تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)

____________________________________

الملك تقريرا لمقالته وتحقيقا لها (كَذلِكِ) أى الأمر كما قلت لك وقوله تعالى (قالَ رَبُّكِ) الخ استئناف مقرر* له أى قال ربك الذى أرسلنى إليك (هُوَ) أى ما ذكرت لك من هبة الغلام من غير أن يمسك بشر أصلا (عَلَيَّ) * خاصة (هَيِّنٌ) وإن كان مستحيلا عادة لما أنى لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط وقوله تعالى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) إما علة لمعلل محذوف أى ولنجعل وهب الغلام آية لهم وبرهانا يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك أو معطوف على علة أخرى مضمرة أى لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية الخ والواو على الأول اعتراضية والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة (وَرَحْمَةً) عظيمة كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون* بهدايته ويسترشدون بإرشاده (وَكانَ) ذلك (أَمْراً مَقْضِيًّا) محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلى أو قدر* وسطر فى اللوح لا بد من جريانه عليك البتة أو كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل لتضمنه حكما بالغة* (فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ جبريل عليه الصلاة والسلام فى درعها فدخلت النفخة فى جوفها قيل إنه عليه الصلاة والسلام رفع درعها فنفخ فى جيبه فحملت وقيل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت فى الحال وقيل إن النفخة كانت فى فيها وكانت مدة حملها سبعة أشهر وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره وقيل تسعة أشهر وقيل ثلاث ساعات وقيل ساعة كما حملت وضعته وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أى فاعتزلت وهو فى بطنها كما فى قوله [تدوس بنا الجماجم والتريبا] فالجار والمجرور فى حين النصب على الحالية أى فانتبذت ملتبسة به (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) ٢٣ أى فألجأها وهو فى الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل فى غيره كآتى فى أعطى وقرىء المخاض بكسر الميم وكلاهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد فى بطنها للخروج (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستتر به وتعتمد* عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثمة غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذى هو خرسة النفساء الموافقة لها (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ) بكسر* الميم من مات يمات كخفت وقرىء بضمها من مات يموت (قَبْلَ هذا) أى هذا الوقت الذى لقيت فيه ما لقيت* وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه‌السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذارا من وقوع الناس فى المعصية بما تكلموا فيها أو جريا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم كما روى عن عمر رضى الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال يا ليتنى هذه التبنة ولم أكن شيئا وعن بلال أنه قال ليت بلال لم تلده أمه (وَكُنْتُ نَسْياً) أى شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد* به أصلا وقرىء بالكسر قيل هما لغتان فى ذلك كالوتر والوتر وقيل هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم

٢٦١

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

____________________________________

لما ينقض وبالفتح مصدر سمى به المفعول مبالغة وقرىء بهما مهموزا من نسأت اللبن إذا صببت عليه الماء* فصار مستهلكا فيه وقرىء نساكعصا (مَنْسِيًّا) لا يخطر ببال أحد من الناس وهو نعت للمبالغة وقرىء بكسر الميم اتباعا له بالسين (فَناداها) أى جبريل عليه‌السلام (مِنْ تَحْتِها) قيل أنه كان يقبل الولد وقيل من تحتها أى من مكان أسفل منها تحت الأكمة وقيل من تحت النخلة وقيل ناداها عيسى عليه‌السلام وقرىء* فخاطبها من تحتها بفتح الميم (أَلَّا تَحْزَنِي) أى لا تحزنى على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزنى على أنها مصدرية* قد حذف عنها الجار (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) أى بمكان أسفل منك وقيل تحت أمرك إن أمرت بالجرى* جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك (سَرِيًّا) أى نهرا صغيرا حسبما روى مرفوعا قال ابن عباس رضى الله عنه إن جبريل عليه‌السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا وقيل فعله عيسى عليه‌السلام وقيل كان هناك نهر يابس أجرى الله عزوجل فيه الماء حينئذ كما فعل مثله بالنخلة فإنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ورق فضلا عن الثمر وكان الوقت شتاء فجعل الله لها إذ ذاك رأسا وخوصا وثمرا وقيل كان هناك ماء جار والأول هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم وقيل سريا أى سيدا نبيلا رفيع الشأن جليلا وهو عيسى عليه‌السلام فالتنوين للتفخيم والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى عنه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية (وَهُزِّي) هز الشىء تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكا عنيفا متداركا والمراد ههنا ما كان* منه بطريق الجذب والدفع لقوله تعالى (إِلَيْكِ) أى إلى جهتك والباء فى قوله عز وعلا (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) صلة للتأكيد كما فى قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) الخ قال الفراء تقول العرب هزه وهز به وأخذ الخطام وأخذ بالخطام أو لألصاق الفعل بمدخولها أى افعلى الهز بجذعها أو هزى الثمرة بهزه وقيل هى متعلقة* بمحذوف وقع حالا من مفعول الهز أى هزى إليك الرطب كائنا بجذعها (تُساقِطْ) أى تسقط النخلة* (عَلَيْكِ) إسقاطا متواترا حسب تواتر الهز وقرىء تسقط ويسقط من الإسقاط بالتاء والياء وتتساقط بإظهار التاءين وتساقط بطرح الثانية وتساقط بإدغامها فى السين ويساقط بالياء كذلك وتسقط ويسقط من* السقوط على أن التاء فى الكل للنخلة والياء للجذع وقوله تعالى (رُطَباً) على القراءات الثلاث الأول مفعول* وعلى الست البواقى تمييز وقوله تعالى (جَنِيًّا) صفة له وهو ما قطع قبل يبسه فعيل بمعنى مفعول أى رطبا مجنيا أى صالحا للاجتناء وقيل بمعنى فاعل أى طريا طيبا وقرىء جنيا بكسر الجيم للاتباع (فَكُلِي وَاشْرَبِي)

