مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

٥٦ ـ محمد بن عبد الله بن الحسن

ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن علي

ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

ويكنى أبا جعفر. وهو ابن الأفطس (١) الذي ذكرنا خبر قتل أبيه في أيام الرشيد (٢).

وأمه زينب بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين.

أخبرنا علي بن الحسن بن علي بن حمزة العلوي ، قال : أخبرني عمي محمد بن علي قال : أخبرني إبراهيم بن أبي محمد البريدي ، قال :

كنا عند المعتصم وهو ولي عهد في أيام المأمون ، فأخذ عمود حديد ثقيل فشاله ثم قصر به ثماني قصرات ، ثم طرحه من يده إلى العباس بن علي بن ريطة فقصر به ، سبعا ، ثم طرحه وفيه فضل ، فالتفت المعتصم إلى محمد بن عبد الله بن الأفطس فقال له : أما أنتم يا أبا جعفر فليس عندكم من هذا شيء.

فقال له : إليّ تقول هذا؟ هاته ، فطرحه إليه ، فقال هاها وهو يجيله ويقلبه حتى قصر به ست عشرة مرة ، ووجه المعتصم يتغير صفرة وحمرة.

وكان قد كلم المأمون في أمره فقلّده البصرة ، فلما طرحه من يده قال له : ودعني وأخرج إلى عملك ، ففعل ، فلما خرج من عنده أتبعه بشربة مسمومة وقال له : أحبّ أن تشرب هذا الشراب فإني ذكرتك وأحببت أن تشربه وقت وصوله ، فشربه فمات من وقته.

__________________

(١) راجع مروج الذهب ٢ / ٢٣٤.

(٢) راجع صفحة ٤٩٢ ـ ٤٩٤.

٤٦١
٤٦٢

ذكر أيام المعتصم

ومن ظهر فيها

٤٦٣

٥٧ ـ محمد (١) بن القاسم بن علي

ومحمد بن القاسم بن علي بن عمر (٢) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

__________________

(١) انفردت الخطية بترجمة موجزة قبل هذه الترجمة ، وهي :

(محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي)

وأمه صفية بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ، خرج في أيام المعتصم بالطالقان فأخذه عبد الله بن طاهر وبعث به إلى المعتصم بعد وقعة كانت بينه وبينه انهزم منها واستتر بنيسابور مدة طويلة فأدخل مقيدا عليه جبة صوف معادله رجل من أصحاب عبد الله بن طاهر إلى سر من رأى يوم نيروز والمعتصم يشرب وبين يديه الفراغنة يلعبون فلم يزل واقفا والناس ينظرون إليه حتى فرغ الفراغنة من لعبهم ثم أمر به فحبس في يدي مسرور في محبس في البير فكاد أن يتلف فأمر بإخراجه وحبس في قبة في بستان موسى فلم يزل محبوسا فيها.

ثم إنه طلب من الموكلين به سعفة وقال لهم : أريد أن أطرد بها فئرا قد آذينني يأكلن ما يحمل إليّ فأتوه بها فطلب مقراضا ليقص به أظفاره فاشترى له فجعل يقطع لبدا كانت تحته حتى صيره مثل السيور ثم فتل منه حبلا وقطع سعفه قطعا وشدها في ذلك الحبل ثم رمى بها إلى روزنة كانت في البيت فاعترض فيها وتسلق عليه حتى علا السطح ليلة فطر في سنة تسع عشرة ومائتين وقد مضى الموكلون به إلى منازلهم للعيد فلم يبق إلّا شيخ واحد فنزل محمد بن القاسم إلى البستان وفيه جماعة من الجند فقالوا له من أنت؟ فقال : بعض هؤلاء المرتبين الذين يقيمون بالحمام. فقال له : نم مكانك حتى تصبح ثم تمضي لا يلحقك العسس ، فنام بين الجند ثم خرج من غد حتى وافى دجلة يريد العبور في زورق إلى الجانب الغربي فصادف الشيخ الذي كان موكلا به في الزورق فعرفه محمد ولم يعرفه الشيخ لأنه كان بينه وبينه باب لا يراه فلما أراد الخروج طالبه الملاح بأجرته فحلف له أنه لا شيء معه فأعطاه الشيخ الذي كان موكلا به أجرته ومضى فاستتر مدة المعتصم والواثق ثم وجد في أيام المتوكل فحمل إليه حتى مات في مجلسه. ويقال إنه كان سقى سما فمات منه ، وإنما ذكرنا خبره في أيام المعتصم لأن خروجه كان فيها وكان محمد يذهب مذهب المعتزلة.

