مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

إليه فقال له : يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع ، أنعم الله عليّ بحب أهل البيت وحب من أحبهم ، وهذه ثلاثة آلاف درهم معي أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله (ص) وكنت أحب لقاءه لأعرف مكانه ، فسمعت نفرا من المسلمين يقولون : هذا رجل له علم بأمر أهل هذا البيت ، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال ، وتدلّني على صاحبي فأبايعه (١) فقال له : أحمد الله على لقائك فقد سرني حبك إيّاهم وبنصرة الله إيّاك حق أهل بيت نبيه (ص) ، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة سطوة هذا الطاغية الجبار أن يأخذ البيعة قبل أن يبرح ، وأخذ عليه المواثيق الغليظة ليناصحن وليكتمن ، فأعطاه من ذلك ما رضى به ، ثم قال له : اختلف إليّ أياما في منزلي ، فأنا أطلب لك الإذن على صاحبك وأخذ يختلف مع الناس يطلب ذلك إليه.

ومرض شريك بن الأعور (٢) ، وكان كريما على ابن زياد ، وكان شديد التشيّع فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشيّة فعائدك. فقال شريك لمسلم : إن هذا الفاجر عائدي العشية ، فإذا جلس فاقتله ، ثم اقعد في القصر ، وليس أحد يحول بينك وبينه ، فإن أنا برأت من وجعي من أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها فلما كان العشي أقبل ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور ، فقال لمسلم : لا يفوتنّك الرّجل إذا جلس ، فقام إليه هانئ فقال : إني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك ، فجاءه عبيد الله بن زياد فدخل وجلس وسأل شريكا : ما الذي تجد ومتى اشتكيت؟ فلما طال سؤاله إيّاه ، ورأى أن أحدا لا يخرج ، خشي أن يفوته. فأقبل يقول :

ما الانتظار بسلمى أن تحيّوها

حيوا سليمى وحيّوا من يحييها

كأس المنية بالتعجيل فاسقوها

لله أبوك! اسقنيها وإن كانت فيها نفسي. قال ذلك مرتين أو ثلاثة ؛ فقال

__________________

(١) كذا في الأصول وفي ابن الأثير «فأبايعه وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائي إيّاه».

(٢) مقتل الحسين ٢٦.

١٠١

عبيد الله ـ وهو لا يفطن ـ : ما شأنه ، أترونه يهجر؟ فقال له هانئ : نعم ـ أصلحك الله ـ ما زال هكذا قبل غيابة الشمس إلى ساعتك هذه.

ثم قام وانصرف. فخرج مسلم فقال له شريك : ما منعك من قتله؟ فقال : خصلتان ، أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره ، [وأما] الأخرى فحديث حدّثنيه الناس عن النبي (ص) : «إن الإيمان قيّد الفتك فلا يفتك مؤمن» ؛ فقال له شريك : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا ، كافرا غادرا.

قال : فأقبل ذلك الرجل الذي وجّهه عبيد الله بالمال يختلف إليهم ، فهو أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم ، ويعلم أسرارهم ، وينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد.

قال : فقال المدائني ، عن أبي مخنف ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن عثمان بن أبي زرعة قال : فقال ابن زياد يوما : ما يمنع هانئا منّا؟ فلقيه ابن الأشعث ، وأسماء بن خارجة فقالا له : ما يمنعك من إتيان الأمير وقد ذكرك؟ قال : فأتاه فقال ابن زياد ـ لعنه الله ـ شعرا :

أريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (١)

يا هانئ ، أسلمت (٢) على ابن عقيل؟ قال : ما فعلت ، فدعا معقلا فقال : أتعرف هذا؟ قال : نعم وأصدقك ما علمت به حتى رأيته في داري ، وأنا أطلب إليه أن يتحوّل. قال : لا تفارقني حتى تأتيني به ، فأغلظ له ، فضرب وجهه بالقضيب وحبسه (٣).

وقال عمر بن سعد : عن أبي مخنف ، قال : حدّثني الحجاج بن علي الهمداني قال(٤):

لما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه ، خشي أن يثب الناس به ، فخرج فصعد

__________________

(١) ابن الأثير ٤ / ١٢ والفخري ٩٠ وفي الطبري ٦ / ٢٠٥ «أريد حياءه».

(٢) في ط وق «اشتملت».

(٣) راجع تفصيل ذلك في الإرشاد ١٨٨ وابن الأثير ٤ / ١٢ والطبري ٦ / ٢٠٥.

(٤) الإرشاد ١٩٠ وابن الأثير ٤ / ١٣ والطبري ٦ / ٢٠٧.

١٠٢

المنبر ومعه أناس من أشراف الناس وشرطه وحشمه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أيها الناس : اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تفرّقوا فتختلفوا وتهلكوا وتذلّوا ، وتخافوا وتخرجوا ، فإن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر.

فذهب لينزل ، فما نزل حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ، ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيد الله القصر وأغلق بابه.

وقال أبو مخنف : فحدّثني يوسف بن يزيد ، عن عبد الله بن حازم البكري قال :

أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هانئ لأنظر ما صار إليه أمره ، فدخلت فأخبرته الخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابي ، وقد ملأ الدور منهم حواليه ، فقال : ناديا منصور أمت فخرجت فناديت ، وتبادر أهل الكوفة فاجتمعوا إليه ، فعقد لعبد الرحمن بن عزيز الكندي على ربيعة ، وقال له : سر أمامي وقدّمه في الخيل (١). وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد ، وقال له : انزل فأنت على الرجالة. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وحمدان. وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، ثم أقبل نحو القصر.

