مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

فدخل إليه وسأله الأمان لأصحابه ، ففعل هارون ذلك.

هكذا ذكره النوفلي (١).

وأما محمد بن علي بن حمزة فإنه ذكر أن هذا كان من جهة عيسى الجلودي لا من جهة هارون ، ثم وجه إلى أولئك الطالبيين فحملهم مقيدين في محامل بلا وطاء ليمضي بهم إلى خراسان ، فخرجت عليهم بنو نبهان.

قال علي بن محمد النوفلي : خرج عليهم الغاضريون بزبالة ، فاستنقذوهم منه بعد حرب طويلة صعبة ، فمضوا هم بأنفسهم إلى الحسن بن سهل ، فأنفذهم إلى خراسان إلى المأمون.

فمات محمد بن جعفر هناك ، فلما أخرجت جنازته دخل المأمون بين عمودي السرير فحمله حتى وضعه في لحده ، وقال : هذه رحم مجفوة منذ مائتي سنة (٢) ، وقضى دينه ، وكان عليه نحوا من ثلاثين ألف دينار.

رجع الحديث إلى خبر أبي السرايا

قالوا :

فلما خرج هرثمة عسكر في شرقي نهر صرصر. وعسكر أبو السرايا في غربيه (٣). ووجه الحسن بن سهل إلى المدائن علي بن أبي سعيد ، وحمادا التركي وجماعة ، فقاتلوا محمد بن إسماعيل فهزموه واستولوا على المدائن.

ومضى أبو السرايا من فوره بالليل (٤) ، ولا يعلم هرثمة ، وكان جسر صرصر مقطوعا بينهما ، يريد المدائن فوجد أصحابه وقد أخرجوا عنها واستولى عليها المسوّدة فكانت بينهم مناوشة ، وقتل غلامه أبو الهرماس أصابه حجر عراده ، فدفنه بها ومضى نحو القصر ، فلما صار بالرحب صار هرثمة إليه فلحقه هناك فقاتله قتالا شديدا ، فهزم أبو السرايا ، وقتل أخوه ، ومضى لوجهه حتى نزل الجازية ، وأتبعه هرثمة ، واجتمع رأيه

__________________

(١) راجع الطبري ١٠ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) تاريخ بغداد ٢ / ١١٥.

(٣) راجع الطبري ١٠ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٤) في الطبري «وأخذ علي بن أبي سعيد المدائن ، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة فنزل به ، وأصبح هرثمة فجد في طلبه ، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم ، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل ...».

٤٤١

على سد الفرات عليهم ومنعهم الماء ، وصبه في الآجام والمغايض التي في شرقي الكوفة ، ففعل ذلك ، وانقطع الماء من الفرات ، فتعاظم ذلك الكوفيون ، وسقط في أيديهم ، وأزمعوا معالجة هرثمة ومنازلته ، فبيناهم كذلك : إذ فتق السّكر الذي سكروه (١) ، وأقبل الماء تحت الخشب ، وكبروا وحمدوا الله كثيرا ، وسرّوا بما وهب الله لهم من الكفاية.

ثم إن هرثمة نهد إلى الكوفة مما يلي الرصافة.

وخرج أبو السرايا إليه في الناس فعبأهم ، وجعل على الميمنة الحسن بن الهذيل. وعلى الميسرة جرير بن الحصين ، ووقف هو في القلب.

وعبأ هرثمة خيلا نحو البر ، فبعث أبو السرايا عدتهم يسيرون بإزائهم لئلا يكونوا كمينا.

ثم إن أبا السرايا حمل حملة فيمن معه ، فانهزم أصحاب هرثمة هزيمة رقيقة ، ثم عطفوا وجوه دوابهم فنادى أبو السرايا : لا تتبعوهم فإنها خديعة ومكر ، فوقفوا وتبعهم أبو كتلة فأبعد ، ثم رجع وأعلم أبا السرايا أنهم قد عبروا الفرات ، فرجع بالناس إلى الكوفة ثم خرج يوم الاثنين لتسع خلون من ذي القعدة وخرج الناس معه. وقد كان جاسوسه أخبره أن هرثمة يريد مواقعته في ذلك اليوم ، فعبأ الناس مما يلي الرّصافة ، ومضى هو تحت القنطرة ، فلم يبعد حتى أقبلت خيل هرثمة ، فرجع أبو السرايا كالجمل الهائج يكاد الغضب أن يلقيه عن سرجه إلى الناس فقال : سووا عسكركم ، واجمعوا أمركم ، وأقيموا صفوفكم. وأقبل هرثمة فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله.

ونظر أبو السّرايا إلى روح بن الحجاج قد رجع فقال : والله لئن رجعت لأضربن عنقك ، فرجع يقاتل حتى قتل.

وقتل يومئذ الحسن بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين.

وقتل أبو كتلة غلام أبي السّرايا.

واشتدت الحرب ، وكشف أبو السرايا رأسه وجعل يقول : أيها الناس ، صبر ساعة ، وثبات قليل ، فقد ـ والله ـ فشل القوم ، ولم يبق إلّا هزيمتهم.

ثم حمل ، وخرج إليه قائد من قواد هرثمة وعليه الدرع والمغفر ، فتناوشا ساعة ، ثم ضربه أبو السرايا ضربة على بيضته فقدّه ، حتى خالط سيفه قربوس سرجه.

__________________

(١) في القاموس : «السكر : سد النهر ، وبالكسر الاسم منه».

٤٤٢

وانهزمت المسودة هزيمة قبيحة ، وتبعهم أهل الكوفة يقتلونهم حتى بلغوا صعنبا فنادى أبو السرايا : يا أهل الكوفة أحذروا كرّهم بعد الفرّة ، فإن العجم قوم دهاة ، فلم يصغوا إلى قوله وتبعوهم.

