تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

____________________________________

من الآيات لتعيين التكذيب المستدعى للاستئصال المخالف لما جرى به قلم القضاء من تأخير عقوبات هذه الأمة إلى الآخرة لحكم باهرة من جملتها ما يتوهم من إيمان بعض أعقابهم عبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادى الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات وهو السر فى إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعى الآيات إلى النزول لو لا أن تمسكها يد التقدير وإسناد على هذا المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكون من الآخرين كما فى قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) عطف على ما يفصح عنه* النظم الكريم كأنه قيل وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا باقتراحهم ثمود الناقة (مُبْصِرَةً) على صيغة الفاعل أى بينة ذات إبصار* أو بصائر يدركها الناس أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازا أو جاعلتهم ذوى بصائر من أبصره جعله بصيرا وقرىء على صيغة المفعول وبفتح الميم والصاد وهى نصب على الحالية وقرىء بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف (فَظَلَمُوا بِها) فكفروا بها ظالمين أى لم يكتفو بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم* وعرضوها للهلاك بسبب عقرها ولعل تخصيصها بالذكر لما أن ثمود عرب مثلهم وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم ورودا وصدورا أو لأنها من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) المقترحة* (إِلَّا تَخْوِيفاً) لمن أرسلت هى عليهم مما يعقبها من العذاب المستأصل كالطليعة له وحيث لم يخافوا ذلك فعل* بهم ما فعل فلا محل للجملة حينئذ من الاعراب ويجوز أن تكون حالا من ضمير ظلموا أى فظلموا بها ولم يخافوا عاقبته والحال أنا ما نرسل بالآيات التى هى من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذى يعقبها فنزل بهم ما نزل (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أى علما كما نقله الإمام الثعلبى عن ابن عباس رضى الله عنهما فلا يخفى عليه شىء من أفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب وفى قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجىء بعض الآيات لاشتراك الكل فى كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جانب الله سبحانه لتصديق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكذيبهم لبعضها مستلزم لتكذيب الباقى كما أن تكذيب الآخرين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترحة والمراد بالرؤيا ما عاينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء حسبما ذكر فى فاتحة السورة الكريمة والتعبير عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرق بينها وبين الرؤية أو لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا أى وما جعلنا الرؤيا التى أريناكها عيانا مع كونها أية عظيمة وأية آية حقيقة بأن

١٨١

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١)

____________________________________

* لا يتلعثم فى تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على (الرُّؤْيَا) والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازى أو إبعادها عن الرحمة فإنها تنبت فى أصل الجحيم فى أبعد مكان من الرحمة أى وما جعلناها إلا فتنة لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم يحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر ولقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندر تلقى فى النار فلا تؤثر فيها ويرون أن فى كل شجر نارا وقرىء بالرفع على حذف الخبر كأنه قيل والشجرة* الملعونة فى القرآن كذلك (وَنُخَوِّفُهُمْ) بذلك وبنظائرها من الآيات فإن الكل للتخويف وإيثار صيغة الاستقبال* للدلالة على التجدد والاستمرار فما يزيدهم التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) متجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى هذا هو الذى يستدعيه النظم الكريم وقد حمل أكثر المفسرين الإحاطة على الإحاطة بالقدرة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات التى اقترحوها لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزات كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم فى قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا يرى أن الرؤيا التى أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا فى حالك وقد فسر الإحاطة بإهلاك قريش يوم بدر وإنما عبر عنه بالماضى مع كونه منتظرا حسبما ينبىء عنه قوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) وغير ذلك جريا على عادته سبحانه فى أخباره وأولت الرؤيا بما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام من مصارعهم لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ورد ماء بدر قال والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم وهو يومىء إلى الأرض هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فتسامعت به قريش فاستسخروا منه وبما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيدخل مكة وأخبربه أصحابه فتوجه إليها فصده عام المشركون الحديبية واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحى بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع رافعين بعد الهجرة وأنت خبير بأنه يلزم منه أن يكون افتتان الناس بذلك واقعا بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وقد قيل الرؤيا ما رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وقعة بدر من مضمون قوله تعالى (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) ولا ريب فى أن تلك الرؤيا مع وقوعها فى المدينة ما جعلت فتنة للناس (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تردد وتحقيق لمضمون ما سبق من قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) ويعلم

١٨٢

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً(٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣)

