَ فِيهِ) * جوارى فيه مقبلة ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحيزومها من المخر وهو شق الماء وقيل هو صوت جرى الفلك (وَلِتَبْتَغُوا) عطف على (تَسْتَخْرِجُوا) وما عطف هو عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادى* الابتغاء ودفع توهم كونه باستخراج الحلية أو على علة محذوفة أى لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ذكره ابن الأنبارى أو متعلقة بفعل محذوف أى وفعل ذلك لتبتغوا (مِنْ فَضْلِهِ) من سعة رزقه بركوبها للتجارة* (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أى تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ولعل تخصيص* هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة فى مدة قليلة من غير مزاولة أسباب السفربل من غير حركة أصلا مع أنها فى تضاعيف المهالك وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أى جبالا ثوابت وقد مر تحقيقه فى أول سورة الرعد (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب أو لئلا* تميد بكم فإن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحرك بأدنى سبب محرك فلما خلقت الجبال تفاوتت حافاتها وتوجهت الجبال

١٠٣

(وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٧)

____________________________________

بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد وقيل لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هى* بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال (وَأَنْهاراً) أى وجعل فيه أنهارا لأن فى ألقى معنى الجعل (وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بها إلى مقاصدكم (وَعَلاماتٍ) معالم يستدل بها السابلة بالنهار من جبل* ومنهل وريح وقد نقل أن جماعة يشمون التراب ويتعرفون به الطرقات (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بالليل فى البرارى والبحار حيث لا علامة غيره والمراد بالنجم الجنس وقيل هو الثريا والفرقدان وبنات النعش والجدى وقرىء بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرهن ورهن وقيل الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضمير لقريش فإنهم كانوا كثيرى التردد للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم فى أسفارهم وصرف النظم عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) * هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هاتيك الأفاعيل البديعة أو يخلق كل شىء (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا أصلا وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعداد ما يقتضى ذلك اقتضاء ظاهرا وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى توهم المشابهة المذكورة على ما فصل من الأمور العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به ما تلوناه من قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآيتين والاقتصار على ذكر الخلق من بينها لكونه أعظمها وأظهرها واستتباعه إياها أو لكون كل منها خلقا مخصوصا أى أبعد ظهور اختصاصه تعالى بمبدئية هذه الشئون الواضحة الدلالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستبداده باستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم ومدارها وإن كان على تشبيه غير الخالق بالخالق لكن التشبيه حيث كان نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجرد رفع الأصنام عن محلها بل هو حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجمادت ولا ريب فى أنه أقبح من الأول والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه كائنا ما كان والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة أو العقلاء خاصة ويعرف منه حال غيرهم لدلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاء فما ظنك بالجماد وأيا ما كان فدخول الأصنام فى حكم عدم المماثلة والمشابهة إما بطريق الاندراج تحت الموصول العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على* الطريقة البرهانية لا بأنهاهى المرادة بالموصول خاصة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شىء سوى التذكر.

١٠٤

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠)

____________________________________

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) تذكير إجمالى لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها وكان الظاهر إيراده عقيبها تكملة لها على طريقة قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ولعل فصل ما بينهما بقوله تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) للمبادرة إلى إلزام الحجة وإلقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التى هى أدلة الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه ودلالتها عليها وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها من حيثية الإنعام أيضا لكنها حيث كانت مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بهاثم بين حالها بطريق الإجمال أى إن تعدوا نعمته الفائضة عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يعرب عنه قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (لا تُحْصُوها) أى لا تطيقوا حصرها وضبط عددها ولو إجمالا فضلا* عن القيام بشكرها وقد خرجنا عن عهدة تحقيقه فى سورة إبراهيم بفضل الله سبحانه (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) * حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك (رَحِيمٌ) * حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفر التى من جملتها عدم الفرق بين الخالق وغيره وكل من ذلك نعمة وأيما نعمة فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء وتقديم وصف المغفرة على نعت الرحمة لتقدم التخلية على التحلية (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) تضمرونه من العقائد والأعمال (وَما تُعْلِنُونَ) أى تظهرونه منهما وحذف العائد لمراعاة الفواصل أى يستوى بالنسبة إلى علمه* المحيط سركم وعلنكم وفيه من الوعيد والدلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية مالا يخفى وتقديم السر على العلن لما ذكرناه فى سورة البقرة وسورة هود من تحقيق المساواة بين علميه المتعلقين بهما على أبلغ وجه كان علمه تعالى بالسر أقدم منه بالعلن أو لأن كل شىء يعلن فهو قبل ذلك مضمر فى القلب فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) شروع فى تحقيق كون الأصنام بمعزل من استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعديد أوصافها وأحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة وتلك الأحوال وإن كانت غنية عن البيان لكنها شرحت للتنبيه على كمال حماقة عبدتها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أى والآلهة الذين يعبدهم الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) سبحانه* وقرىء على صيغة المبنى للمفعول وعلى الخطاب (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) من الأشياء أصلا أى ليس من شأنهم* ذلك ولما لم يكن بين نفى الخالقية وبين المخلوقية تلازم بحسب المفهوم وإن تلازما فى الصدق أثبت لهم ذلك تصريحا فقيل (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أى شأنهم ومقتضى ذاتهم المخلوقية لأنها ذوات ممكنة مفتقرة فى* ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وبين ما نفى

