تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١)

____________________________________

بينكم وبينهم رتب قدرته تعالى على ذلك على قدرته تعالى على خلق السموات والأرض على هذا النمط البديع إرشادا إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيمة كان على تبديل خلق آخر بهم أقدر ولذلك قال (وَما ذلِكَ) أى إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ومن هذا شأنه حقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أى يبرزون يوم القيامة وإيثار صيغة الماضى للدلالة على تحقق وقوعه كما فى قوله سبحانه (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) أو لأنه لا مضى ولا استقبال بالنسبة إليه سبحانه والمراد بروزهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على الله سبحانه فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم (فَقالَ الضُّعَفاءُ) الأتباع جمع ضعيف والمراد ضعف الرأى وإنما كتب بالواو على لفظ من يفخم* الألف قبل الهمزة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم (إِنَّا كُنَّا) فى الدنيا (لَكُمْ تَبَعاً) فى تكذيب الرسل عليهم‌السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كغيب فى جمع غائب أو مصدر نعت به مبالغة أو على إضمار أى ذوى تبع (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) دافعون (عَنَّا) والفاء للدلالة على* سببية الإتباع للإغناء والمراد التوبيخ والعتاب والتقريع والتبكيت (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى* للبيان واقعة موقع الحال والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أى بعض الشىء الذى هو عذاب الله تعالى ويجوز كونهما للتبعيض أى بعض شىء هو بعض عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا أى فهل أنتم مغنون عنا بعض العذاب بعض الإغناء ويعضد الأول قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (قالُوا) أى المستكبرون جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذارا عما فعلوا* بهم (لَوْ هَدانَا اللهُ) أى للإيمان ووفقنا له (لَهَدَيْناكُمْ) ولكن ضللنا فأضللناكم أى اخترنا لكم ما اخترناه* لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرضنا كم له ولكن سددوننا طريق الخلاص ولات حين مناص (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا) مما لقينا (أَمْ صَبَرْنا) على ذلك أى مستو علينا* الجزع والصبر فى عدم الإنجاء والهمزة وأم لتأكيد التسوية كما فى قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) وإنما أسندوهما ونسبوا استواءهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة فى النهى عن

٤١

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢)

____________________________________

التوبيخ بإعلام أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم ويجوز أن يكون قوله (سَواءٌ عَلَيْنا) الخ من كلام الفريقين على منوال قوله تعالى (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) ويؤيده ما روى أنهم يقولون تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ولما* كان عتاب الأتباع من باب الجزع ذيلوا جوابهم ببيان أن لا جدوى فى ذلك فقالوا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) من منجى ومهرب من العذاب من حاص الحمار إذا عدل بالفرار وهو إما اسم مكان كالبيت والمصيف أو مصدر كالمغيب والمشيب وهى جملة مفسرة لإجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه (وَقالَ الشَّيْطانُ) الذى أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتباه بما قاله الأتباع للمستكبرين* (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أى أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا* فى محفل الأشقياء من الثقلين (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أى وعدا من حقه أن ينجز فأنجزه أو* وعدا أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء (وَوَعَدْتُكُمْ) أى وعد الباطل وهو ان لا بعث ولا جزاء ولئن* كان فالأصنام شفعاؤكم ولم يصرح ببطلانه لما دل عليه قوله (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أى موعدى على حذف المفعول* الثانى أى نقضته جعل خلف وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادرا على إنجازه وأنى له ذلك (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أى تسلط أو حجة تدل على صدقى (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائى إياكم إليه وتسويله وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه فى مبروزه على طريقة [تحية بينهم ضرب وجيع] مبالغة فى نفى السلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لى عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من بابه* ويجوز كون الاستثناء منقطعا (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) فأسرعتم إجابتى (فَلا تَلُومُونِي) بوعدى إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء وقرىء بالياء على وجه الالتفات كما فى قوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث استجبتم لى باختياركم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج وليس مراده التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه وليس فيه دلالة على استقلال العبد فى أفعاله كما زعمت المعتزلة بل يكفى فى ذلك ان يكون لقدرته الكاسبة التى عليها يدور فلك التكليف مدخل فيه فإنه سبحانه إنما يخلق افعاله حسبما يختاره وعليه تترتب السعادة والشقاوة وما قيل من أنه يستدعى أن يقال فلا تلومونى ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه مبنى على عدم الفرق بين مذهب* أهل الحق وبين مسلك الجبرية (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أى بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) مما أنا فيه وإنما تعرض لذلك مع أنه لم يكن فى حين الاحتمال مبالغة فى بيان عدم إصراخه إياهم وإيذانا بأنه

٤٢

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (٢٤)

____________________________________

أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف من إصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية فكان ما مضى كان جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب عن استغاثتهم واستعانتهم به فى استدفاع مادهمهم من العذاب وقرىء بكسر الياء (إِنِّي كَفَرْتُ) اليوم (بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أى بإشراككم* إياى بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) يعنى أن إشراككم لى بالله سبحانه هو الذى يطمعكم فى نصرتى لكم بأن كان لكم على حق حيث جعلتمونى معبودا وكنت أود ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرت بذلك ولم أحمده ولم أقبله منكم بل تبرأت منه ومنكم فلم يبق بينى وبينكم علاقة أو كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذى أشركتمونيه وهو الله تعالى كما فى قوله سبحان ما سخر كن لنا فيكون تعليلا لعدم إصراخه فإن الكافر بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواء كان بالمدافعة أو الشفاعة وأما جعله تعليلا لعدم إصراخهم إياه فلا وجه له إذ لا احتمال له حتى يحتاج إلى التعليل ولأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لو لا المانع من جهته (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تتمة كلامه أو ابتداء كلام من جهة الله عزوجل وفى حكاية أمثاله لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أى بأمره أو بتوفيقه وهدايته وفى التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد اللطف بهم والمدخلون هم الملائكة عليهم‌السلام وقرىء على صيغة التكلم فيكون قوله تعالى (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلقا بقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أى يحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم (أَلَمْ تَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد علق بما بعده من قوله تعالى (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أى كيف اعتمده ووضعه فى موضعه اللائق به (كَلِمَةً طَيِّبَةً) منصوب بمضمر أى جعل كلمة طيبة هى كلمة التوحيد* أو كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أى حكم بأنها مثلها* لا أنه تعالى صيرها مثلها فى الخارج وهو تفسير لقوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) كقولك شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس ويجوز أن يكون كلمة بدلا من مثلا وكشجرة صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أى هى كشجرة وأن يكون أول مفعولى ضرب إجراء له مجرى جعل قد أخر عن ثانيهما أعنى مثلا لئلا يبعد عن صفته التى هى كشجرة وقد قرئت بالرفع على الابتداء (أَصْلُها ثابِتٌ) أى ضارب بعروقه فى الأرض وقرأ* أنس بن مالك رضى الله عنه كشجرة طيبة ثابت أصلها وقراءة الجماعة أقوى سبكا وأنسب بقرينته أعنى قوله تعالى (وَفَرْعُها) أى أعلاها (فِي السَّماءِ) فى جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعها على الاكتفاء بلفظ* الجنس عن الجمع.

