مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

ومن بين يديه رجل آخر من الأسرى واقف ، فقال أنا مولاك يا أمير المؤمنين.

فقال : مولاي يخرج عليّ ، ومع موسى سكين ، فقال : والله لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا.

قال : وغلبت عليه العلة فمكث ساعة طويلة ثم مات ، وسلم الرجل من القتل فأخرج من بين يديه.

* * *

فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمّار ، قال : قال أحمد بن الحارث (١) ، عن عمر بن خلف الباهلي ، عن بعض الطالبيين ، قال :

لما قتل أصحاب فخ جلس موسى بن عيسى بالمدينة ، وأمر الناس بالوقيعة (٢) على آل أبي طالب ، فجعل الناس يوقعون عليهم حتى لم يبق أحد ، فقال بقي أحد.

قيل له : موسى بن عبد الله. وأقبل موسى بن عبد الله على أثر ذلك ، وعليه مدرعة وإزار غليظ ، وفي رجليه نعلان من جلود الإبل ، وهو أشعث أغبر حتى قعد مع الناس ولم يسلم عليه ، وإلى جنبه السري بن عبد الله من ولد الحرث بن العباس بن عبد المطلب ، فقال لموسى بن عيسى : دعني أكشف عليه باله ، وأعرفه نفسه.

قال : أخافه عليك. قال : دعني ، فأذن له فقال له : يا موسى.

قال : أسمعت فقل.

قال : كيف رأيت مصارع البغي الذي لا تدعونه لبني عمكم المنعمين عليكم.

فقال موسى أقول في ذلك :

بني عمّنا ردوا فضول دمائنا

ينم ليلكم أو لا يلمنا اللّوائم (٣)

فإنا وإيّاكم وما كان بيننا

كذي الدين يقضي دينه وهو راغم

فقال السري : والله ما يزيدكم البغي إلّا ذلّة ، ولو كنتم مثل بني عمكم سلمتم ـ يعني موسى بن جعفر ـ وكنتم مثله ، فقد عرف حق بني عمّه وفضّلهم عليه ، فهو لا يطلب ما ليس له.

__________________

(١) في ط وق «ابن الحارث الحوار وحدثني محمد بن الأزهر ، عن عمر».

(٢) في ط وق «بالرفيعة ... يرفعون عليهم».

(٣) في ط وق «بنوا عمنا ... تنم ... كذا الدين».

٣٨١

فقال له موسى بن عبد الله :

فإنّ الأولى تثني عليهم تعيبني

أولاك بنو عمّي وعمّهم أبي

فإنك إن تمدحهم بمديحة

تصدق وإن تمدح أباك تكذب

* * *

قالوا (١) : ولما بلغ العمري وهو بالمدينة قتل الحسن بن علي صاحب فخ عمد إلى داره ودور أهله فحرقها (٢) ، وقبض أموالهم ونخلهم ، فجعلها في الصوافي المقبوضة.

ذكر من خرج مع الحسين

صاحب فخ

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال : قال أحمد الحارث الخرّاز ، حدثني المدائني قال :

خرج مع الحسين صاحب فخ من أهل بيته : يحيى ، وسليمان ، وإدريس ، بنو عبد الله بن الحسن بن الحسن ، وعلي بن إبراهيم بن الحسن بمكة ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، والحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، وعبد الله وعمر ابنا إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين. وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن.

هؤلاء من ذكره المدائني [وقد ذكرت] في صدر خبر الحسين [أسماء من خرج معه من أهله وفيهم زيادة على هذا كرهنا إعادتها](٣).

حدثني علي بن إبراهيم العلوي ، قال : حدثني جعفر بن محمد بن سابور ، قال : حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثني يحيى بن الحسن بن فرات ، قال : حدثنا سعيد بن خيثم ، قال :

كنت مع الحسين صاحب فخ ، أنا ، وعلي بن هشام بن البريد ، ويحيى بن يعلى(٤).

__________________

(١) في الطبري ١٠ / ٣٠ «قال المفضل بن سليمان».

(٢) في الطبري «وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين فهدمه وحرق النخل ، وقبض ما لم يحرقه وجعله في الصوافي والمقبوضة».

(٣) الزيادة من الخطية.

(٤) في ط وق «ابن العتكي».

٣٨٢

حدثني علي بن إبراهيم قال : حدثني جعفر بن محمد الفزاري ، قال : حدثني علي بن أحمد الباني (١) ، قال :

سمعت محمد بن إبراهيم صاحب أبي السرايا بالكوفة يقول لعامر بن كثير السراج : خرجت مع الحسين بن علي صاحب فخ؟ قال : نعم.

حدثنا علي بن العباس ، قال : حدثنا الحسن بن محمد ، عن أحمد بن كثير الذهبي ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق القطان (٢) ، قال سمعت الحسين بن علي ، ويحيى بن عبد الله يقولان :

ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر فأمرنا بالخروج.