١٠٥

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣)

____________________________________

عنهم من وصفى المخلوقية والخالقية وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص الفعل بفاعله جل جلاله ويجوز أن يجعل الخلق الثانى عبارة عن النحت والتصوير رعاية للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغة فى كونهم مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذانا بكمال ركاكة عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقهم وأما جعل الأول أيضا عبارة عن ذلك كما فعل فلا وجه له إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا ولما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفى الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء صرح بذلك فقيل (أَمْواتٌ) وهو خبر ثان للموصول لا للضمير كما قيل أو خبر مبتدأ محذوف وحيث كان بعض الأموات مما يعتريه الحياة سابقا أو لاحقا كأجساد الحيوان والنطف* التى ينشئها الله تعالى حيوانا احترز عن ذلك فقيل (غَيْرُ أَحْياءٍ) أى لا يعتريها الحياة أصلا فهى أموات* على الإطلاق وأما قوله تعالى (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أى ما يشعر أولئك الآلهة أيان يبعث عبدتهم فعلى طريقة التهكم بهم لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهى الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفيه إيذان بأن البعث من لوازم التكليف وإن معرفة وقته مما لا بدمنه فى الألوهية (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا يشاركه شىء فى شىء وهو تصريح بالمدعى وتمحيض للنتيجة غب إقامة الحجة* (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وأحوالها التى من جملتها ما ذكر من البعث وما يعقبه من الجزاء المستلزم* لعقوبتهم وذلتهم (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الحجج والبينات اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار وبناء الحكم المذكور على الموصول للإشعار بكونه معللا بما فى حين الصلة فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء المتنوع إلى الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية يؤدى إلى قصر النظر على العاجل والإعراض عن الدلائل السمعية والعقلية الموجب لإنكارها وإنكار مؤداها والاستكبار عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل فى الآيات والدلائل رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى (لا جَرَمَ) أى* حقا وقد مر تحقيقه فى سورة هود (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من إنكار قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) من استكبارهم* وقولهم للقرآن أساطير الأولين وغير ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) تعليل لما تضمنه الكلام من الوعيد أى لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليها أو

١٠٦

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (٢٦)

____________________________________

لا يحب جنس المستكبرين فكيف بمن استكبر عما ذكر (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أى لأولئك المنكرين المستكبرين وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) القائل الوافدون عليهم أو المسلمون أو بعض* منهم على طريق التهكم وماذا منصوب بما بعده أو مرفوع أى أى شىء أنزل أو ما الذى أنزله (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أى ما تدعون نزوله والمنزل بطريق السخرية أحاديث الأولين وأباطيلهم وليس من الإنزال فى شىء قيل هؤلاء القائلون هم المقتسمون الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سؤال وفود الحاج عما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَحْمِلُوا) متعلق بقالوا أى قالوا ما قالوا ليحملوا (أَوْزارَهُمْ) الخاصة بهم وهى أوزار ضلالهم (كامِلَةً) لم يكفر منها شىء بنكبة أصابتهم فى الدنيا كما يكفر بها أوزار* المؤمنين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف ليحملوا (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) وبعض أوزار من ضل بإضلالهم* وهو وزر الإضلال لأنهما شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر واللام للتعليل فى نفس الأمر من غير أن يكون غرضا وصيغة الاستقبال الدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من الفاعل أى يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال وأما* حمله على معنى غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال على أن يكون العامل فى الحال قالوا وتأييده بما سيأتى من قوله تعالى (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من حيث إن من حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون فيرده أن الحمل المذكور إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوى كما ستقف عليه أو حال من المفعول أى يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وفائدة التقييد بها الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذى لب وإنما يتبعهم الأغبياء والجهلة والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذرا إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيق بالاتباع وبين المبطل (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أى بئس شيئا يزرونه ما ذكر (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم إلى أنفسهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل أى قد سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله تعالى (فَأَتَى اللهُ) أى* أمره وحكمه (بُنْيانَهُمْ) وقرىء بيتهم وبيوتهم (مِنَ الْقَواعِدِ) وهى الأساطين التى تعمده أو أساسه* فضعضعت أركانه (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) أى سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام*

١٠٧

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢٧)