فحدثني أحمد بن سعيد قال حدثني عبيد بن حمدون قال سمعت عباد بن يعقوب يقول : كنت أنا ويحيى بن الحسن بن الفرات الحريري مع محمد بن القاسم في زورق نريد الرقة ومعنا جماعة من هذه الطبقة فظهرنا من مذهبه على شيء من الاعتزال فخرجنا وتركناه فجعل يبكي ويسألنا الرجوع فما كلمه منا أحد».

(٢) قال الطبري في أحداث سنة تسع عشرة ومائتين : «فمن ذلك ما كان من ظهور محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد (ص) ، فاجتمع إليه بها ناس كثير ، وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها فهزم هو وأصحابه ، فخرج هاربا يريد بعض كور خراسان ، كان أهله كاتبوه فلما صار بنسا ، وبها والد لبعض من معه ، مضى الرجل الذي معه من نسا إلى والده ليسلم عليه ، فلما لقى أباه سأله عن الخبر فأخبره بأمرهم وأنهم يقصدون كورة كذا ، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم ، فذكر أن العامل بذل عشرة آلاف درهم على دلالته عليه ، فدله عليه ، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم فأخذه واستوثق منه ، وبعث به إلى عبد الله بن طاهر ، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم ، فقدم به على يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر ، فحبس فيما ذكر بسامرا عند مسرور الخادم الكبير في ـ

٤٦٤

وأمه صفية بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين.

ويكنى أبا جعفر.

وكانت العامة تلقبه الصوفي ؛ لأنه كان يدمن لبس الثياب من الصوف الأبيض.

وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن المذهب.

وكان يذهب إلى القول بالعدل والتوحيد ، ويرى رأي الزيدية الجارودية (١). خرج في أيام المعتصم بالطّالقان ، فأخذه عبد الله بن طاهر ، ووجه به إلى المعتصم ، بعد وقائع كانت بينه وبينه (٢).

أخبرني بخبره أحمد بن عبيد الله بن عمار ، عن محمد بن الأزهر ، ونسخت شيئا من أخباره من كتاب أحمد بن الحارث الخرّاز ، وحدثني بخبره مشروحا جعفر بن أحمد بن أبي مندل الوراق الكوفي ، قال : حدثني عبيد الله بن حمدون ؛ قال : حدثني إبراهيم بن عبد الله العطار ، وكان مع أبي جعفر محمد بن القاسم بالطالقان (٣). وفي أحوال تنقله بخراسان ، قال :

نزل بمرو (٤) ، وكنا معه من الكوفيين بضعة عشر رجلا ، وكان قبل ذلك قد خرج إلى ناحية الرّقة [وإلى ناحية الروز] ، ومعه جماعة من وجوه الزيدية ، منهم : يحيى بن الحسن بن الفرات الفراز ، وعبّاد بن يعقوب الرواجني (٥) ، فسمعوه يتكلم مع أحدهم بشيء من مذهب المعتزلة فتفرق الكوفيون جميعا عنه ، وبقينا معه

__________________

ـ محبس ضيق يكون قدر ثلاثة أذرع في ذراعين ، فمكث فيه ثلاثة أيام ، ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك ، وأجرى عليه طعام ووكل به قوم يحفظونه ، فلما كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة ، احتال للخروج ، ذكر أنه هرب من الحبس بالليل ، وأنه دلى إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء. فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء فقعد. فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم ، وصاح بذلك الصائح ، فلم يعرف له خبر».

(١) أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي ، وقد زعموا أن النبي (ص) نص على إمامة علي بالوصف دون الاسم ، وزعموا أيضا أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي ، وإنما قيل لهم وللبترية التي سبقت الإشارة إليها ص ٤٦٨ زيدية لقولهم بإمامة زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب في وقته. راجع الفرق بين الفرق ص ٢٢ والملل والنحل ١ / ٢١٢.

(٢) راجع مروج الذهب ٢ / ٢٤٦ وابن الأثير ٦ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، والبداية والنهاية ١٠ / ٢٨٢.

(٣) معجم البلدان ٦ / ٧ ـ ٩.

(٤) معجم البلدان ٨ / ٣٣ ـ ٣٨.

(٥) مات الرواجني سنة خمسين ومائتين.

