مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

ذكر أيام المهدى

محمد بن عبد الله ومن قتل فيها أو حبس أو توارى فمات حال تواريه

٣٤١

٣٤ ـ علي بن العباس بن الحسن

وعلي (١) بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام

ويكنى أبا الحسن.

وأمه عائشة بنت محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

وكان قدم بغداد ، ودعا إلى نفسه [سرا](٢) ، فاستجاب له جماعة من الزيدية وبلغ المهدي خبره فأخذه ، فلم يزل في حبسه حتى قدم الحسين بن علي صاحب فخ فكلمه فيه ، واستوهبه منه فوهبه له.

فلما أراد إخراجه من حبسه دس إليه شربة سم فعملت فيه ، فلم يزل ينتقض عليه في الأيام حتى قدم المدينة فتفسخ (٣) لحمه ، وتباينت أعضاؤه ، فمات بعد دخوله المدينة بثلاثة أيام (٤).

أخبرني بذلك علي بن إبراهيم العلوي قال : حدثنا الحسن بن علي بن هاشم ، قال(٥):

حدثنا الحسن بن محمد المزني عن أحمد بن الحسن بن مروان الهاشمي ، عن عبد العزيز بن عبد الملك ، قال الحسن بن محمد المزني. وحدثني محمد بن علي بن إبراهيم ، عن بكر بن صالح ، عن عبد الله (٦) بن إبراهيم الجعفري بهذا.

٣٥ ـ عيسى بن زيد بن علي

وممن توارى منهم في هذه الأيام فمات متواريا :

عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

ويكنى أبا يحيى.

__________________

(١) في ط وق : «حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري قال : حدثنا أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصبهاني وعلي إلخ».

(٢) الزيادة من الخطية.

(٣) في ط وق «ففسخ لحمه وتناثرت أعضاؤه».

(٤) في الخطية «بأيام يسيرة».

(٥) الزيادة من الخطية.

(٦) في ط وق «عن عبد الملك».

٣٤٢

وأمه أم ولد ، ولد في الوقت الذي أشخص فيه أبوه زيد بن علي إلى هشام بن عبد الملك ، وكانت أم عيسى بن زيد معه في طريقه ، فنزل ديرا للنصارى ووافق نزوله إيّاه ليلة الميلاد ، وضربها المخاض هنالك فولدته له تلك الليلة ، وسمّاه أبوه عيسى باسم المسيح عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليهما ـ.

حدثني بذلك محمد بن سعيد ، قال : حدثنا بذلك محمد بن منصور ، عن أحمد بن عيسى بن زيد.

* * *

وشهد عيسى مع محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم حربهما.

واختلف في سبب تواريه ، فقيل إنه أنكر على إبراهيم بن عبد الله أنه كبّر على جنازة أربعا ففارقه ، وقيل بل ثبت معه حتى قتل ثم توارى بعد ذلك.

أخبرنا يحيى بن علي ، وأحمد بن عبد العزيز ، قالا : حدثنا عمر بن شبّة ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن أبي الكرام ، قال (١) :

صلّى إبراهيم على جنازة بالبصرة وكبّر عليها أربعا ، فقال له عيسى بن زيد : لم نقصت واحدة وقد عرفت تكبير أهل بيتك؟.

فقال : هذا أجمع لهم ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله ، ففارقه عيسى واعتزل. وبلغ ذلك أبا جعفر فأرسل إلى عيسى يبذل له ما سأل على أن يخذل الزيدية عن إبراهيم ، فلم يتم الأمر بينهما حتى قتل إبراهيم ، فاستخفى عيسى ، فقيل لأبي جعفر : ألا تطلبه. فقال : لا والله. لا أطلب منهم رجلا أبدا بعد محمد وإبراهيم ، أنا أجعل لهم بعدها ذكرا (٢).

* * *

__________________

(١) راجع صفحة ٢٨٦.

(٢) راجع نقد المؤلف لهذه الرواية في صفحة ٢٨٧.