____________________________________

بعد تهدم القواعد شبهت حال أولئك الماكرين فى تسويتهم المكايد والمنصوبات التى أردوا بها الإيقاع برسل الله سبحانه وفى إبطاله تعالى تلك الحيل والمكايد وجعله إياها أسبابا لهلاكهم بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا وقرىء فخر* عليهم السقف بضمتين (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) أى الهلاك والدمار (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير الأولين سيأتيهم من العذاب مثل ما أتاهم وهم لا يحتسبون والمراد به العذاب العاجل لقوله سبحانه (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) فإنه عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى هذا الذى فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء أو ما هو أعم منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤهم فى الدنيا ويوم القيامة يخزيهم أى يذلهم بعذاب الخزى على رءوس الأشهاد وأصل الخزى ذل يستحيى منه وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخى الزمانى وتغيير السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزى على يوم القيامة كما هو المتبادر من تقدير الظرف على الفعل بل لأن الإخبار بجزائهم فى الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه فى الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونه يوم القيامة والضمير إما للمفترين فى حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق كما ستقف* عليه (وَيَقُولُ) لهم تفضيحا وتوبيخا فهو الخ بيان للإخزاء (أَيْنَ شُرَكائِيَ) أضافهم إليه سبحانه حكاية* لإضافتهم الكاذبة ففيه توبيخ إثر توبيخ مع الاستهزاء بهم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أى تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فى شأنهم بأنهم شركاء حقا حين بينوا لكم بطلانها والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة أو المدافعة على طريقة الاستهزاء والتبكيت والاستفسار عن مكانهم لا يوجب غيبتهم حقيقة حتى يعتذر بأنهم يجوز أن يحال بينهم وبين عبدتهم حينئذ ليتفقدوها فى ساعة علقوا بها الرجاء فيها أو بأنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب بل يكفى فى ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذى كانوا يزعمون أنهم متصفون من عنوان الإلهية فليس هناك شركاء ولا أماكنها على أن قوله ليتفقدوا ليس بسديد فإنه قد تبين عندهم الأمر حينئذ فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد وقرىء بكسر النون أى تشاقوننى على أن مشاقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لا سيما فى شأن متعلق به سبحانه مشاقة له عزوجل* (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من أهل الموقف وهم الأنبياء والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم فى الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم أى توبيخا لهم وإظهارا للشماته بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به وإيثار صيغة الماضى الدلالة على تحققه وتحتم وقوعه حسبما هو

١٠٨

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢٩)

____________________________________

المعتاد فى أخباره سبحانه وتعالى كقوله (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ (إِنَّ الْخِزْيَ) الفضيحة* والذل والهوان (الْيَوْمَ) منصوب بالخزى على رأى من يرى إعمال المصدر المصدر باللام أو بالاستقرار* فى الظرف وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر فى الظروف وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك فى عزة وشقاق (وَالسُّوءَ) العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) بالله تعالى وبآياته ورسله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بتأنيث الفعل وقرىء بتذكيره وبإدغام التاء فى التاء والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار صورة توفيهم إياهم لما فيها من الهول والموصول فى محل الجر على أنه نعت للكافرين أو بدل منه أو فى محل النصب أو الرفع على الذم وفائدته تخصيص الخزى والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو فى آخر عمره أى على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن يتوفاهم الملائكة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) * أى حال كونهم مستمرين على الكفر فإنه ظلم منهم لأنفسهم وأى ظلم حيث عرضوها للعذاب المخلد وبدلوا فطرة الله تبديلا (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أى فيلقون والعدول إلى صيغة الماضى للدلالة على تحقق الوقوع وهو* عطف على قوله تعالى (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) وما بينهما جملة اعتراضية جىء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزى على رءوس الأشهاد أى فيسالمون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه فى الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة قائلين (ما كُنَّا نَعْمَلُ) فى الدنيا (مِنْ سُوءٍ) أى من شرك قالوه منكرين لصدوره عنهم كقولهم* والله ربنا ما كنا مشركين وإنما عبروا عنه بالسوء اعترافا بكونه سيئا لا إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ويجوز أن يكون تفسيرا للسلم على أن يكون المراد به الكلام الدال عليه وعلى التقديرين فهو جواب عن قوله سبحانه (أَيْنَ شُرَكائِيَ) فى سورة الأنعام لا عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لمادهمهم من الخزى والسوء (بَلى) رد عليهم من قبل أولى العلم وإثبات لما نفوه أى بلى كنتم تعملون ما تعملون* (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أى كل صنف بابه المعدله وقيل أبوابها أصناف عذابها فالدخول عبارة عن الملابسة والمقاساة (خالِدِينَ فِيها) إن أريد* بالدخول حدوثه فالحال مقدرة وإن أريد مطلق الكون فيها فهى مقارنة (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) * عن التوحيد كما قال تعالى (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها والمخصوص بالذم محذوف أى جهنم وتأويل قولهم (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) بأنا ما كنا عاملين ذلك فى اعتقادنا روما للمحافظة على أن لا كذب ثمة يرده الرد المذكور وما فى سورة الأنعام من قوله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).