فلما بلغ عبيد الله إقباله تحرز في القصر ، وغلّق الأبواب ، وأقبل مسلم حتى أحاط بالقصر ، فو الله ما لبثنا إلّا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس ، والسوق ، ما زالوا يتوثبون حتى المساء ، فضاق بعبيد الله أمره ، ودعا بعبيد الله ابن كثير بن شهاب الحارثي ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيخذل الناس عن ابن عقيل ، ويخوفهم الحرب ، وعقوبة السلطان ، فأقبل أهل الكوفة يفترون على ابن زياد وأبيه.

قال أبو مخنف : فحدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن عبد الله بن حازم

__________________

(١) كذا في الخطية وفي ط وق «وقدمه في البلد».

١٠٣

البكري ، قال :

أشرف علينا الأشراف ، وكان أوّل من تكلّم كثير بن شهاب. فقال (١) :

أيها الناس ، ألحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا ، انتشروا ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فهذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم هذه أن يحرم ذريتكم العطاء ، ويفرق مقاتليكم في مغازي الشام على غير طمع ، ويأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنت (٢).

وتكلم الأشراف بنحو من كلام كثير ، فلما سمع الناس مقالتهم تفرقوا.

قال أبو مخنف : حدّثني المجالد بن سعيد (٣) :

أن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ، الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول : غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف ، فما زالوا يتفرقون وينصرفون حتى أمسى ابن عقيل وما معه إلّا ثلاثون نفسا ، حتى صليت المغرب فخرج متوجها نحو أبواب كندة ، فما بلغ الأبواب إلّا ومعه منها عشر ، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم إنسان فمضى متلددا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب (٤) ، حتى خرج إلى دور بني بجيلة من كندة ، فمضى حتى أتى باب امرأة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث وأعتقها ، فتزوج بها أسيد الحضرمي ، فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس ، وأمه قائمة تنتظر فسلم عليها ابن عقيل ، فردت السلام ، فقال لها : اسقيني ماء. فدخلت فأخرجت إليه ، فشرب ، ثم أدخلت الإناء ، وخرجت وهو جالس في مكانه ، فقالت : ألم تشرب؟ قال : بلى. قالت : فاذهب إلى أهلك فسكت ، فأعادت عليه ثلاثا ثم قالت : سبحان الله يا عبد الله ، قم إلى أهلك ـ عافاك الله ـ فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك ، ثم قام ، فقال : يا أمة الله ، والله ما لي في هذا المصر من أهل ، فهل لك في معروف وأجر لعلي أكافئك به بعد

__________________

(١) الإرشاد ١٩١ والطبري ٦ / ٢٠٨.

(٢) في ط وق «وبال من خبث».

(٣) الطبري ٦ / ٢٠٨.

(٤) مقتل الحسين ٣١.

١٠٤

اليوم. قالت : يا عبد الله وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم ، وغروني وخذلوني ، قالت : أنت مسلم؟ قال : نعم. قالت : ادخل ، فأدخلته بيتا في دارها ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء ، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت ، فسألها ، فقالت : يا بني أله عن هذا ، قال : والله لتخبرنني ، وألحّ عليها ، فقالت : يا بني ، لا تخبريه أحدا من الناس ، وأخذت عليه الأيمان ، فحلف لها ، فأخبرته ، فاضطجع وسكت.

فلما طال على ابن زياد ، ولم يسمع أصوات أصحاب ابن عقيل قال لأصحابه : أشرفوا فانظروا فأخذوا ينظرون ، وأدلوا القناديل وأطنان القصب تشد بالحبال وتدلي وتلهب فيها النار ، حتى فعل ذلك بالأظلة التي في المسجد كلّها ، فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد ففتح باب السّدة ، وخرج ونادى في الناس : برئت الذمة من رجل صلّى العتمة إلّا في المسجد ، فاجتمع الناس في ساعة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال (١) :

أما بعد : فإن ابن عقيل السقيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمة الله من رجل وجد في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله ، والزموا طاعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. يا حصين بن تميم (٢) ثكلتك أمّك إن ضاع شيء من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة ، فابعث مراصدة على أفواه السكك ، وأصبح غدا فاستبرء الدور حتى تأتي بهذا الرجل (٣) ، ثم نزل.

فلمّا أصبح أذن للناس ، فدخلوا عليه ، وأقبل محمد بن الأشعث فقال : مرحبا بمن لا يتهم ولا يستغش ، وأقعده إلى جنبه.

وأصبح بلال ابن العجوز التي آوت ابن عقيل فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه فأقبل عبد الرحمن حتى أتى إلى

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢١٠ وابن الأثير ٤ / ١٤ والإرشاد ١٩٣.

(٢) في ط وق «ابن نمير».

(٣) في الطبري بعد ذلك «وكان الحصين على شرطه وهو من بني تميم».

١٠٥

أبيه وهو جالس ، فساره ، فقال له ابن زياد : ما قال لك؟ قال : أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا ، فنخسه ابن زياد بالقضيب في جنبه ثم قال : قم فأتني به الساعة.

