تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

____________________________________

(وَكُلَّ إِنسانٍ) مكلف (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) أى عمله الصادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر أو ما وقع له فى القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه فى العلم الأزلى من قولهم طار له سهم كذا (فِي عُنُقِهِ) تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط أى ألزمناه عمله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه* لزوم القلادة أو الغل للعنق لا ينفك عنه بحال وقرىء بسكون النون (وَنُخْرِجُ لَهُ) بنون العظمة وقد قرىء* بالياء مبنيا للفاعل على أن الضمير لله عزوجل وللمفعول والضمير للطائر كما فى قراءة يخرج من الخروج (يَوْمَ الْقِيامَةِ) والبعث للحساب (كِتاباً) مسطورا فيه ما ذكر من عمله نقيرا وقطميرا وهو مفعول لنخرج* على القراءتين الأوليين أو حال من المفعول المحذوف الراجع إلى الطائر وعلى الأخريين حال من المستتر فى الفعل من ضمير الطائر (يَلْقاهُ) أى يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان (مَنْشُوراً) وهما صفتان للكتاب* أو الأولى صفة والثانى حال منها وقرىء يلقاه من لقيته كذا أى يلقى الإنسان إياه قال الحسن بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذى عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذى عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك فى قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة (اقْرَأْ كِتابَكَ) أى قائلين لك ذلك. عن قتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن فى الدنيا قارئا وقيل المراد بالكتاب نفسه المنتقشة بآثار أعماله فإن كل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا يحدث منه فى جوهر روحه أمر مخصوص إلا أنه يخفى مادام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنة مستقرة فى الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوى فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شىء عمله فى مدة عمره وهذا معنى الكتابة والقراءة (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أى كفى نفسك* والباء زائدة واليوم ظرف لكفى وحسيبا تمييز وعلى صلته لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافى ووضع موضع الشهيد لأنه يكفى المدعى ما أهمه وتذكيره لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنى على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن نفس المذكر كقول جبلة بن حريث[يا نفس إنك باللذات مسرور * فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير] (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ولزوم الأعمال لأصحابها أى من اهتدى بهدايته وعمل بما فى تضاعيفه من الأحكام وانتهى عمانهاه عنه فإنما تعود

١٦١

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

____________________________________

* منفعته اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد (وَمَنْ ضَلَّ) عن الطريقة التى يهديه إليها (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أى فإنما وبال ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه* (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) تأكيد للجملة الثانية أى لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم بل إنما تحمل كل منها وزرها وهذا تحقيق لمعنى قوله عزوجل (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وأما ما يدل عليه قوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) وقوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو فى الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما الذى يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا* للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدى من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أى وما صح وما استقام منابل استحال فى سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان فى حكمنا الماضى وقضائنا السابق أن نعذب أحدا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء* بقضية العقل (حَتَّى نَبْعَثَ) إليهم (رَسُولاً) يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع حسبما فى تضاعيف الكتاب المنزل عليه والمراد بالعذاب المنفى إما عذاب الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصور الماتريدى رحمه‌الله وهو المناسب لما بعده أو الجنس الشامل للدنيوى والأخروى وهو من افراده وأيا ما كان فالبعث غاية لعدم صحة وقوعه فى وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف لا والأخروى لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوى أيضا لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ألا يرى إلى قوم نوح كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة وقوله تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التى جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد فى وقته المقدر له إذ لا يقارنه الجزاء الآتى بل دنو وقتها كما فى قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) أى وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذى بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعنى* عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصى دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين (أَمَرْنا) * بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها (مُتْرَفِيها) متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر

١٦٢

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨)

____________________________________

إلى الكل لأنهم الأصول فى الخطاب والباقى أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد وعدم التعرض للمأمور به إما لظهور أن المراد به الحق والخير لأن الله لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدى إليه وإما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطى ويمنع (فَفَسَقُوا فِيها) أى خرجوا عن الطاعة وتمردوا* (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أى ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان (فَدَمَّرْناها) * بتدمير أهلها (تَدْمِيراً) لا يكتنه كنهه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق وقيل الأمر مجاز عن الحمل على* الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشىء فأمر أى كثرته فكثر وفى الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أى كثيرة النتاج ويعضده قراءة آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أى جعلناهما أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطا بإرادة الله سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقا بأن يعبر عنه بالامر به (وَكَمْ أَهْلَكْنا) أى وكثيرا ما أهلكنا (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم وتمييز له والقرن مدة من الزمان يخترم فيها القوم وهى عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة وقد أيد ذلك بأنه عليه الصلاة والسّلام دعا لرجل فقال عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرون (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت* أحوالهم فى القرآن العظيم ومن لم تقص وعدم نظم قومه عليه الصلاة والسلام فى تلك القرون المهلكة لظهور أمرهم على أن ذكره عليه الصلاة والسلام رمز إلى ذكرهم (وَكَفى بِرَبِّكَ) أى كفى ربك (بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التى هى مبادى الأعمال الظاهرة أو لعمومه حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا وفيه إشارة إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بأعماله التى يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثانى أهل الرياء والفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد لمحض الغنيمة (الْعاجِلَةَ) فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبىء عنه الاستمرار المستفاد* من زيادة كان ههنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة فى قسيمه والمراد بالعاجلة الدار الدنيا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) ويجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله عزوجل (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) لكن الأول أنسب بقوله (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أى فى تلك العاجلة فإن*

١٦٣

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠)

