تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣)

____________________________________

كل وقت له مقتض غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة فى وقت تنقلب فى وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصالح للعباد فى المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم وفى الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرىء بالتخفيف من الإنزال (قالُوا) أى الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أى متقول على الله* تعالى تأمر بشىء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشياطين وأنه وليهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى لا يعلمون شيئا أصلا أولا يعلمون أن فى النسخ* حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا (قُلْ نَزَّلَهُ) أى القرآن المدلول عليه بالآية (رُوحُ الْقُدُسِ) يعنى جبريل عليه‌السلام أى الروح المطهر من الأدناس البشرية* وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتم الجود للمبالغة فى ذلك الوصف كأنه طبع منه وفى صيغة التفعيل فى الموضعين إشعار بأن التدريج فى الإنزال مما تقتضيه الحكم البالغة (مِنْ رَبِّكَ) فى إضافة الرب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم* ما ليس فى إضافته إلى ياء المتكلم المبنية على التلقين المحض (بِالْحَقِّ) أى ملتبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة* المقتضية له بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخا وفيه دلالة على أن النسخ حق (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان* بأنه كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وقرىء ليثبت من الإفعال (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه تعالى وهما* معطوفان على محل ليثبت أى تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء (إِنَّما يُعَلِّمُهُ) أى القرآن (بَشَرٌ) على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه الصلاة والسلام وتحلية الجملة بفنون* التأكيد لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددى فى متعلقه فإنهم مستمرون على تفوه تلك العظيمة يعنون بذلك جبر الرومى غلام عامر بن الحضرمى وقيل جبرا ويسيرا كانا يصنعان السيف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه. قيل عابسا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب وقيل سلمان الفارسى وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخل فى ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس بنسبته عليه‌السلام إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه

١٤١

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦)

____________________________________

* السلام معدنا لعلوم الأولين والآخرين (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) الإلحاد الإمالة من ألحد القبر إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر فى شق منه ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا ألحد فلان فى قوله وألحد فى دينه أى لغة الرجل الذى يميلون إليه القول عن الاستقامة أعجمية غير بينة وقرىء بفتح* الياء والحاء وبتعريف اللسان (وَهذا) أى القرآن الكريم (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم وتقريره أن القرآن معجز بنظمه كما أنه معجز بمعناه فإن زعمتم أن بشرا يعلمه معناه فكيف يعلمه هذا النظم الذى أعجز جميع أهل الدنيا والتشبث فى أثناء الطعن بأذيال أمثال هذه الخرافات الركيكة دليل كمال عجزهم (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أى لا يصدقون أنها من عند الله بل يقولون فيها* ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى الحق أو إلى سبيل النجاة* هداية موصلة إلى المطلوب لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم (وَلَهُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) وهذا تهديد لهم ووعيد على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم وقوله تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) رد لقولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزل من عند الله بواسطة روح القدس وإنما وسط بينهما قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) الآية لما لا يخفى من شدة اتصاله بالرد الأول والمعنى والله تعالى أعلم أن المفترى هو الذى يكذب بآيات الله ويقول إنه افتراء ومعلم من البشر أى تكذيبها على الوجه المذكور هو الافتراء على الحقيقة لأن حقيقته الكذب والحكم بأن ما هو كلامه تعالى ليس بكلامه تعالى فى كونه كذبا وافتراء كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامه تعالى والتصريح بالكذب للمبالغة فى بيان قبحه وصيغة المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارة عنه أعنى قوله (لا يُؤْمِنُونَ) وقيل المعنى إنما يفترى الكذب ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يترقب عقابا عليه ليرتدع عنها وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء البتة* (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمان بآيات الله (هُمُ الْكاذِبُونَ) على الحقيقة أو الكاملون فى الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل والسر فى ذلك أن الكذب الساذج الذى هو عبارة عن الإخبار بعدم وقوع ما هو واقع فى نفس الأمر بخلق الله تعالى أو بوقوع ما لم يقع كذلك مدافعة لله تعالى فى فعله فقط والتكذيب مدافعة له سبحانه فى فعله وقوله المنبىء عنه معا أو الذين عادتهم الكذب لا يزعهم عنه وازع من دين أو مروءة وقيل الكاذبون فى قولهم إنما أنت مفتر (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) أى تلفظ بكلمة الكفر (مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) به تعالى وهو ابتداء كلام لبيان حال

١٤٢

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨)

____________________________________

من كفر بآيات الله بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومن موصولة ومحلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الخبر الآتى عليه أو هو خبر لهما معا أو النصب على الذم (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على* ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وهو استثناء متصل من حكم الغضب والعذاب أو الذم لأن الكفر لغة يتم بالقول كما أشير إليه وقوله تعالى (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) حال من المستثنى والعامل هو* الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدى نفعا وإنما المجدى مقارنته للكفر الواقع به أى إلا من كفر بإكراه من الأمن أكره فكفر والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته وإنما لم يصرح به إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب (وَلكِنْ مَنْ) لم يكن كذلك بل (شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أى اعتقده وطاب به نفسا (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) * عظيم لا يكتنه كنهه (مِنَ اللهِ) إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) * إذ لا جرم أعظم من جرمهم والجمع فى الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فى المستكن فى الصلة لرعاية جانب اللفظ. روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأباه أبواه فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة فى قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين فى الإسلام وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكى فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه وقال مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجىء وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما تقول فى محمد قال رسول الله قال فما تقول فى قال أنت أيضا فخلاه وقال للآخر ما تقول فى محمد قال رسول الله قال فما تقول فى قال أنا أصم فأعاد ثلاثا فأعاد جوابه فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أما الأول فقد أخذ برخصة وأما الثانى فقد صدع بالحق (ذلِكَ) إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو إلى الوعيد المذكور (بِأَنَّهُمُ) بسبب أنهم (اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) آثروها (عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية* قسر وإلجاء (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فى علمه المحيط فلا يعصمهم عن الزيغ وما يؤدى إليه من الغضب والعذاب* العظيم ولو لا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله سبحانه للكافرين هداية قسر بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله تعالى هداية قسر لما كان ذلك لكن الثانى مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه أشير بقوله تعالى (أُولئِكَ) أى أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه (وَأُولئِكَ هُمُ *