٣٤٣

أخبرني علي بن العباس المقانعي ، قال : حدثنا عبّاد بن يعقوب ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي :

أن عيسى بن زيد كان على ميمنة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، وكان مع محمد بن عبد الله بن الحسن ، على ميمنته أيضا.

أخبرنا عيسى بن الحسن ، قال : حدثنا علي بن محمد النوفلي ، عن أبيه ، قال :

كان عيسى والحسين ابنا زيد بن علي مع محمد وإبراهيم (١) ابني عبد الله بن الحسن في حروبهما من أشد الناس قتالا وأنفذهم بصيرة ، فبلغ ذلك عنهما أبا جعفر فكان يقول : ما لي ولابني زيد وما ينقمان علينا؟ ألم نقتل قتلة أبيهما ، ونطلب بثأرهما ، ونشفي صدورهما من عدوهما؟.

أخبرني يحيى بن علي ، وأحمد بن عبد العزيز وعمر العتكي ، قالوا : حدثنا عمر بن شبّة ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر [بن علي] ، قال :

خرج عيسى بن زيد مع محمد بن عبد الله بن الحسن ، فكان يقول له : من خالفك أو تخلّف عن بيعتك من آل أبي طالب فأمكني منه أن أضرب عنقه.

أخبرني يحيى بن علي ، وأحمد [بن عبد العزيز الجوهري] ، قالا : حدثنا عمر بن شبّة ، قال : حدثني إبراهيم بن سلم بن أبي واصل الحذاء ، قال : حدثني أخي علي بن سلم قال :

لما انهزمنا صرنا إلى عيسى بن زيد وهو واقف فخففنا به وصبرنا مليّا فقال : ما بعد هذا متلوّم (٢) ، فانحاز وصار إلى قصر خراب ونحن معه ، فأزمعنا على أن نبيّت عيسى بن موسى ، فلما انتصف الليل فقدنا عيسى فانتقض أمرنا (٣).

* * *

__________________

(١) الطبري ٩ / ٢٣٢ وابن الأثير ٥ / ٢٢٢.

(٢) في ط وق «ابن سالم».

(٣) في ط وق «فتلوم».

٣٤٤

وكان عيسى أفضل من بقي من أهله دينا ، وعلما ، وورعا ، وزهدا ، وتقشفا (١) ، وأشدهم بصيرة في أمره ومذهبه ، مع علم كثير ، ورواية للحديث وطلب له ؛ صغره وكبره ، وقد روى عن أبيه ، وجعفر بن محمد ، وأخيه عبد الله بن محمد ، وسفيان بن سعيد الثّوري والحسن بن صالح (٢) [بن حي] وشعبة بن الحجاج (٣) ويزيد بن أبي زياد ، والحسن بن عمارة ومالك بن أنس ، وعبد الله بن عمر العمري (٤) ونظراء لهم كثير عددهم.

* * *

ولما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن ، وزحف إليه عيسى بن موسى ، جمع إليه وجوه الزيدية وكل من حضر معه من أهل العلم ، وعهد إليه أنه إن أصيب في وجهه ذلك ، فالأمر إلى أخيه إبراهيم ، فإن أصيب إبراهيم ، فالأمر إلى عيسى بن زيد.

حدثني بذلك أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن الحسن ، قال إن عبد الله بن محمد بن عمر ذكر ذلك من وصية محمد إلى أخيه إبراهيم ، ثم إلى عيسى بن زيد ، فلما أصيبا توارى عيسى بن زيد بالكوفة في دار علي بن صالح بن حي أخي الحسن بن صالح ، وتزوج ابنة له ، وولدت منه بنتا ماتت في حياته ، وخبره في ذلك يذكر بعد إن شاء الله.

* * *

حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد على سبيل المذاكرة فحفظته عنه لم أكتبه من (٥) لفظه ، والحديث يزيد وينقص والمعنى واحد ، قال : حدثني محمد بن المنصور المرادي ، قال : قال يحيى بن الحسين بن زيد :

قلت لأبي : يا أبة ، إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد ، فإنه يقبح

__________________

(١) في ط وق «ونفسا».

(٢) في ط وق «الحسين».