____________________________________

الحياة واستمرارها من جملة ما عجل له فالأنسب بذلك كلمة من كما فى قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها (ما نَشاءُ) أى ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد (لِمَنْ نُرِيدُ) تعجيل ما نشاء له وهو بدل من الضمير فى له بإعادة الجار بدل البعض فإنه راجع إلى الموصول المنبىء عن الكثرة وقرىء لمن يشاء على أن الضمير لله سبحانه وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد به ذلك وهو واحد من الدهماء وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التى عليها يدور فلك التكوين لا تقتضى وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه وأما ما يتراءى من قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) من نيل كل مؤمل لجميع آماله* ووصول كل عامل إلى نتيجة أعماله فقد أشير إلى تحقيق القول فيه فى سورة هود بفضل الله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ) مكان ما عجلنا له (جَهَنَّمَ) وما فيها من أصناف العذاب (يَصْلاها) يدخلها وهو حال من الضمير* المجرور أو من جهنم أو استئناف (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله تعالى وقيل الآية فى المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم فى الغنائم ونحوها ويأباه ما يقال إن السورة مكية سوى آيات معينة (وَمَنْ أَرادَ) بأعماله (الْآخِرَةَ) الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم* (وَسَعى لَها سَعْيَها) أى السعى اللائق بها وهو الإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى لا التقرب بما يخترعون* بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيمانا صحيحا لا يخالطه شىء قادح فيه وإيراد* الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر فى حين الصلة (فَأُولئِكَ) إشارة إلى للوصول بعنوان اتصافه بما فى حين الصلة وما فى ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أى أولئك الجامعون لما* مر من الخصال الحميدة أعنى إرادة الآخرة والسعى الجميل لها والإيمان (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مقبولا عند الله تعالى أحسن القبول مثابا عليه وفى تعليق المشكورية بالسعى دون قرينيه إشعار بأنه العمدة فيها (كُلًّا) التنوين عوض عن المضاف إليه أى كل واحد من الفريقين لا الفريق الأخير المريد للخير الحقيق* بالاسعاف فقط (نُمِدُّ) أى نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف ومابه الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعى وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة كما ستقف عليه وقوله تعالى* (هؤُلاءِ) بدل من (كُلًّا (وَهَؤُلاءِ) عطف عليه أى نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بماله من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم

١٦٤

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

____________________________________

المفعول وقوله تعالى (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أى من معطاه الواسع الذى لا تناهى له متعلق بنمد ومغن عن ذكر* ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعى والعمل بل بمحض التفضل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أى دنيويا كان أو أخرويا وإنما أظهر إظهارا لمزيد الاعتناء بشأنه وإشعارا بعليته* للحكم (مَحْظُوراً) ممنوعا ممن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد* منه ما يقتضى الحظر كالكافر وهو فى معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين والتعرض لعنوان الربوبية فى الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذكر من الإمداد وعدم الحظر (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) كيف فى محل النصب بفضلنا على الحالية والمراد توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أى انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة ودرجات تفاضل أهلها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ) أى هى وما فيها أكبر من* الدنيا وقرىء أكثر (دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية التى لا يقادر* قدرها ولا يكتنه كنهها كيف لا وقد عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هذا ويجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ويحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثانى إرادة ووصولا مما توهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل واحد من الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوى محظورا من أحد ممن يريده وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا فى ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الآية واعتبار عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له كما فعله الجمهور حيث قالوا لا يمنعه من عاص لعصيانه يقتضى كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوى بالفريق الثانى مع أنه لم يسبق فى الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته وهو من باب التهييج والإلهاب أو كل أحد ممن يصلح للخطاب (فَتَقْعُدَ) بالنصب جوابا للنهى والقعود بمعنى* الصيرورة من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة أو بمعنى العجز من قعد عنه أى عجز عنه (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) خبران أو حالان أى جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من* الله تعالى وفيه إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة.

١٦٥

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤)

____________________________________

(وَقَضى رَبُّكَ) أى أمر أمرا مبرما وقرىء وأوصى ربك ووصى ربك (أَلَّا تَعْبُدُوا) أى بأن لا تعبدوا* (إِلَّا إِيَّاهُ) على أن أن مصدرية ولا نافيه أو أى لا تعبدوا على أنها مفسرة ولا ناهية لأن العبادة غاية* التعظيم فلا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام وهو كالتفصيل للسعى للآخرة (وَبِالْوالِدَيْنِ) أى وبأن* تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما (إِحْساناً) لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها ولذلك دخل الفعل نون التأكيد ومعنى عندك فى كنفك وكفالتك وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخر عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان وأحدهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وقرىء يبلغان فأحدهما بدل من ضمير التثنية وكلاهما عطف عليه ولا سبيل إلى جعل كلاهما تأكيدا للضمير وتوحيد ضمير الخطاب فى عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد فإن المقصود نهى كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما ولو قوبل* الجمع بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام (فَلا تَقُلْ لَهُما) أى لواحد منهما حالتى الانفراد والاجتماع* (أُفٍّ) وهو صوت ينبىء عن تضجر أو اسم فعل هو أتضجر وقرىء بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منونا وغير منون أى لا تتضجر بها تستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما وبهذا النهى يفهم النهى عن سائر ما يؤذيهما* بدلالة النص وقد خص بالذكر بعضه إظهار اللاعتناء بشأنه فقيل (وَلا تَنْهَرْهُما) أى لا تزجرهما عمالا يعجبك* بإغلاظ قيل النهى والنهر والنهم أخوات (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) ذا كرم أو هو وصف له بوصف صاحبه أى قولا صادرا عن كرم ولطف وهو القول الجميل الذى يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أباه ويا أماه كدأب إبراهيم عليه‌السلام إذ قال لأبيه يا أبت مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب ودين الدعار وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل وقيل أن لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزرا ولا يريا منك مخالفة فى ظاهر ولا باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودائهما من بعدهما فعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودأبيه (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ) عبارة عن إلانة الجانب والتواضع والتذلل لهما فإن إعزازهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل واخفض لهما جناحك الذليل أو جعل لذله جناح كما جعل لبيد فى قوله[وغداة ريح قد كشفت وقرة * إذ أصبحت بيد الشمال زمامها] للقرة زماما وللشمال يدا تشبيها له بطائر يخفض جناحه لأفراخه تربية لها وشفقة عليها وأما جعل خفض الجناح عبارة عن ترك الطيران كما فعله القفال فلا يناسب