٤٣

(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧)

____________________________________

(تُؤْتِي أُكُلَها) تعطى ثمرها (كُلَّ حِينٍ) وقته الله تعالى لإثمارها (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادة خالقها والمراد* بالشجرة المنعوتة إما النخلة كما روى مرفوعا أو شجرة فى الجنة (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن فى ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير للمعانى بصور المحسوسات (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هى كلمة* الكفر والدعاء إليه أو تكذيب الحق أو ما يعم الكل أو كل كلمة قبيحة (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) أى كمثل شجرة خبيثة قيل هى كل شجرة لا يطيب ثمرها كالحنظل والكشوث ونحوهما وتغيير الأسلوب للإيذان بأن* ذلك غير مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد (اجْتُثَّتْ) استؤصلت وأخذت* جثتها بالكلية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لكون عروقها قريبة منه (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار عليها (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذى ثبت بالحجة عندهم وتمكن فى قلوبهم وهو الكلمة الطيبة* التى ذكرت صفتها العجيبة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزالون عنه إذا افتتنوا فى دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس* وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم فى الموقف ولا تدهشهم أهوال القيامة أو عند سؤال القبر. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال ثم يعاد روحه فى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فى قبره فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربى الله ودينى الإسلام ونبيى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينادى مناد من السماء أنه صدق عبدى فذلك قوله تعالى (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا مثال إيتاء الشجرة المذكورة أكلها كل حين قال الثعلبى فى تفسيره أخبرنى أبو القاسم بن حبيب فى سنة ست وثمانين وثلثمائة قال سمعت أبا الطيب محمد بن على الخياط يقول سمعت سهل بن عمار العملى يقول رأيت يزيد بن هرون فى منامى بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال أتانى فى قبرى ملكان فظان فقالا من ربك وما دينك ومن نبيك فأخذت بلحيتى البيضاء فقلت لهما ألمثلى يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين* سنة فذهبا (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أى يخلق فيهما الضلال عن الحق الذى ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم والمراد بهم الكفرة بدليل ما يقابله ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشىء فى غير موضعه وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التى فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو كل من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراض عن البينات الواضحة فلا يتثبت فى موقف الفتن ولا يهتدى إلى الحق فالمراد بالذين آمنوا حينئذ المخلصون فى الإيمان الراسخون فى الإيقان كما ينبىء عنه التثبيت لكنه* يوهم كون كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخلة تحت مالا قرار له من الشجرة المضروبة مثلا (وَيَفْعَلُ

٤٤

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠)

____________________________________

اللهُ ما يَشاءُ) من تثبيت بعض وإضلال آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك وفى إظهار الاسم الجليل فى الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت فى مبدأ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر (أَلَمْ تَرَ) تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل التى لا تكاد تصدر عمن له أدنى إدراك أى ألم تنظر (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أى شكر نعمته تعالى بأن وضعوا* موضعه (كُفْراً) عظيما وغمطا لها أو بدلوا نفس النعمة كفرا فإنهم لما كفروها سلبوها فصاروا مستبدلين* بها كفرا كأهل مكة حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمه الآمن الذى يجبى إليه ثمرات كل شىء وجعلهم قوام بيته وشرفهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبى النعمة باقين بالكفر بدلها وعن عمر وعلى رضى الله عنهما هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عزوجل (قُلْ تَمَتَّعُوا) الآية (وَأَحَلُّوا) أى أنزلوا (قَوْمَهُمْ) بإرشادهم إياهم إلى طريقة* الشرك والضلال وعدم التعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرع الحلول كقوله تعالى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك الذى لاهلاك وراءه (جَهَنَّمَ) عطف بيان لها وفى الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل (يَصْلَوْنَها) حال منها أو من قومهم أى داخلين فيها مقاسين لحرها* أو استئناف لبيان كيفية الحلول أو مفسر لفعل يقدر ناصبا لجهنم فالمراد بالإحلال المذكور حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والأسر لكن قوله تعالى (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أنسب بالتفسير الأول (وَبِئْسَ الْقَرارُ) على حذف المخصوص بالذم أى بئس المقر جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها وفيه أن حلولهم* وصليهم على وجه الدوام والاستمرار (وَجَعَلُوا) عطف على أحلوا وما عطف عليه داخل معهما فى حين الصلة وحكم التعجيب أى جعلوا فى اعتقادهم وحكمهم (لِلَّهِ) الفرد الصمد الذى ليس كمثله شىء وهو* الواحد القهار (أَنْداداً) أشباها فى التسمية أو فى العبادة (لِيُضِلُّوا) قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا* (عَنْ سَبِيلِهِ) القويم الذى هو التوحيد ويوقعوهم فى ورطة الكفر والضلال ولعل تغيير الترتيب مع* أن مقتضى ظاهر النظم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدى إلى إحلالهم دار البوار لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من وضع الكفر موضع الشكر وإحلال القوم دار البوار واتخاذ الأنداد للإضلال أمر يقضى منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من مجموع الهنات الثلاث كما فى قصة البقرة وقرىء ليضلوا بالفتح