قال أبو مخنف : فحدّثني قدامة بن سعد بن زائدة الثقفي (١). أن ابن زياد بعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس ، عليهم [عمرو بن](٢) عبيد الله بن العباس السلمي حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل ، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، عرف أنه قد أتى ؛ فخرج إليهم بسيفه ، فاقتحموا عليه الدار ، فشد عليهم كذلك (٣) ، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق السطوح وظهروا فوقه ، فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النيران في أطنان القصب ثم يقذفونها عليه من فوق السطوح فلما رأى [ذلك] قال : أكلما أرى من الإجلاب لقتل ابن عقيل؟ يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص ، فخرج ـ رضوان الله عليه ـ مصلتا سيفه إلى السكة ، فقاتلهم ، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال : يا فتى ، لك الأمان ، لا تقتل نفسك. فأقبل يقاتلهم وهو يقول (٤) :

أقسمت لا أقتل إلّا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

أخاف أن أكذب أو أغرّا

أو يخلط البارد سخنا مرّا

ردّ شعاع الشمس فاستقرا (٥)

كل امرئ يوما ملاق شرّا

قال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تغر ، إن القوم ليسوا بقاتليك ولا ضاربيك ، وقد أثخن بالجراح وعجز عن القتال ؛ فانبهر وأسند

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢١٠ والإرشاد ١٩٣ ومقتل الحسين ٣٣ وابن الأثير ٤ / ١٤.

(٢) الزيادة من الطبري وفيه «وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل».

(٣) في الطبري «فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا وأشرع السيف في السفلى ، ونصلت لها ثنيتاه ، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه ، فلما رأوا ذلك أشرفوا».

(٤) الطبري ٦ / ٢١٠ وابن الأثير ٤ / ١١ ومقتل الحسين ٣٥.

(٥) في ط وق «غار شعاع الشمس فاقشعرا».

١٠٦

ظهره إلى دار بجنب تلك الدار ، فدنا منه محمد بن الأشعث فقال له : لك الأمان ، فقال له مسلم : آمن أنا؟ قال : نعم أنت آمن ، فقال القوم جميعا : نعم غير عبيد الله بن العباس السلمي لأنه قال : «لا ناقة لي في هذا ولا جمل» ، وتنحّى ، فقال ابن عقيل : إني والله لو لا أمانكم ما وضعت يدي في أيديكم. وأتى ببغلة فحمل عليها فاجتمعوا عليه ، فنزعوا سيفه من عنقه ، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عينه وعلم أن القوم قاتلوه ، وقال : هذا أول الغدر.

فقال له محمد بن الأشعث : أرجوا ألّا يكون عليك بأس.

فقال : ما هو إلّا الرجاء ، فأين أمانكم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وبكى.

فقال له عبيد الله ابن العباس السلمي : إن مثلك ومن يطلب مثل الذي طلبت إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.

قال : إني والله ما أبكي لنفسي ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفا ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إليّ ، أبكي للحسين وآل الحسين ، ثم أقبل على ابن الأشعث فقال : إني والله أظنك ستعجز عن أماني ، وسأله أن يبعث رسولا إلى الحسين بن علي يعلمه الخبر ، ويسأله الرجوع فقال له ابن الأشعث : والله لأفعلنّ (١).

قال أبو مخنف : فحدّثني قدامة بن سعد (٢) : أن مسلم بن عقيل حين انتهى به إلى القصر رأى قلة مبرّدة موضوعة على الباب ، فقال : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمر ، وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي : أتراها ما أبردها؟ فو الله لا تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.

فقال له مسلم بن عقيل (٣) : ويلك ، ولأمك الثكل ، ما أجفاك ،

__________________

(١) راجع تفصيل ذلك في الطبري ٦ / ٢١١.

(٢) الطبري ٦ / ٢١٢ وابن الأثير ٤ / ١٥ والإرشاد ١٩٥.

(٣) في الطبري «فقال له مسلم بن عقيل : ويحك من أنت؟ قال : أنا ابن من عرف الحق إذا أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي فقال ابن عقيل لأمك الثكل ...».

١٠٧

وأفظك ، وأقسى قلبك ، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم ، والخلود في نار جهنم ، ثم جلس وتساند إلى الحائط.

قال أبو مخنف : فحدّثني أبو قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاما له يدعى سليما فأتاه بماء في قلة فسقاه. قال وحدثني مدرك بن عمارة : أن عمارة بن عقبة بعث غلاما يدعى نسيما فأتاه بماء في قلة عليها منديل وقدح معه ، فصب فيه الماء ثم سقاه ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دما ، فأخذ لا يشرب من كثرة الدم ، فلما ملأ القدح ثانية ذهب يشرب ، فسقطت ثنيتاه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.

قال : ثم أدخل على عبيد الله بن زياد (١) ـ لعنه الله ـ فلم يسلم عليه ، فقال له الحرس : ألا تسلم على الأمير؟ فقال : إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه. فقال له عبيد الله ـ لعنه الله ـ : لتقتلن. قال : أكذلك؟ قال : نعم. قال : دعني إذا أوصي إلى بعض القوم. قال : أوص إلى من أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد ، وفيهم عمر بن سعد ؛ فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي ، وهي سرّ ، فأبى أن يمكنه من ذكرها ، فقال له عبيد الله بن زياد : لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ـ لعنه الله ـ ، فقال له ابن عقيل : إن عليّ بالكوفة دينا استدنته مذ قدمتها تقضيه عنّي حتى يأتيك من غلّتي بالمدينة ، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين من يرده. فقال عمر لابن زياد : أتدري ما قال؟ قال : اكتم ما قال لك ، قال : أتدري ما قال لي؟ قال : هات ، فإنه لا يخون الأمين ، ولا يؤتمن الخائن. قال : كذا وكذا ، قال : أما مالك فهو لك ، ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكفّ عنه ، وأما جثته فإنا لا نشفعك فيها ، فإنه ليس لذلك منا بأهل ، وقد خالفنا وحرص على هلاكنا.