١٤٣

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢)

____________________________________

الْغافِلُونَ) أى الكاملون فى الفغلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها إلى ما لا يفضى إلا إلى العذاب المخلد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) إلى دار الإسلام وهم عمار وأصحابه رضى الله عنهم أى لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يوجبه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور خبر لأن ويجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة الخبر الآتى عليه ويجوز أن يكون ذلك خبرا لها وتكون إن الثانية تأكيدا للأولى وثم للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التى يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب بطريق الإشارة لا عن رتبة حال الكفرة* (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أى عذبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبهم بالإيمان وقرىء* على بناء الفاعل أى عذبوا المؤمنين كالحضرمى أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا (ثُمَّ جاهَدُوا) * فى سبيل الله (وَصَبَرُوا) على مشاق الجهاد (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد المهاجرة والجهاد والصبر فهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدم* إخلال ذلك بالحكم (لَغَفُورٌ) لما فعلوا من قبل (رَحِيمٌ) ينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وفى التعرض لعنوان الربوبية فى الموضعين إيماء إلى علة الحكم وفى إضافة الرب إلى ضميره عليه‌السلام مع ظهور الأثر فى الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به عليه‌السلام وإشعار بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطته عليه‌السلام ولكونهم أتباعا له (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) منصوب برحيم* وما رتب عليه أو باذكر وهو يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) عن ذاتها* تسعى فى خلاصها بالاعتذار لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسى نفسى (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) أى تعطى وافيا* كاملا (ما عَمِلَتْ) أى جزاء ما عملت بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال وإيثار الإظهار على الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وفتى المجادلة والتوفية وإن كانتا فى يوم واحد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون أجورهم أولا يعاقبون بغير موجب ولا يزاد فى عقابهم على ذنوبهم (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) قيل ضرب المثل صنعه واعتماله وقد مر تحقيقه فى سورة البقرة ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدى إلى الاثنين لتضمنه معنى الجعل وتأخير قرية مع كونها

١٤٤

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣)

____________________________________

مفعولا أول لئلا يحول المفعول الثانى بينها وبين صفتها وما يترتب عليها إذ التأخير عن الكل مخل بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده وتشوقا إليه لا سيما إدا كان فى المقدم ما يدعو إليه فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن والقرية إما محققة فى الغابرين وإما مقدرة أى جعلها مثلا لأهل مكة خاصة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمة ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا (كانَتْ آمِنَةً) ذات أمن من كل مخوف (مُطْمَئِنَّةً) لا يزعج أهلها مزعج (يَأْتِيها رِزْقُها) أقوات أهلها صفة ثانية لقرية وتغيير سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيان رزقها متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر (رَغَداً) واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من نواحيها (فَكَفَرَتْ) أى كفر أهلها (بِأَنْعُمِ اللهِ) أى بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر وإيثار جمع القلة للإيذان بأن كفران نعمة قليلة حيث أوجب هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة (فَأَذاقَهَا اللهُ) أى أذاق أهلها (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) شبه أثر* الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم باللباس الغاشى للابس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكى اللامسة والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالها فى ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة كقول كثير[غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا * غلقت لضحكته رقاب المال] فإن الغمر مع كونه فى الحقيقة من أحوال الماء الكثير لما كان كثير الاستعمال فى المعروف المشبه بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقة فصارت إضافته إلى الرداء المستعار للمعروف تجريدا أو شبه أثرهما وضررهما من حيث الإحاطة بهم والكراهة لديهم تارة باللباس الغاشى للابس المناسب للخوف بجامع الإحاطة واللزوم تشبيه معقول بمحسوس فاستعير له اسمه استعارة تصريحية وأخرى بطعم المر البشع الملائم للجوع الناشىء من فقد الرزق بجامع الكراهة فأومى إليه بأن أوقع عليه الإذاقة المستعارة لإيصال المضار المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكى اللامسة والذائقة وتقديم الجوع الناشىء مما ذكر من فقدان الرزق على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بينها وبين إتيان الرزق وقد قرىء بتقديم الخوف وبنصبه أيضا عطفا على المضاف أو إقامة له مقام مضاف محذوف وأصله ولباس الخوف (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور أسند ذلك* إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة وفى صيغة الصنعة إيذان بأن كفران نعمة صار صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) من تتمة المثل جىء بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله على

١٤٥

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤)