حدثنا علي بن العباس ، قال : حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى محمد بن عمران ، قال : حدثني نصر الخفاف ، قال :

أصابتني ضربة وأنا مع الحسين بن علي صاحب فخ فبرت اللحم والعظم ، فبتّ ليلتي أعوي منها ، وأنا أخاف أن يجيئوني فيأخذوني إذا سمعوا الصوت ، فغلبتني عيني فرأيت النبي (ص) وقد جاء فأخذ عظما فوضعه على عضدي ، فأصبحت وما أجد من الوجع قليلا ولا كثيرا.

حدثني أحمد بن عبيد الله ، عن الخرّاز ، عن المدائني ، عن عمر بن مساور الأهوازي ، قال : أخبرني جماعة من موالي محمد بن سليمان :

أنه لما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة وهو يقول :

ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن

لقيت حسينا يوم فخ ولا الحسن

فجعل يرددها حتى مات.

قال أبو الفرج الأصبهاني :

حكى هذه الحكاية بعض مشايخنا على هذا وخالف في روي البيت وقال فيه :

ألا ليت أمي لم تلدني

ولم أشهد حسينا يوم فخ

قال : وكان محمد إذا رأى أخاه جعفرا يئن وينشد هذا البيت :

__________________

(١) في ط وق «فحدثني علي بن العباس .... بن أحمد الثاني».

(٢) في الخطية «بن إسحاق العطار».

٣٨٣

ألا ليت أمي لم تلدني

ولم أشهد حسينا يوم فخ

* * *

ومما رثى به الحسين بن علي من الشعر : حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن الحسن العلوي ، قال : قال عيسى بن عبد الله (١) يرثي الحسين صاحب فخ (٢).

فلأبكين على الحسين

بعولة وعلى الحسن (٣)

وعلى ابن عاتكة الذي

أثووه ليس بذي كفن (٤)

تركوا بفخ غدوة

في غير منزلة الوطن

كانوا كراما فانقضوا (٥)

لا طائشين ولا جبن

غسلوا المذلة عنهم

غسل الثياب من الدّرن

هدى العباد بجدّهم

فلهم على الناس المنن

فحدثني علي بن أبي إبراهيم العلوي عن نفسه ، أو رواه عن غيره ، أنا أشك ، قال :

رأيت في النوم رجلا يسألني أن أنشده هذه الأبيات فأنشدته إيّاها فقال لي زد فيها :

قوم كرام سادة

منهم ومن هم ثم من (٦)

حدثني أحمد بن عبيد الله [بن عمار] ، قال : قال أحمد بن الحارث ، وحدثني المدائني ، قال : حدثني أبو صالح الفزاري ، قال :

__________________

(١) في هامش الخطية «هو عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، كان يلقب بالمبارك. وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن الباقر. وكان سيدا شريفا راو للحديث ، وله شعر حسن».

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٨٤ والاستقصاء ١ / ٦٧ ومعجم البلدان ٦ / ٣٤١.

(٣) هو الحسن بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وكان أسر في ذلك اليوم فضربت عنقه صبرا.

(٤) هو عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كما في الاستقصاء ١ / ٦٧.

(٥) في ط وق «كراما هيجوا».

(٦) في ط وق «من ومن».

٣٨٤

سمع على مياه غطفان كلها ليلة قتل الحسين صاحب فخ هاتف يهتف ويقول :

ألا يا لقوم للسواد المصبّح

ومقتل أولاد النبي ببلدح

لبيك حسينا كل كهل وأمرد

من الجن ان لم يبكك من الأنس نوح

فإني لجني وإن معرّسي

لبلبرقة السوداء من دون زحزح

فسمعها الناس لا يدرون ما الخبر حتى أتاهم قتل الحسين.

أنشدني أحمد بن عبد الله بن عمار ، قال : أنشدني عمر بن شبّة ، قال : أنشدني سليمان بن داود بن علي العباسي لأبيه يرثي من قتل بفخ.

وأنشدنيها أحمد بن سعيد ، قال أنشدنا يحيى بن الحسن ، قال أنشدني موسى بن داود السلمي لأبيه (١) يرثيهم ، فلا أدري الوهم ممن هو :

يا عين أبكي بدمع منك منهتن (٢)

فقد رأيت الذي لاقى بنو حسن

صرعى بفخ تجر الريح فوقهم

أذيالها وغوادي الدلج المزن

حتى عفت أعظم لو كان شاهدها

محمد ذبّ عنها ثم لم تهن (٣)

ما ذا يقولون والماضون قبلهم

على العداوة والبغضاء والأحن

ما ذا يقولون إن قال النبي لهم :

ما ذا صنعتم بنا في سالف الزمن؟

لا الناس من مضر حاموا ولا غضبوا

ولا ربيعة والأحياء من يمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرما

وقد رعى الفيل حق البيت ذي الركن

__________________

(١) في معجم البلدان ٦ ك ٣٤٢ «ابن موسى داود بن سلم لأبيه».