١٦٦

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٢٦)

____________________________________

المقام (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك وعطفك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق* الله تعالى إليهما ولا تكتف برحمتك الفانية بل ادع الله لهما برحمته الواسعة الباقية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) * برحمتك الدنيوية والأخروية التى من جملتها الهداية إلى الإسلام فلا ينافى ذلك كفرهما (كَما رَبَّيانِي) الكاف* فى محل النصب على نعت لمصدر محذوف أى رحمة مثل تربيتهما لى أو مثل رحمتهما لى على أن التربية رحمة ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما فى أحد الجانبين والآخر فى الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية فى مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربهما كما رحمانى وربيانى (صَغِيراً) * ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أى لأجل تربيتهما لى كقوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ولقد بالغ عزوجل فى التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما فى سلك القضاء بهما معا ثم ضيق الأمر فى باب مراعاتهما حتى لم يرخص فى أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمها بأن جعل رحمته التى وسعت كل شىء مشبهة بتربيتهما وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى الله فى رضى الوالدين وسخطه فى سخطهما وروى يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وقال رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أبوى بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا منى فى الصغر فهل قضيتهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وروى أن شيخا أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن ابنى هذا له مال كثير وإنه لا ينفق على من ماله فنزل جبريل عليه‌السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ فى ابنه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ فقال[غذوتك مولودا ومنتك يافعا *

تعل بما أجنى عليك وتنهل] *[إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك إلا باكيا أتململ] * [كأنى أنا المطروق دونك بالذى * طرقت به دونى وعينى تهمل] * [فلما بلغت السن والغاية التى * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل] * [جعلت جزائى غلظة وفظاظة * كأنك أنت المنعم المتفضل] * [فليتك إذ لم ترع حق أبوتى * فعلت كما الجار المجاور يفعل] فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أنت ومالك لأبيك (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من البر والعقوق (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) قاصدين للصلاح والبر دون العقوق والفساد (فَإِنَّهُ) تعالى (كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أى الرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم ممالا يكاد* يخلو عنه البشر (غَفُوراً) لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد* فى الأمر بمراعاة حقوقهما ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويدخل فيه الجانى على أبويه دخولا أوليا (وَآتِ ذَا الْقُرْبى) أى ذا القرابة (حَقَّهُ) توصية بالأقارب إثر التوصية ببر الوالدين ولعل المراد بهم المحارم وبحقهم النفقة كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) فإن المأمور به فى حقهما المواساة* المالية لا محالة أى وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهى عن التبذير وعن الإفراط فى القبض

١٦٧

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩)

____________________________________

* والبسط فإن الكل من التصرفات المالية (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) نهى عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذير تفريق فى غير موضعه مأخوذ من تفريق حبات وإلقائها كيفما كان من غير تعهد لمواقعه لا عن الإكثار فى صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسراف الذى هو تجاوز الحد فى صرفه وقد نهى عنه بقوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها) وكلاهما مذموم (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تعليل للنهى عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا فى قرن الشياطين والمراد بالإخوة المماثلة التامة فى كل مالا خير فيه من صفات السوء التى من جملتها التبذير أى كانوا بما فعلوا من التبذير أمثال الشياطين أو الصداقة والملازمة أى كانوا أصدقاءهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف فى المعاصى فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم فى السمعة وسائر مالا خير فيه من المناهى والملاهى أو المقارنة* أى قرناءهم فى النار على سبيل الوعيد (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) من تتمة التعليل أى مبالغا فى كفران نعمته تعالى لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت هى له من أنواع المعاصى والإفساد فى الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة للإيذان بأن التبذير الذى هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذى هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هى له والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه فإن كفران نعمة الرب مع كون الربوبية من قوى الدواعى إلى شكرها غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أى إن اعتراك أمر اضطرك إلى أن تعرض عن أولئك المستحقين (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أى لفقد رزق من ربك إقامة للمسبب مقام السبب فإن الفقد سبب للابتغاء (تَرْجُوها) من الله تعالى لتعطيهم وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء فأمر بتعهدهم* بالقول الجميل لئلا تعتريهم الوحشة بسكوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا من يسر الأمر نحو سعد أو قل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد [كلا طرفى قصد الأمور ذميم] وحيث كان قبح الشح مقارنا له معلوما من أول الأمر روعى ذلك فى التصوير بأقبح الصور ولما كان غائلة الإسراف فى آخره بين قبحه* فى أثره فقيل (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) أى فتصير ملوما عند الله وعند الناس وعند نفسك إذا احتجت وندمت* على ما فعلت (مَحْسُوراً) نادما أو منقطعا بك لا شىء عندك من حسره السفر إذا بلغ منه وما قيل من أنه