__________________

(١) ابن الأثير ٤ / ١٥ ومقتل الحسين ٣٦ والطبري ٦ / ٢١٢ والإرشاد ١٩٦.

١٠٨

ثم قال ابن زياد لمسلم : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام (١).

قال : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه ، أما إنك لم تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة وخبث السيرة ، ولؤم الغيلة لمن هو أحق به منك (٢).

ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فأضربوا عنقه.

ثم قال : ادعوا الذي ضربه ابن عقيل على رأسه وعاتقه بالسيف فجاءه فقال : اصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه ، وهو بكير بن حمران الأحمري ـ لعنه الله ـ ، فصعدوا به وهو يستغفر الله ويصلي على النبي (ص) ، وعلى أنبيائه ورسله وملائكته ـ وهو يقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا ، وكادونا وخذلونا.

ثم أشرفوا به على موضع الحذّائين فضرب عنقه ، ثم أتبع رأسه جسده ـ صلّى الله عليه ورحمه ـ (٣).

وقال المدائني : عن أبي مخنف عن يوسف بن يزيد ، قال : فقال عبد الله ابن الزّبير الأسدي (٤) :

إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل (٥)

ترى جسدا قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كلّ مسيل (٦)

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسعى بكل سبيل

__________________

(١) راجع ما دار بينهما من حوار قبل ذلك في الطبري ٦ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) في الطبري «ولا أحد من الناس أحق بها منك».

(٣) راجع الطبري ٦ / ٢١٣ ، وكان قتله في يوم عرفة سنة ٦٠ وصلب ابن زياد جثته.

(٤) في الطبري ٦ / ٢١٤ «ويقال قاله الفرزدق» ونسبه في اللسان ٦ / ١٧٤ لسليم بن سلام الحنفي والشعر في ابن الأثير ٤ / ١٦ ومقتل الحسين ٣٨ والإرشاد ١٩٧ وتهذيب ابن عساكر ٧ / ٤٢٤ وابن سعد ٤ / ٢٩.

(٥) في اللسان ٦ / ١٧٤ «يقال انصب عليهم فلان من طمار وهو المكان العالي» وفيه «قد عقر السيف وجهه».

(٦) بعده في الطبري :

فتى هو أحيا من فتاة حيية

وأقطع من ذي شفرتين صقيل

١٠٩

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول (١)

تطيف حواليه مراد وكلهم

على رقبة من سائل ومسول

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا أرضيت بقليل

قالوا : وكان مسلم قد كتب إلى الحسين بأخذ البيعة له ، واجتماع الناس عليه ، وانتظارهم إيّاه ، فأزمع الشخوص إلى الكوفة ، ولقيه عبد الله بن الزبير في تلك الأيام ولم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز ، ولا أحب إليه من خروجه إلى العراق طمعا في الوثوب بالحجاز ، وعلما بأن ذلك لا يتم له إلّا بعد خروج الحسين ، فقال له : على أيّ شيء عزمت يا أبا عبد الله؟ فأخبره برأيه في إتيان الكوفة ، وأعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل إليه ، فقال له ابن الزبير : فما يحبسك ، فو الله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلوّمت في شيء ، وقوى عزمه ، ثم انصرف. وجاءه به عبد الله بن عباس وقد أجمع رأيه على الخروج ، وحققه ، فجعل يناشده في المقام ، ويعظم عليه القول في ذم أهل الكوفة ، وقال له : إنك تأتي قوما قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك ، وما أراهم إلّا خاذليك ، فقال له : هذه كتبهم معي ، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم ، فقال له ابن عباس : أما إذا كنت لا بد فاعلا فلا تخرج أحدا من ولدك ، ولا حرمك ولا نسائك فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قتل ابن عفان ، فأبى ذلك ولم يقبله.

* * *

قال : فذكر من حضره يوم قتل وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته وهن يخرجن من أخبيتهن جزعا لقتل من يقتل معه وما يرينه به ، ويقول : لله در ابن عباس فيما أشار علي به.

* * *

قال : فلما أبى الحسين قبول رأي ابن عباس قال له : والله لو أعلم أني إذا تشبثت بك وقبضت على مجامع ثوبك ، وأدخلت يدي في شعرك حتى يجتمع الناس عليّ وعليك ، كان ذلك نافعي لفعلته ، ولكن اعلم أن الله بالغ أمره ،

__________________

(١) يعني بأسماء : أسماء بن خارجة ، والهماليج : جمع هملاج نوع من البراذين ، والذحل : الثأر.

١١٠

ثم ارسل عينيه فبكى ، وودّع الحسين ، وانصرف. ومضى الحسين لوجهه ، ولقى ابن عباس بعد خروجه عبد الله بن الزبير فقال له :

يا لك من قبّرة بمعمر

خلا لك الجوّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تنقّري

هذا الحسين خارجا فاستبشري (١)

فقال : قد خرج الحسين وخلت لك الحجاز.