(٢) في معجم البلدان «منك منهمر».

(٣) في المعجم «ثم لم يهن».

٣٨٥
٣٨٦

أيام الرّشيد

هارون بن المهدى بن أبى جعفر المنصور ومن قتل منهم فيها

٣٨٧

٤٠ ـ يحيى بن عبد الله بن الحسن

ويحيى بن عبد الله بن الحسن (١) بن

الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

ويكنى أبا الحسن.

وأمه قريبة بنت عبد الله. وهو ذبيح بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.

وهي بنت أخي هند بنت أبي عبيدة.

وكان حسن المذهب والهدى ، مقدما في أهل بيته ، بعيدا مما يعاب على مثله.

وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد. وروى عن أبيه ، وعن أخيه محمد ، وعن أبان بن تغلب.

وروى عنه مخول بن إبراهيم ، وبكار بن زياد ، ويحيى بن مساور ، وعمرو بن حمّاد.

وأوصى إليه جعفر بن محمد لما حضرته الوفاة ، وإلى أم موسى ، وإلى أم ولد ، فكان يلي أمر تركاته والأصاغر من ولده ، جاريا على أيديهم.

حدثني (٢) علي بن إبراهيم العلوي ، قال : حدثنا الحسين بن علي بن هاشم

__________________

(١) الطبري ١٠ / ٥٤ ـ ٥٩ تاريخ بغداد ١٤ / ١١٠ والاستقصاء ١ / ٦٧ والوزراء والكتاب ١٨٩ ـ ١٩٠ وابن الأثير ٦ / ٤٤ وابن أبي الحديد ٤ / ٣٥٢ ـ ٤٥٣ والفخري ١٧٤ ـ ١٧٦ وشرح شافيه أبي فراس ص ١٨٨.

(٢) توفي سنة إحدى وأربعين. راجع خلاصة تذهيب الكمال ١٣ وإتقان المقال ص ٥.

٣٨٨

المزني (١) ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا بكار بن زياد ، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، قال : قال الحسن بن محمد المزني ، وحدثني حرب بن الحسن الطحان ، قال : حدثني بعض أصحابنا ، قال :

سمعنا يحيى بن عبد الله بن الحسن يقول : أوصى إليّ جعفر بن محمد ، وإلى موسى ، وإلى أم ولد كانت له ، فأينا كان الوصي.

حدثنا علي بن العباس ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن هاشم (٢) ، قال : حدثني علي بن حسان عن عمّه عبد الرحمن بن كثير ، قال :

كان جعفر بن محمد قد ربّى يحيى بن عبد الله بن الحسن ، فكان يحيى يسميه حبيبي ، وكان إذا حدّث عنه قال : حدّثني حبيبي جعفر بن محمد.

حدّثني علي ، قال حدّثنا الحسن بن هاشم ، قال حدّثنا الحسن بن محمد ، قال : حدّثني إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال :

رأيت يحيى بن عبد الله بن الحسن جاء إلى مالك بن أنس بالمدينة فقام له عن مجلس وأجلسه إلى جنبه.

قال : ورأيته بالسوق أو بغيره من طريق مكة.

وكان قصيرا ، آدم ، حسن الوجه والجسم ، تعرف سلالة الأنبياء في وجهه ، رضوان الله عليه ورحمته.

* * *

ذكر الخبر عن مقتله

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال : حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه ، قال : وحدثني أيضا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ ، وهاشم بن أحمد

__________________

(١) في ط وق «حدثني علي بن العباس قال : حدثنا الحسن بن محمد المدني».

(٢) في ط وق «حدثنا الحسن بن محمد المزني».

٣٨٩

البغوي وغيرهم. وحدثني علي بن إبراهيم العلوي ، قال : كتب إليّ محمد بن حماد يذكر أن محمد بن إسحاق البغوي حدثه عن أبيه وغيره من مشايخه ، وحدثني علي بن إبراهيم ، قال: كتب إليّ إبراهيم بن بنان الخثعمي يذكر عن محمد بن أبي الخنساء. وقد جمعت روايتهم في خبر يحيى إلّا ما عسى أن يكون من خلاف بينهم فأفرده وأذكر رواته.

قالوا :

إن يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قتل أصحاب فخ كان في قبلهم ، فاستتر مدة (١) يجول في البلدان ، ويطلب موضعا يلجأ إليه ، وعلم الفضل بن يحيى بمكانه في بعض النواحي فأمره بالانتقال عنه وقصد الديلم ، وكتب له منشورا لا يتعرض له أحد.

فمضى متنكرا حتى ورد الدّيلم ، وبلغ الرشيد خبره وهو في بعض الطريق ، فولى الفضل بن يحيى نواحي المشرق ، وأمره بالخروج إلى يحيى.