١٦٨

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

____________________________________

روى عن جابر رضى الله عنه أنه قال بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد إذ أتاه صبى فقال إن أمى تستكسيك درعا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت له قل إن أمى تستكسيك الدرع الذى عليك فدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت فيأباه أن السورة مكية خلا آيات فى آخرها كذا ما قيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وكذا عيينة بن حصن الفزارى فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول[أتجعل نهبى ونهب العبي * د بين عيينة والأقرع] * [وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس فى مجمع] * [وما كنت دون امرىء منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع] فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه عنى أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة القلوب فنزلت (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) تعليل لما مر أى يوسعه على بعض ويضيقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فليس ما يرهقك من الإضافة التى تحوجك إلى الإعراض عن السائلين أو نفاد ما فى يدك إذا بسطتها كل البسط إلا لمصلحتك (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) تعليل لما سبق أى يعلم* سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله العالم بالسرائر والظواهر الذى بيده خزائن السموات والأرض وأما العباد فعليهم أن يقتصدوا وأن يراد أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته فلا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط وأن يراد أنه تعالى يبسط ويقدر حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وأن يكون تمهيدا لقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أى مخافة فقر وقرىء بكسر الخاء كانوا يئدون بناتهم مخافة الفقر فنهوا عن ذلك (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) لا أنتم فلا تخافوا الفاقة بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقهم وهو ضمان لرزقهم وتعليل للنهى المذكور بإبطال موجبه فى زعمهم وتقديم ضمير الأولاد على المخاطبين على عكس ما وقع فى سورة الأنعام للإشعار بإصالتهم فى إفاضة الرزق أو لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وههنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل خشية إملاق فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينتقص من رزقكم شىء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) تعليل آخر ببيان أن المنهى عنه فى نفسه* منكر عظيم والخطء الذنب والإثم يقال خطىء خطأ كأثم إثما وقرىء بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحذر والحذر وقيل بمعنى ضد الصواب وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدودا وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته وإنما نهى عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق من القتل للمبالغة فى النهى عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته وتوسيط النهى

١٦٩

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

____________________________________

عنه بين النهى عن قتل الأولاد والنهى عن قتل النفس المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتل للأولاد* لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) فعلة ظاهرة القبح متجاوزة عن* الحد (وَساءَ سَبِيلاً) أى بئس طريقا طريقه فإنه غصب الأبضاع المؤدى إلى اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن كيف لا وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن وعن حذيفة رضى الله عنه أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاث فى الدنيا وثلاث فى الآخرة فأما التى فى الدنيا فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر وأما التى فى الآخرة فسخط الله تعالى وسوء الحساب والخلود فى النار (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد (إِلَّا بِالْحَقِّ) إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس معصومة عمدا فالاستثناء مفرغ أى لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق أو ملتبسين أو ملتبسة بشىء من الأشياء ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أى لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا* بالحق (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى إنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فإن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولى أنا أمرته بذلك ما لم يكن* الأمر ظاهرا (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) لمن يلى أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث (سُلْطاناً) * تسلطا واستيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايته أو حجة غالبة (فَلا يُسْرِفْ) وقرىء لا نسرف (فِي الْقَتْلِ) أى لا يسرف الولى فى أمر القتل بأن يتجاوز الحد المشروع بأن يزيد عليه المثلة أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد كما يفعله أهل الجاهلية أو بأن* يقتل القاتل فى مادة الدية وقرىء بصيغة النفى مبالغة فى إفادة معنى النهى (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) تعليل للنهى والضمير للولى على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته فى استيفاء حقه فلا يبغ ماوراء حقه ولا يستزد عليه ولا يخرج من دائرة أمر الناصر أو للمقتول ظلما على معنى أنه تعالى نصره بما ذكر فلا يسرف وليه فى شأنه أو للذى يقتله الولى ظلما وإسرافا ووجه التعليل ظاهر وعن مجاهد أن الضمير فى لا يسرف للقاتل الأول ويعضده قراءة فلا تسرفوا والضميران فى التعليل عائدان إلى الولى أو المقتول فالمراد بالإسراف حينئذ إسراف القاتل على نفسه بتعريضه لها للهلاك العاجل والآجل لا الإسراف وتجاوز الحد فى القتل أى لا يسرف على نفسه فى شأن القتل كما فى قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) نهى عن قربانه لما ذكر من المبالغة فى النهى