٤٥

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١)

____________________________________

وأيا ما كان فليس ذلك غرضا حقيقيا لهم من اتخاذ الأنداد لكن لما كان ذلك نتيجة له شبه بالغرض* وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية (قُلْ) تهديدا لأولئك الضالين المضلين ونعيا عليهم وإيذانا بأنهم لشدة إبائهم قبول الحق وفرط انهماكهم فى الباطل وعدم ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاء بأن يضرب عنهم صفحا ويعطف عنهم عنان العظة ويخلوا وشأنهم ولا ينهوا عنه بل يؤمروا بمباشرته مبالغة* فى التخلية والخذلان ومسارعة إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم (تَمَتَّعُوا) بما أنتم عليه من الشهوات* التى من جملتها كفران النعم العظام واستتباع الناس فى عبادة الأصنام (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) ليس إلا فلا بد لكم من تعاطى ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هى فى الحقيقة صورة لدخولها ومثال له حسبما يلوح به قوله سبحانه (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) الخ فهو تعليل للأمر المأمور وفيه من التهديد الشديد والوعيد الأكيد ما لا يوصف أو قل لهم تصوير الحالهم وتعبيرا عما يلجئهم إلى ذلك تمتعوا إيذانا بأنهم لفرط انغماسهم فى التمتع بما هم فيه من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم مأمورون بذلك من قبل آمر الشهوة مذعنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمور ساع فى خدمة آمر مطاع فليس قوله تعالى (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) حينئذ تعليلا للأمر بل هو جواب شرط ينسحب عليه الكلام كأنه قيل هذه حالكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديد والوعيد لا فى الأمر (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) خصهم بالإضافة إليه تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها وترك العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما باعتبار المقول تهديدا وتشريفا والمقول ههنا محذوف دل* عليه الجواب أى قل لهم أقيموا وأنفقوا (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أى يداوموا على ذلك وفيه إيذان بكمال مطاوعتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال بأوامره وقد جوزوا أن يكون المقول يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمر عنهما وإنما حسن ذلك دون الحذف فى قوله[محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خلفت من أمر تبالا] لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مقامهما* وليس بذاك (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدرية من الأمر المقدر لا من جواب الأمر المذكور أى أنفقوا إنفاق سر وعلانية والأحب فى الإنفاق إخفاء المتطوع به وإعلان الواجب والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والمالية وترك التمتع بمتاع الدنيا والركون إليها كما هو صنيع* الكفر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصر ما يتلافى به تقصيره أو تفتدى به نفسه والمقصود نفى عقد المعاوضة بالمرة وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة فى نفى العقد إذ انتفاء البيع المستلزم* انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه بما يتصور مع تحقق الإيجاب من قبل البائع (وَلا خِلالٌ) ولا مخالة فيشفع له خليل أو يسامحه بمال يفتدى به نفسه أو من قبل أن يأتى يوم لا أثر فيه لما لهجوا بتعاطيه من البع

٤٦

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) (٣٢)

____________________________________

والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه والظاهر أن من متعلقة بأنفقوا وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه كما فى سورة البقرة من حيث إن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين فى الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعى إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق فى سبيل الله عزوجل أو من حيث إن إدخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك فى الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به ولا يبعد أن يكون تأكيد المضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث إن تركها كثيرا ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمخالات كما فى قوله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) وقرىء بالفتح فيهما على إرادة النفى العام ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابى هو وقوعه فى جواب هل فيه بيع أو خلال (اللهُ) مبتدأ خبره (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) وما فيها من الأجرام العلوية (وَالْأَرْضَ) وما فيها من أنواع المخلوقات لما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لنعمه شرع فى تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين بها الواضعين موضعها الكفر والمعاصى وفى جعل المبتدأ الاسم الجليل والخبر الاسم الموصول بتلك الأفاعيل العظيمة من خلق هذه الأجرام العظام وإنزال الأمطار وإخراج الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبة ما لا يخفى من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أى السحاب فإن كل ما علاك سماء أو من الفلك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب* ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحابا ماطرا وأيا ما كان فمن ابتدائية (السَّماءِ) أى نوعا منه هو المطر وتقديم* المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما فى قولك أعطاه السلطان من خزانته مالا أو لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر (فَأَخْرَجَ بِهِ) بذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ) الفائتة للحصر إما* لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض وإما لأنه أريد بمفردها جماعة الثمرة التى فى قولك أدركت ثمرة بستان فلان (رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو بمعنى المرزوق شامل للمطعوم والملبوس مفعول لأخرج* ومن للتبيين كقولك أنفقت من الدراهم ألفا ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولا ورزقا حالا منه أو مصدرا من أخرج بمعنى رزق أو للتبعيض بدليل قوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) كأنه قيل أنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم إذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا أخرج بالمطر كل الثمار ولا جعل كل الرزق ثمرا وخروج الثمرات وإن كان بمشيئته عزوجل وقدرته لكن جرت عادته تعالى