____________________________________

* الخلق أيضا أى ولقد جاء أهل تلك القرية (رَسُولٌ مِنْهُمْ) أى من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم* بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون (فَكَذَّبُوهُ) فى رسالته أو فيما أخبرهم* به مما ذكر فالفاء فصيحة وعدم ذكره للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) * المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا نبذة من ذلك (وَهُمْ ظالِمُونَ) أى حال التباسهم بما هم عليه من الظلم الذى هو كفران نعم الله تعالى وتكذيب رسوله غير مقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرة عنه وفيه دلالة على تماديهم فى الكفر والعناد وتجاوزهم فى ذلك كل حد معتاد وترتيب العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لمن سار سيرتهم كافة محاذية لحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو فى خصلة فذة كيف لا وقد كانوا فى حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم وما يمر ببالهم طيف من الخوف وكانت تجبى إليه ثمرات كل شىء ولقد جاءهم رسول منهم وأى رسول يحار فى إدراك سمو رتبته العقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما اختلف الدبور والقبول فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف ما أصابهم من جدب شديد وأزمة حصت كل شىء حتى اضطرتهم إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرفة والعلهز وهو الوبر المعالج بالدم وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا هو الذى يقتضيه المقام ويستدعيه حسن النظام وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) لأهل مكة قد ذكر حالهم صريحا بعد ما ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل من التحقيق كيف لا وقوله سبحانه (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدى إلى مثل عاقبته والمعنى وإذ قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتى أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يحل بكم مثل ما حل بهم* واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه (حَلالاً طَيِّباً) وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاء فى المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهى عن زعم الحرمة ولا ريب فى أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وقد تمهدت مباديه وبعد ما وقع ما وقع فمن ذا الذى يحظر ومن ذا الذى يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) على الاخبار بذلك قبل الوقوع يأباه الصدى لاستصلاحهم بالأمر والنهى وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين

١٤٦

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦)

____________________________________

مع أن ما يتلوه من خطاب النهى متوجه إلى الكفار كما فعله الواحدى حيث قال فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أى تطيعون أو* إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم أى إنما حرم هذه الأشياء دون ما تزعمون حرمته من البحائر والسوائب ونحوها (فَمَنِ اضْطُرَّ) بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئا من ذلك (غَيْرَ باغٍ) * أى على مضطر آخر (وَلا عادٍ) أى متجاوز قدر الضرورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) أى لا يؤاخذه* بذلك فأقيم سببه مقامه وفى التعرض لوصف الربوبية إيماء إلى علة الحكم وفى الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهار لكمال اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصدير الجملة بإنما لحصر المحرمات فى الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه كالسباع والحمر الأهلية ثم أكد ذلك بالنهى عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) اللام صلة مثلها فى قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أى لا تقولوا فى شأن ما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة فى قولكم ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحى أو قياس مبنى عليه (الْكَذِبَ) * منتصب بلا تقولوا وقوله تعالى (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل منه ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة* القول أى لا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام وأن يكون القول المقدر حالا من ألسنتهم أى قائلة هذا حلال الخ ويجوز أن ينتصب الكذب بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا واللام للتعليل وما مصدرية أى لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أى لا تحلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له بصورة مستحسنة وتزيينها له فى المسامع كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وصف وأبين تعريف على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر وقرىء بالجر صفة لما مع مدخولها كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى (بِدَمٍ كَذِبٍ) والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة وقرب الكذب جمع كذوب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الشتم أو بمعنى الكلم الكواذب أو هو جمع الكذاب من قولهم كذب كذبا ذكره ابن جنى (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) *

__________________

(١) قوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التلاوة فان الله غفور رحيم وحينئذ فلا حاجة لبيان نكتة التعبير بالربوبية المضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام بقوله (وفى التعرض لوصف الربوبية الخ).

١٤٧

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠)

____________________________________

فإن مدار الحل والحرمة ليس إلا أمر الله تعالى فالحكم بالحل والحرمة إسناد للتحليل والتحريم إلى الله* سبحانه من غير أن يكون ذلك منه واللام لام العاقبة (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فى أمر من الأمور (لا يُفْلِحُونَ) لا يفوزون بمطالبهم التى ارتكبوا الافتراء للفوز بها (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ* محذوف أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة (وَلَهُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يكتنه كنهه (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) خاصة دون غيرهم من الأولين والآخرين (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) أى بقوله* تعالى (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الآية (مِنْ قَبْلُ) متعلق بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم فى ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما* حتى انتهى الأمر إلينا (وَما ظَلَمْناهُمْ) بذلك التحريم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه حسبما نعى عليهم قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة كيف وقد بين فيها أن تحريم ما حرم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا أوضح بيان وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم فى التحريم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أى بسبب جهالة أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر فى العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الافتراء على الله* تعالى وغيره (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد ما عملوا ما عملوا والتصريح به مع دلالة ثم عليه للتأكيد* والمبالغة (وَأَصْلَحُوا) أى أصلحوا أعمالهم أو دخلوا فى الصلاح (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة* (لَغَفُورٌ) لذلك السوء (رَحِيمٌ) يثيب على طاعته تركا وفعلا وتكرير قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ) لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ظهور الأثر فى التائبين للإيماء إلى أن إفاضة آثار الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونهم من أتباعه كما أشير إليه فيما مر (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) على حياله لحيازته من الفضائل البشرية ما لا تكاد توجد إلا متفرقة فى