قال أبو مخنف في حديثه خاصة عن رجاله :

إن عبيد الله بن زياد وجه الحر بن يزيد ليأخذ الطريق على الحسين ، فلما صار في بعض الطريق لقيه أعرابيان من بني أسد ، فسألهما عن الخبر ، فقالا له : يا ابن رسول الله ، إن قلوب الناس معك ، وسيوفهم عليك ، فارجع ، وأخبراه بقتل ابن عقيل وأصحابه ، فاسترجع الحسين ، فقال له بنو عقيل : لا نرجع والله أبدا أو ندرك ثأرنا أو نقتل بأجمعنا ، فقال لمن كان لحق به من الأعراب : من كان منكم يريد الإنصراف عنّا فهو في حلّ من بيعتنا. فانصرفوا عنه ، وبقي في أهل بيته ، ونفر من أصحابه (٢).

ومضى حتى دنا من الحرّ بن يزيد ، فلما عاين أصحابه العسكر من بعيد كبّروا ، فقال لهم الحسين : ما هذا التكبير؟ قالوا : رأينا النخل ، فقال بعض أصحابه : ما بهذا الموضع والله نخل ، ولا أحسبكم ترون إلّا هوادي الخيل وأطراف الرماح ، فقال الحسين : وأنا والله أرى ذلك ؛ فمضوا لوجوههم ، ولحقهم الحرّ بن يزيد في أصحابه ، فقال للحسين : إني أمرت أن أنزلك في أيّ موضع لقيتك وأجعجع بك ، ولا أتركك أن تزول من مكانك (٣).

قال : إذا أقاتلك ، فاحذر أن تشقى بقتلي ثكلتك أمك. فقال : [أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلّا

__________________

(١) ابن الأثير ٤ / ١٧ ومقتل الحسين ٤١ والطبري ٦ / ٢١٧ وابن عساكر ٤ / ٣٣١.

(٢) في الأثير ٤ / ١٩ «وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا ما يقدمون عليه».

(٣) كذا في الخطية وفي ط وق «ولا أثر كان أن تزول من حكايات».

١١١

بأحسن ما يقدر عليه](١).

وأقبل يسير والحر يسايره ويمنعه من الرجوع من حيث جاء ، ويمنع الحسين من دخول الكوفة ، حتى نزل بأقساس مالك ، وكتب الحر إلى عبيد الله يعلمه ذلك.

قال أبو مخنف : فحدّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن عتبة بن سمعان الكلبي ، قال :

لما ارتحلنا من قصر ابن مقاتل ، وسرنا ساعة خفق رأس الحسين خفقة ثم انتبه فأقبل يقول : (إِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) مرتين. فأقبل إليه علي بن الحسين وهو على فرس فقال له : يا أبي جعلت فداك ، مم استرجعت؟ وعلام حمدت الله؟ قال الحسين : يا بني ، إنه عرض لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون ، والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال : يا أبتاه لا أراك الله سوءا أبدا ، ألسنا على الحق؟ قال : بلى والذي يرجع إليه العباد. فقال : يا أبت ، فإذا لا نبالي ، قال: جزاك الله خير ما جزى ولد عن والده (٢).

قال : وكان عبيد الله بن زياد ـ لعنه الله ـ قد ولّى عمر بن سعد الرّي ، فلما بلغهالخبر وجّه إليه أن سر إلى الحسين أولا فاقتله ، فإذا قتلته رجعت ومضيت إلى الرّي ، فقال له : أعفني أيّها الأمير. قال : قد أعفيتك من ذلك ، ومن الريّ ، قال : اتركني أنظر في أمري فتركه ، فلما كان من الغد غدا عليه فوجه معه بالجيوش لقتال الحسين ، فلما قاربه وتواقفوا قام الحسين في أصحابه خطيبا فقال (٣) :

اللهم إنك تعلم أني لا أعلم أصحابا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت

__________________

(١) الزيادة من الطبري ليستقيم بها النص المحرف في الأصول وهو «فقال والله لو غيرك يقول هذا ونكري وأكن لم أكن أذكر أمك إلّا بخير الذكر».

(٢) مقتل الحسين ٤٨ والطبري ٦ / ٢٣١ والإرشاد ٢٥٧ وابن الأثير ٤ / ٢٢.

(٣) الطبري ٦ / ٢٣٨ وابن الأثير ٤ / ٢٥.

١١٢

خيرا من أهل بيتي ، فجزاكم الله خيرا فقد آزرتم وعاونتم (١) ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا ، فإذا جنّكم الليل فتفرقوا في سواده ، وانجوا بأنفسكم.

فقام إليه العباس بن علي أخوه ، وعلي ابنه ، وبنو عقيل ، فقالوا له : معاذ الله والشهر الحرام ، فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم ، إنا تركنا سيدنا ، وابن سيدنا وعمادنا ، وتركناه غرضا للنبل ، ودريئة للرماح ، وجزرا للسباع ، وفررنا عنه رغبة في الحياة ، معاذ الله ، بل نحيا بحياتك ، ونموت معك ، فبكى وبكوا عليه ، وجزاهم خيرا ، ثم نزل ـ صلوات الله عليه ـ.