وكان هرثمة قد أسر في ذلك الوقت ، ولم يعلم أبو السرايا ، أسره عبد سندي ، وقبل ذلك خلّف في عسكره زهاء خمسة آلاف فارس يكونون ردءا له إن انهزم أصحابه ، وخلّف عليهم عبيد الله بن الوضاح ، فلما وقعت الهزيمة ونادى أبو السرايا : لا تتبعوهم ، كشف عبيد الله بن الوضاح رأسه ، وأصحابه يقولون : قتل الأمير ، قتل الأمير فناداهم : فماذا يكون إذا قتل الأمير؟ يا أهل خراسان إليّ أنا عبد الله بن الوضاح ، اثبتوا ، فو الله ما القوم إلّا غوغاء ورعاع ، فثابت إليه طائفة ، وحمل على أهل الكوفة فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وتبعوهم حتى جاوزوا صعنبا ، ووجدوا هرثمة أسيرا في يد عبد أسود ، فقتلوا العبد ، وحلّوا وثاق هرثمة ، وعاد إلى معسكره ولم تزل الحرب مدة متراخية في كل يوم أو يومين تكون سجالا بينهم.

ثم إن أبا السرايا بعث علي بن محمد بن جعفر المعروف بالبصري في خيل ، وأمره أن يأتي هرثمة من ورائه ، فمضى لوجهه ولم يشعر هرثمة حتى قرب منه ، وحمل أبو السرايا عليه فصاح هرثمة :

يا أهل الكوفة علام تسفكون دماءنا ودماءكم؟ إن كان قتالكم إيّانا كراهية لإمامنا فهذا المنصور بن المهدي رضي لنا ولكم نبايعه ، وإن أحببتم إخراج الأمر من ولد العباس فانصبوا إمامكم ، واتفقوا معنا ليوم الاثنين نتناظر فيه ، ولا تقتلونا وأنفسكم.

فأمسك أهل الكوفة عن الحملة ، وناداهم أبو السرايا : ويحكم إن هذه حيلة من هؤلاء الأعاجم ، وإنما أيقنوا بالهلاك فاحملوا عليهم ، فامتنعوا وقالوا : لا يحل لنا قتالهم وقد أجابوا. فغضب أبو السرايا وانصرف معهم ، وقد أراد قبل ذلك إجابة هرثمة وأن يمضي إليه مع محمد بن محمد بن زيد فيستأمن ، ثم خشي الغدر به.

فلما كان يوم الجمعة خطب أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

يا أهل الكوفة ، يا قتلة علي ، ويا خذلة الحسين ، إن المعتز بكم لمغرور ، وإن المعتمد على نصركم لمخذول ، وإن الذليل لمن أعززتموه ، والله ما حمد عليّ أمركم فنحمده ، ولا رضي مذهبكم فنرضى به ، ولقد حكّمكم فحكمتم عليه ، وائتمنكم فخنتم أمانته ووثق بكم فحلتم عن ثقته ، ثم لم تنفكوا عليه مختلفين ، ولطاعته ناكثين ،

٤٤٣

إن قام قعدتم ، وإن قعد قمتم ، وإن تقدّم تأخّرتم ، وإن تأخّر تقدمتم ، خلافا عليه وعصيانا لأمره ، حتى سبقت فيكم دعوته ، وخذلكم الله بخذلانكم إيّاه ، أيّ عذر لكم في الهرب عن عدوكم ، والنكول عمّن لقيتم وقد عبّروا خندقكم؟ وعلوا قبائلكم؟ ينتهبون أموالكم ويستحيون حريمكم ، هيهات لا عذر لكم إلّا العجز والمهانة ، والرضا بالصغار والذلة ، إنما أنتم كفيء الظل ، تهزمكم الطبول بأصواتها ، ويملأ قلوبكم الحرق بسوادها ، أما والله لأستبدلن بكم قوما يعرفون الله حق معرفته ، ويحفظون محمدا في عترته. ثم قال :

ومارست أقطار البلاد فلم أجد

لكم شبها فيما وطئت من الأرض

خلافا وجهلا وانتشار عزيمة

ووهنا وعجزا في الشدائد والخفض

لقد سبقت فيكم إلى الحشر دعوة

فلا عنكم راض ولا فيكم مرضي

سأبعد داري من قلى عن دياركم

فذوقوا إذا ولّيت عاقبة البغض

فقامت إليه جماعة من أهل الكوفة فقالوا : ما أنصفتنا في قولك ، ما أقدمت وأحجمنا ، ولا كررت وفررنا ، ولا وفيت وغدرنا ، ولقد صبرنا تحت ركابك ، وثبتنا مع لوائك ، حتى أفنتنا الوقائع ، واجتاحتنا (١) ، وما بعد فعلنا غاية إلّا الموت ، فامدد يدك نبايعك على الموت ، فو الله لا نرجع حتى يفتح الله علينا أو يقضي قضاءه فينا.

فأعرض عنهم ، ونادى في الناس بالخروج لحفر الخندق ، فخرجوا فحفروا وأبو السرايا يحفر معهم عامة النهار ، فلما كان الليل خرج الناس من الخندق وأقام إلى الثلث الأول من الليل ، ثم عبأ بغاله وأسرج خيله ، وارتحل هو ومحمد بن محمد بن زيد ، ونفر من العلويين والأعراب ، وقوم من أهل الكوفة ، وذلك في ليلة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة مضت من المحرم (٢) فأقام بالقادسية ثلاثا حتى تتام أصحابه ، ثم مضى على خفان وأسفل الفرات حتى صار على طريق البر.

ووثب بالكوفة أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي فدعا إلى هرثمة.

وخرج أشراف أهل الكوفة إلى هرثمة فسألوه الأمان للناس فأجابهم إلى ذلك وتألفهم.

ودخل المنصور بن المهدي الكوفة ، وأقام هرثمة خارجها ، وفرق عسكره حوالي

__________________

(١) في ط وق «واحناحينا».

(٢) الطبري ١٠ / ٢٣٠.

٤٤٤

خندقها وأبوابها خوفا من حيلة ، وخطب المنصور بن المهدي بالناس فصلى بهم.

وولّى هرثمة غسان بن الفرج (١) الكوفة وأقام هو أياما بظهر البلد ، حتى أمن الناس وهدأت قلوبهم من وحشة الحرب ، ثم ارتحل إلى بغداد.

قالوا :

ومضى أبو السرايا يريد البصرة ، فلقيه أعرابي من أهل البلد ، فسأله عن الخبر وأعلمه غلبة السلطان عليه وإخراج عماله عنه ، وأن المسودة في خلق كثير لا يمكنه مقاومتهم منها ، فعدل عنها وأراد المسير نحو واسط فأعلمه الرجل أن صورة أمرها مثل ما ذكر له عن البصرة ، فقال له : فأين ترى؟.