____________________________________

من حال الملائكة حال غيرهم من عيسى وعزير عليهما‌السلام فى الطاعة وابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة* ومخافة العذاب ومن حال إبليس حال من يعاند الحق ويخالف الأمر أى واذكر وقت قولنا لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ) تحية وتكريما لما له من الفضائل المستوجبة لذلك (فَسَجَدُوا) له من غير تلعثم امتثالا للأمر وأداء* لحقه عليه الصلاة والسلام (إِلَّا إِبْلِيسَ) وكان داخلا فى زمرتهم مندرجا تحت الأمر بالسجود (قالَ) * أى عندما وبخ بقوله عز سلطانه (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) وقوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) وقوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) كما أشير إليه فى سورة الحجر (أَأَسْجُدُ) وأنا مخلوق من العنصر العالى (لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) نصب على نزع الخافض أى من طين أو حال من الراجع إلى الموصول أى خلقته وهو طين أو من نفس الموصول أى أأسجد له وأصله طين والتعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموصول لتعليل إنكاره بما فى حين الصلة (قالَ) أى إبليس لكن لا عقيب كلامه المحكى بل بعد الإنظار المترتب على استنظاره المتفرع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبد وإنما لم تصرح بذلك اكتفاء بما ذكر فى مواضع أخر فإن توسيط قال بين كلامى اللعين للإيذان بعدم اتصال الثانى بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره كما فى قوله تعالى (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) بعد قوله تعالى (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) الكاف لتأكيد الخطاب لا محل لها من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفته والثانى محذوف لدلالة الصلة عليه أى أخبرنى عن هذا الذى كرمته على بأن أمرتنى بالسجود له لم كرمته على وقيل هذا مبتدأ حذف عنه حرف الاستفهام والموصول مع صلته خبره ومقصوده الاستصفار والاستقحار أى أخبرنى أهذا من كرمته على وقيل معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه عقيبه (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) حيا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه قوله (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أى* لأستأصلنهم من قولهم احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا أو لأقودنهم حيث ما شئت ولأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم حنكت الدابة واحتنكتها إذا جعلت فى حنكها الأسفل حبلا تقودها به وهذا كقوله (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وإنما علم تسنى ذلك المطلب له تلقيا من جهة الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو استنباطا من قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أو نوسما من خلقه (إِلَّا قَلِيلاً) منهم وهم المخلصون الذين عصمهم الله تعالى (قالَ اذْهَبْ) أى امض لشأنك الذى اخترته وهو طرد له وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أى جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية (جَزاءً مَوْفُوراً) أى جزاء مكملا من قولهم فر لصاحبك* عرضه فرة اى وفر وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لما فى قوله (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) من معنى تجازون أو للفعل المقدر أو حال موطئة لقوله (مَوْفُوراً).

١٨٣

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٦٦)

____________________________________

(وَاسْتَفْزِزْ) أى استخف (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) أن تستفزه (بِصَوْتِكَ) بدعائك إلى الفساد (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) أى صح عليهم من الجلبة وهى الصياح (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أى بأعوانك وأنصارك من راكب وراجل من أهل العيث والفساد قال ابن عباس رضى الله عنهما ومجاهد وقتادة إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل فى معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل فى معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس والخيل الخيالة ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا خيل الله اركبى والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب وقرىء بكسر الجيم وهى قراءة حفص على أنه فعل بمعنى فاعل كتعب وتاعب وبضمة مثل حدث وحدث وندس وندس ونظائرهما أى جمعك الراجل ليطابق الخيل وقرىء رجلك ورجالك ويجوز أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأنه مغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم وأجلب عليهم* بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام* والتصرف فيها على مالا ينبغى (وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والإشراك* كتسميتهم بعبد العزى والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة (وَعِدْهُمْ) * المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة بتطويل الأمل (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) اعتراض لبيان شأن مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان شأنه للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب (إِنَّ عِبادِي) الإضافة للتشريف وهم المخلصون وفيه أن من تبعه ليس منهم وأن الإضافة* لثبوت الحكم فى قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أى تسلط وقدرة على إغوائهم كقوله تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) لهم يتوكلون عليه ويستمدون به فى الخلاص عن إغوائك والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلى مع الإضافة إلى ضمير إبليس للإشعار بكيفية كفايته تعالى لهم أعنى سلب قدرته على إغوائهم (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) مبتدأ وخبر والإزجاء السوق حالا بعد حال أى هو القادر الحكيم الذى يسوق* لمنافعكم الفلك ويجريها فى البحر (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من رزقه الذى هو فضل من قبله أو من الربح الذى هو معطيه ومن مزيدة أو تبعيضية وهذا تذكير لبعض النعم التى هى دلائل التوحيد وتمهيد لذكر توحيدهم

١٨٤

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

____________________________________

عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله تعالى (فَلا يَمْلِكُونَ) الآية (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ) أزلا وأبدا (رَحِيماً) حيث* هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه وهذا تذييل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضل وصيغة الرحيم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) خوف الغرق فيه (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) أى ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون الله من الملائكة أو المسيح أو غيرهم (إِلَّا إِيَّاهُ) وحده من غير أن يخطر ببالكم أحد منهم* وتدعوه لكشفه استقلالا أو اشتراكا أو ضل كل من تدعونه عن إغائتكم وإنقاذكم ولم يقدر على ذلك إلا الله على الاستثناء المنقطع (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق وأوصلكم (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن التوحيد أو اتسعتم* فى كفران النعمة (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) تعليل لما سبق من الإعراض (أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) الذى هو مأمنكم أى يقلبه ملتبسا* بكم أو بسبب كونكم فيه وفى زيادة الجانب تنبيه على تساوى الجوانب والجهات بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهره وسلطانه وقرىء بنون العظمة (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) من فوقكم وقرىء بالنون* (حاصِباً) ريحا ترمى بالحصباء (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) يحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم فإنه لاراد* لأمره الغالب (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) فى البحر أو ثرت كلمة فى على كلمة إلى المبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه (تارَةً أُخْرى) إسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه باختيارهم باعتبار* خلق الدواعى الملجئة لهم إلى ذلك وفيه إيماء إلى كمال شدة هول مالا قوة فى التارة الأولى بحيث لو لا الإعادة لما عادوا (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) وأنتم فى البحر وقرىء بالنون (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) وهى التى لا تمر* بشىء إلا كسرته وجعلته كالرميم أو التى لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تنقصف أى تتكسر (فَيُغْرِقَكُمْ) بعد كسر فلككم كما ينبىء عنه عنوان القصف وقرىء بالنون وبالتاء على الإسناد إلى ضمير* الريح (بِما كَفَرْتُمْ) بسبب إشراككم أو كفرانكم لنعمة الإنجاء (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) * أى ثائرا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا كقوله سبحانه (وَلا يَخافُ عُقْباها).