١٤٨

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣)

____________________________________

أمة جمة حسبما قيل [ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم فى واحد] وهو رئيس أهل التوحيد وقدوة أصحاب التحقيق جادل أهل الشرك وألقمهم الحجر ببينات باهرة لا تبقى ولا تذر وأبطل مذاهبهم الزائغة بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة أو لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار وقيل هى فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناس كانوا يقصدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وإيراد ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن فى النبوة وتحريم ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه (قانِتاً لِلَّهِ) مطيعا له قائما بأمره (حَنِيفاً) مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه بحال* (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فى أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك مع ظهوره لا ردا على كفار قريش* فقط فى قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيم بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم عزير ابن الله فى افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاة والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولا حقا (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) صفة ثالثة لأمة وإنما أوثر صيغة جمع القلة للإيذان بأنه عليه‌السلام كان لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه‌السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما بين ذلك بضرب المثل (اجْتَباهُ) للنبوة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إليه سبحانه* وهو ملة الإسلام وليست نتيجة هذه الهداية مجرد اهتدائه عليه‌السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا بمعونة قرينة الاجتباء (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) حالة حسنة من الذكر الجميل والثناء فيما بين الناس قاطبة حتى أنه ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه وقيل هى الخلة والنبوة وقيل قول المصلى منا كما صليت على إبراهيم والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه الصلاة والسلام (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أصحاب الدرجات العالية فى الجنة حسبما سأله بقوله (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) مع علو طبقتك وسمو رتبتك (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الملة اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم‌السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهو الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له وتحقيقه أن الوضع الإلهى مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى دينا قال الراغب الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تكاد توجد مضافة إلى الله سبحانه ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا فى جملة الشرائع دون آحادها والمراد بملته عليه‌السلام الإسلام الذى عبر عنه آنفا بالصراط المستقيم (حَنِيفاً) *

١٤٩

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤)

____________________________________

حال من المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به عليه‌السلام جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة والمأمور به الاتباع فى الأصول دون الشرائع المتبدلة بتبدل الأعصار وما فى* ثم من التراخى فى الرتبة للإيذان بأن هذه النعمة من أجل النعم الفائضة عليه عليه‌السلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه‌السلام عما هم عليه من عقد وعمل وقوله تعالى (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أى فرض تعظيمه والتخلى فيه للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفى الكلى وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا فى كليته حسبما سلف فى قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) الخ فإن اليهود كانوا يدعون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه‌السلام كان محافظا عليه أى ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته التى أمرت باتباعها حتى يكون بينه عليه الصلاة والسلام وبين بعض المشركين علاقة فى الجملة وإنما شرع ذلك لبنى إسرائيل بعد مدة طويلة وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير وقد قرىء على البناء للفاعل وإنما عبر عن ذلك بالجعل موصولا بكلمة على وعنهم بالاسم الموصول* باختلافهم فقيل إنما جعل السبت (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدى إلى العذاب وبكونه معللا باختلافهم فى شأنه قبل الوقوع إيثارا له على ما أمر الله تعالى به واختيارا للعكس لكن لا باعتبار شمول العلية لطرفى الاختلاف وعموم الغائلة للفريقين بل باعتبار حال منشأ الاختلاف من الطرف المخالف للحق وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام أمر اليهود أن يجعلوا فى الأسبوع يوما واحدا للعبادة وأن يكون ذلك يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا نريد اليوم الذى فرغ الله تعالى فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فأذن الله تعالى لهم فى السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون* وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله سبحانه قردة دون أولئك المطيعين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) * أى بين الفريقين المختلفين فيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أى يفصل ما بينهما من الخصومة والاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب وفيه إيماء إلى أن ما وقع فى الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع فى الآخرة شىء لا يعتد به هذا هو الذى يستدعيه الإعجاز التنزيلى وقيل المعنى إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه أى أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله سبحانه به وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى ووجه إيراده ههنا بأنه أريد به إنذار المشركين من سخط الله تعالى على العصاة والمخالفين لأوامره كضرب المثل بالقرية التى كفرت بأنعم الله تعالى ولا ريب فى أن كلمة بينهم تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف وأن توسيط حديث المسخ للإنذار المذكور بين

١٥٠

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦)

____________________________________

حكاية أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعوة إليها من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فتأمل (ادْعُ) أى من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول للتعميم أو افعل الدعوة كما فى قولهم يعطى ويمنع أى يفعل الإعطاء والمنع فحذفه للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غنى عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) إلى الإسلام الذى عبر عنه* تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه‌السلام وفى التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية وتبليغ الشىء إلى كماله اللائق شيئا فشيئا مع إضافة الرب إلى ضمير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلهم بأحكام الشريعة الشريفة من الدلالة على إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام والإيماء إلى وجه بناء الحكم مالا يخفى (بِالْحِكْمَةِ) أى بالمقالة المحكمة الصحيحة وهو الدليل الموضح* للحق المزيح للشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أى الخطابيات المقنعة والعبر النافعة على وجه لا يخفى عليهم أنك* تناصحهم وتقصد ما ينفعهم فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوة عوامهم ويجوز أن يكون المراد بهما القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الوصفين (وَجادِلْهُمْ) أى ناظر معانديهم (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالطريقة التى هى أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه‌السلام (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الذى أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبول الحق بعد ما عاين ما عاين من الحكم والمواعظ والعبر (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إليه بذلك وهو تعليل لما ذكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلك* فى الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوى عن الضلال بموجب استعداده المكتسب وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلى فما شرعه لك فى الدعوة هو الذى تقتضيه الحكمة فإنه كاف فى هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلة بالأحسن وأما حصول الهداية أو الضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدى إليه فيجازى كلا منهما بما يستحقه وتقديم الضالين لما أن مساق الكلام لهم وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة الله التى فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذى هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جىء به على صيغة الاسم المنبىء عن الثبات وتكرير هو أعلم للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوة بما أمره به من الوجه اللائق عقبه بخطاب شامل له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال (وَإِنْ عاقَبْتُمْ)