قال : أرى أن تعبر دجلة فتكون بين جوفي والجبل ، فيجتمع معك أكرادهم ويلحق بك من أراد صحبتك من أعراب السواد وأكراده ، ومن رأى رأيك من أهل الأمصار والطساسيج فقبل أبو السرايا مشورته ، وسلك ذلك الطريق ، فجعل لا يمرّ بناحية إلّا جبى خراجها وباع غلاتها.

ثم عمد إلى الأهواز حتى صار إلى السوس ، فأغلقوا الباب دونه ، فنادى : افتحوا الباب ، ففتحوا له فدخلها. وكان على كور الأهواز الحسن بن علي المأموني (٢) فوجه إلى أبي السرايا يعلمه كراهيته لقتاله ويسأله الانصراف عنه إلى حيث أحب ، فلم يقبل ذلك ، وأبى إلّا قتاله ، فخرج إليه المأموني فقاتله قتالا شديدا.

وثبتت الزيدية تحت ركاب محمد بن محمد بن زيد ، وثبت العلويون معه فقتلت منهم عدة ، وخرج أهل السوس فأتوهم من خلفهم ، فخرج غلام أبي السرايا ليقاتلهم فظن القوم أنها هزيمة فانهزموا ، وجعل أصحاب المأموني يقتلونهم ، حتى أجنهم الليل فتفرقوا وتقطعت دوابهم.

ومضى أبو السرايا حتى أخذ على طريق خراسان ، فنزلوا قرية يقال لها : برقانا. وبلغ حمّاد الكندغوش (٣) خبرهم ، وكان يتقلد تلك الناحية ، فوجه إليهم خيلا ، ثم

__________________

(١) في الطبري ١٠ / ٢٣١ «غسان بن أبي الفرج أبو إبراهيم بن غسان صاحب حرس خراسان فنزل في الدار التي كان فيها محمد بن محمد وأبو السرايا».

(٢) في الطبري ١٠ / ٢٣١ «... وأتاهم الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني ، فأرسل إليهم اذهبوا حيث شئتم فإنه لا حاجة لي في قتالكم ، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم ، فأبى أبو السرايا إلّا القتال ، فقاتلهم فهزمهم الحسن ، واستباح عسكرهم ، وجرح أبو السرايا جراحة شديدة فهرب ...».

(٣) كذا في الطبري ١٠ / ٢٣١ وفي ط وق «محمد الكندي عوس».

٤٤٥

ركب بنفسه حتى لقيهم وآمنهم على أن ينفذ بهم إلى الحسن بن سهل فقبلوا ذلك منه ، وأعطى الذي أعلمه خبرهم عشرة آلاف درهم ، وحملهم إلى الحسن بن سهل (١).

وبادر محمد بن محمد بكتاب إلى الحسن بن سهل ، يسأله أن يؤمنه على نفسه ويستعطفه ، فقال الحسن بن سهل : لا بد من ضرب عنقك. فقال له بعض من كان يستنصحه : لا تفعل أيها الأمير ، فإن الرشيد لما نقم على البرامكة احتج عليهم بقتل ابن الأفطس ، وهو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي فقتلهم به ، ولكن احمله إلى أمير المؤمنين ، فعمل ذلك وحلف أنه يقتل أبا السرايا.

فلما أتته بهم الرسل وهو نازل بالمدائن معسكرا قال لأبي السرايا : من أنت؟.

قال : السري بن المنصور.

قال : لا بل أنت النذل ابن النذل ، المخذول ابن المخذول ، قم يا هارون بن أبي خالد فاضرب عنقه بأخيك عبدوس (٢) بن عبد الصمد ، فقام إليه فقدمه فضرب عنقه.

ثم أمر برأسه فصلب في الجانب الشرقي ، وصلب بدنه في الجانب الغربي (٣).

وقتل غلامه أبا الشوك وصلب معه.

وحمل محمد بن محمد إلى خراسان (٤) ، فأقيم بين يدي المأمون وهو جالس في مستشرف له ، ثم صاح الفضل بن سهل اكشفوا رأسه فكشف رأسه (٥) فجعل المأمون يتعجب من حداثة سنه ، ثم أمر له بدار فأسكنها ، وجعل له فيها فرشا وخادما ، فكان فيها على سبيل الاعتقال والتوكيل ، وأقام على ذلك مدة يسيرة يقال : إن مقدارها أربعون يوما ، ثم دست إليه شربة فكان يختلف كبده وحشوته ، حتى مات.

__________________

(١) في الطبري «وكان الحسن مقيما بالنهروان حين طردته الحريبة».

(٢) في الطبري ١٠ / ٢٣١ «... ضربت عنق أبي السرايا يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول. والذي تولى ضرب عنقه هارون بن محمد بن أبي خالد ، وكان أسيرا في يدي أبي السرايا ، وذكر أنه لم يروا أحدا عند القتل أشد جزعا من أبي السرايا ، كان يضطرب بيديه ورجليه ، ويصيح أشد ما يكون الصياح ، حتى جعل في رأسه حبل ، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح ، حتى ضربت عنقه ، ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بن سهل ...».

(٣) راجع المحبر لابن حبيب ص ٤٨٩ ، وفي الطبري ١٠ / ٢٣١ «وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر».

(٤) الطبري ١٠ / ٢٣١.

(٥) في ط وق «السقوا رأسه فألسقوه».

٤٤٦

حدثني أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : قال يحيى بن الحسن ، حدثني محمد بن جعفر :

أن محمد بن محمد سقى السم بمرو ، وتوفي بها وكان يختلف حتى اختلف كبده.

قال :

ونظر في الدّواوين فوجد من قتل من أصحاب السلطان في وقائع أبي السرايا مائتا ألف رجل.