٢٦٢

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)

____________________________________

أى ذلك الرطب وماء السرى أو من الرطب وعصيره (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبى نفسا وارفضى عنها ما أحزنك* وأهمك فإنه تعالى قد نزه ساحتك عما اختلج فى صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك وقرىء وقرى بكسر القاف وهى لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القر فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين وسخنة العين للمحبوب والمكروه (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أى آدميا كائنا من كان وقرىء ترئن على لغة من يقول* لبأت بالحج لما بين الهمزة والياء من التآخى (فَقُولِي) له إن استنطقك (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أى صمتا* وقد قرىء كذلك أو صياما وكان صيامهم بالسكوت (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أى بعد أن أخبرتكم بنذرى* وإنما أكلم الملائكة وأناجى ربى وقيل أمرت بأن تخبر بنذرها بالإشارة وهو الأظهر قال الفراء العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأى طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه‌السلام فإنه نص قاطع فى قطع الطعن (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها) أى جاءتهم مع ولدها راجعة إليهم عند ما طهرت من نفسها (تَحْمِلُهُ) أى حاملة له (قالُوا) مؤنبين لها (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ) أى فعلت (شَيْئاً فَرِيًّا) أى عظيما بديعا منكرا من فرى الجلد أى قطعه أو جئت مجيئا عجيبا عبر عنه بالشىء تحقيقا للاستغراب (يا أُخْتَ هارُونَ) استئناف لتجديد التعبير وتأكيد التوبيخ عنوابه هرون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت من أعقاب من كان معه فى طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجل صالح أو طالح كان فى زمانهم شبهوها به أى كنت عندنا مثله فى الصلاح أو شتموها به (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) تقرير لكون ما جاءت به فريا منكرا وتنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أى إلى عيسى عليه‌السلام أن كلموه والظاهر أنها حينئذ بينت نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به (قالُوا) * منكرين لجوابها (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولم نعهد فيما سلف صبيا يكلمه عاقل وقيل كان لإيقاع* مضمون الجملة فى زمان ماض مبهم صالح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مسوق للتعجب وقيل هى زائدة والظرف صلة من وصبيا حال من المستكن فيه أوهى تامة أو دائمة كما فى قوله تعالى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

٢٦٣

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٣٤)

____________________________________

(قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فما ذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه‌السلام (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أنطقه الله عزوجل بذلك آثر ذى أثير تحقيقا للحق وردا على من يزعم ربوبيته قيل كان المستنطق لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدى رضى الله عنه لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا مما فعلت وروى أنه عليه‌السلام كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان (آتانِيَ الْكِتابَ) أى الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (وَجَعَلَنِي) مع ذلك (مُبارَكاً) نفاعا معلما للخير والتعبير بلفظ الماضى فى الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق فى القضاء المحتوم أو بجعل ما فى شرف الوقوع لا محالة واقعا وقيل أكمله الله عقلا واستنبأه طفلا (أَيْنَ ما كُنْتُ) أى حيثما كنت (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) أى أمرنى بها أمرا مؤكدا (وَالزَّكاةِ) زكاة المال إن ملكته أو بتطهير النفس عن الرذائل (ما دُمْتُ حَيًّا) فى الدنيا (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) عطف على مباركا أى جعلنى بارا بها وقرىء بالكسر على أنه مصدر وصف به مبالغة أو منصوب بمضمر دل عليه أوصانى أى وكلفنى برا ويؤيده القراءة بالكسر والجر عطفا على الصلاة والزكاة والتنكير للتفخيم (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) عنيدا لله تعالى لفرط تكبره (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) كما هو على يحيى على أن التعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده كما فى قوله تعالى (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى (ذلِكَ) إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة وما فيه من معنى البعد للدلالة على علو مرتبته وبعد منزلته* وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المشاهد المحسوس (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم فيما يزعمونه على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانى حيث جعله موصوفا بأضداد* ما يصفونه (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب على أنه مصدر مؤكد لقال إنى عبد الله الخ وقوله تعالى (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو قول الحق الذى لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفة عيسى أو بدله أو خبر ثان

٢٦٤

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨)