١٥١

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧)

____________________________________

* أى إن أردتم المعاقبة على طريقة قول الطبيب للمحتمى إن أكلت فكل قليلا (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أى بمثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان أو على نهج المشاكلة والمقصود إيجاب مراعاة العدل مع من يناصبهم من غير تجاوز حين ما آل الجدال إلى القتال وأدى النزاع إلى القراع فإن الدعوة المأمور بها لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهى موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق فى قلادة غير معهودة قاضية عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وأرتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة رضى الله عنه يوم أحد قد مثل به قال لئن أظفرنى الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده وقرىء وإن عقبتم فعقبوا أى وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه والأمر وإن دل على إباحة المماثلة فى المثلة من غير تجاوز لكن فى تقييده* بقوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) حث على العفو تعريضا وقد صرح به على الوجه الآكد فقيل (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) أى عن* المعاقبة بالمثل (لَهُوَ) أى لصبركم ذلك (خَيْرٌ) لكم من الانتصار بالمعاقبة وإنما قيل (لِلصَّابِرِينَ) مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم عند ترك المعاقبة ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل فيدخل فيه صبرهم كدخول أنفسهم فى جنس الصابرين دخولا أوليا ثم أمر عليه الصلاة والسلام صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشئونه سبحانه ووفور وثوقه به فقيل (وَاصْبِرْ) أى على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام* والأذية وعاينت من إعراضهم عن الحق بالكلية (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أى وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشىء من الأشياء إلا بالله أى بذكره والاستغراق فى مراقبة شئونه والتبتل إليه بمجامع الهمة وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جميلة وقيل إلا بتوفيقه ومعونته فهى من حيث تسهيله وتيسيره فقط (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أى على الكافرين بوقوع اليأس من إيمانهم بك ومتابعتهم لك نحو فلا تأس على القوم الكافرين وقيل على المؤمنين وما* فعل بهم والأول هو الأنسب بجزالة النظم الكريم (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) بالفتح وقرىء بالكسر وهما لغتان كالقول والقيل أى لا تكن فى ضيق صدر وحرج ويجوز أن يكون الأول تخفيف ضيق كهين من* هين أى فى أمر ضيق (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أى من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول نهى عن التألم بمطلوب من قبلهم فات والثانى عن التألم بمحذور من جهتهم آت والنهى عنهما مع أن انتفاءهما من لوازم الصبر المأمور به لا سيما على الوجه الأول لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله سبحانه بشراشر نفسه متنزها عن كل ما سواه من الشواغل شىء من المطلوب فينهى عن الحزن

١٥٢

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

____________________________________

بفوانه أو محظور فكيف عن الخوف من وقوعه (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) تعليل لما سبق من الأمر والنهى والمراد بالمعية الولاية الدائمة التى لا تحوم حول صاحبها شائبة شىء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية المتقين إنما هى من حيث إنهم المباشرون للتقوى وكذا الحال فى قوله سبحانه (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ونظائرهما كافة والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقى عن الشرك ومرتبة النجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك أعنى التنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بشراشر نفسه وهو التقوى الحقيقى المورث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والمعنى أن الله ولى الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه فلم بخطر ببالهم شىء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن بفواته أو الخوف من وقوعه وهو المعنى بما به الصبر المأمور به حسبما أشير إليه وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما فى قوله تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) على أحد التفسيرين كما حقق فى مقامه وإلا فمجرد التوقى عن المعاصى لا يكون مدارا لشىء من العزائم المرخص فى تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل إن الله مع الذين صبروا وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم مبالغة فى الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) للإشعار بأنه من باب الإحسان الذى يتنافس* فيه المتنافسون على ما فصل ذلك حيث قيل واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقد نبه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان فى قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وحقيقة الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذى هو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين فى ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين وهو عليه الصلاة والسلام داخل فى زمرتهم دخولا أوليا وإما هو عليه الصلاة والسلام ومن شايعه عبر عنهم بذلك مد حالهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضى الله عنهما عند التعزية[اصبر نكن بك صابرين فإنما * صبر الرعية عند صبر الرأس] عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار أوص قال إنما الوصية من المال وأوصيكم بخواتيم سورة النحل. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله تعالى بما أنعم عليه فى دار الدنيا وإن مات فى يوم تلاها أو ليلته كان له من الأجر كالذى مات وأحسن الوصية ، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله أجمعين.