* * *

(ذكر من خرج معه وبايعه)

حدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال : حدثني أبي ، قال :

خرج مع أبي السرايا أكثر أهل الكوفة إلّا من لا فضل فيه ولا غناء ، فإنما عد من تخلّف عنه ، ثم ذكر لي أنّ مبلغهم كان زهاء مائتي ألف وأكثر ، فقلت لمحمد بن الحسين : إن أحمد بن عبيد الله بن عمار روى لنا ، عن محمد بن داود بن الجراح ، عن محمد بن أبي خيثمة ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال :

رأيت أبا بكر وعثمان (١) ابني شيبة وقد خرجا مع أبي السرايا وعلى أحدهما عمامة صفراء والآخر حمراء ، وقالا : يتأسى بنا الناس. فقال : لم يكونا في ذلك الوقت بهذا المحل ، وقد بايع لمحمد بن إبراهيم الأكابر ممن حدث عنه ابنا أبي شيبة (٢) مثل يحيى بن آدم (٣) فإنه بايعه فجعل محمد يشترط عليه ويحيى يقول : ما استطعت ما استطعت ، ويقول له محمد : هذا قد استثناه لك القرآن إن الله تعالى يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٤).

__________________

(١) هو أبو الحسن عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي ، المعروف بابن أبي شيبة ، كان من ثقاة أهل الكوفة ، رحل إلى مكة والري ثم نزل بغداد وحدث بها ، وتوفي سنة تسع وثلاثين ومائتين راجع تاريخ بغداد ١١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٨ وخلاصة تذهيب الكمال ص ١٢٢.

(٢) حدث عثمان عن شريك بن عبد الله ، وأبي الأحوص وسفيان بن عيينة ، وجرير بن عبد الحميد ، وهشيم وعمرو بن عبيد ، وعبيد الله الأشجعي ، وعبد الله ابن إدريس ، وحميد بن عبد الرحمن كما في تاريخ بغداد ١١ / ٢٨٤.

(٣) هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي مولاهم ، أبو زكريا الكوفي. قال ابن سعد : مات سنة ثلاث ومائتين ، كما في خلاصة تذهيب الكمال ٣٦١.

(٤) سورة التغابن ١٦.

٤٤٧

ثم حدثني الأشناني ، عن أحمد بن حازم الغفاري ، أن مخول بن إبراهيم خرج معه أيضا ، وذكر جماعة منهم عاصم بن عامر ، وعامر بن كثير السرّاج ، وأبو نعيم الفضل بن دكين (١) وعبد ربه بن علقمة ، ويحيى بن الحسن بن الفرات الفزار ، ونظراء هؤلاء.

حدثني أبو أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن المنصور ، قال : حدثني الحسين بن علي بن أخي ليث ، وموسى بن أحمد القطواني :

أنه حضر يحيى بن آدم يبايع محمد بن إبراهيم ، وذكر مثل حديث الأشناني.

[حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثني الحسين بن القاسم ، قال : حدثني جعفر بن هذيل ، قال : سمعت بن نمير يقول ، وكان قد فاته أكثر كتب أبي معاوية عن الأعمش ، قال :

لما قدم يحيى بن عيسى جعلت أكتب عنه حديث الأعمش الحمد لله الذي كفاني مؤنة أبي معاوية ذلك المرح أتبدل به من يحيى بن عيسى فما مكثنا إلّا يسيرا حتى خرج أبو السرايا ، فخرج معه يحيى بن عيسى ، فقلت : إنا لله فررت من ذلك ووقعت مع هذا](٢).

حدثني أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن المنصور ، قال : سمعت مصفى بن عاصم يقول : سمعت أبا السرايا يقول :

ما دخلت في معصية الله جلّ وعزّ من الفواحش قط.

قال : وسمعته يقول : ما هبت أحدا قط هيبتي محمد بن إبراهيم.

حدثني أبو عبيد الصيرفي ، قال : حدثني أبي ، قال :

رأيت أبا السرايا يؤتى بمكّوكي (٣) شعير فيطرح أحدهما بين يديه ، والآخر بين يدي فرسه فيستوفي الشعير قبل فرسه.

حدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال : حدثني إبراهيم بن سليمان المقرئ ، قال :

كنت واقفا مع أبي السرايا على القنطرة ، ومحمد بن محمد بصحراء أثير ،

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣٣٨.

(٢) الزيادة هكذا من الخطية.

(٣) في القاموس «المكوك : مكيال يسع صاعا ونصفا».

٤٤٨

فجاءه رجل دسه هرثمة فقال له : إن المسوّدة قد دخلت من جانب الجسر ، وأخذ محمد بن محمد وإنما أراد أن بنتحي أبو السرايا عن موضعه ، فلما سمع ذلك وجّه فرسه نحو صحراء أثير ، وأقبل هرثمة حتى دخل الكوفة ، وبلغ إلى موضع يعرف بدار الحسن ، وصار أبو السرايا إلى الموضع فوجد محمدا قائما على المنبر يخطب ، فعلم أنها حيلة ، فكر راجعا ومعه رجل يقال له مسافر الطائي ، وكان من بني شيبان إلّا أنه نزل في قبائل طي فنسب إليهم ، فحمل على المسودة فهزمهم حتى ردهم إلى موقفهم.

وجاءه رجل فقال : إن جماعة منهم قد كمنوا لك في خرابة ها هنا. فقال : أرينهم ، فأراه الخرابة ، فدخل إليهم فأقام طويلا ثم خرج يمسح سيفه وينفض علق الدم عن نفسه ، ومضى لوجهه نحو هرثمة ، فدخلت فإذا القوم صرعى وخيلهم يثب بعضها على بعض ، فعددتهم فإذا هم مائة رجل ، أو مائة رجل إلّا رجلا.

* * *

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثنى محمد بن المنصور ، قال :

سمعت القاسم بن إبراهيم ونحن في منزل للحسينيين يقال له الورينة ، يقول :

انتهى إليّ نعي أخي محمد وأنا بالمغرب ، فتنحبت فأرقت من عيني سجلا أو سجلين ، ثم رثيته بقصيدة ، على أنه كان يقول بشيء من التشبيه ، قال : ثم قرأها عليّ من رقعة ، فكتبتها ، وهي هذه :

يا دار دار غرور لا وفاء لها

حيث الحوادث بالمكروه تستبق

أبرحت أهلك من كدّ ومن أسف

بمشرع شربه التصدير والرّنق (١)

فإن يكن فيك للآذان مستمع

يصبى ومرأى تسامى نحوه الحدق

فأيّ عشك إلّا وهو منتقل

وأي شملك إلّا وهو مفترق (٢)

من سرّه أن يرى الدنيا معطّلة

بعين من لم يخنه الخدع والملق

فليأت دارا جفاها الأنس موحشة

مأهولة حشوها الأشلاء والخرق

قل للقبور إذا ما جئت زائرها

وهل يزار تراب البلقع الخلق؟

__________________

(١) وفي الخطية «شربه التصريف».