____________________________________

ومعناه كلمة الله وقرىء قال الحق وقول الحق فإن القول والقال فى معنى واحد (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى* يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود ساحر والنصارى ابن الله وقرىء بتاء الخطاب (ما كانَ لِلَّهِ) أى ما صح وما استقام له تعالى (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) تكذيب للنصارى وتنزيه له تعالى عما بهتوه وقوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تبكيت لهم ببيان أن شأنه تعالى إذا قضى أمرا من الأمور أن يعلق به إرادته فيكون حينئذ بلا تأخير فمن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وقرىء فيكون بالنصب على الجواب وقوله تعالى (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) من تمام كلام عيسى عليه‌السلام قيل هو عطف على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) داخل تحت القول وقد قرىء بغير واو وقرىء بفتح الهمزة على حذف اللام أى ولأنه تعالى ربى وربكم فاعبدوه كقوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وقيل معطوف على الصلاة (هذا) أى الذى ذكرته من التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يضل سالكه والفاء فى قوله تعالى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه‌السلام مع كونها نصوصا قاطعة فى كونه عبده تعالى ورسوله قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط أو فرق النصارى فقالت النسطورية هو ابن الله وقالت اليعقوبية هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقالت الملكانية هو عبد الله ونبيه (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المختلفون عبر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام وألسنتهم وآذانهم وأيديهم وأرجلهم وسائر آرايهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شهدوا به فى حق عيسى وأمه عليهما‌السلام(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) للحساب والجزاء أى يوم القيامة جدير بأن يتعجب منها بعد أن كانوا فى الدنيا صما عميا أو تهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول فى موقع الرفع وعلى الثانى فى حين النصب (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أى فى الدنيا*

٢٦٥

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢)

____________________________________

* (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا تدرك غايته حيث أغفلوا الاستماع والنظر بالكلية ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أى يوم يتحسر الناس قاطبة أما المسىء فعلى إساءته وأما المحسن فعلى قلة إحسانه (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أى فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظرون فينادى المنادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح وأهل النار غما إلى غم وإذ بدل من يوم الحسرة أو ظرف للحسرة فإن المصدر المعرف باللام يعمل فى المفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أى عما يفعل بهم فى الآخرة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر فى قوله تعالى (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى مستقرون فى ذلك وهم فى تينك الحالتين وما بينهما اعتراض أو من مفعول أنذرهم أى أنذرهم غافلين غير مؤمنين فيكون حال متضمنة لمعنى التعليل (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) لا يبقى لأحد غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفى الوارث لإرثه (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أى يردون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا (وَاذْكُرْ) عطف على أنذرهم (فِي الْكِتابِ) أى فى السورة أو فى القرآن (إِبْراهِيمَ) أى اتل على الناس قصته وبلغها إياهم كقوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) فإنهم ينتمون إليه عليه‌السلام فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ملازما للصدق فى كل ما يأتى ويذرأو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه‌السلام بذلك من دواعى ذكره (نَبِيًّا) خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له كما ينبىء عنه قوله تعالى (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) الآية أى كان جامعا بين الصديقية والنبوة ولعل هذا الترتيب للمبالغة فى الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبى صديق (إِذْ قالَ) بدل اشتمال من إبراهيم وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله أو متعلق بكان أو بنبيا وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير* ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا أى كان جامعا بين الأثرتين حين قال (لِأَبِيهِ) آزر متلطفا فى* الدعوة مستميلا له (يا أَبَتِ) أى يا أبى فإن التاء عوض عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان وقد قيل يا أبتا* لكون الألف بدلا من الياء (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه (وَلا يُبْصِرُ) خضوعك وخشوعك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل فى ذلك

٢٦٦

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)

____________________________________

ما ذكر دخولا أوليا (وَلا يُغْنِي) أى لا يقدر على أن يغنى (عَنْكَ شَيْئاً) فى جلب نفع أو دفع ضر ولقد* سلك عليه‌السلام فى دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن محجة الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التى هى الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيى المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشىء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر مطيقا بإيصال الخير والشر لكن كان ممكنا لاستنكف العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله فى الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهى مستقلا بالنظر السوى مصدرا لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان فى أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه فى صورة رفيق له أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أى مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منجيا عن الضلال المؤدى إلى مهاوى الردى والمعاطب ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه فى الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) فإن عبادتك للأصنام عبادة له إذ هو الذى يسولها لك ويغريك عليها وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) تعليل لموجب النهى وتأكيد له ببيان أنه مستعص على ربك الذى أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب فى أن المطيع للعاصى عاص وكل من هو عاص حقيق بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التقرير والاقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه‌السلام وذريته فتذكيره داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه وقوله (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤه بما ابتلى به معبوده من العذاب الفظيع وكلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما فى قوله عزوجل (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أى قرينا له فى اللعن المخلد وذكر الخوف للمجاملة*

٢٦٧

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧)

____________________________________

وإبراز الاعتناء بأمره (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فما ذا قال أبوه عند ما سمع منه عليه‌السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل قال مصرا على عناده (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أى أمعرض ومنصرف أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل فضلا عن ترغيب الغير عنها وقوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أى والله لئن لم تنته عما كنت عليه من النهى عن عبادتها لأرجمنك بالحجارة وقيل باللسان (وَاهْجُرْنِي) أى فاحذرنى واتركنى (مَلِيًّا) أى زمانا طويلا أو مليا بالذهاب مطيقا به (قالَ) استئناف* كما سلف (سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة أى لا أصيك بمكروه بعد* ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أى أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله تعالى (وَاغْفِرْ لِأَبِي) بقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب فى جوازه وإنما المحظور استدعاء المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغ له عقلا ولا نقلا وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما الذى يمنعه السمع ألا يرى إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمه أبى طالب لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه فنزل قوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية والاشتباه فى أن هذا الوعد من إبراهيم عليه‌السلام وكذا قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) وما ترتب عليهما من قوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) الآية إنما كان قبل انقطاع رجائه عن إيمانه لعدم تبين أمره لقوله تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) كما مر فى تفسير سورة التوبة واستثناؤه عما يؤتى به فى قوله تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) لا يقدح فى جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورود النهى أو لموعدة وعدها إياه كما قيل لما أن النهى إنما ورد فى شأن الاستغفار بعد تبين الأمر وقد كان استغفاره عليه‌السلام قبل التبين فلم يتناوله النهى أصلا وأن الوعد بالمحظور لا يرفع خطره بل لأن المراد بما يؤتى به ما يجب الائتاء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاستثناؤه عن ذلك إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان للكافر المرجو إيمانه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورود الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحد من العقلاء وأما عدم جوازه قبل تبين الأمر فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) الآية لأنها كانت هى الحاملة له عليه‌السلام عليه وتخصيص تلك العدة بالذكر دون ما وقع ههنا لورودها على نهج التأكيد القسمى وأما جعل الاستغفار دائرا عليها وترتيب التبرؤ على تبين الأمر فقد مر تحقيقه* فى تفسير سورة التوبة وقوله (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أى بليغا فى البر والألطاف تعليل لمضمون ما قبله