١٧٠

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

____________________________________

عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أى إلا* بالخصلة والطريقة التى هى أحسن الخصال والطرائق وهى حفظه واستثماره (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) غاية لجواز* التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) سواء* جرى بينكم وبين ربكم أو بينكم وبين غيركم من الناس والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسى كإيفاء الكيل والوزن (إِنَّ الْعَهْدَ) أظهر* فى مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه أو لأن المراد مطلق العهد المنتظم للعهد المعهود (كانَ مَسْؤُلاً) * أى مسئولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا فى اسم المفعول كقوله تعالى (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أى مشهود فيه ونظيره ما فى قوله تعالى (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) على أن أصله الحكيم قائله فحذف المضاف وجعل الضمير مستكنا فى الحكيم بعد انقلابه مرفوعا ويجوز أن يكون تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة بأى ذنب قتلت (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أى أتموه ولا تخسروه (إِذا كِلْتُمْ) أى وقت كيلكم للمشترين وتقييد الأمر بذلك لما أن التطفيف* هناك يكون وأما وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعذيل قال تعالى (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) الآية (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ) وهو القرسطون وقيل كل ميزان صغيرا كان أو كبيرا رومى معرب* ولا يقدح ذلك فى عربية القرآن لانتظام المعربات فى سلك الكلم العربية وقرىء بضم القاف (الْمُسْتَقِيمِ) * أى العدل السوى ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا فى قوله تعالى (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ (ذلِكَ) أى إيفاء الكيل والوزن بالميزان السوى (خَيْرٌ) فى الدنيا إذ هو أمانة توجب* الرغبة فى معاملته والذكر الجميل بين الناس (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) عاقبة تفعيل من آل إذا رجع والمراد ما يئول* إليه (وَلا تَقْفُ) ولا تتبع من قفا أثره إذا تبعه وقرىء ولا تقف من قاف أثره أى قفاه ومنه القافة فى جمع القائف (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى لا تكن فى اتباع مالا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا* لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند قطعيا كان أو ظنيا واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه وقيل إنه مخصوص بالعقائد وقيل بالرمى وشهادة الزور ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى فى ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج ومنه قول الكميت[ولا أرمى البرىء بغير ذنب * ولا أقفوا الحواصن إن رمينا] (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) وقرىء بفتح الفاء والواو المقلوبة من الهمزة عند ضم الفاء (كُلُّ أُولئِكَ) *

١٧١

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣٨)

____________________________________

أى كل واحد من تلك الأعضاء فأجريت مجرى العقلاء لما كان مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها هذا وإن أولاء وإن غلب فى العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا الذى يعم القبيلين جاء لغيرهم أيضا قال*[ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام] (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أى كان كل من تلك الأعضاء مسئولا عن نفسه على أن اسم كان ضمير يرجع إلى كل وكذا الضمير المجرور وقد جوز أن يكون الاسم ضمير القافى بطريق الالتفات إذ الظاهر أن يقال كنت عنه مسئولا وقيل الجار والمجرور فى محل الرفع قد أسند إليه مسئولا معللا بأن الجار والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السبب فى منع تقديم الفاعل وما يقوم مقامه ولكن النحاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا ويجوز أن يكون من باب الحذف على شريطة التفسير ويحذف الجار من المفسر ويعود الضمير مستكنا كما ذكرنا فى قوله تعالى (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) وجوز أن يكون مسئولا مسندا إلى المصدر المدلول عليه بالفعل وأن يكون فاعله المصدر وهو السؤال وعنه فى محل النصب وسأل ابن جنى أبا على عن قولهم فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع فقال المصدر أى فيك يرغب الرغبة بمعنى تفعل الرغبة كما فى قولهم يعطى ويمنع أى يفعل الإعطاء والمنع وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كل بحذف المضاف أى كان صاحبه عنه مسئولا أو مسئولا صاحبه (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) التقييد لزيادة التقرير والإشعار* بأن المشى عليها مما لا يليق بالمرح (مَرَحاً) تكبرا وبطرا واختيالا وهو مصدر وقع موقع الحال أى ذا* مرح أو تمرح مرحا أو لأجل المرح وقرىء بالكسر (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) تعليل للنهى وفيه تهكم بالمختال وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وتكبر عليها أى لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك وقرىء* بضم الراء (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ) التى هى بعض أجزاء الأرض (طُولاً) حتى يمكن لك أن تنكير عليها إذ التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود وفيه تعريض بما عليه المختال من رفع رأسه ومشيه على صدور قدميه (كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى ما علم فى تضاعيف ذكر الأوامر والنواهى من الخصال* الخمس والعشرين (كانَ سَيِّئُهُ) الذى نهى عنه وهى اثنتا عشرة خصلة (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) مبغضا غير مرضى أو غير مراد بالإرادة الأولية لا غير مراد مطلقا لقيام الأدلة القاطعة على أن جميع الأشياء واقعة بإرادته سبحانه وهو تتمة لتعليل الأمور المنهى عنها جميعا ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعض من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية فى وجوب الانتهاء عن ذلك وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه وقيل الإضافة بيانية كما فى آية الليل وآية النهار وقرىء سيئة على أنه خبر كان وذلك إشارة إلى ما نهى عنه من الأمور المذكورة

١٧٢

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠)

____________________________________

ومكروها بدل من سيئة أو صفة لها محمولة على المعنى فإنه بمعنى سيئا وقد قرىء به أو مجرى على موصوف مذكر أى أمرا مكروها أو مجرى مجرى الأسماء زال عنه معنى الوصفية ويجوز كونه حالا من المستكن فى كان أو فى الظرف على أنه صفة سيئة وقرىء سيئاته وقرىء شأنه (ذلِكَ) أى الذى تقدم من التكاليف المفصلة (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) أى بعض منه أو من جنسه (مِنَ الْحِكْمَةِ) التى هى علم الشرائع أو معرفة* الحق لذاته والعمل به أو من الأحكام المحكمة التى لا يتطرق إليها النسخ والفساد وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن هذه الآيات الثمانى عشرة كانت فى ألواح موسى عليه‌السلام أولها لا تجعل مع الله إلها آخر قال تعالى وكتبنا له فى الألواح من كل شىء موعظة وهى عشر آيات فى التوراة ومن إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره المحذوف فى الصلة أى كائنا من الحكمة وإما بدل من الموصول بإعادة الجار (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد* غيره ممن يتصور منه صدور المنهى عنه وقد كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه وإن بذفيها أساطين الحكماء وحك بيافوخه عنان السماء وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أو لا حيث قيل فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ههنا نتيجته فى العقبى فقيل (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) من جهة نفسك ومن جهة غيرك (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله تعالى* وفى إيراد الإلقاء مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه فيطرحها فى التنور (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه والإصفاء بالشىء جعله خالصا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يفسره المذكور أى أفضلكم على جنابه فحصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها كما فى قوله سبحانه (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) وقوله تعالى (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) وقد قصد ههنا بالتعرض لعنوان الربوبية تشديد النكير وتأكيده وأشير بذكر الملائكة عليهم‌السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهى وصفهم لهم عليهم‌السلام بالأنوثة التى هى أخس صفات الحيوان كقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ) بمقتضى مذهبكم الباطل الذى* هو إضافة الولد إليه سبحانه (قَوْلاً عَظِيماً) لا يقادر قدره فى استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث* لا يجترىء عليه أحد حيث يجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال وليس كمثله شىء وهو الواحد القهار الباقى بذاته ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق بالأنوثة التى هى أخس أوصاف الحيوان فيا لها