٤٦٥

بضعة عشر رجلا ، فتفرقنا في الناس ندعوهم إليه ، فلم نلبث إلّا يسيرا حتى استجاب له أربعون ألفا ، وأخذنا عليهم البيعة ، وكنا أنزلناه في رستاق من رساتيق مرو ، وأهله شيعة كلهم ، فأحلوه في قلعة لا يبلغها الطير ، في جبل حريز فلما اجتمع أمره وعدهم لليلة بعينها ، فاجتمعوا إليه ونزل من القلعة إليهم ، فبينا نحن عنده إذ سمع بكاء رجل واستغاثته ، فقال لي : يا إبراهيم قم فانظر ما هذا البكاء. فأتيت الموضع فوقفت فيه فاستقربت البكاء حتى انتهيت إلى رجل حائك ، قد أخذ منه رجل من أصحابنا ممن بايعنا لبدا ، وهو متعلق به ، فقلت : ما هذا وما شأنك؟.

فقال : أخذ صاحبكم هذا لبدي.

فقلت : اردد عليه لبده فقد سمع أبو جعفر بكاءه.

فقال لي الرجل : إنما خرجنا معكم لنكتسب وننتفع ونأخذ ما نحتاج إليه ، فلم أزل أرفق به حتى أخذت منه اللبد ورددته إلى صاحبه ، ورجعت إلى محمد بن القاسم فأخبرته بخبره وأني قد انتزعت منه اللبد ورددته على صاحبه ، فقال : يا إبراهيم ، أبمثل هذا يصر دين الله؟ ثم قال لنا : فرّقوا الناس عني حتى أرى رأيي.

فخرجنا إلى الناس فقلنا لهم : إن صورة الأمر قد أوجبت أن تتفرقوا في هذا الوقت ، فتفرقوا.

ورحل محمد بن القاسم من وقته إلى الطالقان ، وبينها وبين مرو أربعون فرسخا ، فنزلها ، وتفرقنا ندعو الناس فاجتمع عليه عالم ، وجئنا إليه فقلنا له : إن أتممت على أمرك ، وخرجت فنابذت القوم رجونا أن ينصرك الله ، فإذا ظفرت اخترت حينئذ من ترضاه من جندك ، وإن فعلت كما فعلت بمرو ، أخذ عبد الله بن طاهر بعقبك ، فأصلح من إسلامك إيّانا ونفسك إليه ، أن تجلس في بيتك ويسعك ما يسع سائر أهل بيتك. فأتم عزمه وخرج في الناس.

وبلغ خبره عبد الله بن طاهر فوجه إليه رجلا يقال له : الحسين بن نوح ، وكان صاحب شرطته ، فلقيناه وقاتلناه فهزمناه هزيمة قبيحة ، ولما اتصل خبره بعبد الله قامت قيامته فجرد قائدا من أصحابه يقال له نوح بن حبان بن جبلة ، أو قال حبان بن نوح بن جبلة ، فلقيناه فهزمناه أقبح من هزيمتنا للحسين بن نوح ، وانحاز إلى بعض النواحي ولم يرجع إلى عبد الله بن طاهر ، وكتب إليه يعتذر ويحلف أنه لا يرجع إلّا أن يظفر أو يقتل. فأمدّه عبد الله بن طاهر بجيش آخر ضخم ، فسار

٤٦٦

إليه متمهلا ونازله ، وكمن لنا كمناء في عدة مواضع ، فلما التقينا قاتلنا ساعة ثم انهزم متطاردا لنا فاتبعه أصحابنا ، فلما تفرقنا في طلبه خرجت الكمناء على أصحابنا من كل وجه فانهزمنا ، وأفلت محمد بن القاسم وصار إلى نسا (١) مستترا ، وثبتنا في النواحي ندعو إليه.

وقال أبو الأزهر في خبره : حدثني علي بن محمد الأزدي ، قال : حدثني إبراهيم بن غسان بن الفرج العودي ، صاحب عبد الله بن طاهر ، قال :

دعاني الأمير عبد الله بن طاهر يوما فدخلت عليه فوجدته قاعدا وإلى جانبه كرسي عليه كتاب مختوم غير معنون ، ويده في لحيته يخللها ، وكان ذلك من فعله دليلا على غضبه ، فتعوذت بالله من شره ، ودنوت إليه فقال لي : يا إبراهيم ، احذر أن تخالف أمري فتسلطني على نفسك فلا أبقي لك باقية.

قلت : أعوذ بالله أن أحتاج في طاعتك إلى هذا الوعيد ، وأن أتعرض لسخطك.