١٥٣

١٧ ـ سورة الاسراء

(مكية وآياتها مائة وأحد عشر)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

____________________________________

(سورة الإسراء مكية إلا الآيات ٢٦ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٥٧ ومن آية ٧٣ إلى آية ٨٠ فمدنية وآياتها ١١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وحيث كان المسمى معنى لا عينا وجنسا لا شخصا لم تكن إضافته من قبيل ما فى زيد المعارك أو حاتم طىء وانتصابه بفعل متروك الإظهار تقديره أسبح الله سبحان الخ وفيه ما لا يخفى من الدلالة على التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذى هو الذهاب والإبعاد فى الأرض ومنه فرس سبوح أى واسع الجرى ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة فى الذهن ومن جهة قيامه مقام المصدر مع الفعل وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه ففيه مبالغة من حيث إضافة التنزه إلى ذاته المقدسة ومناسبة تامة بين المحذوف وبين ما عطف عليه فى قوله تعالى سبحانه وتعالى كأنه قيل تنزه بذاته وتعالى والإسراء السير بالليل خاصة كالسرى وقوله تعالى* (لَيْلاً) لإفادة قلة زمان الإسراء لما فيه من التنكير الدال على البعضية من حيث الأجزاء دلالته على البعضية من حيث الأفراد فإن قولك سرت ليلا كما يفيد بعضية زمان سيرك من الليالى يفيد بعضيته من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت سرت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا فيكون معيارا للسير لا ظرفا له ويؤيده قراءة من الليل أى بعضه وإيثار لفظ العبد للإيذان بتمحضه عليه الصلاة والسلام فى عبادته سبحانه وبلوغه فى ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه وإضافة التنزيه أو التنزه إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما فى حين الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته ونهاية تنزهه عن صفات المخلوقين (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اختلف فى مبدأ الإسراء فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر فإنه روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال بينا أنا فى المسجد الحرام فى الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل عليه الصلاة والسلام بالبراق وقيل هو دار أم هانىء بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به أو لأن الحرم كله مسجد فإنه روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما فى بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فكان ما كان فقصه عليها فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت بثوبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتمنعه خشية أن يكذبه القوم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كذبونى فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديث الإسراء فقال أبو جهل يا معشر كعب بن لؤى بن غالب هلم

١٥٤

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) (٢)

____________________________________

فحدثهم فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبى بكر فقال إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال إنى أصدقه على أبعد من ذلك فسمى الصديق وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا أما النعت فقد أصابه فقالوا أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه والله الشمس قد أشرقت فقال آخر هذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون. واختلف فى وقته أيضا فقيل كان قبل الهجرة بسنة وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة واختلف أيضا أنه فى اليقظة أو فى المنام فعن الحسن أنه كان فى المنام وأكثر الأقاويل بخلافه والحق أنه كان فى المنام قبل البعثة وفى اليقظة بعدها واختلف أيضا أنه كان جسمانيا أو روحانيا فعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت ما فقد جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن عرج بروحه وعن معاوية أنه قال إنما عرج بروحه والحق أنه كان جسمانيا على ما ينبىء عنه التصدير بالتنزيه وما فى ضمنه من التعجب فإن الروحانى ليس فى الاستبعاد والاستنكار وخرق العادة بهذه المثابة ولذلك تعجبت منه قريش وأحالوه ولا استحالة فيه فإنه قد ثبت فى الهندسة أن قطر الشمس ضعف قطر الأرض مائة ونيفا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل إلى موضع طرفها الأعلى بحركة الفلك الأعظم مع معاوقة حركة فلكها لها فى أقل من ثانية وقد تقرر أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض التى من جملتها الحركة وأن الله سبحانه قادر على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق مثل تلك الحركة بل أسرع منها فى جسد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو فيما يحمله ولو لم يكن مستبعدا لم يكن معجزة (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أى بيت المقدس سمى به إذ لم يكن حينئذ وراءه* مسجد وفى ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب ما لا يخفى (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ببركات الدين والدنيا لأنه* مهبط الوحى ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (لِنُرِيَهُ) غاية للإسراء (مِنْ آياتِنا) العظيمة التى من* جملتها ذهابه فى برهة من الليل مسيرة شهر ولا يقدح فى ذلك كونه قبل الوصول إلى المقصد ومشاهدة بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام والالتفات إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات وقرىء ليريه بالياء (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن* (الْبَصِيرُ) بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذن به القصر فيكرمه ويقربه بحسب ذلك وفيه إيماء إلى أن الإسراء* المذكور ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة والسلام ورفع منزلته وإلا فالإحاطة بأقواله وأفعاله حاصلة من غير حاجة إلى التقريب والالتفات إلى الغيبة لتربية المهابة (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أى التوراة وفيه إيماء إلى دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين فى المعنى ولم يذكر ههنا العروج بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء وما كان فيه مما لا يكتنه كنهه حسبما نطقت به سورة النجم تقريبا للإسراء إلى قبول السامعين أى آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور (وَجَعَلْناهُ) أى ذلك*

١٥٥

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٥)