(٢) في ط وق «وأي ممسك إلّا سوف».

٤٤٩

ما ذا تضمّنت يا ذا اللحد من ملك

لم يحمه منك عقيان ولا ورق

بل أيّها النّازح المرموس يصحبه

وجد ويصحبه التّرجيع والحرق

يهدى لدار البلى عن غير مقلية

قد خطّ في عرصة منها له نفق

وبات فردا وبطن الأرض مضجعه

ومن ثراها له ثوب ومرتفق

نائي المحل بعيد الأنس أسلمه

برّ الشفيق فحبل الوصل منخرق

قد أعقب الوصل منك اليأس فانقطعت

منك القرائن والأسباب والعلق

يا شخص من لو تكون الأرض فديته

ما ضاق منّي بها ذرع ولا خلق

بينا أرجيّك تأميلا وأشفق أن

يغبّر منك جبين واضح يقق

أصبحت يحثى عليك الترب في جدث

حتى عليك بما يحثى به طبق

إن فجّعتني بك الأيام مسرعة

فقلّ منّي عليك الحزن والأرق

فأيّما حدث تخشى غوائله

من بعد هلكك يعنيني به الشفق (١)

قال أبو الفرج :

وأخبرنا أحمد بن سعيد ، عن محمد بن منصور ، قال : سمعت القاسم بن إبراهيم يقول : أعرف رجلا دعا الله في ليلة وهو في بيت فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به [صاحب](٢) سليمان فجاءه السرير فتهدل البيت عليه رطبا.

قال : وسمعت القاسم يقول :

أعرف رجلا دعا الله فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي من دعاك به أجبته ، وهو في ظلمة ، فامتلأ البيت نورا.

قال محمد : عنى به نفسه.

وقد كان القاسم بن إبراهيم أراد الخروج واجتمع له أمره فسمع في عسكره صوت طنبور فقال : لا يصلح هؤلاء القوم أبدا ، وهرب وتركهم.

قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني :

وفيما كتب به إليّ علي بن أحمد العجلي ، قال : أخبرنا يحيى بن عبد الرحمن ،

__________________

(١) كذا في الخطية وفي ط وق «تغشيني».

(٢) الزيادة من الخطية.

٤٥٠

قال : قال الهيثم بن عبد الله الخثعمي يرثي أبا السرايا ، وذكرها ابن عمار ووصف أنه لا يعرف قائلها :

وسل عن الظاعنين ما فعلوا

وأين بعد ارتحالهم نزلوا

يا ليت شعري والليت عصمة من

يأمل ما حال دونه الأجل

أين استقرت نوى الأحبة أم

هل يرتجى للأحبة القفل

ركب ألحت يد الزّمان على

إزعاجهم في البلاد فانتقلوا

بني البشير النذير الطاهر الطّهر الّ

ذي أقرت بفضله الرسل

خانهم الدهر بعد عزهم

والدهر بالناس خائن ختل (١)

بانوا فظلت عيون شيعتهم

عليهم لا تزال تنهمل

واستبدلوا بعدهم عدوّهم

بئس لعمري بالمبدل البدل

يا عسكرا ما أقلّ ناصره

لم تشفه من عدوه الدّول

فبكّهم بالدماء إن نفد الدّم

ع فقد خان فيهم الأمل

لا تبك من بعدهم على أحد

فكلّ خطب سواهم جلل

أخوهم يفتدي صفوفهم

زحفا إليهم وما بها خلل (٢)

في فيلق يملأ الفضاء به

كأنما فيه عارض وبل

رماهم الشيخ من كنانته

والشيخ لا عاجز ولا وكل

بالخيل تردى وهنّ ساهمة

تحت رجال كأنها الإبل

والسّابقات الجياد فوقهم

والبيض والبيض والقنا الذبل

والرّجل يمشون في أظلّتها

كما تمشّى المصاعب البزل

واليزنيّات في أكفّهم

كأنّما في رءوسهما الشعل

حتى إذا ما التقوا على قدر

والقوم في هوّة لهم زجل

شدوا على عترة الرسول ولم

تثنيهم رهبة ولا وهل (٣)

فما رعوا حقّه وحرمته

ولا استرابوا في نفس من قتلوا

والله أملى لهم وأمهلهم

والله في أمره له مهل

* * *

__________________

(١) في ط وق «خائن خيل».

(٢) في ط وق «أخوهم يعتدي صفولهم».

(٣) في ط وق «يثبتهم رهبة».

٤٥١

بل أيها الراكب المخبر أو النا

عي ابن لي لأمّك الهبل

ما فعل الفارس المحامي إذا ما ال

حرب فرّت أنيابها العصل (١)

أأنت أبصرته على شرف

لله عيناك أيها الرجل

من فوق جذع أناف شائلة

ترمي إليها بلحظها المقل

إن كنت أبصرته كذاك فما

أسلمه ضعفه ولا الفشل

ولو تراه عليه شكته

والموت دان والحرب تشتعل

في موطن والحتوف مشرعة

فيها قسيّ المنون تنتضل

والقوم منهم مضرّج بدم

وموثق أسره ومنجدل

وفائظ نفسه وذو رمق

يطمع فيه الضباع والحجل

في صدره كالوجار من يده

يغيب فيها السنان والفتل

يميل منها والموت يحفزه

كما يميل المرنّح الثّمل

في كفه عضبة مضاربها

وذابل كالرّشاء معتدل

لخلت أنّ القضاء من يده

وللمنايا من كفّه رسل

يا ربّ يوم حمى فوارسه

وهوّ لا مرهق ولا عجل

كأنه آمن منيّته

في الرّوع لما تشاجر الأسل

في موطن لا يقال عاثره

يغصّ فيه بريقه البطل

* * *

أبا السّرايا نفسي مفجّعة

عليك والعين دمعها خضل

من كان يغضي عليك مصطبرا

فإن صبري عليك مختزل

هلّا وقاك الرّدى الجبان إذا

ضاقت عليه بنفسه الحيل

أم كيف لم تخشك المنون ولم

يرهبك إذ حان يومك الأجل

فاذهب حميدا فكل ذي أجل

يموت يوما إذا انقضى الأجل

الموت مبسوطة حبائله

والناس ناج منهم ومحتبل

من تعتلقه تفت به أبدا

ومن نجا يومه فلا يئل (٢)

* * *

__________________

(١) في ط وق «قرت أنيابها».