١٨٥

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١)

____________________________________

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) قاطبة تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم أى كرمناهم بالصورة والقامة المعتدلة والتسلط على ما فى الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضى الله عنهما من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شركة القرد له فى ذلك مبنى على عدم الفرق بين اليد والرجل فإنه متناول له برجله التى* يطأ بها القاذورات لا بيده (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على الدواب والسفن من حملته إذا جعلت له ما يركبه وليس من المخلوقات شىء كذلك وقيل حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم بالماء وأنت* خبير بأن الأول هو الأنسب بالتكريم إذ جميع الحيوانات كذلك (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى فنون* النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم (وَفَضَّلْناهُمْ) فى العلوم والإدراكات بما* ركبنا فيهم من القوى المدركة التى بها يتميز الحق من الباطل والحسن من القبيح (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) وهم* من عدا الملائكة عليهم الصلاة والسلام (تَفْضِيلاً) عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ويستعملوا قواهم فى تحصيل العقائد الحقة ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذى لا يقبله أحد ممن له أدنى تميز فضلا عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقول المحضة وإنما استثنى جنس الملائكة من هذا التفضيل لأن علومهم دائمة عارية عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالة على أفضليتهم بالمعنى المتنازع فيه فإن المراد هنا بيان التفضيل فى أمر مشترك بين جميع أفراد البشر صالحها وطالحها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضل فى عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله سبحانه. إن قيل أى حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيل بعد بيان ما هو المراد بالمفضلين فإن استثناء الملائكة عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفراد البشر عليهم لا يستلزم استثناءهم من تفضيل بعض أفراده عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتة إذ ليس من الأفراد الفاجرة للبشر أحد يفضل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازع فيه أصلا بل هم أدنى من كل دنىء حسبما ينبىء عنه قوله تعالى (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) وقوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (يَوْمَ نَدْعُوا) نصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه قوله تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ) وقرىء بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واوا على لغة من يقول فى افعى افعو وقد جوز كون الواو علامة الجمع كما فى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أو ضميره وكل بدلا منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع وقد يكتفى بتقديره كما فى يدعى (كُلَّ أُناسٍ) من بنى آدم الذين

١٨٦

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٧٣)

____________________________________

فعلنا بهم فى الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيل وهذا شروع فى بيان تفاوت أحوالهم فى الآخرة بحسب أحوالهم وأعمالهم فى الدنيا (بِإِمامِهِمْ) أى بمن ائتموا به من نبى أو مقدم فى الدين أو كتاب أو دين وقيل* بكتاب أعمالهم التى قدموها فيقال يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر أو يا أهل دين كذايا أهل كتاب كذا وقيل الإمام جمع أم كخف وخفاف والحكمة فى دعوتهم بأمهاتهم إجلال عيسى عليه‌السلام وتشريف الحسنين رضى الله عنهما والستر على أولاد الزنا (فَمَنْ أُوتِيَ) يومئذ من أولئك المدعوين (كِتابَهُ) صحيفة* أعماله (بِيَمِينِهِ) إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما فى مطاويه* (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من باعتبار معناه إيذانا بأنهم حزب مجتمعون على شأن جليل أو إشعارا بأن قراءتهم* لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما فى حال الإيتاء وما فيه من الدلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتهم أى أولئك المختصون بتلك الكرامة التى يشعر بها الإيتاء المزبور (يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) الذى أوتوه على الوجه المبين تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات (وَلا يُظْلَمُونَ) أى لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة فى كتبهم بل يؤتونها مضاعفة (فَتِيلاً) أى قدر* فتيل وهو القشرة التى فى شق النواة أو أدنى شىء فإن الفتيل مثل فى القلة والحقارة (وَمَنْ كانَ) من المدعوين المذكورين (فِي هذِهِ) الدنيا التى فعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريم والتفضيل (أَعْمى) فاقد البصيرة* لا يهتدى إلى رشده ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل فضلا عن شكرها والقيام بحقوقها ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقوى فيما خلقن له من العلوم والمعارف الحقة (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) * التى عبر عنها بيوم ندعو (أَعْمى) كذلك أى لا يهتدى إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول* موجب للثانى وقد جوز كون الثانى بمعنى التفضيل على أن عماه فى الآخرة أشد من عماه فى الدنيا ولذلك قرأ أبو عمرو الأول مما لا والثانى مفخما (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أى من الأعمى لزوال الاستعداد الممكن* وتعطل الآلات بالكلية وهذا بعينه هو الذى أوتى كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدول عن ذكره بذلك العنوان مع أنه الذى يستدعيه حسن المقابلة حسبما هو الواقع فى سورة الحاقة وسورة الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبة له كما فى قوله تعالى (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) بعد قوله تعالى (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وقد ذكر فى أحد الجانبين المسبب وفى الآخر السبب ودل بالمذكور فى كل منهما على المتروك فى الآخر تعويلا على شهادة العقل كما فى قوله عز وعلا (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) نزلت فى ثقيف إذ قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ندخل فى أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى فى صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم

١٨٧

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (٧٧)