(٣) ولد سنة ثمانين ، ومات سنة ستين ومائة ، كما في خلاصة تذهيب الكمال ص ١٤٠.

(٤) راجع تاريخ بغداد ١٠ / ٣١٠.

(٥) في الخطية «لم أكشفه من».

٣٤٥

بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه ، فدافعني عن ذلك مدة وقال : إن هذا أمر يثقل عليه ، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إيّاه فتزعجه ، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك ، فجهزني إلى الكوفة وقال لي : إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي ، فإذا دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية ، وسترى في وسط السكة دارا لها باب صفته كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيدا منها في أول السكة ، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (١) الوجه ، قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبة صوف ، يستقي الماء على جمل ، [وقد انصرف يسوق الجمل](٢) لا يضع قدما ولا يرفعها إلّا ذكر الله ـ عز وجلّ ـ ودموعه تنحدر ، فقم وسلّم عليه وعانقه ، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش ، فعرّفه نفسك وانتسب له ، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلا ، ويسألك عنّا جميعا ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه ، ولا تطل عليه وودعه ؛ فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه ، فافعل ما يأمرك به من ذلك ؛ فإنك إن عدت إليه توارى عنك ، واستوحش منك وانتقل عن موضعه ، وعليه في ذلك مشقة.

فقلت : أفعل كما أمرتني. ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت ، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حيّ بعد العصر ، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي ، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل ، وهو كما وصف لي أبي ، لا يرفع قدما ولا يضعها إلّا حرك شفتيه بذكر الله ، ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحيانا ، فقمت فعانقته ، فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس ، فقلت : يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد بن أخيك ، فضمني إليه وبكى حتى قلت قد جاءت نفسه ، ثم أناخ جمله ، وجلس معي ، فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا ، وامرأة امرأة ، وصبيا صبيا ، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي ، ثم قال : يا بني ، أنا أستقي على هذا الجمل الماء ، فأصرف ما أكتسب ، يعني من أجرة الجمل. إلى صاحبه ، وأتقوت باقيه ، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البريّة ، يعني بظهر الكوفة ،

__________________

(١) في الخطية «مستور».

(٢) الزيادة من الخطية.

٣٤٦

فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته.

وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته ، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا ، فولدت مني بنتا ، فنشأت وبلغت ، وهي أيضا لا تعرفني ، ولا تدري من أنا ، فقالت لي أمها : زوّج ابنتك بابن فلان السقاء ـ لرجل من جيراننا يسقي الماء ـ فإنه أيسر منا وقد خطبها ، وألحّت عليّ ، فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز ، ولا هو بكفء لها ، فيشيع خبري ، فجعلت تلح عليّ فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام ، فما أجدني (١) آسي على شيء من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله (ص).

قال : ثم أقسم عليّ أن أنصرف ولا أعود إليه وودّعني.

فلما كان بعد ذلك صرت إلى الموضع الذي انتظرته فيه لأراه فلم أره ، وكان آخر عهدي به.

* * *

حدّثني أحمد بن عبيد الله بن عمّار ، قال : نسخت من خط هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات ، قال : حدثني عتبة (٢) بن المنهال ، قال :

كان جعفر الأحمر (٣) ، وصباح الزعفراني ممن يقوم بأمر عيسى بن زيد ، فلما بذل المهدي لعيسى بن زيد من جهة يعقوب بن داود ما بذل له من المال والصلة نودي (٤) بذلك في الأمصار ليبلغ عيسى بن زيد فيأمن ، فقال عيسى لجعفر الأحمر وصباح : قد بذل لي من المال ما بذل ، وو الله ما أردت حين أتيت الكوفة الخروج عليه ، ولأن أبيت خائفا ليلة واحدة أحبّ إليّ من جميع ما بذل لي ، ومن الدنيا بأسرها.

أخبرني عبد الله بن زيدان (٥) ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني سعيد بن

__________________

(١) في ط وق «فما أحد».

(٢) في ط وق «عيينة».