* * *

فحدثني علي بن إبراهيم العلوي ، قال : كتب إليّ موسى بن محمد بن حماد (٢) يخبرني أن محمد بن يوسف حدثه عن عبد الله بن خوات (٣) ، عن جعفر بن يحيى الأحول عن إدريس بن زيد ، قال :

عرض رجل للرشيد فقال : يا أمير المؤمنين نصيحة.

فقال لهرثمة : اسمع ما يقول.

قال : إنها من أسرار الخلافة. فأمره ألا يبرح ، فلما كان في وقت الظهيرة دعا به فقال : اخلني ، فالتفت الرشيد إلى ابنيه فقال : انصرفا فانصرفا ، وبقي خاقان ، والحسن على رأسه فنظر الرجل إليهما ، فقال الرشيد : تنحيا عني ، ففعلا ، ثم أقبل على الرجل فقال : هات ما عندك.

__________________

(١) في ط وق «كان في فيئهم أسير مدة».

(٢) في الخطية «كتب إلى محمد بن حماد».

(٣) في ط وق «جواب».

٣٩٠

قال : على أن تؤمنني (١) من الأسود والأحمر.

قال : نعم ، وأحسن إليك.

قال : كنت في خان من خانات حلوان ، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في درّاعة صوف غليظة وكساء صوف أحمر غليظ ، ومعه جماعة ينزلون إذا نزل ويرتحلون إذا رحل ويكونون معه ناحية ، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم أعوانه ، مع كل واحد منهم منشور بياض يؤمن به إن عرض له.

قال : أو تعرف يحيى؟

قال : قديما وذاك الذي حقق معرفتي بالأمس له.

قال : فصفه لي.

قال : مربوع ، أسمر ، حلو السمرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن.

قال : هو ذاك. فما سمعته يقول؟ قال ما سمعته يقول شيئا ، غير أني رأيته ورأيت غلاما له أعرفه ، لما حضر وقت صلاته فأتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه ونزع جبته الصوف ليغسلها ، فلما كان بعد الزوال صلّى صلاة ظننتها العصر ، أطال في الأولتين وحذف الأخيرتين.

فقال له الرشيد : لله أبوك ، لجاد ما حفظت ، تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم ، أحسن الله جزاءك ، وشكر سعيك فما أنت؟ وما أصلك؟.

فقال : أنا رجل من أبناء (٢) هذه الدولة ، وأصلي مرو ، ومنزلي بمدينة السلام.

فأطرق مليا ثم قال : كيف احتمالك لمكروه مني تمتحن به في طاعتي؟

قال : أبلغ في ذلك حيث أحبّ أمير المؤمنين.

قال : كن بمكانك حتى أرجع ، فقام فطعن في حجرة كانت خلفه ، فأخرج صرة فيها ألف دينار ، فقال : خذ هذه ودعني وما أدبّر فيك ، فأخذها الرجل وضم عليها ثوبه ، ثم قال : يا غلام ، فأجابه مسرور ، وخاقان ، والحسين فقال : اصفعوا ابن

__________________

(١) في ط وق «تقر مني».

(٢) في ط وق «من أعقاب».

٣٩١

اللخناء. فصفعوه نحو مائة صفعة ، فخفى الرجل بذلك ، ولم يعلم أحد بما كان ألقى إليه الرجل ، وظنوا أنه ينصح بغير ما يحتاج إليه ، لما جرى عليه من المكروه ، حتى كان من الرشيد ما كان في أمر البرامكة فأظهر ذلك.

رجع الحديث إلى سياقة خبر يحيى.

قالوا : فلما علم الفضل بمكان يحيى بن عبد الله كتب إلى يحيى :

إني أحبّ أن أحدث بك عهدا ، وأخشى أن تبتلى بي وأبتلى بك ، فكاتب صاحب الديلم ، فإني قد كاتبته لك لتدخل في بلاده فتمتنع به.

ففعل ذلك يحيى.

وكان قد صحبه جماعة من أهل الكوفة ، فيهم ابن الحسن بن صالح بن حي ، كان يذهب مذهب الزيدية البتريّة (١) في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في ست سنين من إمارته ويكفره في باقي عمره ، ويشرب النبيذ ويمسح على الخفين ، وكان يخالف يحيى في أمره ويفسد أصحابه.

قال يحيى بن عبد الله :

فأذّن المؤذن يوما وتشاغلت بطهوري ، وأقيمت الصلاة فلم ينتظرني وصلّى بأصحابي ، فخرجت فلما رأيته يصلى قمت أصلي ناحية ولم أصل معه ؛ لعلمي أنه يمسح على الخفين ، فلما صلّى قال لأصحابه : علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ، ونحن عنده في حال من لا يرضى مذهبه؟.

قال : وأهديت إليّ شهدة في يوم من الأيام وعندي قوم من أصحابي ، فدعوتهم إلى أكلها ، فدخل في أثر ذلك فقال : هذه الأثرة ، أتأكله أنت وبعض أصحابك دون بعض؟.