(٢) فلا يئل : أي فلا يخلص ، جاء في تاج العروس : «وفي حديث علي رضي الله عنه أن درعه كانت صدرا بلا ظهر ، فقيل له : لو احترزت من ظهرك ، فقال : إذا أمكنت من ظهري فلا وألت ، أي لا نجوت».

٤٥٢

هذا آخر خبر أبي السرايا (١) رحمه الله.

* * *

٥٤ ـ عبد الله بن جعفر بن إبراهيم

وعبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن جعفر بن الحسن

[ابن الحسن](٢) بن علي بن أبي طالب عليه السلام

وأمه آمنة بنت عبيد الله (٣) بن الحسين بن علي [بن الحسين].

وكان خرج أيام المأمون إلى فارس ، فقتله قوم من الخوارج في طريقه.

٥٥ ـ علي بن موسى بن جعفر

والرضا علي بن موسى بن جعفر (٤) بن محمد بن علي بن الحسين

ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام

ويكنى أبا الحسن [وقيل : يكنى أبا بكر].

وأمه أم ولد (٥).

قال أبو الفرج :

حدثني الحسن بن علي الخفاف ، قال : حدثنا عيسى بن مهران ، قال : حدثنا أبو الصلت الهروي (٦) ، قال :

سألني المأمون يوما عن مسألة فقلت : قال فيها أبو بكر كذا وكذا.

__________________

(١) راجع الطبري ١٠ / ٢٤٥.

(٢) الزيادة من الخطية.

(٣) في الخطية «بنت عبد الله».

(٤) الطبري ١٠ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤ و ٢٥٠ وابن الأثير ٦ / ١٢٠ ، ١٣٠ ومروج الذهب ٢ / ٢٣٥ والتنبيه والإشراف ٣٠٢ وتاريخ الخلفاء ٢٠٥ والفخري ١٩٦ ـ ١٩٨ ومناقب الأئمة ٣٨٧ وابن خلكان ١ / ٣٢١ والإرشاد ٢٧٧ ـ ٢٨٩ وعيون أخبار الرضا (مخطوط).

(٥) يقال لها : أم البنين كما في الإرشاد ٢٧٨.

(٦) هو عبد السلام بن صالح بن سليمان العبشمي مولاهم روى عن حماد بن زيد ومالك وروى عنه محمد بن رافع ، وأحمد بن سيار وقال : رأيته يقدم أبا بكر وعمر قيل : توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. راجع خلاصة تذهيب الكمال ٢٠١.

٤٥٣

فقال : من [هو] أبو بكر؟ أبو بكرنا أو أبو بكر العامة؟.

قلت : أبو بكرنا.

قال عيسى : قلت لأبي الصلت : من أبو بكركم؟ فقال : علي بن موسى الرضا ، كان يكنى بها ، وأمه أم ولد.

كان المأمون عقد له على العهد من بعده ، ثم دس إليه فيما ذكر بعد ذلك سما فمات منه.

ذكر الخبر في ذلك

أخبرني ببعضه علي بن الحسين بن علي بن حمزة ، عن عمه محمد بن علي بن حمزة العلوي. وأخبرني بأشياء (١) منه أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن الحسن العلوي ، وجمعت أخبارهم :

أن المأمون وجه إلى جماعة من آل أبي طالب فحملهم إليه من المدينة ، وفيهم علي بن موسى الرضا ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاءوه بهم ، وكان المتولي لإشخاصهم المعروف بالجلودي من أهل خراسان ، فقدم بهم على المأمون فأنزلهم دارا ، وأنزل علي بن موسى الرضا دارا (٢).

ووجه إلى الفضل بن سهل فأعلمه أنه يريد العقد له ، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك ، ففعل واجتمعا بحضرته ، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ، ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه.

فقال له (٣) : إني عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع ، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل.

فاجتمعا معه على ما أراد ، فأرسلهما إلى علي بن موسى فعرضا ذلك عليه فأبى ، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه ، إلى أن قال له أحدهما : إن فعلت وإلّا فعلنا بك وصنعنا ، وتهدده ، ثم قال له أحدهما : والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد.

__________________

(١) الإرشاد ص ٢٨٢.

(٢) راجع ما دار بينه وبين المأمون في الإرشاد ص ٢٨٣.

(٣) الإرشاد ٢٨٤.

٤٥٤

ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع ، فقال له قولا شبيها بالتهدد ، ثم قال له :

إن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك ، وقال : من خالف فاضربوا عنقه ، ولا بد من قبول ذلك.

فأجابه علي بن موسى إلى ما التمس.

ثم جلس المأمون في يوم الخميس ، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى ، وأنه ولّاه عهده ، وسمّاه الرضا. وأمرهم بلبس الخضرة ، والعود لبيعته في الخميس الآخر على أن يأخذوا رزق سنة.

فلما كان ذلك اليوم ركب الناس من القواد والقضاة وغيرهم من الناس في الخضرة ، وجلس المأمون ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه. وأجلس الرضا عليهما في الحضرة ، وعليه عمامة وسيف. ثم أمر ابنه العباس بن المأمون فبايع له أول الناس ، فرفع الرضا يده فتلقى بظهرها وجه نفسه وببطنها وجوههم.

فقال له المأمون : ابسط يدك للبيعة.

فقال له : إن رسول الله (ص) هكذا كان يبايع ، فبايعه الناس ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء والشعراء ، فجعلوا يذكرون فضل علي بن موسى وما كان من المأمون في أمره.

ثم دعا أبو عبّاد بالعباس بن المأمون ، فوثب ، فدنا من أبيه فقبّل يده وأمره بالجلوس.