١٧٣

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣)

____________________________________

من ضلة ما أقبحها وكفرة ما أشنعها وأفظعها (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) هذا المعنى وكررناه (فِي هذَا الْقُرْآنِ) على* وجوه من التصريف فى مواضع منه وإنما ترك الضمير تعويلا على الظهور وقرىء بالتخفيف (لِيَذَّكَّرُوا) ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكى للسامعين هناتهم وقرىء بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر ويجوز أن يراد بهذا القرآن ما نطق ببطلان مقالتهم المذكورة من الآيات الكريمة الواردة على أسالب مختلفة ومعنى التصريف فيه جعله مكانا له أى أوقعنا فيه التصريف كقوله يجرح فى عراقيها نصلى وقد جوز أن يراد به إبطال إضافتهم إليه تعالى* البنات وأنت تعلم أن إبطالها من آثار القرآن ونتائجها (وَما يَزِيدُهُمْ) أى والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريف* البالغ (إِلَّا نُفُوراً) عن الحق وإعراضا عنه فضلا عن التذكر المؤدى إلى معرفة بطلان ما هم عليه من القبائح (قُلْ) فى إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى (لَوْ كانَ مَعَهُ) تعالى (آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) أى المشركون قاطبة وقرىء بالتاء خطابا لهم من قبل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكاف فى محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أى* كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة (إِذاً لَابْتَغَوْا) جواب عن مقالتهم الشنعاء* وجزاء للو أى لطلبوا (إِلى ذِي الْعَرْشِ) أى إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق (سَبِيلاً) بالمغالبة والممانعة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض على طريقة قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وقيل بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) والأول هو الأظهر الأنسب (سُبْحانَهُ) فإنه صريح فى أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون* بل هو أمر يعتقدونه رأسا أى تنزه بذاته تنزها حقيقا به (وَتَعالى) متباعدا (عَمَّا يَقُولُونَ) من العظيمة* التى هى أن يكون معه آلهة وأن يكون له بنات (عُلُوًّا) تعاليا كقوله تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (كَبِيراً) لا غاية وراءه كيف لا وإنه سبحانه فى أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتى وما يقولونه من أن له تعالى شركاء وأولادا فى أبعد مراتب العدم أعنى الامتناع لا لأنه تعالى فى أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه كما قيل فإن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل اتخاذه تعالى له وأن يكون معه آلهة ولا ريب فى أن ذلك ليس بداخل فى حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك.

١٧٤

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦)

____________________________________

(تُسَبِّحُ) بالفوقانية وقرىء بالتحتانية وقرىء سبحت (لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) من الملائكة والثقلين على أن المراد بالتسبيح معنى منتظم لما ينطق به لسان المقال ولسان الحال بطريق عموم المجاز (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا (إِلَّا يُسَبِّحُ) ملتبسا (بِحَمْدِهِ) أى ينزهه* تعالى بلسان الحال عما لا يليق بذاته الأقدس من لوازم الإمكان ولواحق الحدوث إذ ما من موجود إلا وهو بإمكانه وحدوثه يدل دلالة واضحة على أن له صانعا عليما قادرا حكيما واجبا لذاته قطعا للسلسلة (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذى به يفهم ذلك وقرىء* لا يفقهون على صيغة المبنى للمفعول من باب التفعيل (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع* ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر فى الدلائل الواضحة الدالة على التوحيد والانهماك فى الكفر والإشراك (غَفُوراً) لمن تاب منكم (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفض الشرك وغير ذلك من الشرائع (جَعَلْنا) بقدرتنا ومشيئتنا المبنية* على دواعى الحكم الخفية (بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما* فى حيز الصلة وإنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به فى القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك (حِجاباً) يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرك الجليل ولذلك اجترءوا على* تفوه العظيمة التى هى قولهم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وحمل الحجاب على ما روى عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه من أنه لما نزلت سورة تبت أقبلت العوراء أم جميل امرأة أبى لهب وفى يدها فهر والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد فى المسجد ومعه أبو بكر رضى الله عنه فلما رآها قال يا رسول الله لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها لن ترانى وقرأ قرآنا فوقفت على أبى بكر رضى الله عنه ولم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم (مَسْتُوراً) ذاستر كما فى قولهم سيل مفعم أو مستورا عن* الحس بمعنى غير حسى أو مستورا فى نفسه بحجاب آخر أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية كثيرة جمع كنان (أَنْ يَفْقَهُوهُ) مفعول لأجله أى كراهة أن يفقهوه أو مفعول لما دل عليه الكلام أى منعناهم أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى (وَفِي *