١٠٩

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢)

____________________________________

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أى المؤمنين وصفوا بالتقوى إشعارا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىء عن* التقوى (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) سلكوا فى الجواب مسلك السؤال من غير تلعثم ولا تغيير فى الصورة والمعنى أى أنزل خيرا فإنه جواب مطابق للسؤال ولسبك الواقع فى نفس الأمر مضمونا وأما الكفرة فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجواب عن نهج الحق الواقع الذى ليس له من دافع غيروا صورته وعدلوا بها عن سنن السؤال حيث رفعوا الأساطير روما لما مر من إنكار النزول روى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا إن لم تلفه كان خيرا لك فيقول أنا شر وافد إن رجعت إلى قومى دون أن أستطلع* أمر محمد وأراه فيلقى أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضى عنهم فيخبرونه بحقيقة الحال فهم الذين قالوا خيرا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أى أعمالهم أو فعلوا الإحسان (فِي هذِهِ) الدار (الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أى مثوبة حسنة مكافأة فيها* (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أى مثوبتهم فيها (خَيْرٌ) مما أوتوا فى الدنيا من المثوبة أو خير على الإطلاق فيجوز* إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) أى دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدح الله تعالى به المتقين وعد جوابهم المحكى من جملة إحسانهم ووعدهم بذلك ثوابى الدنيا والآخرة فلا محل له من الإعراب أو بدل من خيرا أو تفسير له أى أنزل خيرا هو هذا الكلام الجامع قالوه ترغيبا للسائل (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أى لهم جنات* ويجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح (يَدْخُلُونَها) صفة لجنات على تقدير تنكير عدن وكذلك (تَجْرِيمِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أو كلاهما حال على تقدير علميته (لَهُمْ فِيها) فى تلك الجنات (ما يَشاؤُنَ) الظرف الأول خبر لما والثانى حال منه والعامل ما فى الأول أو متعلق به أى حاصل لهم فيها ما يشاءون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر مرارا من أن تأخير ما حقه التقديم* يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء الأوفى* (يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) اللام للجنس أى كل من يتقى من الشرك والمعاصى ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسير للكفرة (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) نعت للمتقين وقوله تعالى (طَيِّبِينَ) أى طاهرين عن دنس الظلم لأنفسهم حال من الضمير

١١٠

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤)

____________________________________

وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر فى التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله وقيل فرحين طيبى النفوس ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفسهم بالكلية إلى جناب القدس (يَقُولُونَ) حال من الملائكة أى قائلين لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قال القرظى رحمه‌الله إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه‌السلام فقال السلام عليك يا ولى الله الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) اللام للعهد أى جنات عدن الخ* ولذلك جردت عن النعت والمراد دخولهم لها فى وقته فإن ذلك بشارة عظيمة وإن تراخى المبشر به لا دخول القبر الذى هو روضة من رياضها إذ ليس فى البشارة به ما فى البشارة بدخول نفس الجنة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة أو بالذى كنتم تعملونه من ذلك وقيل المراد بالتوفى التوفى للحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق (هَلْ يَنْظُرُونَ) أى ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم بالعذاب جعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظاره لا لأنه يلحقهم البتة لحوق الأمر المنتظر بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبة المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إتيانه ويترصدون لوروده وقرىء بتذكير الفصل (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى* ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشعار بأن إتيانه لطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان عذابا عليهم والمراد بالأمر العذاب الدنيوى لا القيامة لكن لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لأنها ليست نصا فى العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين فى عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتى (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ) الآية صريح فى أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوى (كَذلِكَ) أى مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب والاستهزاء (فَعَلَ الَّذِينَ) خلوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من* الأمم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بما سيتلى من عذابهم (وَلكِنْ كانُوا) بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبة* لذلك (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) كان الظاهر أن يقال ولكن كانوا هم الظالمين كما فى سورة الزخرف لكنه أوثر* ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور وقد مر تحقيقه فى سورة يونس (فَأَصابَهُمْ) عطف على قوله تعالى (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وما بينهما اعتراض لبيان أن فعلهم ذلك ظلم لأنفسهم (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أى أجزية أعمالهم السيئة على طريقة تسمية المسبب باسم سببه إيذانا بفظاعته* لا على حذف المضاف فإنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئاتهم (وَحاقَ بِهِمْ) أى أحاط بهم من الحيق الذى* هو إحاطة الشر وهو أبلغ من الإصابة وأفظع (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب

١١١

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣٦)