قال : قد جرّدت لك ألف فارس من نخبة عسكري ، وأمرت أن يحمل معك مائة ألف درهم تصرفها فيما تحتاج إلى صرفها فيه من أمورك ، فاضرب الساعة بالطبل والبوق فإنهم يتبعونك ، فاخرج واركض ، وخذ من خاص خيلي ثلاثة أفراس تجنب معك تنتقل عليها ، وخذ بين يديك دليلا قد رسمته لصحبتك ، فادفع إليه من المال ألف درهم ، واحمله على فرس من الثلاثة فليركض بين يديك ، فإذا صرت على فرسخ واحد من نسا ، فافضض الكتاب واقرأه ، واعمل بما فيه ، ولا تغادر منه حرفا ، ولا تخالف مما رسمته شيئا ، واعلم أن لي عينا في جملة من صحبك يخبرني بأنفاسك ، فاحذر ثم احذر ، ثم احذر وأنت أعلم.

قال إبراهيم بن غسان : فخرجت وضربت بالطبل ، ووافاني الفرسان جميعا بشادياج وهو موضع قصور آل طاهر ، وعبد الله يشرف من شرف علينا ، فعبأت أصحابي ودفعت فرسي أركضه ، ويتبعوني نسير خببا حينا وتقريبا حينا حتى صرنا في اليوم الثالث إلى نسا ، على فرسخ منها ففضضت الكتاب فقرأته فإذا فيه :

__________________

(١) نسا : مدينة بخراسان ، وكان سبب تسميتها بهذا الاسم أن المسلمين لما وردوا خراسان قصدوها فبلغ أهلها فهربوا ، ولم يتخلف غير النساء ، فلما أتاها المسلمون لم يروا بها رجلا ، فقالوا هؤلاء نساء ، والنساء لا يقاتلن فننسئ أمرها الآن إلى أن يعود رجالهن ، فتركوها ومضوا فسموا بذلك نسا ، والنسبة الصحيحة إليها نسائي ، راجع معجم البلدان ٨ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٤٦٧

سر على بركة الله وعونه ، فإذا كنت على فرسخ فعبئ أصحابك تعبئة الحرب ، وادخل نسا ، وأنفذ قائدا من قوادك في ثلثمائة يأخذ على أصحاب البريد داره فيحدق بها هو وأصحابه ، وأنفذ قائدا في خمسمائة فارس إلى باب عاملها ، تحرزا من وقوع حيلة ببيعة وقعت في أعناقهم لمحمد بن القاسم ، وسر في باقي أصحابك إلى محلة كذا وكذا ، ودرب كذا وكذا ، دار فلان بن فلان ، وادخل الدار الأولى ، ثم أنفذ فيها إلى دار ثانية ، فإذا دخلتها فانفذ منها إلى دار ثالثة ، فإذا دخلتها فارق على درجة فيها على يمينك ، فإنك تصير إلى غرفة فيها محمد بن القاسم العلوي الصوفي ، ومعه رجل من أصحابه يقال له : أبو تراب ، فاستوثق منهما بالحديد استيثاقا شديدا ، وأنفذ إليّ خاتمك مع خاتم محمد بن القاسم ، لأعلم ظفرك به قبل كتابك ، وأنفذ الخاتمين مع الرسول ، ومره فليركض بهما ركضا حتى يصير إليّ في اليوم الثالث إن شاء الله ، ثم اكتب إليّ بعد ذلك بشرح خبرك ، وكن على غاية التحرز والتحفظ والتيقظ في أمره حتى تصير به وصاحبه إلى حضرتي.

قال إبراهيم :

فما رأيت خبرا كان كأنه وحي مثله ، فصرت إلى الموضع فامتثلت أمره ، فوجدت محمدا على رأس الدرجة ، متلثما بعمامة وقد شدّ له على بغل أسفل الدرجة ، وهو يريد الرحيل إلى خوارزم ، فقبضت عليه ، فقال : ما شأنك ومن تريد؟.

قلت : محمد بن القاسم.

قال : فأنا محمد بن القاسم.

قلت هات خاتمك ، فأعطاني خاتمه ، فأنفذته مع خاتمي إلى عبد الله بن طاهر مع رجل دفعت إليه فرسا من تلك الخيل يركبه ، وجنيبة يجنبها مخافة أن يعثر فرسه ، وأمرت بعض أصحابي بدخول الغرفة ، فقال لي : ما تريد من دخول الغرفة وقد أخذتني وليس هناك أحد؟ فلم ألتفت إليه ، وأمرت أصحابي فدخلوا الغرفة ففتشوها فوجدوا أبا تراب تحت نقير ، والنقير شبيه بالحوض من خشب يعجن فيه الدقيق ويعصر فيه العنب ، فأخذتهما واستوثقت منهما بالقيود الثقال ، وكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرهما ، وسرت إلى نيسابور ستة أيام ، فصيرت محمد بن القاسم في بيت في داري ، ووكلت به من أثق به من أصحابي ، ووكلت بأبي تراب عبد الشعراني ، فوضع محمد كساءه وقام يصلي ، وعبد الله يشرف من غرفة في