٢٦٨

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥١)

____________________________________

(وَأَعْتَزِلُكُمْ) أى أتباعد عنك وعن قومك (وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة بدينى حيث لم تؤثر فيكم نصائحى (وَأَدْعُوا رَبِّي) أعبده وحده وقد جوز أن يراد به دعاؤه المذكور فى تفسير سورة الشعراء ولا يبعد أن يراد به استدعاء الولد أيضا بقوله (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) حسبما يساعده السباق والسياق (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أى خائبا ضائع السعى وفيه تعريض بشقائهم فى عبادة آلهتهم وفى تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه عزوجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير مالا يخفى (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة إلى الشام (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة فإن المشهور أن الموهوب حينئذ إسمعيل عليه‌السلام لقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) إثر دعائه بقوله (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمال عظم النعم التى أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء لهما أولاد وأحفاد أو لو شأن خطير وذو عدد كثير هذا وقد روى أنه عليه‌السلام لما قصد الشأم أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد لإسحق يعقوب والأول هو الأقرب الأظهر (وَكُلًّا) أى كل واحد منهما أو منهم وهو مفعول أول لقوله تعالى (جَعَلْنا نَبِيًّا) قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل النسبة إلى بعضهم أى كل واحد منهم جعلنا نبيا لا بعضهم دون بعض (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) هى النبوة وذكرها بعد ذكر جعلهم نبيا للإيذان بأنها من باب الرحمة وقيل هى المال والأولاد وما بسط لهم من سعة الرزق وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير دينى ودنيوى أوتوه مما لم يؤته أحد من العالمين (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتحول الملل والنحل (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) قدم ذكره على ذكر ٥١ إسمعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليهما‌السلام (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله تعالى وأخلص نفسه عما سواه وقرىء مخلصا على أن الله تعالى أخلصه (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم رسولا مع كونه أخص وأعلى.

٢٦٩

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٥٦)

____________________________________

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة للجانب أى ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين وهى التى تلى يمين موسى عليه‌السلام أو من جانبه الميمون من اليمن ومعنى ندائه منه أنه تمثل له الكلام من تلك الجهة (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) تقريب تشريف مثل حاله عليه‌السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ونجيا أى مناجيا حال من أحد الضميرين فى ناديناه أو قربناه وقيل مرتفعا لما روى أنه عليه‌السلام رفع فوق السموات حتى سمع صريف القلم (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) أى من أجل رحمتنا ورأفتنا له أو بعض رحمتنا (أَخاهُ) أى معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته بقوله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) لا نفسه لأنه كان أكبر منه عليهما‌السلام وهو على الأول مفعول لوهبنا وعلى الثانى بدل وقوله تعالى (هارُونَ) عطف بيان له وقوله تعالى (نَبِيًّا) حال منه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا وقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) تعليل لموجب الأمر وإيراده عليه‌السلام بهذا الوصف لكمال شهرته به وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح بقوله (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فوفى (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم عليه‌السلام كانوا على شريعته (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل بالتكميل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه قال تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم وقيل أهله أمته فإن الأنبياء عليهم‌السلام آباء الأمم (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) لا تصافه بالنعوت الجليلة التى من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) وهو سبط شيث وجد أبى نوح فإنه نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه‌السلام واشتقاقه من الدرس يرده منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون معناه فى تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته روى أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة وأنه أول من خط بالقلم ونظر فى علم النجوم والحساب (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ملازما للصدق فى جميع أحواله (نَبِيًّا) خبر آخر لكان مخصص للأول إذ ليس كل صديق نبيا.