فقلت له : هذه هدية أهديت إليّ ، وليست من الفيء الذي لا يجوز هذا فيه.

فقال لا : ولكنك لو وليت هذا الأمر لاستأثرت ولم تعدل.

وأفعال مثل هذا من الاعتراض.

وولى الرشيد الفضل بن يحيى جميع كور المشرق وخراسان ، وأمره بقصد يحيى والخديعة به ، وبذل له الأموال (٢) والصلة إن قبل ذلك ، فمضى الفضل فيمن

__________________

(١) في القاموس مادة بتر «ولقب المغيرة بن سعد والبترية من الزيدية بالضم تنسب إليه».

(٢) في ط وق «والجد به وبذل له الأمان».

٣٩٢

ندب معه ، وراسل يحيى بن عبد الله فأجابه إلى قبوله ، لما رأى من تفرق أصحابه ، وسوء رأيهم فيه ، وكثرة خلافهم عليه ، إلّا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له ، ولا الشهود الذين شهدوا [عليه ، وكتب لنفسه شروطا ، وسمى شهودا](١) ، وبعث بالكتاب إلى الفضل ، فبعث به إلى الرشيد فكتب له على ما أراد ، وأشهد له من التمس.

فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، وأبو عبيد الصيرفي ، قالا : حدثنا محمد بن علي بن خلف ، قال : حدثني بعض الحسنيين ، عن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن ، قال :

قال عبد الله بن موسى : أتيت عمي يحيى بن عبد الله بعد انصرافه من الديلم وبعد الأمان فقلت : يا عم ، ما بعدي مخبر ولا بعدك مخبر ، فأخبرني بما لقيت

فقال : ما كنت إلّا كما قال حيي بن أخطب اليهودي :

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه

ولكن من لا ينصر الله يخذل

فجاهد حتى أبلغ النفس عذرها

وقلقل يبغي العزّ كلّ مقلقل (٢)

* * *

رجع الحديث إلى سياقة خبر يحيى بن عبد الله.

قالوا : فلما جاء الفضل إلى بلاد الديلم قال يحيى بن عبد الله :

اللهم اشكر لي إخافتي قلوب الظالمين ، اللهم إن تقض لنا النصر عليهم فإنما نريد إعزاز دينك ، وإن تقض لهم النصر فبما تختار لأوليائك وأبناء أوليائك من كريم المآب وسنيّ الثواب.

فبلغ ذلك الفضل فقال : يدعو الله أن يرزقه السلامة ، فقد رزقها.

* * *

قالوا : فلما ورد كتاب الرشيد على الفضل وقد كتب الأمان على ما رسم يحيى وأشهد الشهود الذين التمسهم ، وجعل الأمان على نسختين إحداهما مع يحيى والأخرى معه ، شخص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد ودخلها معادله في عمارية

__________________

(١) الزيادة من الخطية.

(٢) الطبري ١٠ / ٥٥.

٣٩٣

على بغل ، فقال مروان بن أبي حفصة (١) :

وقالوا الطالقان يجن كنزا

سيأتينا به الدهر المديل

فأقبل مكذبا لهم بيحيى

وكنز الطالقان له زميل (٢)

فحدثني علي بن إبراهيم العلوي ، عن محمد بن موسى (٣) بن حماد ، قال : حدثني محمد بن إسحاق البغوي ، قال : حدثني أبي ، قال :

كنا مع يحيى بن عبد الله بن الحسن فسأله رجل كان معنا كيف تخيرت الدخول إلى الديلم من بين النواحي؟.

قال : إن للديلم معنا خرجة فطمعت أن تكون معي.

* * *

رجع الحديث إلى سياقة الخبر.

قالوا (٤) : فلما قدم يحيى أجازه الرشيد بجوائز سنية يقال إن مبلغها مائتا ألف دينار ، وغير ذلك من الخلع والحملان ، فأقام على ذلك مدة وفي نفسه الحيلة على يحيى والتفرغ له ، وطلب العلل عليه وعلى أصحابه ، حتى أخذ رجلا يقال له : فضالة بلغه أنه يدعو إلى يحيى فحبسه ، ثم دعا به فأمره أن يكتب إلى يحيى بأنه قد أجابه جماعة من القواد وأصحاب الرشيد ففعل ذلك ، وجاء الرسول إلى يحيى فقبض عليه وجاء به إلى يحيى بن خالد فقال له : هذا جاءني بكتاب لا أعرفه ، ودفع الكتاب إليه. فطابت نفس الرشيد بذلك ، وحبس فضالة هذا ، فقيل له : إنك تظلمه في حبسك إيّاه.

فقال : أنا أعلم ذلك ، ولكن لا يخرج وأنا حي أبدا.

قال فضالة : فلا والله ما ظلمني لقد كنت عهدت إلى يحيى إن جاءه مني كتاب ألا يقبله وأن يدفع الرسول إلى السلطان ، وعلمت أنه سيحتال عليه بي.