٤٦٨

الشادياج علينا ، فلما فرغت من الاحتياط صرت إلى عبد الله بن طاهر فأخبرته الخبر وقصصته عليه شفاها ، فقال لي : لا بد من أن أنظر إليه ، فصار إليّ مع المغرب وعليه قميص وسراويل ونعل ورداء ، وهو متنكر ، فلما نظر إلى محمد بن القاسم وثقل الحديد عليه قال لي :

ويلك يا إبراهيم ، أما خفت الله في فعلك؟ أتقيد هذا الرجل الصالح بمثل هذا القيد الثقيل؟

فقلت أيها الأمير خوفك أنساني خوف الله ، ووعدك الذي قدّمته إليّ أذهل عقلي عمّا سواه.

فقال لي : خفف هذا الحديد كلّه عنه ، وقيده بقيد خفيف في حلقته رطل بالنيسابوري ـ ووزن الرطل النيسابوري مائتا درهم ـ وليكن عموده طويلا ، وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه ، ومضى وتركه.

فأقام بنيسابور ثلاثة أشهر يريد بذلك أن يعمي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان.

وكان عبد الله يخرج من إصطبله بغالا عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه ، ثم يردها حتى استتر بنيسابور سلّه في جوف الليل وخرج به مع إبراهيم بن غسان الذي أسره من نسا ووافى به الرّي ، وقد أمره عبد الله بن طاهر أن يفعل به كما فعل هو ، يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبّة ومعه جيش حتى يجوز الري بفراسخ ، ثم يعود ، إلى أن يمكنه سلّه في ليلة مظلمة ، ففعل ذلك خوفا من أن يغلب عليه لكثرة من أجابه ، حتى أخرجه من الري ، ولم يعلم به أحد ، ثم اتبعه حتى أورده بغداد على المعتصم.

قال إبراهيم بن غسان :

فعرضوا على محمد بن القاسم كل شيء نفيس من مال وجوهر وغير ذلك ، فلم يقبل إلّا مصحفا جامعا [كان] لعبد الله بن طاهر ، فلما قبله سر عبد الله بذلك وإنما قبله لأنه كان يدرس فيه.

قال : وما رأيت قط أشدّ اجتهادا منه ، ولا أعف ولا أكثر ذكر الله عزّ وجلّ مع شدة نفس ، واجتماع قلب ، ما ظهر منه جزع ولا انكسار ، ولا خضوع في الشدائد التي مرّت به ، وأنهم ما رأوه قط مازحا ولا هازلا ولا ضاحكا إلّا مرة

٤٦٩

واحدة ، فإنهم لما انحدروا من عقبة حلوان أراد الرّكوب ، فجاء بعض أصحاب إبراهيم بن غسان فطأطأ له ظهره ، حتى ركب في المحمل على البغل ، فلما استوى على المحمل قال للذي حمله على ظهره مازحا : أتأخذ أرزاق بني العباس وتخدم بني علي بن أبي طالب!وتبسم ، وكان يقال للرجل محمد الشعراني ، وكان من شيعة ولد العباس الخراسانية.

فقال له : جعلت فداك ، ولد علي وولد العباس عندي سواء ، فما سمعناه مزح ولا رأيناه تبسّم قبل ذلك ولا بعده ، ولا رأيناه اغتم من شيء جرى عليه إلّا يوم ورد عليه كتاب المعتصم وقد وردنا النهروان ، فكتبنا إليه بالخبر واستأذناه في الدخول به ، فورد علينا كتابه يأمرنا أن نأخذ جلال القبّة ونسير به مكشوفا ، وإذا وردنا النهرين أن نأخذ عمامته وندخله بغداد حاسرا وذلك قبل أن يبني سرّمن رأى ، فلما أردنا الرحيل به من النهروان نزعنا جلال القبة ، فسأل عن السبب في ذلك فأخبرناه ، فاغتم بذلك. ولما صرنا بالنهرين قلنا له يا أبا جعفر : انزع عمامتك فإن أمير المؤمنين أمر أن تدخل حاسرا ، فرمى بها إليّ ودخل الشّمّاسية في يوم النيروز ، وذلك في سنة تسع عشرة ومائتين ، وهو في القبة وهي مكشوفة وهو حاسر ، وعديله شيخ من أصحاب عبد الله بن طاهر ، وأصحاب السماجة (١) بين يديه يلعبون ، والفراغنة (٢) يرقصون ، فلما رآهم محمد بكى ثم قال : اللهم إنك تعلم أني لم أزل حريصا على تغيير هذا وإنكاره.