فحدّثني عبد الله بن زيدان البجلي ، قال : حدّثنا محمد بن زيد التميمي ، قال : حدّثنا نصر بن مزاحم ، عن أبي مخنف عن الحرث بن كعب ، عن علي بن الحسين قال (٢) :

إني والله لجالس مع أبي في تلك الليلة ، وأنا عليل ، وهو يعالج سهاما له ، وبين يديه جون مولى أبي ذر الغفاري ، إذ ارتجز الحسين :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك في الإشراق والأصيل

من صاحب وماجد قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

والأمر في ذاك إلى الجليل

وكل حي سالك السبيل

قال : وأما أنا فسمعته ورددت عبرتي.

وأما عمتي فسمعته دون النساء فلزمتها الرقة والجزع (٣) ، فشقت ثوبها ، ولطمت وجهها ، وخرجت حاسرة تنادي : واثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة ، يا حسيناه يا سيداه ، يا بقية أهل بيتاه ، استقلت ويئست من الحياة ؛ اليوم مات جدي رسول الله (ص) ، وأمي فاطمة الزهراء ، وأبي علي ،

__________________

(١) في ط وق «أبرزتم».

(٢) الطبري ٦ / ٢٣٩ والإرشاد ٢١٣ ومقتل الحسين ٤٩ وابن الأثير ٤ / ٢٦ واليعقوبي ٢ / ٢١٧.

(٣) كذا في الأصول مع نقص الفاء في «فسمعته» وفي الطبري «فإنها سمعت ما سمعت ، وهي امرأة ، وفي النساء الرقة والجزع».

١١٣

وأخي الحسن ، يا بقية الماضين ، وثمال الباقين.

فقال لها الحسين : يا أختي «لو ترك القطا لنام».

قالت : فإنما تغتصب نفسك اغتصابا ، فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي ؛ وخرت مغشيا عليها ؛ فلم يزل يناشدها واحتملها حتى أدخلها الخباء (١).

* * *

(رجع الحديث إلى مقتله صلوات الله عليه)

قال : فوجه إلى عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ فقال : ما ذا تريدون مني؟ إني مخيّركم ثلاثا : بين أن تتركوني ألحق بيزيد ، أو أرجع من حيث جئت ، أو أمضي إلى بعض ثغور المسلمين فأقيم فيها.

ففرح ابن سعد بذلك ، وظن أن ابن زياد ـ لعنه الله ـ يقبله منه ، فوجه إليه رسولا يعلمه ذلك ، ويقول : لو سألك هذا بعض الديلم ولم تقبله ظلمته. فوجه إليه ابن زياد : طمعت يا ابن سعد في الراحة ، وركنت إلى دعة ، ناجز الرجل وقاتله ، ولا ترض منه إلّا أن ينزل على حكمي.

فقال الحسين : معاذ الله أن أنزل على حكم ابن مرجانة أبدا (٢) ، فوجه ابن زياد شمر بن ذي الجوشن الضّبابي ـ أخزاه الله ـ إلى ابن سعد ـ لعنه الله ـ يستحثه لمناجزة الحسين ، فلما كان في يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وستين ، ناجزه ابن سعد ـ لعنه الله ـ فجعل أصحاب الحسين يتقدمون رجلا رجلا يقاتلون حتى قتلوا.

وقال المدائني ، عن العباس بن محمد بن رزين ، عن علي بن طلحة ، وعن أبي مخنف ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن حميد بن مسلم ، وقال عمر بن سعد البصري : عن أبي مخنف ، عن زهير بن عبد الله الخثعمي ،

__________________

(١) راجع تفصيل ذلك في الطبري ٦ / ٢٤٠.

(٢) العقد ٤ / ٣٧٩ وشرح شافية أبي فراس ١٣٧.

١١٤

وحدّثنيه أحمد بن سعيد ، عن يحيى بن الحسن [العلوي] ، عن بكر بن عبد الوهاب ، عن إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، دخل حديث بعضهم في حديث الآخرين : إن أول قتيل قتل من ولد أبي طالب مع الحسين ابنه علي ، قال : فأخذ يشد على الناس وهو يقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

من شبث ذاك ومن شمر الدني

أضربكم بالسيف حتى يلتوي

ضرب غلام هاشمي علوي

ولا أزال اليوم أحمي عن أبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي (١)

ففعل ذلك مرارا ، فنظر إليه مرة بن منقذ العبدي فقال : عليّ آثم العرب إن هو فعل مثل ما أراه يفعل ، ومرّ بي أن أثكله أمه. فمر يشد على الناس ويقول كما كان يقول ، فاعترضه مرّة وطعنه بالرمح فصرعه ، واعتوره الناس فقطعوه بأسيافهم.

وقال أبو مخنف : عن سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم ، قال :

سماع أذني يومئذ الحسين وهو يقول : قتل الله قوما قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول (ص) ثم قال : على الدنيا بعدك العفاء.

قال حميد : وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي : يا حبيباه ، يا ابن أخاه ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه زينب بنت علي بن أبي طالب ؛ ثم جاءت حتى انكبت عليه فجاءها الحسين فأخذ بيدها إلى الفسطاط ، وأقبل إلى ابنه ، وأقبل فتيانه إليه فقال : احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ذلك ، ثم جاء به حتى وضعه بين يدي فسطاطه (٢).