____________________________________

* الكتاب (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون بما فى مطاويه (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أى لا تتخذوا نحو كتبت إليه أن افعل كذا وقرىء بالياء على أن أن مصدرية والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بنى إسرائيل لئلا يتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أى ربا تكلون إليه أموركم والإفراد لما أن فعيلا مفرد فى اللفظ جمع فى المعنى (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص أو النداء على قراءة النهى والمراد تأكيد الحمل على التوحيد بتذكير إنعامه تعالى عليهم فى ضمن إنجاء آبائهم من الغرق فى سفينة نوح عليه‌السلام أو على أنه أحد مفعولى لا يتخذوا على قراءة النفى ومن دونى حال من وكيلا فيكون كقوله تعالى (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو لا تتخذوا بإبدل الظاهر* من ضمير المخاطب كما هو مذهب بعض البغاددة وقرىء ذرية بكسر الذال (إِنَّهُ) أى إن نوحا عليه الصلاة* والسلام (كانَ عَبْداً شَكُوراً) كثير الشكر فى مجامع حالاته وفيه إيذان بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره عليه الصلاة والسلام وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذى هو أعظم مراتب الكفران وقيل الضمير لموسى عليه‌السلام (وَقَضَيْنا) أى أتممنا وأحكمنا منزلين (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أو* موحين إليهم (فِي الْكِتابِ) أى فى التوراة فإن الإنزال والوحى إلى موسى عليه‌السلام إنزال ووحى* إليهم (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) جواب قسم محذوف ويجوز إجراء القضاء المحتوم مجرى القسم كأنه قيل* وأقسمنا لتفسدن (مَرَّتَيْنِ) مصدر والعامل فيه من غير جنسه أولاهما مخالفة حكم التوراة وقتل شعياء عليه الصلاة والسلام وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله تعالى والثانية قتل زكريا ويحيى وقصد قتل* عيسى عليهم الصلاة والسلام (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) لتستكبرن عن طاعة الله سبحانه أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن فى ذلك إفراطا مجاوزا للحدود (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أى أولى كرتى الإفساد* أى حان وقت حلول العقاب الموعود (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) لمؤاخذتكم بجناياتكم (عِباداً لَنا) وقرىء عبيدا لنا* (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ذوى قوة وبطش فى الحروب هم سنجاريب من أهل نينوى وجنوده وقيل بخت نصر* عامل لهراسب وقيل جالوت (فَجاسُوا) أى ترددوا لطلبكم بالفساد وقرىء بالحاء والمعنى واحد وقرىء* وجوسوا (خِلالَ الدِّيارِ) فى أوساطها للقتل والغارة وقرىء خلل الديار فقتلوا علماءهم وكبارهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفا وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضا مما جرت به

١٥٦

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

____________________________________

السنة الإلهية (وَكانَ) ذلك (وَعْداً مَفْعُولاً) لا محالة بحيث لا صارف عنه ولا مبدل (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أى الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من* الإفساد والعلو قيل هى قتل بخت نصر واستنقاذ بنى إسرائيل أساراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم وذلك أنه لما ورث بهمن بن اسفنديار الملك من جده كشتاسف بن لهراسب ألقى الله تعالى فى قلبه الشفقة عليهم فرد أساراهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه‌السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر وقيل هى قتل دواد عليه‌السلام لجالوت (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ) كثيرة بعد ما نهبت أموالكم (وَبَنِينَ) بعد ما سبيت* أولادكم (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) مما كنتم من قبل أو من عدوكم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل* جمع نفروهم القوم المجتمعون للذهاب إلى العدو كالعبيد والمعين (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية إلى الغير أى عملتموها على الوجه اللائق ولا يتصور ذلك إلا بعد أن تكون الأعمال حسنة فى أنفسها أو إن فعلتم الإحسان (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن ثوابها لها (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) أعمالكم بأن عملتموها* لا على الوجه اللائق ويلزمه السوء الذاتى أو فعلتم الإساءة (فَلَها) إذ عليها وبالها وعن على كرم الله وجهه* ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) حان وقت ما وعد من عقوبة المرة* الآخرة (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه أى بعثناهم ليسوءوا ومعنى ليسوءوا* وجوهكم ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية فى وجوهكم كقوله تعالى (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرىء ليسوء على أن الضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث ولنسوء بنون العظمة وفى قراءة على رضى الله عنه لنسو أن على أنه جواب إذا وقرىء لنسو أن بالنون الخفيفة وليسو أن واللام فى قوله عزوجل (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) عطف على ليسوءوا متعلق بما تعلق هو به (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى فى أول مرة (وَلِيُتَبِّرُوا) أى* يهلكوا (ما عَلَوْا) ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم (تَتْبِيراً) فظيعا لا يوصف بأن سلط الله عز سلطانه* عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرد وقيل جردوس وقيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال لم تصدقونى فقتل على ذلك ألوفا فلم يهدأ الدم ثم قال إن لم تصدقونى ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال لمثل هذا ينتقم منكم ربكم ثم قال يا يحيى قد علم ربى وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى منهم أحدا فهدأ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد المرة الآخرة إن تبتم