قال : وجعلت الفراغنة يحملون على العامة ويرمونهم بالقذر والميتة (٣) ، والمعتصم يضحك ، ومحمد بن القاسم يسبّح ويستغفر الله ويحرّك شفتيه يدعو عليهم ، والمعتصم جالس في جوسق كان له بالشّمّاسية ينظر إليهم ، ومحمد واقف.

ولما فرغ من لعبه مرّوا بمحمد بن القاسم عليه ، فأمر بدفعه إلى مسرور الكبير ، فدفع إليه ، فحبس في سرداب شبيه بالبئر (٤) فكاد أن يموت فيه ، وانتهى ذلك إلى المعتصم فأمر بإخراجه منه ، فأخرجه وحبس في قبة في بستان موسى مع

__________________

(١) في ط وق «السماحة».

(٢) كذا في الخطية وفي ط وق «والفراعنة».

(٣) في ط وق بالقدر والمنية.

(٤) الفرج بعد الشدة ١ / ١٣٢.

٤٧٠

المعتصم في داره ، ووكل به مسرور عدة من غلمانه وثقاته ، وكانت في القبة التي هو فيها محبوس عدة روازن وكوى واسعة الضوء ، فطلب مقراضا يكون عنده يقص به أظفاره ، فدفع إليه ، فعمد إلى لبد كان تحته فقطع نصفه بالمقراض وقصصه كهيئة السيور ، وعمل منه مثل السلم ، وطلب منهم سعفة ذكر أنه يريد أن يطرد بها الفأر ؛ فإنه يأكل خبزه فينجسه عليه ، فأعطوه فقطعها ، وخرز حواليها بالمقراض حتى كسرها ثلاث قطع ، وقرنها بمسواكه وجعلها في رأس السلم ، وحلّق به في أقرب روزنة من تلك الرّوازن إليه فعلق فيها ، وتسلّق عليه ، وجذبه إليه لما صعد فنجا ، وكانت ليلة الفطر من سنة تسع عشرة ومائتين ، وقد أدخلت الفواكه والرياحين وآلة العيد على رؤوس الحمالين إلى البستان ، وصار الحمالون جميعا إلى القبة التي فيها محمد بن القاسم ، فباتوا حولها ، ورموا بناتيجهم وناموا ، فرمى بنفسه من القبة إلى أسفل ، ونام بين الحمالين ، وتحركت خرزة من فقار ظهره ولم تنفك ، فنام بين الحمالين ثم عجل فأخذ بنتيجة أحدهم وذهب ليخرج فقال أحد البوابين : من أنت؟ فقال : أحد الحمالين أردت الانصراف إلى أهلي فقال له : نم عندي مكانك لا يأخذك العسس ، فنام عنده. فلما طلع الفجر خرج الحمالون ، وخرج معهم وأفلت ، فلما أصبحوا فتحوا الباب فلم يجدوه ، فأعلموا مسرورا بخبره ، فدخل على المعتصم ، حافيا مستسلما للقتل وأعلمه الخبر ، فقال له المعتصم : لا بأس عليك ، إن كان ذهب فلن يفوت ، إن ظهر أخذناه ، وإن آثر السلامة واستتر تركناه.

فقال مسرور بعد ذلك : هذا من تفضّل أمير المؤمنين عليّ ، ولو جرى هذا في أيام الرشيد لقتلني.

فقيل : إنه رجع إلى الطالقان فمات بها.

وقيل : إنه انحدر إلى واسط ، وذلك الصحيح (١).

قال محمد بن الأزهر في خبره :

__________________

(١) في مروج الذهب ٢ / ٢٤٦ «وقد تنوزع في محمد بن القاسم فمن قائل : إنه قتل بالسم ، ومنهم من يقول : إن ناسا من شيعته من الطالقان أتوا ذلك البستان فتاقوا للخدمة فيه من غرس وزراعة ، واتخذوا سلالم من الحبال واللبود والطالقانية ، ونقبوا الأزج وأخرجوه ، فذهبوا به فلم يعرف له خبر إلى هذه الغاية ، وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزيدية إلى هذا الوقت ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمدا لم يمت ، وأنه حي يرزق ، وأنه يخرج فيملؤها عدلا كما ملئت جورا ، وأنه مهدي هذه الأمة ، وأكثر هؤلاء بناحية الكوفة وجبال طبرستان والديلم وكثير من كور خراسان».