ثم نودي محمد بن جعفر بن محمد ، فقال له الفضل بن سهل : قم. فقام ، فمشى حتى قرب من المأمون ولم يقبل يده ، ثم مضى فأخذ جائزته وناداه المأمون : ارجع يا أبا جعفر إلى مجلسك ، فرجع.

ثم جعل أبو عبّاد يدعو بعلويّ وعباسيّ فيقبضان جوائزهما حتى نفدت الأموال.

ثم قال المأمون للرضا : قم فاخطب الناس وتكلم فيهم.

فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

إن لنا عليكم حقا برسول الله (ص) ، ولكم علينا حق به ، فإذا أديتم إلينا

٤٥٥

ذلك وجب علينا الحق لكم.

ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس.

* * *

وأمر المأمون فضربت له الدراهم وطبع عليها اسمه.

وزوج إسحاق بن موسى بن جعفر بنت عمه إسحاق بن جعفر بن محمد ، وأمره أن يحج بالناس ، وخطب للرضا في كل بلد بولاية العهد.

فحدثني أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن الحسن [العلوي] ، قال : حدثني من سمع عبد الجبار بن سعيد يخطب تلك السنة على منبر رسول الله بالمدينة فقال في الدعاء له :

اللهم وأصلح ولي عهد المسلمين ، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، عليهم السلام :

ستة آباء هم ما هم

هم خير من يشرب صوب الغمام (١)

حدثني الحسن بن الطبيب البلخي ، قال : حدثني محمد بن أبي عمر العدني ، قال : سمعت عبد الجبار يخطب ، فذكر مثله.

* * *

رجع الحديث إلى نظام خبر علي بن موسى.

قال : وزوج المأمون ابنته أم الفضل محمد بن علي بن موسى على حلكة لونه وسواده ، ونقلها إليه فلم تزل عنده (٢).

واعتل الرضا علته التي مات فيها (٣) ، وكان قبل ذلك يذكر ابني سهل عند المأمون فيزري عليهما ، وينهى المأمون عنهما ، ويذكر له مساوئهما (٤).

ورآه يوما يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء فقال : يا أمير المؤمنين ،

__________________

(١) البيت للنابغة كما في الشعر والشعراء ١ / ١٠٩ وخزانة الأدب ٢ / ١١٨ وفيهما «من يشرب صفو المدام».

(٢) راجع قصة زواجه وخطبته التي خطبها لنفسه عند قرانه في كتاب الإرشاد ٢٩١ ـ ٢٩٦ والطبري ١٠ / ٢٥١.

(٣) مروج الذهب ٢ / ٢٣٥.

(٤) في الإرشاد ٢٨٨ «فعرفا ذلك منه ، فجعلا يحطان عليه عند المأمون ويذكران له عنه ما يبعده منه ويخوفانه من حمل الناس عليه ، فلم يزالا كذلك حتى قلبا رأيه فيه ، وعمل على قتله ....».

٤٥٦

لا تشرك بعبادة ربك أحدا (١).

فجعل المأمون يدخل إليه ، فلما ثقل تعالل المأمون وأظهر أنهما أكلا عنده جميعا طعاما ضارا فمرضا ، ولم يزل الرضا عليلا حتى مات.

واختلف في أمر وفاته ، وكيف كان سبب السم الذي سقيه.

فذكر محمد بن علي بن حمزة أن منصور بن بشير ذكر عن أخيه عبد الله بن بشير :

أن المأمون أمره أن يطوّل أظفاره ففعل ، ثم أخرج إليه شيئا يشبه التمر الهندي ، وقال له : افركه واعجنه بيديك جميعا ، ففعل.

ثم دخل على الرضا فقال له : ما خبرك؟

قال : أرجو أن أكون صالحا.

فقال له : هل جاءك أحد من المترفّقين اليوم؟.

قال : لا ، فغضب وصاح على غلمانه ، وقال له : فخذ ماء الرمان اليوم فإنه ما لا يستغنى عنه. ثم دعا برمان فأعطاه عبد الله بن بشير وقال له : اعصر ماءه بيدك ، ففعل وسقاه المأمون الرضا بيده فشربه ، فكان ذلك سبب وفاته ، ولم يلبث إلّا يومين حتى مات.

قال محمد بن علي بن حمزة ، ويحيى : فبلغني عن أبي الصلت الهروي :

أنه دخل على الرضا بعد ذلك فقال له : يا أبا الصلت قد فعلوها : «أي قد سقوني السم». [وجعل يوحد الله ويمجده](٢).

قال محمد بن علي : وسمعت محمد بن الجهم يقول :

إن الرضا كان يعجبه العنب ، فأخذ له عنب وجعل في موضع أقماعه الإبر ، فتركت أياما فأكل منه في علته فقتله ، وذكر أن ذلك من لطيف السموم.

ولما توفي الرضا لم يظهر المأمون موته في وقته ، وتركه يوما وليلة ، ثم وجه إلى

__________________

(١) في الإرشاد ص ٢٨٧ «وكان الرضا يكثر وعظ المأمون إذا خلا به ويخوفه الله ويقبح له ما يرتكب من خلافه ، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه ويبطن كراهته واستثقاله. ودخل الرضا يوما عليه فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يديه الماء فقال : لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا ، فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوئه بنفسه ، وزاد ذلك في غيظه ووجده».

(٢) الزيادة من الإرشاد ٢٨٨.

٤٥٧

محمد بن جعفر بن محمد ، وجماعة من آل أبي طالب. فلما أحضرهم وأراهم إيّاه صحيح الجسد لا أثر به ، ثم بكى وقال : عزّ عليّ يا أخي أن أراك في هذه الحالة ، وقد كنت أؤمل أن أقدّم قبلك ، فأبى الله إلّا ما أراد. وأظهر جزعا شديدا وحزنا كثيرا.

وخرج مع جنازته يحملها حتى أتى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن ، فدفنه هناك إلى جانب هارون الرشيد (١).