٢٧٠

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨)

____________________________________

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) هو شرف النبوة والزلفى عند الله عزوجل وقيل علو الرتبة بالذكر الجميل فى الدنيا كما فى قوله تعالى (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) وقيل الجنة وقيل السماء السادسة أو الرابعة روى عن كعب وغيره فى سبب رفع إدريس عليه‌السلام أنه سئل ذات يوم فى حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إنى قد مشيت فيها يوما وقد أصابنى منها ما أصابنى فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام فى يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال يا رب ما الذى قضيت فيه قال إن عبدى إدريس سألى أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال يا رب اجعل بينى وبينه خلة فأذن الله تعالى له فرفعه إلى السماء (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين فى السورة الكريمة وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) صفته* أى أنعم عليهم بفنون النعم الدينية والدنيوية حسبما أشير إليه مجملا وقوله تعالى (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للموصول* وقوله تعالى (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) بدل منه بإعادة الجار ويجوز أن تكون كلمة من فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم* أعم من الأنبياء وأخص من الذرية (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أى ومن ذرية من حملنا معه خصوصا وهم من* عدا إدريس عليه‌السلام فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) وهم الباقون* (وَإِسْرائِيلَ) عطف على إبراهيم أى ومن ذرية إسرائيل وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى* عليهم‌السلام وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أى ومن جملة من هديناهم* إلى الحق واجتببناهم للنبوة والكرامة وقوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) خبر* لأولئك ويجوز أن يكون الخبر هو الموصول وهذا استئنافا مسوقا لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له مع مالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة فى شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه وسجدا وبكيا حالان من ضمير خروا أى ساجدين باكين عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا والبكى جمع باك كالسجد جمع ساجد وأصله بكوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء وقرىء يتلى بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقى وقرىء بكيا بكسر الباء للإتباع قالوا ينبغى أن يدعو الساجد فى سجدته بما يليق بآيتها فههنا يقول اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفى آية الإسراء يقول اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك وفى آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذبك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.

٢٧١

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢)

____________________________________

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام ولعقب شر خلف بالسكون أى فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء (أَضاعُوا الصَّلاةَ) وقرىء الصلوات أى تركوها أو أخروها عن وقتها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) من شرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك فى فنون المعاصى وعن على رضى الله عنه هم من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أى شرا فإن كل شر عند العرب غى وكل خير رشاد كقوله[فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغولا يعدم على الغى لائما] وعن الضحاك جزاء غى كقوله تعالى (يَلْقَ أَثاماً) أى جزاء أثام أوغيا عن طريق الجنة وقيل غى واد فى جهنم تستعيذ منه أوديتها وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) يدل على أن الآية فى حق الكفرة (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حين الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا أى فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بموجب الوعد المحتوم وقرىء يدخلون على البناء للمفعول (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أى لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أولا ينقصون شيئا من النقص وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراض أو نصب على المدح وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هى أو تلك جنات الخ أو مبتدأ خبره التى وعد الخ وقرىء جنة عدن نصبا ورفعا وعدن علم لمعنى العدن وهو الإقامة كما أن فينة وسحر وأمس فيمن لم يصرفها أعلام لمعانى الفينة وهى الساعة التى أنت فيها والسحر والأمس فجرى لذلك مجرى العدن أو هو علم لأرض الجنة خاصة ولو لا ذلك لما ساغ إبدال ما أضيف إليه من الجنة بلا وصف عند غير البصريين ولا وصفه بقوله تعالى (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) وجعله بدلا منه خلاف الظاهر فإن الموصول فى حكم المشتق وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ضعيف والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى والباء فى قوله تعالى (بِالْغَيْبِ) متعلقة بمضمر هو حال من المضمر العائد إلى الجنات أو من عباده أى وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أى غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار أو بمضمر هو سبب للوعد أى وعدها إياهم بسبب إيمانهم (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ) أى موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه الجنات الموعودة دخولا أوليا ولما كانت هى مثابة يرجع إليها قيل (مَأْتِيًّا) أى يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف وقيل هو مفعول بمعنى فاعل وقيل مأتيا أى مفعولا منجزا من أتى إليه إحسانا أى فعله (لا يَسْمَعُونَ

٢٧٢

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥)

____________________________________

فِيها لَغْواً) أى فضول كلام لا طائل تحته وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغى أن يجتنب عنه فى هذه الدار ما أمكن (إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع أى لكن يسمعون تسليم* الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو متصل بطريق التعليق بالمحال أى لا يسمعون لغوا ما إلا سلاما فحيث استحال كون السلام لغوا استحال سماعهم له بالكلية كما فى قوله[ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب] أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وهم أغنياء عنه من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام وقوله تعالى (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وارد على عادة المتنعمين فى هذه الدار وقيل* المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس فيها بكرة ولا عشى (تِلْكَ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر جىء به لتعظم شأن الجنة وتعيين أهلها فإن ما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها وعلو رتبتها (الَّتِي نُورِثُ) أى نورثها (مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أى نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقى على الوارث مال مورثه ونمتعه به والوراثة أقوى ما يستعمل فى التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا إبطال وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التى كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادة فى كرامتهم وقرىء نورث بالتشديد (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) حكاية لقول جبريل حين استبطأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن أصحاب الكهف وذى القرنين والروح فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوما أو خمسة عشر فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك وأنزل الله عزوجل هذه الآية وسورة الضحى والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزول كما يطلق التنزيل على الإنزال والمعنى وما نتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته وقرىء وما يتنزل بالياء والضمير للوحى (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو* ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزل فى زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أى تاركا لك يعنى أن عدم النزول لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمه بالغة* فيه ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وفى إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه‌السلام من تشريفه والإشعار بعلة الحكم مالا يخفى وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة مخاطبا بعضهم بعضا بطريق التبجح والابتهاج والمعنى وما نتنزل الجنة إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالك الأمور كلها سالفها ومترقيها وحاضرها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) تقرير لقولهم من جهة الله تعالى أى وما كان ناسيا لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها وقوله تعالى (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى

٢٧٣

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧)

____________________________________

فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة* والنسيان وهو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ربك والفاء فى قوله تعالى (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما وقيل من كونه تعالى غير تارك له عليه‌السلام أو غير ناس لأعمال العاملين والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده الخ فإن إيجاب معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه تعالى لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين كائنا من كان فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحى وهزؤ الكفرة فإنه يراقبك ويراعيك ويلطف بك فى الدنيا والآخرة وتعدية الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما فى قوله تعالى (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) لتضمينه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد* والمشاق كقولك للمبارز اصطبر لقرنك أى أثبت له فيما يورد عليك من شدائده (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) السمى هو الشريك فى الاسم والظاهر أن يراد به ههنا الشريك فى اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السموات والأرض وما بينهما والمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده فالجملة تقرير لما أفاده الفاء من علية ربوبيته العامة لوجوب عبادته بل لوجوب تخصيصها به تعالى ببيان استقلاله عزوجل بذلك الاسم وانتفاء إطلاقه على الغير بالكلية حقا أو باطلا وقيل المراد هو الشريك فى الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم فى المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا وقيل هو الشريك فى اسم الإله والمراد بالتسمية التسمية على الحق فالمعنى هل تعلم شيئا يسمى بالاستحقاق إلها وأما التسمية على الباطل فهى كلا تسمية فتقرير الجملة لوجوب العبادة باعتبار ما فى الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادة فتدبر (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) المراد به إما الجنس بأسره وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم وإن لم يقله الجميع كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم وإما البعض المعهود منهم وهم الكفرة أو أبى بن خلف فإنه أخذ عظاما بالية ففتها وقال يزعم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال أى يقول بطريق الإنكار والاستبعاد (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أى أبعث من الأرض أو من حال الموت وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لما أن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابه بفعل دل عليه أخرج لابه فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهى ههنا مخلصة للتوكيد مجردة عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام للتعويض فى يا ألله فساغ اقترانها بحرف الاستقبال وقرىء إذا مامت بهمزة واحدة مكسورة على الخبر (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) من الذكر الذى يراد به التفكر والإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعى التفكر فيما جرى عليه من شئون التكوين المنحية بالقلع عن القول المذكور وهو السر فى إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان والهمزة للإنكار التوبيخى والواو

٢٧٤

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩)

____________________________________

لعطف الجملة المنفية على مقدر يدل عليه يقول أى أيقول ذلك ولا يذكر (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أى من قبل* الحالة التى هو فيها وهى حالة بقائه (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أى والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا أصلا فحيث خلقناه وهو* فى تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض أولى وأظهر فماله لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير وقرىء يذكر ويتذكر على الأصل (فَوَ رَبِّكَ) إفسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره عليه‌السلام لتحقيق الأمر بالإشعار بعليته وتفخيم شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع منزلته (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) أى لنجمعن القائلين بالسوق إلى المحشر بعد* ما أخرجناهم من الأرض أحياء ففيه إثبات للبعث بالطريق البرهانى على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غنى عن التصريح به وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال (وَالشَّياطِينَ) معطوف على الضمير* المنصوب أو مفعول معه روى أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين التى كانت تغويهم كل منهم مع شيطانه فى سلسلة وهذا وإن كان مختصا بهم لكن ساغ نسبته إلى الجنس باعتبار أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا كما ساغ نسبة القول المحكى إليه مع كون القائل بعض أفراده (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا* وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم والجثى جمع جاث من جثا إذا قعد على ركبتيه وأصله جثو وبواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء الأولى وكسرت الجيم إتباعا لما بعدها وقرىء بضمها ونصبه على الحالية من الضمير البارز أى لنحضرنهم حول جهنم جاثين على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع أو لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب فإن أهل الموقف جاثون كما ينطق به قوله تعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ما هو المعتاد فى مواقف التقاول وإن كان المراد بالإنسان الكفرة فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم جثاة إهانة بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أى من كل أمة شاعت دينا من الأديان (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أى من كان منهم أعصى وأعتى فنطرحهم فيها وفى ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض من أهل العصيان وعلى تقدير تفسير الإنسان بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفة منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم فى النار على الترتيب أو ندخل كلا منهم طبقتها اللائقة به وأيهم مبنى على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على كل وبعض للزوم الإضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه ومنصوب المحل بننزعن ولذلك قرىء منصوبا ومرفوع عند غيره بالابتداء

٢٧٥

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣)