قالوا : فلما تبين يحيى بن عبد الله ما يراد به استأذن في الحج فأذن له.

__________________

(١) راجع ترجمة مروان في الأغاني ٩ / ٣٦ ـ ٤٨ وابن خلكان ٢ / ١١٧ ـ ١١٩.

(٢) في ط وق «وابن الطالقان لهم».

(٣) في ط وق «بن يحيى».

(٤) ابن الأثير ٦ / ٤٥.

٣٩٤

وقال علي بن إبراهيم في حديثه : لم يستأذن في الحج ، ولكنه قال للفضل ذات يوم : اتّق الله في دمي ، واحذر أن يكون محمد (ص) خصمك غدا فيّ فرقّ له وأطلقه.

وكان على الفضل عين للرشيد قد ذكر ذلك له ، فدعا بالفضل وقال : ما خبر يحيى بن عبد الله؟.

قال : في موضعه عندي مقيم.

قال : وحياتي! قال : وحياتك إني أطلقته ، سألني برحمه من رسول الله فرققت له.

قال : أحسنت ، قد كان عزمي أن أخلي سبيله.

فلما خرج أتبعه طرفه وقال : قتلني الله إن لم أقتلك.

قالوا : ثم إن نفرا من أهل الحجاز تحالفوا على السعاية بيحيى بن عبد الله بن الحسن والشهادة عليه بأنه يدعو إلى نفسه ، وأن أمانه منتقض ، فوافق ذلك ما كان في نفس الرشيد له ، وهم : عبد الله بن مصعب الزبيري (١) ، وأبو البختري وهب بن وهب (٢) ، ورجل من بني زهرة ، ورجل من بني مخزوم. فوافوا الرشيد لذلك واحتالوا إلى أن أمكنهم ذكرهم له ، فأشخصه الرشيد إليه وحبسه عند مسرور الكبير (٣) في سرداب ، فكان في أكثر الأيام يدعو به فيناظره ، إلى أن مات في حبسه رضوان الله عليه.

واختلف الناس في أمره ، وكيف كانت وفاته ، وسأذكر ذلك في موضعه.

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال : حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ ، عن أبيه ، وعن غيره :

أن الرشيد دعا بيحيى يوما فجعل يذكر ما رفع إليه في أمره ، وهو يخرج كتبا

__________________

(١) ترجم له أبو الفرج في الأغاني ٢٠ / ١٨٠ ـ ١٨٢ وقال عنه إنه «شاعر فصيح خطيب ذو عارضة وبيان ، واعتبار من الرجال ، وكلام في المحافل ، وقد نادم الخلفاء من بني العباس وتولى لهم أعمالا ، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير ، فلما قتل محمد استتر عنه ، وقيل بل كان استتاره مدة يسيرة إلى أن حج أبو جعفر المنصور وأمن الناس جميعا فظهر».

(٢) ولّاه هارون الرشيد القضاء بعسكر المهدي ، ثم عزله فولاه مدينة الرسول (ص) بعد بكار بن عبد الله ، وجعل إليه صلاتها وقضاءها وحربها ، وكان جوادا سخيا ثم عزل عن المدينة فقدم بغداد وأقام بها حتى مات في سنة مائتين. راجع تاريخ بغداد ١٣ / ٤٨١ ـ ٤٨٧ وميزان الاعتدال.

(٣) في ط وق «مسرور وكثير».

٣٩٥

كانت في يده حججا له ، فيقرؤها الرشيد وأطراف الكتب في يد يحيى ، فتمثل بعض من حضر (١) :

أنّى أتيح له حرباء تنصبة

لا يرسل الساق إلّا مرسلا ساقا (٢)

فغضب الرشيد من ذلك وقال للمتمثل : أتؤيده وتنصره؟

قال : لا ، ولكني شبهته في مناظرته واحتجاجه بقول هذا الشاعر.

ثم أقبل عليه فقال : دعني من هذا ، يا يحيى أينا أحسن وجها أنا أو أنت؟

قال : بل أنت يا أمير المؤمنين ، إنك لأنصع لونا وأحسن وجها.

قال : فأينا أكرم وأسخى ، أنا أو أنت؟.

فقال : وما هذا يا أمير المؤمنين ، وما تسألني عنه ، أنت تجبي إليك خزائن الأرض وكنوزها ، وأنا أتمحل معاشي من سنة إلى سنة.

قال : فأينا أقرب إلى رسول الله (ص) ، أنا أو أنت؟.

قال : قد أجبتك عن خطتين ، فاعفني من هذه!

قال : لا والله. قال : بل فاعفني ، فحلف بالطلاق والعتاق ألّا يعفيه.

فقال : يا أمير المؤمنين لو عاش رسول الله (ص) وخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه؟.

قال : إي والله!

قال : فلو عاش فخطب إليّ أكان يحل لي أن أزوجه؟.