١٧٥

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٤٨)

____________________________________

آذانِهِمْ وَقْراً) صمما وثقلا مانعا من سماعه اللائق به وهذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جىء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوى يعترى المشاعر فيبطلها وتنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق لا حكاية لما قالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب كيف لا وقصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه فى حق القرآن والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهلا وكفرا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا الإخبار بأن هناك أمرا وراء* ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم ولا ريب فى أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) واحدا غير مشفوع به آلهتهم وهو مصدر وقع موقع الحال أصله يحدو حده (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ) أى هربوا ونفروا (نُفُوراً) أو ولوا نافرين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن يروى أنه كان يقوم عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان من بنى عبد الدار* وعن يساره رجلان فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ظرف لأعلم وفائدته تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم يستفاد هناك من أحد* وكذا قوله تعالى (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) لكن لا من حيث تعلقه بما به الاستماع بل بما به التناجى المدلول عليه بسياق النظم والمعنى نحن أعلم بالذى يستمعون ملتبسين به مما لا خير فيه من الأمور المذكورة وبالذى يتناجون به فيما بينهم أو الأول ظرف ليستمعون والثانى ليتناجون والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجى وقت تناجيهم ونجوى مرفوع على الخبرية بتقدير المضاف أى ذو ونجوى أو هو* جمع نجى كقتلى جمع قتيل أى متناجون (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) بدل من (إِذْ هُمْ) وفيه دليل على أن ما يتناجون به غير ما يستمعون به وإنما وضع الظالمون موضع المضمر إشعارا بأنهم فى ذلك ظالمون مجاوزون للحد* أى يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ) ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضا أو ما تتبعون ٤٨ باللغو والهزء (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أى سحر فجن أو رجلا ذا سحر أى رئة يتنفس أى بشرا مثلكم (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أى مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون (فَضَلُّوا) فى جميع ذلك عن منهاج* المحاجة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يزتاب فى بطلانه احد أو إلى سبيل الحق والرشاد وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى.

١٧٦

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١)

____________________________________

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) استفهام إنكارى مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل لما بين غضاضة الحى ويبوسة الرميم من التنافى كأن استحالة الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطب على التكلم به والرفات ما بولغ فى دقه وتفتيته وقال الفراء هو التراب وهو قول مجاهد وقيل هو الحطام وإذا متمحضة للظرفية وهو الأظهر والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لا نفسه* لأن ما بعد إن والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه فى حالة منافية له وتكرير الهمزة فى قولهم أئنا لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما فى مثل قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ونظائره على رأى الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين فى المبعوثية بالفعل فى حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم فى الكفر وتماديهم فى الضلال ما لا مزيد عليه (خَلْقاً جَدِيداً) نصب* على المصدر من غير لفظه أو الحالية على أن الخلق بمعنى المخلوق (قُلْ) جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه ٥٠ (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (أَوْ خَلْقاً) آخر (مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أى يعظم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينة والمنافاة بينها وبينه فإنكم مبعوثون ومعادون لا محالة (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) مع ما بيننا وبين* الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة (قُلِ) لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادا لهم إلى* طريقة الاستدلال (الَّذِي) أى يعيدكم القادر العظيم الذى (فَطَرَكُمْ) اخترعكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) من غير* مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذى يقدر على ذلك بقادر على أن يعيد العظام البالية إلى حالتها المعهودة بلى إنه على كل شىء قدير (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أى* سيحركونها نحوك تعجبا وإنكارا (وَيَقُولُونَ) استهزاء (مَتى هُوَ) أى ما ذكرته من الإعادة (قُلِ) * لهم (عَسى أَنْ يَكُونَ) ذلك (قَرِيباً) نصب على أنه خبر ليكون أو ظرف على أن كان تامة أى أن* يقع فى زمان قريب ومحل أن مع ما فى حين ها إما نصب على أنه خبر لعسى وهى ناقصة واسمها ضمير عائد إلى ما عاد إليه هو أى عسى البعث أن يكون قريبا أو عسى البعث يقع فى زمان قريب أو رفع على أنه فاعل

١٧٧

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥)