٤٧١

فرأيت محمد بن القاسم يوم أدخل إلى بغداد ، كان ربعة من الرجال أسمر ، في وجهه أثر جدري ، قد أثر السجود في وجهه.

قال : وحدثني علي بن محمد الأزدي ، والحسين بن موسى بن منير :

أنّ محمد بن القاسم لما هرب صار إلى قطيعة الربيع (١) إلى منزل منير بن موسى بن منير ، فنقله إلى منزل إبراهيم بن قيس ، فاجتمعا إليه وقالا له : إن الطلب لك سيشتد ، وليست بغداد لك بمنزل [فارحل من وقتك قبل أن يشتد عليك الطلب إلى واسط] فانحدر إلى واسط ، وقد شدّ وسطه للوهن الذي أصاب فقار ظهره ، فلما صار بواسط مات رحمة الله عليه.

قال علي بن محمد الأزدي : فحدثني ابنه علي بن محمد بن القاسم الصوفي :

أنه لما صار إلى واسط عبر بها دجلة إلى الجانب الغربي ، فنزل إلى أمّ ابن عمه ، علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين ، وكانت عجوزا مقعدة ، فلما نظرت إليه وثبت فرحا به وقالت : محمد والله ، فدتك نفسي وأهلي ، الحمد لله على سلامتك ، فقامت على رجلها ، وما قامت قبل ذلك بسنين ، فأقام عندها مديدة ، ومرضته من الوهن الذي أصاب ظهره حتى مات بواسط.

وذكر أحمد بن الحرث الخرّاز :

أن محمد بن القاسم لمّا هرب عبر من الجانب الغربي ، فلما حصل في دجلة نظر فإذا معه في المعبر شيخ من الرجالة الموكلين به ، كان محمد يراه من خلف الباب فعرفه محمد ولم يعرفه الشيخ ، فلما أراد الخروج قال له

الملاح : أعطني أجري ، فحلف له ما معي شيء ، ولا يملك غير الجبة الصوف التي عليه ، فرقّ له الشيخ الموكل فأعطى الملاح أجرته من عنده.

قال أحمد :

وتوارى محمد بن القاسم أيام المعتصم ، وأيام الواثق ، ثم أخذ في أيام المتوكل ، فحمل إليه فحبس حتى مات في محبسه.

__________________

(١) لما بنى المنصور بغداد أقطع قواده ومواليه قطائع وكذلك فعل غيره من الخلفاء ، وقد أضيفت كل قطيعة إلى واحد من رجل أو امرأة. وقطيعة الربيع : منسوبة إلى الربيع بن يونس حاجب المنصور ومولاه ، راجع معجم البلدان ٧ / ١٢٨.

٤٧٢

قال : ويقال إنه دس إليه سما فمات منه.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثني عبيد بن حمدون ، قال : سمعت عباد بن يعقوب ، يقول :

كنت أنا ويحيى بن الحسن بن الفرات الفراز ، مع محمد بن القاسم في زورق نريد الرقة ، ومعنا جماعة من أهل هذه الطبقة ، فظهرنا من مذهبه إلى أنه يقول بالاعتزال ، فخرجنا وتركناه ، فجعل يبكي ويسألنا الرجوع ، فلم نفعل.

٥٨ ـ عبد الله بن الحسين بن عبد الله

وعبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل

ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام

امتنع من لبس السواد ، وخرقه لما طولب بلبسه ، فحبس بسرّمن رأى (١) حتى مات في حبسه ، رضوان الله عليه.

__________________

(١) معجم البلدان ٥ / ٧٥.

٤٧٣
٤٧٤

أيام الواثق

٤٧٥

ذكر أيام الواثق بن المعتصم

قال أبو الفرج علي بن الحسين :

لا نعلم أحدا قتل في أيامه (١) ، إلّا أن علي بن محمد بن حمزة ذكر أن عمرو بن منيع ، قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ، ولم يذكر السبب في ذلك ، فحكيناه عنه على ما ذكره ، فقتل في الواقعة التي كانت بين محمد بن ميكال ومحمد بن جعفر هذا بالري.

وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه تدور الأرزاق عليهم (٢) حتى تفرقوا في أيام المتوكل.

__________________

(١) أبو الفداء ٢ / ٣٩ وفي ابن الأثير ٧ / ١١ «لما توفي المعتصم وجلس الواثق في الخلافة أحسن إلى الناس ، واشتمل على العلويين ، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم ، والتعهد لهم بالأموال ...» راجع الفخري ٢١٣.