وقال أشجع بن عمرو السلمي (٢) يرثيه ، هكذا أنشدنيها علي بن الحسين بن علي بن حمزة ، عن عمّه ، وذكر أنها لمّا شاعت غيّر أشجع ألفاظها فجعلها في الرشيد :

يا صاحب العيس يحدي في أزمّتها

اسمع وأسمع غدا يا صاحب العيس

اقرأ السلام على قبر بطوس ولا

تقرأ السلام ولا النعمى على طوس

فقد أصاب قلوب المسلمين بها

روع وأفرخ فيها روع ابليس

وأخلست واحد الدنيا وسيدها

فأيّ مختلس منا ومخلوس

ولو بدا الموت حتى يستدير به

لاقى وجوه رجال دونه شوس

بؤسا لطوس فما كانت منازله

مما تخوفه الأيام بالبوس

معرّس حيث لا تعريس ملتبس

يا طول ذلك من نأى وتعريس

إن المنايا أنالته مخالبها

ودونه عسكر جمّ الكراديس

أوفى عليه الرّدى في خيس أشبله

والموت يلقى أبا الأشبال في الخيس

ما زال مقتبسا من نور والده

إلى النبي ضياء غير مقبوس

في منبت نهضت فيه فروعهم

بباسق في بطاح الملك مغروس

والفرع لا يرتقى إلّا على ثقة

من القواعد والدنيا بتأسيس

__________________

(١) في زهر الآداب ١ / ١٣٣ «ومات علي بن موسى في حياة المأمون بطوس ، فشق قبر الرشيد ودفن فيه تبركا ، ولذلك قال دعبل بن علي الخزاعي :

اربع بطوس على قبر الزكي بها

إن كنت تربع من دين على وطر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ من ذاك أو فذر

قبران في طوس خير الناس كلهم

وقبر شرهم هذا من العبر.

(٢) ترجم له أبو الفرج في الأغاني ١٧ / ٣٠ ـ ٥١.

٤٥٨

لا يوم أولى بتخريق الجيوب ولا

لطم الخدود ولا جدع المعاطيس

من يوم طوس الذي نادت بروعته

لنا النعاة وأفواه القراطيس (١)

حقا بأن الرضا أودى الزمان به

ما يطلب الموت إلّا كلّ منفوس

ذا اللحظتين وذا اليومين مفترش

رمسا كآخر في يومين مرموس

بمطلع الشمس وافته منيّته

ما كان يوم الردى عنه بمحبوس

يا نازلا جدثا في غير منزله

ويا فريسة يوم غير مفروس

لبست ثوب البلى أعزز عليّ به

لبسا جديدا وثوبا غير ملبوس

صلّى عليك الذي قد كنت تعبده

تحت الهواجر في تلك الأماليس

لولا مناقضة الدنيا محاسنها

لما تقايسها أهل المقاييس

أحلّك الله دارا غير زائلة

في منزل برسول الله مأنوس

قال أبو الفرج :

هذه القصيدة ذكر محمد بن علي بن حمزة أنها في علي بن موسى الرضا.

* * *

قال أبو الفرج :

وأنشدني علي بن سليمان الأخفش (٢) لدعبل بن علي الخزاعي (٣) يذكر الرضا والسم الذي سقيه ، ويرثي ابنا له ، وينعى على الخلفاء من بني العباس :

على الكره ما فارقت أحمد وانطوى

عليه بناء جندل ورزين (٤)

وأسكنته بيتا خسيسا متاعه

وإني على رغمي به لضنين

ولولا التأسي بالنبيّ وأهله

لأسبل من عيني عليه شؤون

هو النفس إلّا أن آل محمد

لهم دون نفسي في الفؤاد كمين

أضرّ بهم إرث النبيّ فأصبحوا

يساهم فيه ميتة ومنون

دعتهم ذئاب من أميّة وانتحت

عليهم دراكا أزمة وسنون

__________________

(١) في ط وق «ثارت بروعته لنا البغاة».

(٢) قدم الأخفش مصر سنة سبع وثمانين ومائتين وخرج إلى حلب سنة ثلثمائة ، وكان الأخفش معسرا ، انتهت به الحال إلى أن أكل الثلجم الني ، فقبض على قلبه فمات فجأة ببغداد في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائة. راجع بغية الوعاة ٢٣٨.

(٣) راجع دخول دعبل على الرضا في الأغاني ١٨ / ٤٢.

(٤) في ط وق «جندل ودفين».

٤٥٩

وعاثت بنو العباس في الدين عيثة

تحكّم فيه ظالم وظنين

وسمّوا رشيدا ليس فيهم لرشده

وها ذاك مأمون وذاك أمين

فما قبلت بالرشد منهم رعاية

ولا لوليّ بالأمانة دين

رشيدهم غاو وطفلاه بعده

لهذا رزايا دون ذاك مجون (١)

ألا أيها القبر الغريب محلّه

بطوس عليك السّاريات هتون

شككت فما أدري أمسقى بشربة

فأبكيك أم ريب الردى فيهون؟

وأيهما ما قلت إن قلت شربة

وإن قلت موت إنه لقمين

أيا عجبا منهم يسمّونك الرضا

ويلقاك منهم كلحة وغضون

أتعجب للأجلاف أن يتخيفوا

معالم دين الله وهو مبين

لقد سبقت فيهم بفضلك آية

لديّ ولكن ما هناك يقين

هذا آخر خبر عليّ بن موسى الرضا (٢).

أخبرنا أبو الفرج قال : حدثنا الحسن بن علي الخفاف ، قال : حدثنا أبو الصلت الهروي ، قال :

دخل المأمون إلى الرضا يعوده فوجده يجود بنفسه فبكى وقال : أعزز عليّ يا أخي بأن أعيش ليومك ، وقد كان في بقائك أمل ، وأغلظ عليّ من ذلك وأشد أن الناس يقولون : إني سقيتك سما ، وأنا إلى الله من ذلك بريء.

فقال له الرضا : صدقت يا أمير المؤمنين ، أنت والله بريء.

ثم خرج المأمون من عنده ، ومات الرضا ، فحضره المأمون قبل أن يحفر قبره وأمر أن يحفر إلى جانب أبيه ، ثم أقبل علينا فقال : حدثني صاحب هذا النعش أنه يحفر له قبر فيظهر فيه ماء وسمك ، احفروا ، فحفروا فلما انتهوا إلى اللحد نبع ماء وظهر فيه سمك ، ثم غاض الماء ، فدفن فيه الرضا عليه السلام.

__________________

(١) في ط وق «لهذا دنا باد وذاك».

(٢) من هنا إلى آخر الترجمة غير موجود في الخطية.

٤٦٠