قال : لا قال : فهذا جواب ما سألت.

فغضب الرشيد وقام من مجلسه ، وخرج الفضل بن ربيع وهو يقول : لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملكه.

قالوا : ثم ردّه إلى محبسه في يومه ذلك.

ثم دعا (٣) به وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب الزبيري ليناظره فيما رفع إليه ،

__________________

(١) في تاريخ بغداد ١٤ / ١١١ «لأنت أصغر من حرباء تنضبة».

(٢) في اللسان «قال أبو عبيد : ومن الأشجار التنضب ، واحدتها تنضبة ، شجرة ضخمة تقطع منها العمد».

(٣) نقل ذلك ابن أبي الحديد ٤ / ٣٥٢.

٣٩٦

فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد وقال له : نعم يا أمير المؤمنين إن هذا دعاني إلى بيعته.

قال له يحيى : يا أمير المؤمنين ، أتصدّق هذا وتستنصحه؟ وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك وولده الشعب وأضرم عليهم النار حتى تخلّصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب منه [عنوة](١).

وهو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي على النبي (ص) في خطبته حتى التاث عليه الناس ، فقال : إن له أهل بيت سوء إذا [صليت عليه أو] ذكرته [أتلعوا أعناقهم (٢) واشرأبوا لذكره] وفرحوا بذلك فلا أحب أن أقر عينهم بذكره.

وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس ما لا خفاء به عليك (٣) حتى لقد ذبحت يوما عنده بقرة فوجدت كبدها قد نقبت فقال ابنه علي بن عبد الله : يا أبة أما ترى كبد هذه البقرة؟.

فقال : يا بني ، هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك ، ثم نفاه إلى الطائف ، فلما حضرته الوفاة قال لعلي ابنه : يا بني ، ألحق بقومك من بني عبد مناف بالشام ، [ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة](٤). فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير.

ووالله إن عداوة هذا [يا أمير المؤمنين] لنا جميعا بمنزلة سواء ، ولكنه قوى عليّ بك ، وضعفت عنك ، فتقرّب بي إليك ، ليظفر منك بما يريد ، إذ لم يقدر على مثله ، منك ، وما ينبغي لك أن تسوّغه ذلك فيّ ، فإن معاوية بن أبي سفيان ، وهو أبعد نسبا منك إلينا ، ذكر يوما الحسن بن علي فسفهه (٥) فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك ، فزجره معاوية [وانتهره] فقال : إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين!

فقال : إن الحسن لحمي آكله. ولا أوكله.

__________________

(١) الزيادة من ابن أبي الحديد.

(٢) الزيادة من ابن أبي الحديد ، وفي ط وق «إذا ذكرته استرابت نفوسهم إليه».

(٣) في ابن أبي الحديد «وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده ، ولقد ذبحت بقرة يوما لأبيك ...».

(٤) الزيادة من ابن أبي الحديد.

(٥) في ط وق «فشنعه».

٣٩٧

فقال عبد الله بن مصعب : إن عبد الله بن الزبير طلب أمرا فأدركه ، وإنّ الحسن باع الخلافة من معاوية بالدراهم ، أتقول هذا في عبد الله بن الزبير وهو ابن صفية بنت عبد المطلب (١)؟.

فقال يحيى : يا أمير المؤمنين ، ما أنصفنا أن يفخر علينا بامرأة من نسائنا وامرأة منا ، فهلا فخر بهذا على قومه من النّوبيات والأساميات والحمديات!

فقال عبد الله بن مصعب : ما تدعون بغيكم علينا وتوثبكم في سلطاننا؟.

فرفع يحيى رأسه إليه ، ولم يكن يكلّمه قبل ذلك ، وإنما كان يخاطب الرشيد بجوابه لكلام عبد الله ، فقال له : أتوثبنا في سلطانكم؟ ومن أنتم ـ أصلحك الله ـ عرفني فلست أعرفكم؟.

فرفع الرشيد رأسه إلى السقف يجيله فيه ليستر ما عراه من الضحك ثم غلب عليه الضحك ساعة ، وخجل ابن مصعب.

ثم التفت يحيى فقال : يا أمير المؤمنين ، ومع هذا فهو الخارج مع أخي على أبيك (٢) والقائل له (٣) :

إن الحمامة يوم الشعب من دثن (٤)

هاجت فؤاد محب دائم الحزن

إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا

بعد التدابر والبغضاء والأحن

حتى يثاب على الإحسان محسننا (٥)

ويأمن الخائف المأخوذ بالدّمن

وتنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا (٦)

بري الصناع قداح النّبع بالسّفن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

إن الخلافة فيكم يا بني الحسن (٧)

__________________

(١) توفيت صفية في خلافة عمر ، راجع ترجمتها في طبقات ابن سعد ٨ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٨٩.

(٣) الأبيات في العقد ٣ / ٢٧٦ وابن أبي الحديد ٤ / ٣٥٢.