____________________________________

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أى أهل مكة وهو بيان لفن آخر من كفرهم والعدول عن الإضمار إلى الموصول* لتقريعهم بما فى حين الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أى لو شاء عدم* عبادتنا لشىء غيره كما تقول لما عبدنا ذلك (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الذى نقتدى بهم فى ديننا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من السوائب والبحائر وغيرها وإنما قالوا ذلك تكذيبا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعنا فى الرسالة رأسا متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ولا نحرم مما حرمنا شيئا كما يقول الرسل وينقلونه من جهة الله عزوجل لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفى الإشراك وما يتبعهما وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب* عنه بقوله عزوجل (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الفعل الشنيع (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم أى أشركوا* بالله وحرموا حله وردوا رسله وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ) الذين يبلغون رسالات الله وعزائم أمره ونهيه (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أى ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا أو موضحا وإبانة طريق الحق وإظهار أحكام الوحى الذى من جملتها تحتم تعلق مشيئة الله تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاءوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التى عليها يدور أمر التكليف فى شىء حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لا بد فى تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية له وصرف اختيارهم الجزئى إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين فالفاء للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل ليس شأنهم إلا تبليغ أوامر الله تعالى ونواهيه لا تحقيق مضمونهما وإجراء موجبهما على الناس قسرا وإلجاء وإيراد كلمة على للإيذان بأنهم فى ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حق للناس عليهم إيفاؤه وبهذا ظهر أن حمل قولهم لو شاء الله الخ على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية* لهم أى بعثنا فى كل أمة من الأمم الخالية رسولا خاصا بهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يجوز أن تكون أن* مفسرة لما فى البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية أى بعثنا بأن اعبدوا الله وحده (وَاجْتَنِبُوا

١١٢

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٨)

____________________________________

الطَّاغُوتَ) هو الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلالة (فَمِنْهُمْ) أى من تلك الأمم والفاء فصيحة أى فبلغوا* ما بعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت فتفرقوا فمنهم (مَنْ هَدَى اللهُ) إلى الحق* الذى هو عبادته واجتناب الطاغوت بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئى إلى تحصيله (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أى وجبت وثبتت إلى حين الموت لعناده وإصراره عليها وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق وتغيير الأسلوب للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فلم يكن كل من مشيئة الهداية وعدمها إلا حسبما حصل منهم من التوجه إلى الحق وعدمه إلا بطريق القسر والإلجاء حتى يستدل بعدمهما على عدم تعلق مشيئته تعالى بعبادتهم له تعالى وحده (فَسِيرُوا) يا معشر قريش (فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) فى أكنافها (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت* عليه الضلالة لعلكم تعتبرون حين تشاهدون فى منازلهم وديارهم آثار الهلاك والعذاب وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأنه غنى عن البيان وأن ليس الخبر كالعيان وترتيب النظر على السير لما أنه بعده وأن ملاك الأمر فى تلك العاقبة هو التكذيب والتعلل بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شىء (إِنْ تَحْرِصْ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء بفتح الراء وهى لغية (عَلى هُداهُمْ) أى إن تطلب هدايتهم بجهدك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أى فاعلم أنه تعالى* لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره والمراد به قريش وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالة وللإشعار بعلة الحكم ويجوز أن يكون المذكور علة للجزاء المحذوف أى إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لا يهدى من يضله وهؤلاء من جملتهم وقرىء لا يهدى على بناء المفعول أى لا يقدر أحد على هداية من يضله الله تعالى وقرىء لا يهدى بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدى فى الدال ويجوز أن يكون يهدى بمعنى يهتدى وقرىء يضل بفتح الياء وقرىء لا هادى لمن يضل ولمن أضل (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم فى الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وصيغة* الجمع فى الناصرين باعتبار الجمعية فى الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد إلى الآحاد لا لأن المراد نفى طائفة من الناصرين من كل منهم (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) شروع فى بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مصدر فى موقع الحال أى جاهدين فى أيمانهم (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) * ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد بقوله الحق (بَلى) أى بلى يبعثهم (وَعْداً) مصدر مؤكد لما دل عليه بلى* فإن ذلك موعد من الله سبحانه أو المحذوف أى وعد بذلك وعدا (عَلَيْهِ) صفة لوعد أى وعدا ثابتا عليه*

١١٣

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

____________________________________

* إنجازه لامتناع الخلف فى وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة (حَقًّا) صفة أخرى له أو نصب على* المصدرية أى حق حقا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لجهلهم بشئون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه ومالا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى* منه وعلى أن البعث مما يقتضيه الحكمة التى جرت عادته سبحانه بمراعاتها (لا يَعْلَمُونَ) أنه يبعثهم فيبتون القول بعدمه أو أنه وعد عليه حق فيكذبونه قائلين لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) غاية لما دل عليه بلى من البعث والضمير لمن يموت إذ التبيين يعم المؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أى يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم من مشاهدة الأحوال كما هى ومعاينتها بصورها* الحقيقية الشأن (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من الحق المنتظم لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرع المبين ويدخل فيه* البعث دخولا أوليا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله سبحانه بالإشراك وإنكار البعث وتكذيب وعده الحق* (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) فى كل ما يقولون لا سيما فى قولهم لا يبعث الله من يموت والتعبير عن الحق بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر فى حين الصلة للتبيين وما عطف عليه وجعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار وروده فى معرض الرد على المخالفين وإبطال مقالة المعاندين المستدعى للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويلجئهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقيق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون فى إنكاره كان ذلك أزجر لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلى لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع الفعل المغيابها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذى هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عزوجل وعبادته وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره فى مواضع أخر وشهرته وإنما لم يدرج علم الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جىء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيين الذى هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذى نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علم ضرورى حاصل لهم من قبل أنفسهم وقد مر تحقيقه فى سورة التوبة عند قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) وإنما خص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الكافرين الآية لأن علم المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضا (إِنَّما قَوْلُنا) استئناف لبيان كيفية التكوين على* الإطلاق إبداء وإعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يظهر كيفيته فما كافة وقولنا مبتدأ وقوله (لِشَيْءٍ) أى أى شىء كان مما عز وهان متعلق به على أن اللام للتبليغ كهى فى قولك قلت له قم فقام وجعلها الزجاج سببية أى لأجل شىء وليس بواضح والتعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا

١١٤

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١)

____________________________________

قبل ذلك (إِذا أَرَدْناهُ) ظرف لقولنا أى وقت إرادتنا لوجوده (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) خبر للمبتدأ (فَيَكُونُ) * إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أى فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وإما جواب لشرط محذوف أى فإذا قلنا ذلك فهو يكون وليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال إنه يلزم منه أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى (كُنْ) وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإن المراد بالأمر هو الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره فى كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق فيه بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتى المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى بها وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فى ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع فالمعنى إنما إيجادنا لشىء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده فى أسرع ما يكون ولما عبر عنه بالأمر الذى هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق فتأمل وفى الآية الكريمة من الفخامة والجزالة ما يحار فيه العقول والألباب وقرىء بنصب يكون عطفا على نقول أو تشبيها له بجواب الأمر (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) أى فى شأن الله تعالى ورضاه وفى حقه ولوجهه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ولعلهم الذين ظلمهم أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة حسبما وعد بقوله سبحانه (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أى مباءة حسنة أو توئة* حسنة كما قال قتادة وهو الأنسب بما هو المشهور من كون السورة غير ثلاث آيات من آخرها مكية وأما ما نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنها نزلت فى صهيب وبلال وعمار وخباب وعايس وجبير وأبى جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيب فقال لهم أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضى الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه فإنما يناسب ما حكى عن الأصم من كون كل السورة مدنية وما نقل عن قتادة من كون هذه الآية إلى آخر السورة مدنية فيحمل ما نقلناه عنه من نزول الآية فى أصحاب الهجرتين على أن يكون نزولها بالمدينة بين الهجرتين وأما جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملتهم فلا يساعده نظم التنزيل ولا شأنه الجليل وقرىء لنثوينهم ومعناه إثواءة حسنة أو لننزلنهم فى الدنيا منزلة حسنة وهى الغلبة على من ظلمهم من أهل مكة وعلى العرب قاطبة وأهل الشرق والغرب كافة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أى أجر أعمالهم المذكورة فى الآخرة (أَكْبَرُ) مما* يعجل لهم فى الدنيا وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله تعالى لك فيه هذا ما وعدك الله تعالى فى الدنيا وما ادخر فى الآخرة أفضل (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الضمير* للكفار أى لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم فى الدين وقيل للمهاجرين

١١٥

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

____________________________________

أى لو علموا ذلك لزادوا فى الاجتهاد أو لما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها (الَّذِينَ صَبَرُوا) على* الشدائد من أذية الكفار ومفارقة الأهل والوطن وغير ذلك ومحله النصب أو الرفع على المدح (وَعَلى رَبِّهِمْ) خاصة (يَتَوَكَّلُونَ) منقطعين إليه تعالى معرضين عما سواه مفوضين إليه الأمر كله والجملة إما معطوفة على الصلة وتقديم الجار والمجرور للدلالة على قصر التوكل على الله تعالى وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام التوكل أو حال من ضمير صبروا (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) وقرىء بالياء مبنيا للمفعول وهو رد لقريش حين قالوا الله أجل من أن يكون له رسول من البشر كما هو مبنى قولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ أى جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحى إليهم بواسطة الملك أوامره ونواهيه ليبلغوها الناس ولما كان المقصود من الخطاب* لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنييه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أى أهل* الكتاب أو علماء الأخبار أو كل من يذكر بعلم وتحقيق ليعلموكم ذلك (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه وفيه دلالة على أنه لم يرسل للدعوة العامة ملكا وقوله تعالى (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الرسل ولا امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو فى المهد لأنها أعم من الرسالة وإشارة إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) بالمعجزات والكتب والباء متعلقة بمقدر وقع جوابا عن سؤال من قال بم أرسلوا فقيل أرسلوا بالبينات والزبر أو بما أرسلنا داخلا تحت الاستثناء مع رجالا عند من يجوزه أى ما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيدا بالسوط أو على نية التقديم قبل أداة الاستثناء أى ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا عند من يجوز تأخر صلة ما قبل إلا إلى ما بعده أو بما وقع صفة للمستثنى أى إلا رجالا ملتبسين بالبينات أو بنوحى على المفعولية أو الحالية من القائم مقام فاعل يوحى وهو إليهم على أن قوله تعالى (فَسْئَلُوا) اعتراض أو بقوله (لا تَعْلَمُونَ) على أن الشرط للتبكيت كقول الأجير* إن كنت عملت لك فأعطنى حقى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أى القرآن وإنما سمى به لأنه تذكير وتنبيه* للغافلين (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فى ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبىء عنه صيغة التفعيل فى الفعلين لا سيما بعد ورود الثانى أولا على صيغة الأفعال ولما أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياس على* الإطلاق سواء كان فى الأحكام الشرعية أو غيرها ولعل قوله عزوجل (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) إشارة إلى