١٥٧

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

____________________________________

* توبة أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصى (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى ما كنتم فيه من الفساد مرة أخرى* (عُدْنا) إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله سبحانه عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحو ذلك وعن الحسن عادوا فبعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم يعطون* الجزية عن يدوهم صاغرون وعن قتادة مثله (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أى محبسا لا يستطيعون الخروج منها أبد الآبدين وقيل بساطا كما يبسط الحصير وإنما عدل عن أن يقال وجعلنا جهنم لكم تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) الذى آتيناكه (يَهْدِي) أى الناس* كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذى آتيناه موسى (لِلَّتِي) للطريقة التى (هِيَ أَقْوَمُ) أى أقوم الطرائق وأسدها أعنى ملة الإسلام والتوحيد وترك ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة والخصلة ونحوها مما يعبر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغنى عن التصريح بها لغاية ظهورها لا سيما بعد ذكر الهداية التى هى من روادفها والمراد بهدايته لها كونه بحيث يهتدى إليها من يتمسك به لا تحصيل* الاهتداء بالفعل فإنه مخصوص بالمؤمنين حينئذ (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) بما فى تضاعيفه من الأحكام والشرائع* وقرىء بالتخفيف (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) التى شرحت فيه (أَنَّ لَهُمْ) أى بأن لهم بمقابلة تلك الأعمال (أَجْراً كَبِيراً) بحسب الذات وبحسب التضعيف عشر مرات فصاعدا (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء وتخصيصها بالذكر من بين سائر ما كفروا به لكونها* معظم ما أمروا بالإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذى أنبأ عنه قوله عزوجل (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو عذاب جهنم أى أعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما وهو أبلغ فى الزجر لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع والجملة معطوفة على جملة ببشر باضمار يخبر أو على قوله تعالى (أَنَّ لَهُمْ) داخلة معه تحت التبشير المراد به مجازا مطلق الإخبار المنتظم للإخبار بالخبر السار وبالنبأ الضار حقيقة فيكون ذلك بيانا لهداية القرآن بالترغيب والترهيب ويجوز كون التبشير بمعناه والمراد تبشير المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم وقوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) بيان لحال المهدى إثر بيان حال الهادى وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله فى بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذى لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذى لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أى

١٥٨

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

____________________________________

بعض منه وهو الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين إلى غير ذلك مما حكى عنهم وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أى مثل دعائه بالخير المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل من الدعاء* به وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله (وَكانَ الْإِنْسانُ) أى من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده (عَجُولاً) * يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره أو مبالغا فى العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تحمل العجولية على اللج والتمادى فى استيجاب العذاب بتلك الأعمال وعلى الثانى إن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو فى بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه روى أنه عليه الصلاة والسلام دفع إلى سودة أسيرا فارخت كتافه رحمة لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أخبر به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اللهم اقطع يدينها فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى سألت الله تعالى أن يجعل دعائى على من لا يستحق من أهلى عذابا رحمة أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر فى أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وما هو شر جدير بالاستعاذة منه (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) شروع فى بيان بعض وجوه ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التى كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه من محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الإخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودى إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور ولو أن الليلة أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبها من شهر آخر ولترتيب غاية آية النهار عليها بلا واسطة أى جعلنا الملوين بهيآتهما وتعاقبهما واختلافهما فى الطول والقصر على وتيرة عجيبة يحار فى فهمها العقول آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما وتهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من ملة الإسلام والتوحيد (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) الإضافة إما بيانية كما فى إضافة العدد إلى المعدود أى محونا* الآية التى هى الليل وفائدتها تحقيق مضمون الجملة السابقة ومحوها جعلها ممحوة الضوء مطموسته لكن لا بعد أن لم يكن كذلك بل إبداعها على ذلك كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أى أنشأهما كذلك والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) أى الآية التى هى النهار على نحو ما مر (مُبْصِرَةً) *

١٥٩

أى مضيئة يبصر فيها الأشياء وصفا لها بحال أهلها أو مبصرة للناس من أبصره فبصره وإما حقيقية وآية الليل والنهار نيراهما ومحو القمر إما خلقه مطموس النور فى نفسه فالفاء كما ذكر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق على ما هو معنى المحو والفاء للتعقيب وجعل الشمس مبصرة إبداعها* مضيئة بالذات ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة (لِتَبْتَغُوا) متعلق بقوله تعالى (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) كما أشير* إليه أى وجعلناها مضيئة لتطلبوا لأنفسكم فى بياض النهار (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أى رزقا إذ لا يتسنى ذلك فى الليل وفى التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة على أن ليس للعبد فى تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى الله* سبحانه لا بطريق الوجوب عليه بل تفضلا بحكم الربوبية (وَلِتَعْلَمُوا) متعلق بكلا الفعلين أعنى محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مدارا للعلم المذكور أى لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما* وسائر أحوالهما (عَدَدَ السِّنِينَ) التى يتعلق بها غرض علمى لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية (وَالْحِسابَ) أى الحساب المتعلق بما فى ضمنها من الأوقات أى الأشهر والليالى والأيام وغير ذلك مما نيط به شىء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذى تعلق به العد طائفة منها وتعلقه فى ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعنى حيثية تحققها وتحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات مثلا فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة يعدها أى يفنيها من غير أن يعتبر فى ذلك تحصل شىء معين وتحقيقه ما مر فى سورة يونس من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل كما أشير إليه آنفا والعد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شىء كذلك ولما أن السنين لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف إليها الغدد وعلق الحساب بما عداها مما اعتبر فيه تحصل مراتب معينة لها أسام خاصة وأحكام مستقلة وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتبارى لا يجدى فى تحصل المعدودات وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما فى تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالى بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصل شىء آخر منه حسبما ذكر نازل من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى* المراتب فكان جديرا بالتقديم فى مقام الامتنان والله سبحانه أعلم (وَكُلَّ شَيْءٍ) تفتقرون إليه فى المعاش والمعاد سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب* بفعل يفسره قوله تعالى (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أى بيناه فى القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فظهر كونه هاديا للتى هى أقوم ظهورا بينا.

١٦٠