____________________________________

وادينا وج كما حرمت مكة فإذا قالت العرب لم فعلت فقل إن الله أمرنى بذلك وقيل فى قريش حيث قالوا اجعل لنا آية عذاب آية رحمة وآية رحمة آية عذاب أو قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا فإن مخففة من المشددة وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف واللام هى الفارقة بينها وبين النافية أى إن* الشأن قاربوا أن يفتنوك أى يخدعوك فاتنين (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من أوامرنا ونواهينا ووعدنا* ووعيدنا (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) لتتقول علينا غير الذى أوحينا إليك مما اقترحته ثقيف أو قريش حسبما نقل (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أى لو اتبعت أهواءهم لكنت لهم وليا ولخرجت من ولايتى (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) من الركون الذى هو أدنى ميل أى لو لا تثبيتنا لك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعنك من أن تقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلا عن نفس الركون وهذا صريح فى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعى إليها ودليل على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته (إِذاً) لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أى عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما يعذب به فى الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير خطير وكان أصل الكلام عذابا ضعفا فى الحياة وعذابا ضعفا فى الممات بمعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت إضافة موصوفها وقيل الضعف من أسماء العذاب وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع عنك العذاب (وَإِنْ كادُوا) الكلام فيه كما فى الأول أى كاد أهل مكة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أى ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم* (مِنَ الْأَرْضِ) أى الأرض التى أنت فيها وهى أرض مكة (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ) بالرفع عطفا على خبر كاد وقرىء لا يلبثوا بالنصب بأعمال إذن على أن الجملة معطوفة على جملة وإن كاد واليستفزونك* (خِلافَكَ) أى بعدك قال[خلت الديار خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا] أى ولو خرجت* لا يبقون بعد خروجك وقرىء خلفك (إِلَّا قَلِيلاً) إلا زمانا قليلا وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل نزلت الآية فى اليهود حيث حسدوا مقام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فقالوا الشام مقام الأنبياء عليهم‌السلام فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج مرحلة فنزلت فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلى بنو النضير بقليل (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على

١٨٨

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩)

____________________________________

المصدرية أى سن الله تعالى سنة وهى أن يهلك كل أمة أخرجت رسولهم من بين أظهرهم فالسنة لله تعالى وإضافتها إلى الرسل لأنها سنت لأجلهم على ما ينطق به قوله عزوجل (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أى تغيرا* (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لزوالها كما ينبىء عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتانى جبريل عليه‌السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بى الظهر واشتقاقه من الدلك لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه وقيل لغروبها من دلكت الشمس أى غربت وقيل أصل الدلوك الميل فينتظم كلا المعنيين واللام للتأقيت مثلها فى قولك لثلاث خلون (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) إلى اجتماع ظلمته وهو وقت صلاة العشاء وليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه* الاستمرار بل إقامة كل صلاة فى وقتها الذى عين لها ببيان جبريل عليه‌السلام كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى فى أوقات الصلوات من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدئه ومنتهاه واستدل به على امتداد وقته إلى غروب الشفق وقوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أى صلاة الفجر نصب عطفا على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجاج وإنما* سميت قرآنا لأنه ركنها كما تسمى ركوعا وسجودا واستدل به على الركنية ولكن لا دلالة له على ذلك لجواز كون مدار النجوز كون القراءة مندوبة فيها نعم لو فسر بالقراءة فى صلاة الفجر لدل الأمر بإقامتها عن الوجوب فيها نصا وفيما عداها دلالة ويجوز أن يكون وقرآن الفجر حثا على تطويل القراءة فى صلاة الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) أظهر فى مقام الإضمار إبانة لمزيد الاهتمام به (كانَ مَشْهُوداً) يشهده ملائكة* الليل وملائكة النهار أو شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذى هو أخو الموت أو يشهده كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير فالآية على تفسير الدلوك بالزوال جامعة للصلوات الخمس وعلى تفسيره بالغروب لما عدا الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ) قيل هو نصب على الإغراء أى الزم بعض الليل وقيل لا يكون المغرى به حرفا ولا يجدى نفعا كون معناها التبعيض فإن واو مع ليست اسما بالإجماع وإن كانت بمعنى الاسم الصريح بل هو منصوب على الظرفية بمضمر أى قم بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) أى* أزل وألق الهجود أى النوم فإن صيغة التفعل تجىء للإزالة كالتحرج والتحنث والتأثم ونظائرها والضمير المجرور للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ) أى تهجد فى ذلك البعض على أن الباء بمعنى فى وقيل منصوب بتهجد أى تهجد بالقرآن بعض الليل على طريقة وإياى فارهبون (نافِلَةً لَكَ) فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ولعله هو* الوجه فى تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعا لكن لا لكونها زيادة

١٨٩

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً(٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