حدّثني أحمد بن سعيد ، قال : حدّثني يحيى بن الحسن العلوي ، قال : حدثنا غير واحد ، عن محمد بن عمير ، عن أحمد بن عبد الرحمن البصري ، عن

__________________

(١) الإرشاد ٢٢٠ ومقتل الحسين ٨١ وابن الأثير ٤ / ٣٣ والطبري ٦ / ٢٥٦.

(٢) مقتل الحسين ٨٢ وابن الأثير ٤ / ٣٣ والطبري ٦ / ٢٥٦.

١١٥

عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن سلمة عن سعيد بن ثابت ، قال :

لما برز علي بن الحسين إليهم ، أرخى الحسين ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ عينيه فبكى ، ثم قال : اللهم كن أنت الشهيد عليهم ، فبرز إليهم غلام أشبه الخلق برسول الله (ص) ، فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول : يا أباه ، العطش ، فيقول له الحسين : اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله (ص) بكأسه ، وجعل يكر كرّة بعد كرّة ، حتى رمى بسهم فوقع في حلقه فخرقه ، وأقبل ينقلب في دمه ، ثم نادى : يا أبتاه عليك السلام ، هذا جدّي رسول الله (ص) يقرئك السلام ، ويقول : عجّل القدوم إلينا ، وشهق شهقة فارق الدنيا.

* * *

قال أبو مخنف : فحدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم قال :

أحاطوا بالحسين عليه السلام ، وأقبل غلام من أهله نحوه ، وأخذته زينب بنت علي لتحبسه ، فقال لها الحسين : احبسيه ، فأبى الغلام ، فجاء يعدوا إلى الحسين ، فقام إلى جنبه ، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف إلى الحسين ، فقال الغلام لأبجر : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه أبجر بالسيف ، واتقاه الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد. وبقيت معلقة بالجلد ، فنادى الغلام : يا أماه ، فأخذه الحسين فضمّه إليه ، وقال : يا ابن أخي احتسب فيما أصابك الثواب ، فإن الله ملحقك بآبائك الصالحين ، برسول الله (ص) ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن عليهم السلام (١).

* * *

قال : وجاء رجل حتى دخل عسكر الحسين ، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له : إن خبر ابنك فلان وافى ، إن الديلم أسروه ، فتنصرف معي حتى نسعى في فدائه ، فقال : حتى أصنع ما ذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي ، فقال له الحسين : انصرف وأنت في حل من بيعتي ، وأنا أعطيك فداء ابنك. فقال :

__________________

(١) الطبري ٢٥٩ وابن الأثير ٤ / ٣٤.

١١٦

هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكون والله هذا أبدا ، ولا أفارقك ، ثم حمل على القوم فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه ورضوانه.

قال : وجعل الحسين يطلب الماء ، وشمر ـ لعنه الله ـ يقول له : والله لا ترده أو ترد النار ، فقال له رجل : ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطوان الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت عطشا ، فقال الحسين : اللهم أمته عطشا.

قال : والله لقد كان هذا الرجل يقول : اسقوني ماء ، فيؤتى بماء ، فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول : اسقوني ، قتلني العطش ، فلم يزل كذلك حتى مات (١).

قال أبو مخنف : فحدثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم ، قال :

لما اشتد العطش على الحسين دعا أخاه العبّاس بن علي ، فبعثه في ثلاثين راكبا وثلاثين راجلا ، وبعث معه بعشرين قربة ، فجاءوا حتى دنوا من الماء فاستقدم أمامهم نافع بن هلال الجملي ، فقال له عمرو بن الحجاج : من الرجل؟ قال : نافع بن هلال ، قال : مرحبا بك يا أخي ما جاء بك؟ قال : جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه ، قال : اشرب ، قال : لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان. فقال له عمرو : لا سبيل إلى ما أردتم ، إنما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء ، فلما دنا منه أصحابه قال للرجالة : املئوا قربكم ، فشدت الرجالة فدخلت الشّريعة فملأوا قربهم ، ثم خرجوا ، ونازعهم عمرو بن الحجاج وأصحابه ، فحمل عليهم العباس بن علي ، ونافع بن هلال الجملي (٢) جميعا ، فكشفوه ، ثم انصرفوا إلى رحالهم ، وقالوا للرجالة : انصرفوا. فجاء أصحاب الحسين بالقرب حتى أدخلوها عليه.

قال المدائني : فحدثني أبو غسان ، عن هارون بن سعد ، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة ، قال :

__________________

(١) ابن الأثير ٤ / ٣٤.

(٢) في ط وق «البجلي» وفي الخطية «الحملي» تحريف ، و «الجملي» منسوب إلى جمل بطن من مذحج.

١١٧

رأيت رجلا من بني أبان بن دارم أسود الوجه ، وكنت أعرفه جميلا ، شديد البياض ، فقلت له : ما كدت أعرفك ، قال : إني قتلت شابا أمرد مع الحسين ، بين عينيه أثر السجود ، فما نمت ليلة منذ قتلته إلّا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم فيدفعني فيها ، فأصيح ، فما يبقى أحد في الحي إلّا سمع صياحي.

قال : والمقتول العباس بن علي ـ عليه السلام ـ.

قال المدائني. فحدثني مخلد بن حمزة بن بيض ، وحباب بن موسى ، عن حمزة بن بيض ، قال حدثني هانئ بن ثبيت القابضي زمن خالد ، قال : قال :

كنت ممن شهد الحسين ، فإني لواقف على خيول إذ خرج غلام من آل الحسين مذعورا يلتفت يمينا وشمالا ، فأقبل رجل (١) منا يركض حتى دنا منه ، فمال عن فرسه ، فضربه فقتله.