١١٦

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤٧)

____________________________________

ذلك أى إرادة أن يتأملوا فيتنبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدى إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) هم أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراموا صد أصحابه عن الإيمان عليهم الرضوان لا الذين احتالوا لهلاك الأنبياء كما قيل ولا من يعم الفريقين لما أن المراد تحذير هؤلاء عن إصابة مثل ما أصاب أولئك من فنون العذاب المعدودة والسيئات نعت لمصدر محذوف أى مكروا المكرات السيئات التى قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أى عملوا السيئات فقوله تعالى (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) مفعول لأمن أو السيئات صفة لما هو المفعول* أى أى أفأمن الماكرون العقوبات السيئة وقوله (أَنْ يَخْسِفَ) الخ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أى أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذى من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا فى ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون على توجيه الإنكار إلى المعطوفين معا أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمن بعد التفكر مما لا يكاد يفعله أحد وقيل هو عطف على مقدر ينبىء عنه الصلة أى أمكر فأمن الذين مكروا الخ (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه أى فى حالة غفلتهم أو* من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيان ما يشتهون كما حكى فيما سلف مما نزل بالماكرين (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أى فى حالة تقلبهم فى مسائرهم ومتاجرهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بممتنعين أو فائتين بالهرب والفرار* على ما يوهمه حال التقلب والسير والفاء إما لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما قال عليه‌السلام إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وإيراد الجملة الاسمية الدلالة على دوام النفى لا نفى الدوام (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أى مخافة وحذر عن الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وقيل التخوف التنقص قال قائلهم[تخوف الرحل منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن] أى يأخذهم على أن ينقصهم شيئا بعد شىء فى أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا والمراد بذكر الأحوال الثلاث بيان قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأى وجه كان لا الحصر فيها (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة* ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها.

١١٧

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٤٩)

____________________________________

(أَوَلَمْ يَرَوْا) استفهام إنكارى وقرىء على صيغة الخطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى ألم* ينظروا ولم يروا متوجهين (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أى من كل شىء (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) أى يرجع شيئا* فشيئا حسبما يقتضيه إرادة الخالق تعالى فإن التفيؤ مطاوع الإفاءة وقرىء بتأنيث الفعل عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) أى ألم يروا الأشياء التى لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أى عن جانبى كل واحد منها* استعير لهما ذلك من يمين الإنسان وشماله (سُجَّداً لِلَّهِ) حال من الظلال كقوله تعالى (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) والمراد بسجودها تصرفها على مشيئة الله سبحانه وتأتيها لإرادته تعالى فى الامتداد والتقلص* وغيرهما غير ممتنعة عليه فيما سخرها له وقوله تعالى (وَهُمْ داخِرُونَ) أى صاغرون منقادون حال من الضمير فى (ظِلالُهُ) والجمع باعتبار المعنى وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم والمعنى ترجع الظلال من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإنها كل يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معين من المدارات اليومية بتقدير العزيز العليم منقادة لما قدر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والحال أن أصحابها من الأجرام داخرة منقادة لحكمه تعالى ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به أو كلاهما حال من الضمير المشار إليه والمعنى ترجع ظلال تلك الأجرام حال كونها منقادة لله تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما ولعل المراد بالموصول الجمادات من الجبال والأشجار والأحجار التى لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بما ذكر من ارتفاع الشمس وانحدارها أو اختلاف مشارقها ومغاربها وأما الحيوان فظله يتحرك بتحركه وقيل المراد باليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقى لأن الكواكب منه تظهر آخذة فى الارتفاع والسطوع وشماله وهو جانبه الغربى المقابل له فإن الظلال فى أول النهار تبتدىء من الشرق واقعة على الربع الغربى من الأرض وعند الزوال تبتدىء من الغرب واقعة على الربع الشرقى منها وبعد ما بين سجود الظلال وأصحابها من الأجرام السفلية الثابتة فى أخبارها ودخورها له سبحانه وتعالى شرع فى بيان سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أولا فقيل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أى له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشىء غيره استقلالا أو اشتراكا فالقصر ينتظم القلب والإفراد إلا* أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ (ما فِي السَّماواتِ) قاطبة (وَما فِي الْأَرْضِ) كائنا ما كان (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما فى الأرض وتقديمه لقلته ولئلا يقع بين المبين والمبين فصل والإفراد مع أن المراد الجمع لإفادة وضوح شمول السجود لكل فرد من* الدواب قال الأخفش هو كقولك ما أتانى من رجل مثله وما أتانى من الرجال مثله (وَالْمَلائِكَةُ) عطف