____________________________________

على الفرائض بل لكونها زيادة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الدرجات على ما قال مجاهد والسدى فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعه زيادة فى درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعهم لتكفير ذنوبهم وتدارك الخلل الواقع فى فرائضهم وانتصابها إما على المصدرية بتقدير تنفل أو بجعل تهجد بمعناه أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا فإن ذلك عبادة زائدة وإما على الحالية من الضمير الراجع إلى القرآن أى حال كونها صلاة نافلة وإما على المفعولية لتهجد إذا جعل بمعنى صل وجعل الضمير المجرور للبعض أى فصل فى ذلك البعض* نافلة لك (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) الذى يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر كما انبعثت من* النوم الذى هو الموت الأصغر بالصلاة والعباده (مَقاماً) نصب على الظرفية على إضمار فيقيمك أو تضمين البعث معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكون العامل فى مثل هذا الظرف فعلا فيه معنى الاستقرار ويجوز* أن يكون حالا بتقدير مضاف أى يبعثك ذا مقام (مَحْمُوداً) عندك وعند جميع الناس وفيه تهوين لمشقة قيام الليل وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال المقام المحمود هو المقام الذى أشفع فيه لأمتى وعن ابن عباس رضى الله عنهما مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك وعن حذيفة رضى الله عنه يجمع الناس فى صعيد واحد فلا تتكلم فيه نفس فأول مدعو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدى من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت ٨٠ سبحانك رب البيت (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) أى القبر (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أى إدخالا مرضيا (وَأَخْرِجْنِي) * أى منه عند البعث (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أى إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة فهو تلقين الدعاء بما وعده من البعث المقرون بالإقامة المعهودة التى لا كرامة فوقها وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة وتغيير ترتيب الوجود لكون الإدخال هو المقصد وقيل إدخاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالما وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه وقيل إدخاله فى كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه وقرىء مدخل ومخرج بالفتح على معنى أدخلنى فأدخل دخولا وأخرجنى فأخرج خروجا كقوله[وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو مجلف] أى لم تدع فلم يبق (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) حجة تنصرنى على من يخالفنى أو ملكا وعزا ناصرا للإسلام مظهرا له على الكفر فأجيبت دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله عز وعلا (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ) أى* الإسلام والوحى الثابت الراسخ (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أى ذهب وهلك الشرك والكفر وتسويلات الشيطان* من زهق روحه إذا خرج (إِنَّ الْباطِلَ) كائنا ما كان (كانَ زَهُوقاً) أى شأنه أن يكون مضمحلا غير ثابت

١٩٠

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) (٨٣)

____________________________________

وهو عدة كريمة بإجابة الدعاء بالسلطان النصير الذى لقنه. عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلثمائة وستون صنما فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده فى عين واحد واحد ويقول جاء الحق وزهق الباطل فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقى صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال يا على ارم به فصعد فرمى به فكسره (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) وقرىء ننزل من الإنزال (ما هُوَ شِفاءٌ) لما فى الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) به العالمين بما فى تضاعيفه أى ما هو فى* تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافى للمرضى ومن بيانية قدمت على المبين اعتناء فإن كل القرآن كذلك وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله أو تبعيضية لكن لا بمعنى أن بعضه ليس كذلك بل بمعنى إنا ننزل منه فى كل نوبة ما تستدعى الحكمة نزوله حينئذ فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقته لأحوالهم الداعية إلى نزوله موقع الدواء الشافى المصادف لا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحال من غير تقديم ولا تأخير فكل بعض منه متصف بالشفاء لكن لا فى كل حين بل عند تنزيله وتحقيق التبعيض باعتبار الشفاء الجسمانى كما فى الفاتحة وآيات الشفاء لا يساعده قوله سبحانه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أى لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء فى غير مواضعها مع كونه فى نفسه شفاء من الأسقام إلا خسارا أى هلاكا بكفرهم وتكذيبهم لا نقصانا كما قيل فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبىء عن حصول بعض مبادى الأسقام فيهم وزيادتهم فى مراتب الهلاك من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم فى أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم هم المزدادون فى ذلك بسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك وفيه تعجيب من أمره حيث يكون مدارا للشفاء والهلاك (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والنعمة (أَعْرَضَ) عن ذكرنا فضلا عن القيام بموجب الشكر (وَنَأى) تباعد عن طاعتنا (بِجانِبِهِ) النأى بالجانب أن يلوى عن الشىء* عطفه ويوليه عرض وجهه فهو تأكيد للإعراض أو عبارة عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل وفى إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإنعام* إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روحنا* وهذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة ولا ينافيه قوله تعالى (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ونظائره فإن ذلك شأن بعض آخرين منهم وقيل أريد به الوليد بن المغيرة وقرىء ناء إما على القلب كما يقال راء فى رأى وإما على أنه بمعنى نهض.

١٩١

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)

____________________________________

(قُلْ كُلٌّ) أى كل أحد منكم وممن هو على خلافكم (يَعْمَلُ) عمله (عَلى شاكِلَتِهِ) طريقته التى تشاكل حاله* فى الهدى والضلالة أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه (فَرَبُّكُمْ) الذى برأكم على هذه الطبائع* المتخالفة (أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أى أسد طريقا وأبين منهاجا وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الظاهر أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذى هو مدبر البدن الإنسانى ومبدأ حياته روى أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جميعا أو سكت فليس بنى وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبى فبين لهم القصتين* وأبهم أمر الروح وهو مبهم فى التوراة (قُلِ الرُّوحُ) أظهر فى مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه* (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) كلمة من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمى لا الإيجادى لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف مالا يخفى كما فى الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أى هو من* جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التى لا يكاد يحوم حولها عقول البشر (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل نحن وأنتم فقالوا ما أعجب شأنك ساعة تقول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وساعة تقول هذا فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولهم فإن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية بل ما نيط به المعاش والمعاد وذلك بالإضافة إلى مالا نهاية له من معلوماته سبحانه قليل ينال به خير كثير فى نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكوينى من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كأعضاء الجسد حتى بمكن تعريفه ببعض مباديه ومآله أنه من عالم الأمر لا من عالم الخلق وليس هذا من قبيل قوله سبحانه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق وفيه تنبيه على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنما الممكن هذا القدر الإجمالى المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أى إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو من إحساس الجزئيات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شىء من أحواله التى يدور عليها معرفة ذاته وأما حمل ما ذكر على السؤال عن قدمه وحدوثه وجعل الجواب إخبارا بحدوثه أى كائن بتكوينه حادث بإحداثه بالأمر التكوينى فمع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفى به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وقيل المراد بالروح خلق عظيم روحانى أعظم من الملك وقيل جبريل عليه‌السلام وقيل القرآن ومعنى من أمر ربى من وحيه وكلامه لا من كلام البشر.