(٤) في ابن أبي الحديد «من وثن» وفي العقد «من حضن» يقال «دثن الطائر تدثينا : طار وأسرع السقوط في مواضع متقاربة ، وفي الشجرة : اتخذ عشا».

(٥) في ط وق «محتسبا».

(٦) في ط وق «فكان ما قد».

(٧) البيت في مروج الذهب وتاريخ بغداد.

٣٩٨

لا عزّ ركنا نزار عند سطوتها

إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن (١)

ألست أكرمهم عودا إذا انتسبوا

يوما وأطهرهم ثوبا من الدّرن

وأعظم الناس عند الناس منزلة

وأبعد الناس من عيب ومن وهن (٢)

قال : فتغير وجه الرشيد عند استماع هذا الشعر ، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وأنه لسديف (٣).

فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا ، وإن الله إذا مجّده العبد في يمينه بقوله : الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، استحيى أن يعاقبه ، فدعني أحلّفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلّا عوجل. قال : حلّفه.

قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولي وقوتي ، وتقلّدت الحول والقوة من دون الله ، استكبارا على الله ، واستغناء عنه ، واستعلاء عليه ، إن كنت قلت هذا الشعر.

فامتنع عبد الله من الحلف بذلك ، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع (٤) : يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا؟ هذا طيلساني عليّ ، وهذه ثيابي لو حلّفني أنها لي لحلفت. فرفس الفضل بن الربيع عبد الله بن مصعب برجله وصاح به : احلف ويحك ـ وكان له فيه هوى ـ فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد ، فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال: يابن مصعب قطعت والله عمرك ، والله لا تفلح بعدها (٥). فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث (٦).

__________________

(١) في العقد :

لا عز ركن نزار عند نائبة

إن أسلموك ولا ركن لذي يمن

(٢) في العقد «من عجز ومن أفن».

(٣) الشعر في العقد منسوب لسديف ، وهو شاعر حجازي مقل من مخضرمي الدولتين ، وكان شديد التعصب لبني هاشم مظهرا لذلك في أيام بني أمية ، راجع ترجمته في الأغاني ١٤ / ١٦٢.

(٤) توفي الفضل في سنة ثمان ومائتين ، وترجمته في ابن خلكان ١ / ٤١٢ ـ ٤١٣ وتاريخ بغداد ١٢ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٥) في ابن أبي الحديد ٤ / ٣٥٣ بعد ذلك «قالوا : فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام ، استدارت عيناه ، وتفقأ وجهه ، وقام إلى بيته فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره ومات بعد ثلاثة أيام».

(٦) راجع تاريخ الخلفاء ص ١٩٠.

٣٩٩

فحضر الفضل بن الربيع جنازته ، ومشى معها ومشى الناس معه ، فلما جاءوا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللّبن فوقه ، انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن أعين الناس ، فلم يروا قرار القبر وخرجت منه غبرة عظيمة ، فصاح الفضل : التراب التراب ، فجعل يطرح التراب وهو يهوي ، ودعا بأحمال الشوك فطرحها فهوت ، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب وأصلحه وانصرف منكسرا. فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل : رأيت يا عباسي ، ما أسرع ما أديل ليحيى من ابن مصعب (١).

فحدثني ابن عمارة قال : حدثني الحسن بن العليل العنزي ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، قال :

كنت مع إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي فقال لي : أتحب أن أريك الرجل الذي ألقى عبد الله بن مصعب في رحم أمه؟ قلت : نعم فأرنيه فأومأ إلى إنسان سندي على حمار ، يكري الحمير بالمدينة ، وقال لي : ما زال مصعب بن أبي ثابت يخرج أم عبد الله بن مصعب من بيت هذا أبدا ، وكانت سندية اسمها تحفة ، فولدت عبد الله فهو أشبه الناس بوردان ، فنفاه مصعب بن ثابت عن نفسه ، فلم يزل مدة على ذلك ، ثم استلاطه بعد ذلك.

قال : وقال بعض الشعراء يهجوا مصعب بن عبد الله الزبيري وأخاه بكارا (٢) ويذكر عبد الله بن مصعب :

تدعى حواري الرسول تكذبا

وأنت لوردان الحمير سليل (٣)

ولولا سعايات بآل محمد

لألفى أبوك العبد وهو ذليل

ولكنه باع القليل بدينه

فطال له وسط الجحيم عويل

فنال به مالا وجاها ومنكحا

وذلك خزي في المعاد طويل

* * *

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٤ / ١١٢ ومروج الذهب ٢ / ١٩٠.

(٢) في الطبري ١٠ / ٥٥ «وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب ، وكان يبلغ هارون عنهم ، ويسيء بأخبارهم ، وكان الرشيد ولّاه المدينة وأمره بالتضييق عليهم ...».

(٣) البيت في الأغاني ٢٠ / ١٨١.

٤٠٠