قال : وحمل شمر ـ لعنه الله ـ على عسكر الحسين ، فجاء إلى فسطاطه لينهبه ، فقال له الحسين : ويلكم ، إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في الدنيا ، فرحلى لكم عن ساعة مباح ، قال : فاستحيا ورجع.

قال : وجعل الحسين يقاتل بنفسه ، وقد قتل ولده وإخوته وبنو أخيه وبنو عمه فلم يبق منهم أحد ، وحمل عليه ذرعة بن شريك ـ لعنه الله ـ ، فضرب كتفه اليسرى بالسيف فسقطت ـ صلوات الله عليه ـ. وقتله أبو الجنوب زياد بن عبد الرحمن الجعفي ، والقثعم ، وصالح بن وهب اليزني وخولى بن يزيد ، كل قد ضربه وشرك فيه.

ونزل سنان بن أنس النخعي فاحتز رأسه.

ويقال : إن الذي أجهز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبابي لعنه الله.

وحمل خولي بن يزيد رأسه إلى عبيد الله بن زياد.

وأمر ابن زياد ـ لعنه الله ، وغضب عليه ـ أن يوطأ صدر الحسين ، وظهره

__________________

(١) في ابن الأثير ٤ / ٣٤ «رجل قيل هو ثبيت بن هانئ الحضرمي».

١١٨

وجنبه ووجهه فأجريت الخيل عليه (١).

وحمل أهله أسرى (٢) وفيهم ، عمر ، وزيد ، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن علي قد ارتث جريحا فحمل معهم ، وعلي بن الحسين الذي أمه أم ولد ، وزينب العقيلة ، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وسكينة بنت الحسين لما أدخلوا على يزيد ـ لعنه الله ـ أقبل قاتل الحسين بن علي يقول (٣).

أوقر ركابي فضة أو ذهبا

فقد قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا

وخيرهم إذ ينسبون نسبا (٤)

ووضع الرأس بين يدي يزيد ـ لعنه الله ـ في طست ، فجعل ينكته على ثناياه بالقضيب وهو يقول (٥) :

نفلّق هاما من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

وقد قيل : إن ابن زياد ـ لعنه الله فعل ذلك.

وقيل : إنه تمثل أيضا والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزّبعري (٦) :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من أشياخهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

ثم دعا يزيد ـ لعنه الله ـ بعلي بن الحسين ، فقال : ما اسمك؟ فقال : علي بن الحسين ، قال : أولم يقتل الله علي بن الحسين ، قال : قد كان لي أخ

__________________

(١) راجع الطبري ٦ / ٢٦١ وابن الأثير ٤ / ٣٥ ومروج الذهب ٢ / ٦٦.

(٢) الإرشاد ٢٢٤.

(٣) في ابن الأثير ٤ / ٣٥ أنه قال ذلك لما وقف على فسطاط عمر بن سعد.

(٤) العقد ٤ / ٣٨١ ومروج الذهب ٢ / ٦٥ والشريشي ١ / ١٩٣.

(٥) الإرشاد ٢٢٧ ومروج الذهب ٢ / ٦٥.

وفي ابن الأثير ٤ / ٣٧ ، والطبري ٦ / ٢٦٧ «ثم قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام :

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواضب في أيماننا تقطر الدما

(٦) الأبيات في الحيوان ٥ / ٥٦٤ وسيرة ابن هشام ٣ / ١٤٤.

١١٩

أكبر مني يسمى عليا ، فقتلتموه (١). قال : بل الله قتله ، قال علي : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)(٢) ، قال له يزيد : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(٣) فقال علي : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٤).

قال : فوثب رجل من أهل الشام فقال : دعني أقتله ، فألقت زينب نفسها عليه.

فقام رجل آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه (٥) أتخذها أمة.

قال : فقالت له زينب : لا ولا كرامة ، ليس لك ذلك ، ولا له إلّا أن يخرج من دين الله.

فصاح به يزيد : اجلس. فجلس ، وأقبلت زينب عليه ، وقالت : يا يزيد حسبك من دمائنا.

وقال علي بن الحسين : إن كان لك بهؤلاء النسوة رحم ، وأردت قتلي فابعث معهن أحدا يؤديهن (٦). فرق له وقال : لا يؤديهن غيرك.

ثم أمره أن يصعد المنبر فيخطب فيعذر إلى الناس مما كان من أبيه فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال :

أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا علي بن الحسين ، أنا ابن البشير النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير. وهي خطبة طويلة كرهت الإكثار بذكرها ، وذكر نظائرها.

__________________

(١) الإرشاد ٢٢٨ وابن الأثير ٤ / ٣٨ والطبري ٦ / ٢٦٣.

(٢) سورة الزمر ٤٢.

(٣) سورة الشورى ٣٠.

(٤) سورة الحديد ٢٣.

(٥) في ابن الأثير ٤ / ٣٨ «هب لي هذه ـ يعني فاطمة» راجع الطبري ٦ / ٢٦٥.

(٦) في الطبري ٦ / ٢٦٣ وابن الأثير ٤ / ٣٦ أن عليا قال هذا الكلام لابن زياد.

١٢٠