١٩٢

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨)

____________________________________

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن الذى هو شفاء ورحمة للمؤمنين ومنبع للعلوم التى أو تيتموها وثبتاك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدت تركن إليهم شيئا قليلا وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما فى حين الصلة ابتداء وإعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق واللام موطئة للقسم ولنذهبن جوابه النائب مناب جزاء الشرط وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة والمراد من الذهاب به المحو من المصاحف والصدور وهو أبلغ من الإذهاب عن ابن مسعود رضى الله عنه أن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شىء فقال رجل كيف ذلك وقد أثبتناه فى قلوبنا وأثبتناه فى مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم فقال يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما فى القلوب (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) أى بالقرآن (عَلَيْنا وَكِيلاً) من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فإنها إن نالتك لعلها تسترده عليك ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به فيكون امتنانا بإبقائه بعد المنة بتنزيله وترغيبا فى المحافظة على أداء حقوقه وتحذيرا من أن لا يقدر قدره الجليل ويفرط فى القيام بشكره وهو أجل النعم وأعظمها (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) كإرسالك وإنزال الكتاب عليك وإبقائه فى حفظك وغير ذلك (قُلْ) للذين لا يعرفون ٨٨ جلالة قدر التنزيل ولا يفهمون فخامة شأنه الجليل بل يزعمون أنه من كلام البشر (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) أى اتفقوا (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) المنعوت بما لا تدركه للعقول من النعوت الجليلة فى* البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل* المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن المراد نفى الإتيان بمثل ما أى لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة وفيهم العرب العاربة أرباب البراعة والبيان وهو جواب للقسم الذى ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان جوابا له بغير جزم لكون الشرط ماضيا كما فى قول زهير[وإن أتاه خليل يوم مسألة * يقول لا غائب مالى ولا حرم] وحيث كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدى للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قيل (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ *

١٩٣

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٩٢)

____________________________________

لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أى فى تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله وهو عطف على مقدر أى لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ولو كان الخ وقد حذف المعطوف عليه حذفا مطردا لدلالة المعطوف عليه دلالة واضحة فإن الإتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر فلأن ينتفى عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما فى إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غير مرة ومحله النصب على الحالية حسبما عطف عليه أى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو فى هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه حسم لأطماعهم الفارغة فى روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكون الآية تقريرا لما قبلها من قوله تعالى (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفى الشىء إنما يقرره نفى ما دونه لا نفى مافوقه فإن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان بمثله مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل إلى المكابرين من قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا* ورددنا على أنحاء مختلفة توجب زيادة تقرير وبيان ووكادة رسوخ واطمئنان (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) * المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى بديع هو فى الحسن والغرابة واستجلاب* النفس كالمثل ليتلقوه بالقبول (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) أوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا (إِلَّا كُفُوراً) أى إلا جحودا وإنما صح الاستثناء من الموجب مع أنه لا يصح ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفى كأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس فى أبوا الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور من الإيمان والتوقف فى الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا فى عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء (وَقالُوا) عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلى وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا يمكن فى العادة وجوده ولا تقتضى الحكمة وقوعه من الأمور كما هو ديدن المبهوت* المحجوج (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ) وقرىء بالتشديد (لَنا مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة (يَنْبُوعاً) عينا لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أى بستان تستر* أشجاره ما تحتها من العرصة (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) أى تجريها بقوة (خِلالَها تَفْجِيراً) كثيرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء عنه الفاء لا ابتداؤه (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وقرىء بالسكون كسدرة وسدر وهى حال من السماء والكاف فى كما فى محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أى إسقاطا مماثلا لما زعمت

١٩٤

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤)

____________________________________

يعنون بذلك قوله تعالى (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أى مقابلا كالعشير* والمعاشر أو كفيلا يشهد بصحة ما تدعيه وهو حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها أى والملائكة قبلاء كما حذف الخبر فى قوله [فإنى وقيار بها لغريب] أو جماعة فيكون حالا من الملائكة (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب وقد قرىء به وأصله الزينة (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أى فى معارجها* فحذف المضاف يقال رقى فى السلم وفى الدرجة (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) أى لأجل رقيك فيها وحده أو لن* نصدق رقيك فيها (حَتَّى تُنَزِّلَ) منها (عَلَيْنا كِتاباً) فيه تصديقك (نَقْرَؤُهُ) نحن من غير أن يتلقى من قبلك* عن ابن عباس رضى الله عنهما قال عبد الله بن أبى أمية لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتى معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وما كانوا يقصدون بهاتيك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات مازداهم ذلك إلا مكابرة وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شاهدوا من المعجزات التى تخر لهاصم الجبال (قُلْ) * تعجبا من شدة شكيمتهم وتنزيها لساحة السبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات الشنيعة التى تكاد السموات يتفطرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيها على بطلان ما قالوه (سُبْحانَ رَبِّي) وقرىء* قال سبحان ربى (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) لا ملكا حتى يتصور منى الرقى فى السماء ونحوه (رَسُولاً) مأمورا* من قبل ربى بتبليغ الرسالة من غير أن يكون لى خيرة فى الأمر كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشىء منها وقوله (بَشَراً) خبر ل (كُنْتُ) و (رَسُولاً) صفته (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أى الذين حكيت أباطيلهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) مفعول ثان ل (مَنَعَ) وقوله (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أى الوحى ظرف لمنع أو يؤمنوا أى وما* منعهم وقت مجىء الوحى المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجىء ما ذكر (إِلَّا أَنْ قالُوا) فى محل الرفع على أنه فاعل منع أى إلا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) منكرين أن يكون رسول الله تعالى من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعضهم فمنع بعضا آخر منهم بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق وحصر المانع من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعنى عند سماع الجواب بقوله تعالى (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) إذ هو الذى يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شههم الواهية وفيه إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد

١٩٥

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧)

____________________________________

شبههم ملجئا إلى الإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا منه (قُلْ) لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة* وتحقيقا للحق المزيح للريب (لَوْ كانَ) أى لو وجد واستقر (فِي الْأَرْضِ) بدل البشر (مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) قارين فيها من غير أن يعرجوا فى السماء ويعلموا ما يجب أن يعلم (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) يهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الخير لتمكنهم من الاجتماع والتلقى منه وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية فكيف لا وهى منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التى عليها مبنى التكوين والتشريع وإنما يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحانى والجسمانى ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب وقوله تعالى (مَلَكاً) يحتمل أن يكون حالا من (رَسُولاً) وأن يكون موصوفا به وكذلك (بَشَراً) فى قوله تعالى (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) والأول أولى (قُلْ) لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت* وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة فى البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا (كَفى بِاللهِ) وحده (شَهِيداً) على أنى أديت ما على من مواجب الرسالة أكمل أداء وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد وتوجيه الشهادة إلى كونه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا بإظهار المعجزة على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وما بعده من* التعليل وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة وشهيدا إما حال أو تمييز (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ) من* الرسل والمرسل إليهم (خَبِيراً بَصِيراً) محيطا بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليل الكفاية وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للكفار (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) كلام مبتدأ يفصل ما أشار إليه* الكلام السابق من مجازاة العباد إشارة إجمالية أى من يهده الله إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) إليه وإلى ما يؤدى إليه من الثواب أو المهتد إلى كل مطلوب (وَمَنْ يُضْلِلْ) أى يخلق فيه الضلال* بسوء اختياره كهؤلاء المعاندين (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) أوثر ضمير الجماعة اعتبارا لمعنى من غب ما أوثر فى مقابله الإفراد نظرا إلى لفظها تلويحا بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال* (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) من دون الله تعالى أى أنصارا يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذى يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم* وليا على ما تقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد إلى الآحاد (وَنَحْشُرُهُمْ) التفات من الغيبة* إلى التكلم إيذانا بكمال الاعتناء بأمر الحشر (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) حال من الضمير المنصوب أى

١٩٦

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠)

____________________________________

كائنين عليها سحبا كقوله تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أو مشيا فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يمشون على وجوههم قال إن الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم (عُمْياً) * حال من الضمير المجرور فى الحال السابقة (وَبُكْماً وَصُمًّا) لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا ينطقون ما يقبل* منهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم لما قد كانوا فى الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار موفى القوى والحواس وأن يحشروا كذلك ثم يعاد إليهم قواهم وحواسهم فإن إدراكاتهم بهذه المشاعر فى بعض المواطن مما لا ريب فيه (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) إما حال أو استئناف وكذا قوله تعالى (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم* ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم توقدا بأن بدلناهم جلودا غيرها فعادت ملتهبة ومستعرة ولعل ذلك عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها عينا حيث لم يعلموها برهانا كما يفصح عنه قوله تعالى (ذلِكَ) أى ذلك العذاب (جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (كَفَرُوا بِآياتِنا) العقلية والنقلية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة فذلك مبتدأ وجزاؤهم خبره ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وبأنهم خبره والجملة خبرا لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك أو بيانا له والخبر هو الظرف (وَقالُوا) * منكرين أشد الإنكار (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) إما مصدر مؤكد من غير لفظه أى لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أى مخلوقين مستأنفين (أَوَلَمْ يَرَوْا) أى ألم يتفكروا ولم يعلموا (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من غير مادة مع عظمهما (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فى الصغر على أن المثل مقحم والمراد* بالخلق الإعادة كما عبر عنها بذلك حيث قيل خلقا جديدا (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) عطف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) فإنه* فى قوة قدر أو او المعنى قد علموا أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قارد على خلق أمثالهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلا محققا لا ريب فيه هو يوم القيامة (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) وضع موضع الضمير تسجيلا عليهم* بالظلم وتجاوز الحد بالمرة (إِلَّا كُفُوراً) أى جحودا (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) خزائن رزقه التى أفاضافها على كافة الموجودات وأنتم مرتفع بفعل يفسره المذكور كقول حاتم لو ذات سوار لطمتنى وفائدة ذلك المبالغة والدلالة على الاختصاص (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) لبخليم (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) مخافة النفاد*

١٩٧

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢)