____________________________________

على أنه استفهامى وخبره أشد والجملة محكية والتقدير لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشد أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم أو مستأنفة والفعل واقع على كل شيعة على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة كقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) وعلى للبيان فيتعلق بمحذوف كأن سائلا قال على من عتوا فقيل على الرحمن أو متعلق بأفعل وكذا الباء فى قوله تعالى (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أى هم أولى بصلبها أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيع فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم والصلى كالعتى صيغة وإعلالا وقرىء بضم الصاد (وَإِنْ مِنْكُمْ) التفات لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام وقيل هو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور ويؤيد الأول أنه قرىء وإن منهم أى ما منكم أيها الإنسان (إِلَّا وارِدُها) أى واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهى خامدة وتهار بغيرهم وعن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنه فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهى خامدة وأما قوله تعالى (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فالمراد به الإبعاد عن عذابها وقيل ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها (كانَ) أى ورودهم إياها (عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أى أمرا محتوما أوجبه الله عزوجل على ذاته وقضى أنه لا بد من وقوعه البتة وقيل أقسم عليه (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصى مما كانوا عليه من حال الجثو على الركب على الوجه الذى سلف فيساقون إلى الجنة وقرىء ننجى بالتخفيف وينجى وينجى على البناء للمفعول وقرىء ثمة ننجى بفتح الثاء أى هناك ننجيهم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) بالكفر والمعاصى (فِيها جِثِيًّا) منهارا بهم كما كانوا قيل فيه دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرة بعد تجاثيهم حولها ويلقى الفجرة فيها على هيآتهم وقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية لى آخرها حكاية لما قالوا* عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أى وإذا تتلى على المشركين (آياتُنا) التى من* جملتها هاتيك الآيات الناطقة بحسن حال المؤمنين وسوء حال الكفرة وقوله تعالى (بَيِّناتٍ) أى مرتلات* الألفأظ مبينات المعانى بنفسها أو ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بينات الإعجاز حال مؤكدة من آياتنا (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى قالوا ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر ومرنوا على العتو والعناد وهم النضر بن الحرث وأتباعه

٢٧٦

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥)

____________________________________

الفجرة واللام فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ آمَنُوا) للتبليغ كما فى مثل قوله تعالى (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) وقيل لام الأجل* كما فى قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أى قالوا لأجلهم وفى حقهم والأول هو الأولى لأن قولهم ليس فى حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أى* المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا أينا (خَيْرٌ) نحن أو أنتم (مَقاماً) أى مكانا وقرىء بضم الميم أى موضع* إقامة ومنزل (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أى مجلسا ومجتمعا يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون* ويتزينون بالزين الفاخرة ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين يريدون بذلك أن خيريتهم حالا وأحسنيتهم منالا مما لا يقبل الإنكار وأن ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده إذ هو العيار على الفضل والنقصان والرفعة والضعفة وأن من ضرورته هوان المؤمنين عليه تعالى لقصور حظهم العاجل وما هذا القياس العقيم والرأى السقيم إلا لكونهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم فرد عليهم ذلك من جهته تعالى بقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أى كثيرا من القرون التى كانت أفضل منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا وفيه من التهديد والوعيد مالا يخفى كأنه قيل فلينتظر هؤلاء أيضا مثل ذلك فكم مفعول أهلكنا ومن قرن بيان لإبهامها وأهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم مأخوذ من قرن الدابة وهو مقدمها وقوله تعالى (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) فى حين النصب على أنه صفة لكم وأثاثا تمييز النسبة وهو متاع البيت وقيل هو ماجد منه والخرثى ما لبس منه ورث والرئى المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن لما يطحن وقرىء ريا على قلب الهمزة ياء وإدغامها أو على أنه من الرى وهو النعمة والترفه وقرىء ريئا على القلب وريا بحذف الهمزء وزيا بالزاى المعجمة من الزى وهو الجمع فإنه عبارة عن المحاسن المجموعة (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) لما بين عاقبة أمر الأمم المهلكة مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلى متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين فى اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم ووصفهم بالتمكن لذمهم والإشعار بعلة الحكم أى من كان مستقرا فى الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فليمدد له الرحمن أى يمد له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكين من التصرفات وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغى أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله عزوجل (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أو للاستدراج كما ينطق به

٢٧٧

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧)

____________________________________

قوله تعالى (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس وعلتبار الاستقرار فى الضلال لما أن المد لا يكون إلا للمصرين عليها إذ رب ضال يهديه الله عزوجل والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن* المد من أحكام الرحمة الدنيوية وقوله تعالى (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) غاية للمد الممتد لا لقول المفتخرين كما قيل إذ ليس فيه امتداد بحسب الذات وهو ظاهر ولا استمرار بحسب التكرار لوقوعه فى حين جواب إذا وجمع الضمير فى الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد فى الضميرين الأولين باعتبار لفظها* وقوله تعالى (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) تفصيل للموعود بدل منه على سبيل البدل فإنه إما العذاب الدنيوى بغلبة المسلمين واستيلائهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإما يوم القيامة وما نالهم فيه من الخزى والنكال* على طريقة منع الخلو دون منع الجمع فإن العذاب الأخروى لا ينفك عنهم بحال وقوله تعالى (فَسَيَعْلَمُونَ) جواب الشرط والجملة محكية بعد حتى أى حتى إدا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوى أو الأخروى* فقط فسيعلمون حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه* فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما (وَأَضْعَفُ جُنْداً) أى فئة وأنصارا لا أحسن نديا كما كانوا يدعونه وليس المراد أن له ثمة جندا ضعفاء كلا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانا من الأعيان وأنصارا من الأخيار ويفتخرون بذلك فى الأندية والمحافل (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين وقيل عطف على فليمدد لأنه فى معنى الخبر حسبما عرفته كأنه قيل من كان فى الضلالة يمده الله ويزيد المهتدين هداية كقوله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقيل عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة ليس لفضله عقب ذلك ببيان أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأنه تعالى أراد به ما هو خير من ذلك وقوله تعالى (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) على تقديرى الاستئناف والعطف كلام مستأنف وارد من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخل فى حين الكلام الملقن لقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّكَ) أى الطاعات التى تبقى فوائدها وتدوم عوائدها ومن جملتها ما قيل من الصلوات الخمس وما قيل من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خير عند الله تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثَواباً) أى عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التى يفتخرون بها لا سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة السرمدية والعذاب الأليم كما أشير إليه بقوله تعالى (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أى مرجعا وعاقبة وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها وفى التفضيل مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية فى العاقبة تهكم بهم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي

٢٧٨

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٧٩)

____________________________________

كَفَرَ بِآياتِنا) أى بآياتنا التى من جملتها آيات البعث نزلت فى العاص بن وائل كان لخباب بن الأرت عليه مال فاقتضاه فقال لا حتى تكفر بمحمد قال لا والله لا أكفر به حيا ولا ميتا ولا حين بعثت قال فإذا بعثت جئنى فيكون لى ثمة مال وولد فأعطيك وفى رواية قال لا أكفر به حتى بميتك ثم تبعث فقال إنى لميت ثم مبعوث قال نعم قال دعنى حتى أموت وأبعث فسأوتى مالا وولدا فاقضيك فنزلت فالهمزة للتعجيب من حاله والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضى منها العجب ومن فرق بين ألم ترو أرأيت بعد بيان اشتراكهما فى الاستعمال لقصد التعجيب بأن الأول يعلق بنفس المتعجب منه فيقال ألم تر إلى الذى صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله والثانى يعلق بمثل المتعجب منه فيقال أرأيت مثل الذى صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل فقد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء وكأنه ذهب عليه قوله عزوجل (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أنظرت فرأيت الذى كفر بآياتنا الباهرة التى حقها أن يؤمن بها كل من يشاهدها (وَقالَ) مستهزئا بها مصدرا لكلامه باليمين* الفاجرة والله (لَأُوتَيَنَّ) فى الآخرة (مالاً وَوَلَداً) أى انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجراءته* الشنيعة هذا هو الذى يستدعيه جزالة النظم الكريم وقد قيل إن أرأيت بمعنى أخبر والفاء على أصلها والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا أى الفريقين خير مقاما الآية وأنت خبير بأن المشهور استعمال أرأيت فى معنى أخبرنى بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعانى لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وقرىء ولدا على أنه جمع ولد كأسد جمع أسد أو على أنه لغة فيه كالعرب والعرب وقوله تعالى (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها أى أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذى استأثر به العليم الخبير حتى ادعى أن أن يؤتى فى الآخرة مالا وولدا وأقسم عليه (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه وقيل العهد كلمة الشهادة وقيل العمل الصالح فإن وعده تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراة مع اللعين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه مع خباب كان كذلك وقوله تعالى (كَلَّا) ردع له عن التفوه بتلك العظيمة وتنبيه على خطئه (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أى سنظهر أنا كتبنا قوله كقوله [إذا ما نتسبنا لم تلدنى لئيمة] أى يتبين* أنى لم تلدنى لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجانى وحفظها عليه فإن نفس الكتبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله عز وعلا (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فمبنى الأول تنزيل إظهار الشىء الخفى منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رءوس الأشهاد بإحداثها ومدار الثانى تسمية الشىء باسم سببه فإن

٢٧٩

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢)

____________________________________

* كتابة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أى نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام ولذلك أكد بالمصدر دلالة على فرط الغضب (وَنَرِثُهُ) بموته (ما يَقُولُ) أى مسمى ما يقول ومصداقه وهو ما أوتيه فى الدنيا من المال والولد وفيه إيذان بأنه ليس لما يقوله مصداق موجود سوى ما ذكر أى ننزع عنه ما آتيناه (وَيَأْتِينا) يوم القيامة (فَرْداً) لا يصحبه مال ولا ولد كان له فى الدنيا فضلا أن يؤتى ثمة زائدا وقيل نزوى عنه ما زعم أنه يناله فى الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث وقيل المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه والمعنى إنما يقول هذا القول مادام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له منفردا عنه وأنت خبير بأن ذلك مبنى على أن صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب فى أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليق أداء دينه بالمحال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجعون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أى اتخذوا الأصنام آلهة متجاوزين الله تعالى (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أى ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزوجل وشفعاء عنده (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل وإنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أى ستجحد الآلهة بعبادتهم لها بأن ينطقها الله تعالى وتقول ما عبدتمونا أو سينكر الكفرة حين شاهدوا سوء عاقبة كفرهم عبادتهم لها كما فى قوله تعالى (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ومعنى قوله تعالى (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) على الأول تكون الآلهة التى كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أى ذلا وهوانا أو تكون عونا عليهم وآلة لعذابهم حيث تجعل وقود النار وحصب جهنم أو حيث كانت عبادتهم لها سببا لعذابهم وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه وعلى الثانى يكون الكفرة ضدا وأعداء للآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها وتوحيد الضد لوحدة المعنى الذى عليه تدور مضادتهم فإنهم بذلك كشىء واحد كما فى قوله عليه‌السلام وهم يد على من سواهم وقرىء كلا بفتح الكاف والتنوين على قلب الألف نونا فى الوقف قلب ألف الإطلاق فى قوله[أقلى اللوم عاذل والعتابن * وقولى إن أصبت لقد أصابن] أو على معنى كل هذا الرأى كلا وقرىء كلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أى سيجحدون كلا سيكفرون الخ.

٢٨٠