٤٧

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

____________________________________

بإضافة صورها وكيفياتها على المواد الممتزجة من الماء والتراب أو أودع فى الماء قوة فاعلة وفى الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار وهو قادر على إيجاد الأشياء بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الاسباب كذلك لما أن له تعالى فى إنشائها مدرجا من طور إلى طور صنائع وحكما يجدد فيها لأولى الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس ذلك فى إبداعها دفعة وقوله (لَكُمْ) صفة لقوله (رِزْقاً) إن أريد* به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل رزقا إياكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) بأن أقدركم على صنعتها* واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) جريا تابعا لإرداتكم (بِأَمْرِهِ) بمشيئة التى نيط بها كل شىء وتخصيصه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزوالة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى* من ظاهر الجال (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) إن أريد بها المياه العظيمة الجارية فى الأنهار العظام كما يومىء إليه ذكرها عند البحر فتسخيرها جعلها معدة لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداول يسقون بها زروعهم وجنانهم وما أشبه ذلك وإن أريد بها نفس الأنهار فتسخيرها تيسيرها لهم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) يدأبان فى سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه* من المكونات (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ينعاقبان خلفة لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها ذكر سبحانه وتعالى أنواع النعم الفائضة عليهم وأبرز كل واحدة منها فى جملة مستقلة تنويها لشأنها وتنبيها على رفعة مكانها وتنصيصا على كون كل منها نعمة جليلة مستوجبة للشكر وفى التعبير عن التصريف المتعلق بما ذكر من الفلك والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودة مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعى لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذى من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادى عن توهم كون الكل أعنى خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر نعمة واحدة كما مر فى قصة البقرة (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أى أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظام أحوالكم على الوجه المقدر فكأنكم سألتموه أو كل ما طلبتموه بلسان الاستعداد أو كل ما سألتموه على أن من للبيان وكلمة كل للتكثير كقولك فلان يعلم كل شىء وأتاه كل الناس وعليه قوله عزوجل (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) وقيل الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثانى لدلالة ما أبقى على ما ألقى وقرىء بتنوين* كل على أن ما نافية ومحل ما سألتموه النصب على الحالية أى آتاكم من كل غير سائليه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ)

٤٨

التى أنعم بها عليكم (لا تُحْصُوها) لا تطيقوا بحصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية وأصل الإحصاء أن* الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظ بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها كيف لا وما من فرد من أفراد الناس وإن كان فى أقصى مراتب الفقر والإفلاس ممنوا بأصناف العنايا مبتلى بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملته ألفيته متقلبا فى نعم لا تحد ومنن لا تحصى ولا تعد كأنه قد أعطى كل ساعة وآن من النعماء ما حواه حيطة الإمكان وإن كنت فى ريب من ذلك فقدر أنه ملك ملك أقطار العالم ودانت له كافة الأمم وأذعنت لطاعته السراة وخضعت لهيبته رقاب العتاة وفاز بكل مرام ونال كل منال وحاز جميع ما فى الدنيا من أصناف الأموال من غير ند يزاحمه ولا شريك يساهمه بل قدر أن جميع ما فيها من حجر ومدر يواقيت غالية ونفائس درر ثم قدر أنه قد وقع من فقد مشروب أو مطعوم فى حالة بلغت نفسه الحلقوم فهل يشترى وهو فى تلك الحال بجميع ما له من الملك والمال لقمة تنجيه عن رواه أو شربة ترويه من ظماه أم يختار الهلاك فتذهب الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه ولا نفع يعود إليه كلا بل يبذل لذلك كل ما تحويه اليدان كائنا ما كان وليس فى صفقته شائبة الخسران فإذن تلك اللقمة والشربة خير مما فى الدنيا بألف رتبة مع أنهما فى طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالى والأيام أو قدر أنه قد احتبس عليه النفس فلا دخل منه ما خرج ولا خرج منه ما ولح والحين قد حان وأتاه الموت من كل مكان أما يعطى ذلك كله بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامد فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برمتها مع أنه قد أبيح له كل آن من آنات الليالى والأيام حال اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على كل ما جل من السرودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا فى مطمورة العدم والبوار ومهاوى الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس فى كل زمان يمضى وكل آن يمر وينقضى من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر صفاته الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عزوجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبى وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التى هى علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التى لها دخل فى وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة فى أن يكون لشىء واحد موانع غير متناهية وإنما الاستحالة فى دخولها تحت الوجود فارتفاع تلك الموانع التى لا تتناهى أعنى بقاءها على العدم مع إمكان وجودها فى أنفسها فى كل آن من آنات وجوده نعم غير متناهية حقيقة

٤٩

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥)

____________________________________

لا ادعاء وكذا الحال فى وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء وكذا فى كمالاته التابعة لوجوده فاتضح أنه يفيض عليه كل آن نعم لا تتناهى من وجوه شتى فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك لا تلاحظك العيون بأنظارها ولا تطالعك العقول بأفكارها شأنك لا يضاهى وإحسانك لا يتناهى ونحن فى معرفتك حائرون وفى إقامة مراسم شكرك قاصرون نسألك الهداية إلى مناهج معرفتك والتوفيق* لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) * يظلم النعمة بإغفال شكرها أو بوضعه إياها فى غير موضعها أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان (كَفَّارٌ) شديد الكفران وقيل ظلوم فى الشدة يشكو ويجزع كفار فى النعمة يجمع ويمنع واللام فى الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده ويدخل فى ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفرا الخ دخولا أوليا (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أى واذكر وقت قوله عليه الصلاة والسلام والمقصود من تذكيره تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه‌السلام على نهج التفصيل والمراد به تأكيد ما سلف من تعجيبه عليه‌السلام ببيان فن آخر من جناياتهم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه‌السلام حيث أسكنهم مكة شرفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله تعالى أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات وتهوى قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أندادا وفعلوا ما فعلوا* (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) يعنى مكة شرفها الله سبحانه (آمِناً) أى ذا أمن أو آمنا أهله بحيث لا يخاف فيه على ما مر فى سورة البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أن المسئول هناك البلدية والأمن معا وههنا الأمن فقط حيث جعل هو المفعول الثانى للجعل وجعل البلد صفة للمفعول الأول فإن حمل على تعدد السؤال فلعله عليه‌السلام سأل أولا كلا الأمرين فاستجيب له فى أحدهما وتأخر الآخر إلى وقته المقدر لما يقتضيه من الحكمة الداعية إليه ثم كرر السؤال كما هو المعتاد فى الدعاء والابتهال أو كان المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكن كما فى سائر البلاد وقد أجيب إليه وثانيا الأمن المعهود أو كله هو المسئول فيهما وقد أجيب إليه أيضا لكن السؤال الثانى للاستدامة والاقتصار على ذلك لأنه المقصود الأصلى أو لأن المعتاد فى البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلاف الأمن وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر فالظاهر أن المسؤل كلا الأمرين وقد حكى أولا واقتصر ههنا على حكاية سؤال الأمن لا لمجرد أن نعمة الأمن أدخل فى استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكى بقوله تعالى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إذ المسئول هويتها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية قد حكى بعبارة أخرى وكان ذلك أول ما قدم عليه‌السلام مكة كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه عليه الصلاة