____________________________________

بالإنفاق إذ ليس فى الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشىء فإنما يؤثره لعوض يفوقه* فإذن هو بخيل بالإضافة إلى جود الله سبحانه (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) مبالغا فى البخل لأن مبنى أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض بما يبذله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهى العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والسنون ونقص الثمرات وقيل انفجار الماء من الحجر ونتق الطور على بنى إسرائيل وانفلاق البحر بدل الثلاث الأخيرة ويأباه أن هذه الثلاث لم تكن منزلة إذ ذاك وأن الأولين لا تعلق لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو إسرائيل عن صفوان بن عسال أن يهوديا سأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال أن لا تشركوا به شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببرىء إلى ذى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا فى السبت فقبل اليهودى يده ورجله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يساعده أيضا ما ذكر ولعل جوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان فى التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من جهة* الوحى (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وقرىء فسل أى فقلنا له سلهم من فرعون وقل له أرسل معى بنى إسرائيل أو سلهم عن إيمانهم أو عن حال دينهم أو سلهم أن يعاضدوك ويؤيده قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صيغة الماضى وقيل الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى فاسألهم عن تلك الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة أو ليظهر صدقك* (إِذْ جاءَهُمْ) متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورة وبآتينا أو بمضمر هو يخبروك أو اذكر على تقدير* كون الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) الفاء فصيحة أى فأظهر عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) سحرت فتخبط عقلك (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعنى الآيات التى أظهرها (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومدبرهما والتعرض لربوبيته تعالى لهما للإيذان بأنه لا يقدر على إيتاء مثل هاتيك الآيات العظام إلا خالقهما ومدبرهما* (بَصائِرَ) حال من الآيات أى بينات مكشوفات تبصرك صدقى ولكنك تعاند وتكابر نحو وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ومن ضرورة ذلك العلم العلم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كمال رصانة العقل فضلا عن توهم المسحورية وقرىء علمت على صيغة التكلم أى لقد علمت بيقين أن هذه الآيات الباهرة أنزلها الله عز سلطانه فكيف* يتوهم أن يحوم حولى سحر (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا أى ما صرفك أو هالكا ولقد قارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظنه بظنه وشتان بينهما كيف لا وظن فرعون

١٩٨

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧)

____________________________________

إفك مبين وظنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتاخم اليقين (فَأَرادَ) أى فرعون (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أى يستخفهم ويزعجهم (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مصر أو من الأرض مطلقا بالقتل كقوله (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فعكسنا عليه مكره واستفززناه وقومه بالإغراق (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إغراقهم (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التى أراد أن يستفزكم منها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) الكرة الآخرة* أو الحياة أو الساعة والدار الآخرة أى قيام القيامة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم* وتميز سعداءكم من أشقيائكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أى وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضى لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذى اشتمل عليه أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين ولعل المراد بيان عدم اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع بالثواب (وَنَذِيراً) للعاصى من العقاب وهو* تحقيق لحقية بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر تحقيق حقية إنزال القرآن (وَقُرْآناً) منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى (فَرَقْناهُ) وقرىء بالتشديد دلالة على كثرة نجومه (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) على مهل وتثبت فإنه أيسر للحفظ وأعون* على الفهم وقرىء بالفتح وهو لغة فيه (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ويقع من الحوادث* والواقعات (قُلْ) للذين كفروا (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإن إيمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم لا يورثه نقصا (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أى العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل تنزيله وعرفوا حقيقة* الوحى وأمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ورأوا فيها نعتك ونعت ما أنزل إليك (إِذا يُتْلى) أى القرآن (عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) أى يسقطون على وجوههم (سُجَّداً) تعظيما* لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به فى تلك الكتب من بعثتك وتخصيص الأذقان بالذكر الدلالة على كمال التذلل إذ حينئذ يتحقق الخرور عليها وإيثار اللام للدلالة على اختصاص الخرور بها كما فى قوله [فخر صريعا لليدين وللفم] وهو تعليل لما يفهم من قوله تعالى (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) من عدم المبالاة بذلك أى إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم ويجوز أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم.

١٩٩

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠)

____________________________________

(وَيَقُولُونَ) فى سجودهم (سُبْحانَ رَبِّنا) عما يفعل الكفرة من التكذيب أو عن خلف وعده (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إن مخففة من المثقلة واللام فارقة أى إن الشأن هذا (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثانى لما* أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله (وَيَزِيدُهُمْ) أى القرآن بسماعهم (خُشُوعاً) كما يزيدهم علما ويقينا بالله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) نزل حين سمع المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يا ألله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخر وقالت اليهود إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله تعالى فى التوراة والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدة وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذى هو المعبود وعلى الثانى أنهما سيان* فى حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أوفق لقوله تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) والدعاء بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين فى أيا عوض عن المضاف إليه وما مزيدة لتأكيد ما فى أى من الإبهام والضمير فى له للمسمى لأن التسمية له لا للاسم وكان أصل الكلام أيا ما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع أسمائه يستدعى حسن ذينك الاسمين وكونها حسنى لدلالتها على صفات الكمال من* الجلالة والجمال والإكرام (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أى بقراءة صلاتك بحيث تسمع المشركين فإن ذلك* يحملهم على السب واللغو فيها (وَلا تُخافِتْ بِها) أى بقراءتها بحيث لا تسمع من خلفك من المؤمنين* (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) أى بين الجهر والمخافتة على الوجه المذكور (سَبِيلاً) أمرا وسطا قصدا فإن خير الأمور أوساطها والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب وروى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه كان يخفت ويقول أناجى ربى وقد علم حاجتى وعمر رضى الله عنه كان يجهر بها ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا وقيل المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالمخافتة نهارا والجهر ليلا وقيل بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً).

٢٠٠