____________________________________

لعسى وهى تامة أى عسى كونه قريبا أو وقوعه فى زمان قريب (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) منصوب بفعل مضمر أى اذكروا أو على أنه بدل من (قَرِيباً) على أنه ظرف أو بيكون تامة بالاتفاق أو ناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة فى الظروف أو بضمير المصدر المستكن فى عسى أو يكون أعنى البعث عند من يجوز إعمال ضمير المصدر كما فى قول زهير[وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم] فهو ضمير* المصدر وقد تعلق به ما بعده من الجار (فَتَسْتَجِيبُونَ) أى يوم يبعثكم فتبعثون وقد استعير لهما الدعاء* والإجابة إيذانا بكمال سهولة التأتى وبأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجواب (بِحَمْدِهِ) حال من ضمير تستجيبون أى منقادين له حامدين لما فعل بكم غير مستعصين أو حامدين له تعالى على كمال قدرته* عند مشاهدة آثارها ومعاينة أحكامها (وَتَظُنُّونَ) عطف على تستجيبون أى تظنون عند ما ترون ما ترون* من الأمور الهائلة (إِنْ لَبِثْتُمْ) أى ما لبثتم فى القبور (إِلَّا قَلِيلاً) كالذى مر على قرية أو ما لبثتم فى الدنيا (وَقُلْ لِعِبادِي) أى المؤمنين (يَقُولُوا) عند محاورتهم مع المشركين (الَّتِي) أى الكلمة التى (هِيَ أَحْسَنُ) * ولا يخاشنوهم كقوله تعالى (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أى يفسد ويهيج الشر والمراء ويغرى بعضهم على بعض لتقع بينهم المشاقة والمشارة والمعارة والمضارة فلعل* ذلك يؤدى إلى تأكد العناد وتمادى الفساد فهو تعليل للأمر السابق وقرىء بكسر الزاء (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) قدما (لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة وهو تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بالتوفيق للإيمان (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بالإمانة على الكفر وهذا تفسير التى هى أحسن وما بينهما اعتراض أى قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه* مما يهيجهم على الشر مع أن العاقبة مما لا يعلمه إلا الله سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا إليك أمورهم تقسرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمشاقة وذلك قبل نزول آية السيف وقيل نزلت فى عمر رضى الله عنه شتمه رجل فأمر بالعفو وقيل أفرط أذية المشركين بالمؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وقيل الكلمة التى هى أحسن أن يقولوا يهديكم الله ويرحمكم الله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

١٧٨

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٥٨)

____________________________________

وتفاصيل أحوالهم الظاهرة والكامنة التى بها يستأهلون الاصطفاء والاجتباء فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحقه وهو رد عليهم إذ قالوا بعيد أن يكون يتيم أبى طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد وذكر من فى السموات لإبطال قولهم لو لا أنزل علينا الملائكة وذكر من فى الأرض لرد قولهم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بالفضائل النفسانية والتنزه عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والأتباع (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام فإن ذلك إيتاء الزبور لا إيتاء الملك* والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن نعوته الجليلة وكونه خاتم النبيين مسطورة فى الزبور وأن المراد بعباد الله الصالحين فى قوله تعالى (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وتعريف الزبور تارة وتنكيره أخرى إما لأنه فى الأصل فعول بمعنى المفعول كالحلوب أو مصدر بمعناه كالقول وإما لأن المراد آتينا داود زبورا من الزبر أو بعضا من الزبور فيه ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء بضم الزاى على أنه جمع زبر بمعنى مزبور (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنها آلهة (مِنْ دُونِهِ) تعالى من الملائكة والمسيح وعزير (فَلا يَمْلِكُونَ) فلا يستطيعون (كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) بالمرة كالمرض والفقر والقحط ونحو ذلك* (وَلا تَحْوِيلاً) أى ولا تحويله إلى غيركم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أى أولئك الآلهة الذين يدعوهم المشركون من المذكورين (يَبْتَغُونَ) يطلبون لأنفسهم (إِلى رَبِّهِمُ) ومالك أمورهم (الْوَسِيلَةَ) القربة بالطاعة* والعبادة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدل من فاعل يبتغون وأى موصولة أى يبتغى من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة* فكيف بمن دونه أو ضمن الابتغاء معنى الحرص فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إليه تعالى بالطاعة والعبادة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) بها (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر* فضلا عن الإلهية (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الملائكة والرسل عليهم* الصلاة والسلام وهو تعليل لقوله تعالى (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) وتخصيصه بالتعليل لما أن المقام مقام التحذير من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بونا بعيدا (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) بيان لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك وكلمة إن نافية ومن استغراقية والمراد بالقرية القرية الكافرة أى ما من قرية من قرى الكفار (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) *

١٧٩

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (٥٩)

____________________________________

أى مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجب لذلك* وفى صيغة الفاعل وإن كانت بمعنى المستقبل ما ليس فيه من الدلالة على التحقق والتقرر وإنما قيل (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا* (أَوْ مُعَذِّبُوها) أى معذبوا أهلها على الإسناد المجازى (عَذاباً شَدِيداً) لا بالقتل والسبى ونحوهما من البلايا الدنيوية فقط بل بما لا يكتنه كنهه من فنون العقوبات الأخروية أيضا حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة كيف لا وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوباتها إلى يوم* القيامة (كانَ ذلِكَ) الذى ذكر من الإهلاك والتعذيب (فِي الْكِتابِ) أى اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) مكتوبا لم يغادر منه شىء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له هذا وقد قيل الهلاك للقرى الصالحة والعذاب للطالحة وعن مقاتل وجدت فى كتاب الضحاك بن مزاحم فى تفسيرها أما مكة فيخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكرها بلدا بلدا وقال الحافظ أبو عمرو الدوانى فى كتاب الفتن أنه روى عن وهب ابن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يدى رجل من بنى هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب أفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحصرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرة وخراب البصرة من قبل الغرق وخراب الأيلة من قبل عدو يحصرهم برا وبحرا وخراب الرى من الديلم وخراب خراسان من قبل التبت وخراب التبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة وقد أخرجه العمرى من هذا الوجه وأنت خبير بأن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السياق (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) أى الآيات التى اقترحتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا* ونحو ذلك (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أى وما منعنا إرسالها شىء من الأشياء إلا تكذيب الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم وعدم إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنية على الحكم البالغة لا لمنع مانع عن ذلك من التكذيب أو غيره لاستحالة العجز عليه تعالى لكن تكذيبهم المذكور بواسطة استتباعه لاستئصالهم بحكم السنة الإلهية واستلزامه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراك فى العتو والعناد وإفضائه إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة فى الجريرة لما كان منافيا لإرسال ما اقترحوه

١٨٠