٥٠

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)

____________________________________

والسلام لما أسكز إسمعيل وهاجر هناك وعاد متوجها إلى الشام تبعته هاجر وجعلت تقول إلى من تكلنا فى هذا البلقع وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعم قالت إذا لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادى فقال (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) الآية وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذانا بأن كلا منهما نعمة جليلة مستتبعة لشكر كثير كما فى قصة البقرة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) * بعدنى وإياهم (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) واجعلنا منها فى جانب بعيد أى ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة* الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وقرىء واجنبنى من الأفعال وهما لغة أهل نجد يقولون جنبنى شره وأجنبنى شره وأما أهل الحجاز فيقولون جنبنى شره وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء عليهم‌السلام بتوفيق الله تعالى والظاهر أن المراد ببنيه أولاده الصلبية فلا احتجاج به لابن عيينة رضى الله عنه على أن أحدا من أولاد إسمعيل عليه‌السلام لم يعبد الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هو حجر والبيت حجر فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار فاستحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت وليت شعرى كيف ذهب عليه ما فى القرآن العظيم من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام على أن فيما ذكره كرا على ما فر منه (رَبِّ إِنَّهُنَّ) أى الأصنام (أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أى تسببن له كقوله تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وهو تعليل لدعائه وإنما صدره بالنداء إظهارا لاعتنائه به ورغبة فى استجابته (فَمَنْ تَبِعَنِي) منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام (فَإِنَّهُ مِنِّي) أى بعضى قاله عليه‌السلام مبالغة* فى بيان اختصاصه به أو متصل بى لا ينفك عنى فى أمر الدين (وَمَنْ عَصانِي) أى لم يتبعنى والتعبير عنه* بالعصيان للإيذان بأنه عليه‌السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلغه الدعوة (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قادر على أن تغفر له وترحمه ابتداء أو بعد توبته وفيه أن كل* ذنب فلله تعالى أن يغفره حتى الشرك خلا أن الوعيد قضى بالفرق بينه وبين غيره (رَبَّنا) آثر عليه‌السلام ضمير الجماعة لا لما قيل من تقدم ذكره وذكر بنيه وإلا لراعاه فى قوله (رَبِّ إِنَّهُنَ) الخ بل لأن الدعاء المصدر به وما أورده بصدد تمهيد مبادى إجابته من قوله (إِنِّي أَسْكَنْتُ) الآية متعلق بذريته فالتعرض لوصف* ربوبيته تعالى لهم أدخل فى القبول وإجابة المسئول (مِنْ ذُرِّيَّتِي) أى بعضهم أو ذرية من ذريتى فحذف* المفعول وهو إسمعيل عليه‌السلام وما سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم روى أن هاجر أم إسمعيل عليه‌السلام كانت لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه‌السلام فلما ولدت له إسمعيل عليه‌السلام غارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله تعالى عين زمزم (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لا يكون فيه زرع أصلا وهو وادى مكة شرفها الله تعالى (عِنْدَ

٥١

بَيْتِكَ) ظرف لأسكنت كقولك صليت بمكة عند الركن لا أنه صفة لواد أو بدل منه إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه بالمرة لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم* كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره فى قوله تعالى (الْمُحَرَّمِ) حيث حرم التعرض له والتهاون به أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة فى كل عصر أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمى عتيقا وتسميته إذ ذاك بيتا ولم يكن له بناء وإنما كان نشزا مثل الرابية تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيئول إليه الأمر من بنائه عليه‌السلام فإنه ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة أيضا كذلك بل إنما هى باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناء الكعبة المعظمة مما لا ريب فيه وإنما الاختلاف فى كمية عدده وقد ذكرناها فى سورة البقرة بفضل الله تعالى* (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متوجهين إليه متبركين به وهو متعلق بأسكنت وتخصيصها بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة والاهتمام بعرض أن الغرض من إسكانهم بذلك الوادى البلقع ذلك المقصد الأقصى والمطلب الأسنى وكل ذلك لتمهيد* مبادى إجابة دعائه وإعطاء مسئوله الذى لا يتسنى ذلك المرام إلا به ولذلك أدخل عليه الفاء فقال (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أى أفئدة من أفئدتهم فمن للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم وأما مازيد عليه من قولهم ولحجت اليهود والنصارى فغير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجهيها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإنه عين الدعاء بالبلدية قد حكى بعبارة أخرى كما مر أو لابتداء الغاية كقولك القلب منى سقيم أى أفئدة ناس وقرىء آفدة على القلب كآدر فى أدؤر أو على أنه اسم فاعل من أفدت الرحلة أى عجلت أى جماعة من الناس* وأفدة بطرح الهمزة من الافئدة أو على النعت من أفد (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم شوقا وودادا وقرىء على البناء للمفعول من أهواه غيره وتهوى من باب علم أى تحب وتعديته بإلى لتضمنه معنى الشوق والنزوع وأول آثار هذه الدعوة ما روى أنه مرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير تحوم على الجبل فقالوا إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشرفوا فإذاهم بهاجر فقالوا لها إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم وكانوا معها إلى أن شب إسمعيل عليه‌السلام وماتت هاجر فتزوج إسمعيل منهم كما هو المشهور* (وَارْزُقْهُمْ) أى ذريتى الذين أسكنتهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين منهم كما فى قوله (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) اكتفاء بذكر إقامة الصلاة* (مِنَ الثَّمَراتِ) من أنواعها بأن يجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه‌السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم وعن الزهرى رضى الله عنه أنه تعالى نقل قرية من قرى الشام* فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه‌السلام (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية وقيل اللام فى ليقيموا لام الأمر والمراد أمرهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى

٥٢

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ(٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩)