١١٨

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) (٥٢)

____________________________________

على (ما فِي السَّماواتِ) عطف جبريل على الملائكة تعظيما وإجلالا أو على أن يراد بما فى السموات الخلق الذى يقال له الروح أو يراد به ملائكة السموات وبقوله (وَالْمَلائِكَةُ) ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم (وَهُمْ) أى الملائكة مع علو شأنهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته عزوجل والسجود له وتقديم الضمير* ليس للقصر والجملة أما حال من ضمير الفاعل فى يسجد مسند إلى الملائكة أو استئناف أخبر عنهم بذلك (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) أى مالك أمرهم وفيه تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم (مِنْ فَوْقِهِمْ) أى يخافونه جل وعلا خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أو يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم والجملة حال من الضمير فى لا يستكبرون أو بيان له وتقرير لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أى ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل* مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه وفيه أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء وبعد ما بين أن جميع الموجودات يخصون الخضوع والانقياد الطبيعى وما يجرى مجراه من عبادة الملائكة حيث لا يتصور منهم عدم الانقياد أصلا لله عزوجل أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل (وَقالَ اللهُ) عطفا على قوله (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعين الألوهية وإنما المنهى عنه هو الإشراك به لا أن المنهى عنه مطلق اتخاذ إلهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان أى قال تعالى لجميع المكلفين (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عن ذلك* دلالة على أن مساق النهى هى الاثنينية وإنها منافية للألوهية كما أن وصف الإله بالوحدة فى قوله تعالى (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية وأما الإلهية فأمر* مسلم الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أسند إليه القول وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة على رأى من اكتفى فى تحقق الالتفات بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام ولم يشترط سبق الذكر على ذلك الوجه (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) التفات من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابة وإلقاء الرهبة فى القلوب ولذلك قدم* وكرر الفعل أى إن كنتم راهبين شيئا فإياى ارهبوا فارهبوا لا غير فإنى ذلك الواحد الذى يسجد له ما فى السموات والأرض (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا تقرير لعلة انقياد ما فيها له سبحانه خاصة وتحقيق لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديم الظرف لتقوية ما فى اللام من معنى الاختصاص وكذا فى قوله تعالى (وَلَهُ الدِّينُ) أى الطاعة والانقياد (واصِباً) أى واجبا ثابتا لا زوال له لما تقرر أنه* الإله وحده الحقيق بأن يرهب وقيل واصبا من الوصب أى وله الدين ذا كلفة وقيل الدين الجزاء أى وله

١١٩

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥)

____________________________________

* الجزاء الدائم بحيث لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياق أى أعقيب تقرر الشئون المذكورة من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له ونهيه عن اتخاذ الأنداد وكون الدين له واصبا المستدعى ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غير الله الذى شأنه ما ذكر تتقون فتطيعون (وَما بِكُمْ) أى أى شىء يلابسكم* ويصاحبكم (مِنْ نِعْمَةٍ) أية نعمة كانت (فَمِنَ اللهِ) فهى من الله فما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط باعتبار الأخبار دون الحصول فإن ملابسة النعمة بهم سبب للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه* تعالى (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) مساسا يسيرا (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) تتضرعون فى كشفه لا إلى غيره والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى[يراوح من صلوات الملي * ك طورا سجودا وطورا جؤارا] وقرىء تجرون بطرح الهمزة وإلقاء حركتها إلى ما قبلها وفى ذكر المساس المنبىء عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المعربة عن الحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضر بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء الصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم مالا يخفى من الجزالة والفخامة ولعل إيراد إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) وقرىء كاشف الضر وكلمة ثم ليست للدلالة على تمادى زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة* بل للدلالة على تراخى رتبة ما يترتب عليه من مفاجأة الإشراك المدلول عليها بقوله سبحانه (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فإن ترتبها على ذلك فى أبعد غاية من الضلال ثم إن وجه الخطاب إلى الناس جميعا فمن للتبعيض والفريق فريق الكفرة وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) فمن تبعيضية أيضا والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك والكفران (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم فى الشرك كفران النعمة وإنكار كونها من* الله عزوجل (فَتَمَتَّعُوا) أمر تهديد والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهى السخط وقرىء بالياء مبنيا للمفعول عطفا على ليكفروا على أن يكون كفران النعمة والتمتع غرضا لهم من الإشراك ويجوز أن* يكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب وفيه وعيد أكيد منبىء عن أخذ شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه مما لا يوصف.

١٢٠