(٢) بويع الواثق سنة سبع وعشرين ومائتين ، ومات في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

٤٧٦

أيّام المتوكل

ومن ظهر فيها فقتل أو حبس

٤٧٧

ذكر أيام المتوكل جعفر بن محمد المعتصم

ابن هارون الرشيد ، ومن ظهر فيها فقتل

أو حبس من آل أبي طالب عليهم السلام

وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظا على جماعتهم مهتما بأمورهم(١) شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره (٢) يسيء الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (٣) قبر الحسين وعفّى آثاره ؛ ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحدا زاره إلّا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة (٤).

فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء ، وقد شاهد ذلك ، قال :

كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب ، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة ، وكانت قد زارت قبر الحسين ، وبلغها خبره ، فأسرعت الرجوع ، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها ، فقال لها : أين كنتم؟ قالت : خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها ، وكان ذلك في شعبان. فقال : إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت : إلى قبر الحسين ، فاستطير غضبا ، وأمر بمولاتها فحبست ، واستصفى أملاكها ، وبعث برجل من أصحابه يقال له : الديزج ، وكان يهوديا فأسلم ، إلى قبر

__________________

(١) في ط وق «مهتما بأمورهم بسوء الرأي».

(٢) في ط وق «واتفق له أن الفتح عبد الله ... وزيره بسر من رأى سيئ الرأي».

(٣) في القاموس : «الكرب : إثارة الأرض للزرع».

(٤) الفخري ٢١٣ وأبو الفداء ٢ / ٤٠ وابن الأثير ٧ / ١٩ ـ ٢٠.

٤٧٨

الحسين ، وأمره بكرب قبره (١) ومحوه وإخراب كل ما حوله ، فمضى لذلك وخرب ما حوله ، وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ، فأحضر قوما من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلّا أخذوه ووجهوا به إليه.

فحدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال :

بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمه (٢) ونتحرى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق ، وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزررناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشيء من الطيب ، فقلت للعطار الذي كان معي : أي رائحة هذه؟ فقال : لا والله ما شممت مثلها كشيء من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع.

فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.

* * *

واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخّجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشيء وإن قل إلّا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرما ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على معازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكل ، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجه

__________________

(١) في الطبري ١١ / ٤٤ «وفيها ـ أي في سنة ٢٣٦ ـ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يحرث ويبذر ويسقي موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق ، فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه ، وحرث ذلك الموضع ، وزرع ما حواليه».

(٢) في ط وق «فجعلنا نتسمه».

٤٧٩

بمال فرقه فيهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعنا عليه ونصرة لفعله (١).

٥٩ ـ محمد بن صالح بن عبد الله

فممّن خرج في أيامه وأخذ فحبس

أبو عبد الله محمد بن صالح (٢) بن عبد الله بن موسى بن عبد الله

ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

وكان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم (٣).

كان خرج بسويقة وجمع الناس للخروج ، وحج بالناس في تلك السنة أبو السّاج (٤) فخافه عمه على نفسه وولده وأهله ، فسلمه إليه ، وهو لذلك من عمه آمن على أمان استوثق لمحمد بن صالح ، فحمله إلى سرّمن رأى ، فحبس بها مدة ثم أطلق وأقام بها سنين حتى مات رحمة الله عليه.

حدثني محمد بن خلف وكيع ، قال : حدثني أحمد بن أبي خيثمة ، قال (٥) :

كان محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى خرج بسويقة واجتمع له ، وحج بالناس أبو الساج فقصده ، وخاف عمه موسى بن عبد الله بن موسى أبا الساج على نفسه وولده وأهله ، فضمن لأبي الساج تسليمه ، وتوثق له بالأيمان والأمان ، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك ، وأقسم عليه ليلقين سلاحه ، ففعل ، وخرج إلى أبي الساج

__________________

(١) في ابن الأثير ٧ / ٢٠ «... فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قبل المتوكل ، وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق في محبة علي وأهل بيته. وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم عبادة المخنث ، وعلي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمرو بن فرج الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية ، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة ، وكانوا يخوفونه من العلويين ويشيرون عليه بابعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ... ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان ...».

(٢) ابن أبي الحديد ٣ / ٤٨١ والأغاني ١٥ / ٨٨ ـ ٩٥.

(٣) في الأغاني «ويكنى أبا عبد الله ، شاعر حجازي ظريف صالح الشعر ، من شعراء أهل بيته المتقدمين. وكان جده موسى بن عبد الله أخا محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن ، الحجازيين الخارجين في أيام المنصور ، أمهم جميعا هند بنت أبي عبيدة».

(٤) في ط وق «أبو النساج».

(٥) الأغاني ١٥ / ٨٩.

٤٨٠