____________________________________

بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء فى قوله تعالى (فَاجْعَلْ) الخ وفى دعائه عليه‌السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة مالا يخفى فإنه عليه‌السلام بذكر كون الوادى غير ذى زرع بين كمال افتقارهم إلى المسئول وبذكر كون إسكانهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جوار الكريم يستوجب إفاضة النعيم وبعرض كون ذلك الإسكان مع كمال إعواز مرافق المعاش لمحض إقامة الصلاة وأداء حقوق البيت مهد جميع مبادى إجابة السؤال ولذلك قرنت دعوته عليه‌السلام بحسن القبول (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرها والمراد بما نخفى ما يقابل ما نعلن سواء تعلق به الإخفاء أولا أى تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخطر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلا عن إخفائه وتقديم ما نخفى على ما نعلن لتحقيق المساواة بينهما فى تعلق العلم بهما على أبلغ وجه فكأن تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو قبل ذلك خفى فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية وقصده عليه‌السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار إلى ما عندك والاستعجال لنيل أياديك وتكرير النداء للمبالغة فى الضراعة والابتهال وضمير الجماعة لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بسره وعلنه بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لما أنه العالم بالذات فما من أمر يدخل* تحت الوجود كائنا ما كان فى زمان من الأزمان إلا ووجوده فى ذاته علم بالنسبة إليه سبحانه وإنما قال وما يخفى على الله الخ دون أن يقول ويعلم ما فى السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله (تَعْلَمُ ما نُخْفِي) من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات وكلمة فى متعلقة بمحذوف وقع صفة لشىء أى من شىء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما أو بيخفى وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستدعيين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا والالتفات من الخطاب إلى اسم الذات المستجمعة للصفات لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم على نهج قوله تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدأ الكل وقيل هو من كلام الله عزوجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه‌السلام كقوله سبحانه (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ومن للاستغراق على الوجهين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أى مع كبرى ويأسى عن الولد قيد الهبة به استعظاما للنعمة وإظهارا لشكرها (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) روى أنه ولد له إسمعيل وهو*

٥٣

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٤٢)

____________________________________

* ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة واثنتى عشرة سنة أو مائة وسبع عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي) * ومالك أمرى (لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) لمجيبه من قولهم سمع الملك كلامه إذا اعتد به وهى من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله بإسناد السماع إلى دعاء الله تعالى مجازا وهو مع كونه من تتمة الحمد والشكر إذ هو وصف له تعالى بأن ذلك الجميل سنته المستمرة تعليل على طريقة التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فاقترنت الهبة بقبول الدعوة وتوحيد ضمير المتكلم وإن كان عقيب ذكر هبتهما لما أن نعمة الهبة فائضة عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) مثابرا عليها معدلا لها* وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته لذريته أيضا حيث قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أى بعضهم من المذكورين ومن يسير سيرتهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى فى ذلك وذريته أتباع له وأن ذكرهم بطريق الاستطراد لا كما فى قوله (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) الخ فإن إسكانه مع عدم تحققه بلا ملابسة لمن أسكنه إنما هو مذكور بطريق التمهيد للدعاء الذى هو مخصوص بذريته وإنما خص هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة كقوله تعالى (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أى دعائى هذا المتعلق بجعلى وجعل بعض ذريتى مقيمى الصلاة ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنام ولذلك جىء بضمير الجماعة (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) أى ما فرط منى من ترك* الأولى فى باب الدين وغير ذلك مما لا يسلم منه البشر (وَلِوالِدَيَّ) وقرىء بالتوحيد ولأبوى وهذا الاستغفار منه عليه‌السلام إنما كان قبل تبين الأمر له عليه‌السلام وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وقيل بشرط الإسلام ويرده قوله تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) الآية وقد مر فى سورة التوبة نوع تحقيق للمقام* وسيأتى تمامه فى سورة مريم بفضل الله تعالى (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكل* فى الدعاء بالمغفرة جىء بضمير الجماعة (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أى يثبت ويتحقق محاسبة أعمال المكلفين على وجه العدل استعير له من ثبوت القائم على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحرب على ساق والمراد تهويله وقيل أسند إليه قيام أهله مجازا أو حذف المضاف كما فى واسأل القرية واعلم أن ما حكى عنه عليه‌السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المحكى ولا على وجه المعية بل صدر عنه فى أزمنة متفرقة حكى مرتبا للدلالة على سوء حال الكفرة بعد ظهور أمره فى الملة وإرشاد الناس إليها والتضرع إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد تثبيته على ما كان عليه من عدم حسبانه عزوجل كذلك نحو قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ

٥٤

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

____________________________________

الْمُشْرِكِينَ) ونظائره مع ما فيه من الإيذان بكونه واجب الاحتراز عنه فى الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه أو نهيه عليه‌السلام عن خسبانه تعالى تاركا لعقابهم على طريقة العفو والتعبير عنه بذلك للمبالغة فى النهى والإيذان بأن ذلك الحسبان بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محالة فتركه لو كان لكان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد له أكيد ووعيد للكفر وسائر الظالمين شديد أو لكل أحد ممن يستعجل عذابهم أو يتوهم إهمالهم للجهل بصفاته تعالى والاغترار بإمهاله وقيل معناه لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما عملوا بل معاملة من يحافظ على أعمالهم ويجازيهم بذلك نقيرا وقطميرا والمراد بالظالمين أهل مكة ممن عدت مساويهم من تبديل نعمة الله تعالى كفرا وإحلال قومهم دار البوار واتخاذ الأنداد كما يؤذن به التعرض لحكمة التأخير المنبىء عنه قوله تعالى (قُلْ تَمَتَّعُوا) الآية أو جنس الظالمين وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يمهلهم* متمتعين بالحظوظ الدنياوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد وهو استئناف وقع تعليلا للنهى السابق أى دم على ما كنت عليه من عدم حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم ولا تحزن بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم إذ تأخيره للتشديد والتغليظ أولا تحسبنه تعالى تاركا لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا أولا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل ولا يؤاخذهم بما عملوا لما ترى من التأخير إنما هو لهذه الحكمة وقرىء بالنون وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم فى الوجود عين ولا أثر وللإيذان بأن المؤخر له من جملة العذاب وعنوانه ولو قيل إنما يؤخر عذابهم الخ لما فهم ذلك (لِيَوْمٍ) هائل (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل فى زمرتهم الكفرة المعهودون دخولا أوليا أى تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه واعتبار عدم قرارها فى أماكنها إما باعتبار الارتفاع الحسى فى جرم العين وإما بجعل الصيغة من شخص من بلد إلى بلد وسار فى الارتفاع (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعى مقبلين عليه بالخوف والذل والخشوع أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يقلعون عنه ولا يطرفون هيبة وخوفا وحيث كان إدامة النظر ههنا بالنظر إلى الداعى قيل (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أى رافعيها مع إدامة* النظر من غير التفات إلى شىء قاله العتبى وابن عرفة أو ناكسيها ويقال أقنع رأسه أى طأطأها ونكسها فهو من الأضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصار من أصحابها أو الثانى حال متداخلة من الضمير فى الأول وإضافته غير حقيقية فلا ينافى الحالية (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما* كان يرجع إليهم كل لحظة بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف أو لا ترجع إليهم أجفانهم التى هى آلة الطرف فيكون إسناد الرجوع إلى الطرف مجازيا أو هو نفس الجفن قال الفيروزابادى الطرف العين لا يجمع لأنه مصدر فى الأصل أو اسم جامع للعين أولا يرجع نظرهم إلى أنفسهم فضلا عن أن يرجع إلى شىء آخر

٥٥

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) (٤٤)

____________________________________

فيبقون مبهوتين وهو أيضا حال أو بدل من مقنعى الخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار وتأخيره عمن هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة* لتربية هذا المعنى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهش كأنها نفس الهواء الخالى من كل شاغل ومنه قيل للجبان والأحمق قلبه هواء أى لا قوة ولا رأى فيه واعتبار خلوها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حال عاملها لا يرتد مفيدة لكون شخوص أبصارهم وعدم ارتداد طرفهم بلا فهم ولا اختيار أو جملة مستقلة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إعلامه أن تأخيرهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه والمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب والعدول إليه من الإضمار للإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم أو الناس جميعا فإن الإنذار عام للفريقين كقوله تعالى (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) والإتيان يعمهما من حيث كونهما فى الموقف* وإن كان لحوقه بالكفار خاصة أى أنذرهم وخوفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) المعهود وهو اليوم الذى وصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلة أعنى يوم القيامة وقيل هو يوم موتهم معذبين بالسكرات* ولقاء الملائكة بلا بشرى أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ويأباه القصر السابق (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى فيقولون والعدول عنه إلى ما عليه النظم الكريم للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن مالقوه من الشدة إنما هو لظلمهم وإيثاره على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلم فى الجملة كاف فى الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغة الفاعل وعلى تقدير كون المراد بالناس من يعم المسلمين أيضا فالمعنى الذين ظلموا منهم وهم الكفار أو يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية فإن إتيان العذاب يعمهم كما يشعر بذلك* وعدهم باتباع الرسل (رَبَّنا أَخِّرْنا) ردنا إلى الدنيا وأمهلنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد وحد من الزمان* قريب (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أى الدعوة إليك وإلى توحيدك أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل ففيه إيماء* إلى أنهم صدقوهم فى أنهم مرسلون من عند الله تعالى (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما جاءونا به أى نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة الدعوة واتباع الرسل والجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عصيانا لهم جميعا وإما باعتبار أن المحكى كلام ظالمى الأمم جميعا والمقصود بيان وعد* كل أمة باتباع رسولها (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) على إضمار القول معطوفا على فيقول أى فيقال لهم توبيخا وتبكيتا ألم تؤخروا فى الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وجهلا* وسفها (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا

٥٦

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥)

____________________________________

وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) وصيغة الخطاب فى جواب القسم لمراعاة حال الخطاب فى أقسمتم كما فى قوله حلف بالله ليخرجن وهو أدخل فى التوبيخ من أن يقال ما لنا مراعاة لحال المقسم ذكر البهيقى عن محمد بن كعب القرظى أنه قال لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير ثم يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) فيجيبهم الله تعالى (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الآية ثم يقولون (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيجيبهم الله تعالى (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) الآية ثم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فيجيبهم الله تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فيقولون (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) فيجيبهم الله تعالى (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فلا يتكلمون بعدها أبدا إن هو إلا زفير وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك (وَسَكَنْتُمْ) من السكنى بمعنى التبوؤ والإيطان وإنما استعمل بكلمة فى حيث قيل (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) جريا على الأصل لأنه منقول عن مطلق السكون الذى* حقه التعدية بها أو من السكون واللبث أى قررتم فى مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم فى الظلم والكفر والمعاصى غير محدثين لأنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفى إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه والمراد بهم إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومهما للكل وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار* (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوب بما بعده من الفعل* وليس الجملة فاعلا لتبين كما قاله بعض الكوفيين بل فاعله ما دلت هى عليه دلالة واضحة أى فعلنا العجيب بهم وفيه من المبالغة ما ليس فى أن يقال ما فعلنا بهم كما مر فى قوله تعالى (لَيَسْجُنُنَّهُ) وقرىء وبين (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أى بينالكم فى القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التى هى فى الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم ومآلكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول

٥٧

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

____________________________________

العذاب العاجل إلى حلول العذاب الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصى أو بينا لكم أنكم مثلهم فى الكفر واستحقاق العذاب والجمل الثلاث فى موقع الحال من ضمير أقسمتم أى أقسمتم بالخلود والحال أنكم سكنتم فى مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عزوجل(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) حال من الضمير الأول فى (فَعَلْنا بِهِمْ) أو من الثانى أو منهما جميعا وإنما قدم عليه قوله تعالى (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) لشدة ارتباطه بما قبله أى فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا فى إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذى استفرغوا فى عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم فالمراد بيان تناهيهم فى استحقاق ما فعل بهم أو قد مكروا مكرهم المذكور فى ترتيب مبادى البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال* قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أى جزاء مكرهم الذى فعلوه على أن المكر مضاف إلى فاعله أو أخذه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله وتسميته مكرا لكونه بمقابلة مكرهم وجودا وذكرا أو لكونه فى صورة المكر فى الإتيان من حيث لا يشعرون وعلى التقديرين فالمراد به ما أفاده قوله عزوجل (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) لا أنه وعيد مستأنف والجملة حال من الضمير فى (مَكَرُوا) أى مكروا مكرهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظم منه والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق* ما يوجب تركه (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) فى العظم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أى وإن كان مكرهم فى غاية المتانة والشدة وعبر عن ذلك بكونه مسوى ومعدا لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا فى ذلك والجملة المصدرة بأن الوصلية معطوفة على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاء مكرهم أو المكر الذى يحيق بهم إن لم يكن مكرهم لتزول منه الجبال وإن كان الخ وقد حذف ذلك حذفا مطردا لدلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشىء إذا تحقق عند وجود المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما فى إن الوصلية من التأكيد المعنوى والجوب محذوف دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) وقيل إن نافية واللام لتأكيدها كما فى قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) وينصره قراءة ابن مسعود رضى الله عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير فى مكروا لا من قوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أى مكروا مكرهم والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال على أنها عبارة عن آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدى الرسل السالفة عليهم‌السلام التى هى بمنزلة الجبال الراسيات فى الرسوخ وأما كونها عبارة عن أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون فى مساكنهم من المخاطبين وإن خص الخطاب بالمنذرين وقيل هى مخففة من إن والمعنى إنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال فى الثبات مما ذكر من الآيات والشرائع والمعجزات والجملة كما هى حال من ضمير مكروا أى مكروا مكرهم المعهود وإن الشأن كان مكرهم لإزالة الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الآيات والشرائع مانعا من مباشرة المكر

٥٨

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧)

____________________________________

لإزالته وقد قرأ الكسائى لتزول بفتح اللام على أنها الفارقة والمعنى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أى عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أى فى غاية الشدة وقرىء بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كى وقرىء وإن كاد مكرهم هذا هو الذى يقتضيه النظم الكريم وينساق إليه الطبع السليم وقد قيل إن الضمير فى مكروا للمنذرين والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عزوجل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الآية وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى (وَقَدْ مَكَرُوا) الخ حالا من القول المقدر أى فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكور مع ما ينافيه من السكون فى مساكن المهلكين وتبين أحوالهم وضرب الأمثال قد مكروا مكرهم العظيم أى لم يكن الصادر عنهم مجرد الإقسام الذى وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة وقوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) حال من ضمير (مَكَرُوا) حسبما ذكرنا من قبل وقوله تعالى (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) لتزول منه الجبال مسوق لبيان عدم تفاوت الحال فى تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا أو ضعيفا كما مر هناك وعلى تقدير كون إن نافية فهو حال من ضمير مكروا والجبال عبارة عن أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التى هى فى القوة كالجبال وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها ماكر وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) كما ذكرنا من قبل فليتأمل (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لم يرد به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) الآية وقوله (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) كما قيل فإنه لا اختصاص له بالتعذيب لا سيما الأخروى بل ما سلف آنفا من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) الآية كما يفصح عنه الفاء الداخلة على النهى الذى أريد به تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقن بإنجاز وعده المذكور المقرون بالأمر بإنذارهم يوم إتيان العذاب المتضمن لذكر تعذيب الأمم السالفة بسبب كفرهم وعصيانهم رسلهم بعد ما وعدهم بذلك كما فصلت قصة كل منهم فى القرآن العظيم فكأنه قيل وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم فى أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر وقادر (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه والجملة* تعليل للنهى المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيل بأن يقال إن الله لا يخلف الميعاد بل تعرض لوصف العزة والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر.

٥٩

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩)

____________________________________

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهى المذكور أى ينجزه يوم الخ أو معطوف عليه نحو وارتقب يوم تبدل الأرض غير الأرض أو لانتقام وهو يوم يأتيهم العذاب بعينه ولكن له أحوال جمة يذكر كل مرة بعنوان مخصوص والتقييد به مع عموم انتقامه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة الداعية إليه وقيل بدل من يوم يأتيهم العذاب أو نصب باذكر أو بإضمار لا يخلف وعده يوم تبدل الخ وفيه أيضا ما فى الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ولا يجوز أن ينتصب بقوله (مُخْلِفَ وَعْدِهِ) لأن ما قبل إن لا يعمل فيما بعده وقيل هو غير مانع لأن قوله تعالى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) جملة اعتراضية فلا يبالى بها فاصلا واعلم أن التبديل قد يكون فى الذات كما فى بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله عزوجل (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) وقد يكون فى الصفات كما فى قولك بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها ومنه قوله تعالى (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) على بعض الأقوال والآية الكريمة ليست بنص فى أحد الوجهين فعن على رضى الله عنه تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب وعن ابن مسعود رضى الله عنه تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة وعن ابن عباس رضى الله عنهما هى تلك الأرض وإنما تغير صفاتها وأنشد[وما الناس بالناس الذين عهدتهم * وما الدار بالدار التى كنت تعلم] وتبدل السموات بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال تبدل الأرض غير الأرض* فتبسط وتمدمد الأديم العكاظى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (وَالسَّماواتُ) أى وتبدل السموات غير السموات حسبما مر من التفصيل وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أثرا بالنسبة* إلينا (وَبَرَزُوا) أى الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السباق والمراد بروزهم من أجداثهم التى فى بطون الأرض أو ظهورهم بأعمالهم التى كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك ولعل إسناد البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها وهو معطوف على تبدل والعدول إلى صيغة الماضى للدلالة على تحقق وقوعه أو حال من الأرض بتقدير قد والرابط* بينها وبين صاحبها الواو (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) للحساب والجزاء والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام فى ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفا له وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلا من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يعار وقادر لا يضار ولا يغار كان فى غاية ما يكون من الشدة والصعوبة (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) عطف على (بَرَزُوا) والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وأما البروز فهو دفعى

٦٠