(٣) هو جعفر بن زياد الكوفي الأحمر. قال أبو داود عنه إنه شيعي ثقة ، وقال أبو نعيم : مات سنة خمس وستين ومائة ، راجع خلاصة تذهيب الكمال ٥٣.

(٤) في ط وق «يؤدي».

(٥) في ط وق «بن زيد».

٣٤٧

عمر بن جنادة البجلي ، قال :

حج عيسى بن زيد والحسن [بن صالح] ، فسمعنا مناديا ينادي : ليبلغ الشاهد الغائب أن عيسى بن زيد آمن في ظهوره وتواريه ، فرأى عيسى بن زيد الحسن بن صالح قد ظهر فيه سرور بذلك فقال : كأنك قد سررت بما سمعت ، فقال : نعم. فقال له عيسى : والله لإخافتي إيّاهم ساعة أحبّ إليّ من كذا وكذا.

* * *

حدّثني عيسى بن الحسين الورّاق ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن مسعود الروقي ، قال : حدّثني السري بن مسكين الأنصاري المدني ، قال : حدثني يعقوب بن داود ، قال:

دخلت مع المهدي في قبة في بعض الخانات في طريق خراسان ، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة ، فدنا ودنوت معه فإذا هي هذه الأبيات :

والله ما أطعم طعم الرّقاد

خوفا إذا نامت عيون العباد

شرّدني أهل اعتداء وما

أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنوا

فكان زادي عندهم شر زاد

أقول قولا قاله خائف

مطرد قلبي كثير السهاد

منخرق الخفّين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت خم في رقاب العباد (١)

قال : فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت : «لك الأمان من الله ومني فأظهر متى شئت» حتى كتب ذلك تحتها أجمع ، فالتفت فإذا دموعه تجري على خده ، فقلت له : من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟.

قال : أتتجاهل عليّ؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلّا عيسى بن زيد.

__________________

(١) راجع صفحة ٢٦٧.

٣٤٨

قال : أبو الفرج الأصبهاني :

وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذا الشعر عن المنذر لعيسى بن زيد فقال فيه:

شرّدني فضل ويحيى وما

أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنا

فطرداني خيفة في البلاد

والأول أصح ، لأن عيسى لم يدرك سلطان آل برمك ومات قبل ذلك.

حدثني أحمد بن محمد ، قال : حدّثني أحمد بن يحيى الحجري ، قال حدثني الحسن بن الحسين الكندي ، عن خصيب الوابشي ، وكان من أصحاب زيد بن علي وكان خصيصا بعيسى بن زيد ، قال :

كان عيسى بن زيد على ميمنة محمد بن عبد الله بن الحسن يوم قتل ، ثم صار إلى إبراهيم فكان معه على ميمنته حتى قتل ، ثم استتر بالكوفة في دار علي بن صالح بن حي ، فكنا نصير إليه حال خوف ، وربما صادفناه في الصحراء يستقي الماء على جمل لرجل من أهل الكوفة ، فيجلس معنا ويحدثنا. وكان يقول لنا : والله لوددت أني آمن عليكم هؤلاء فأطيل مجالستكم ، فأتزود من محادثتكم والنظر إليكم ، فو الله إني لأتشوقكم وأتذكركم في خلوتي وعلى فراشي عند مضجعي ، فانصرفوا لا يشهر موضعكم وأمركم فيلحقكم معرة وضرر.

حدّثني أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثني أحمد بن عبد الحميد ، قال حدثني محمد بن عمرو بن عتبة ، عن المختار بن عمر ، قال :

رأيت خصيبا الوابشي قبّل يد عيسى بن زيد ، فجذب عيسى يده ومنعه من ذلك ، فقال له خصيب : قبّلت يد عبد الله بن الحسن فلم ينكر ذلك عليّ.

قال أبو الفرج :

وكان خصيب هذا من أصحاب زيد بن علي ، وقد شهد معه حربه ، وشهد مع محمد وإبراهيم حروبهما ، وروى عنهم جميعا ، وروى عن زيد بن علي أيضا عدة حكايات ، ولم أسمع في روايته عنه حديثا مسندا.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثني أحمد بن يحيى بن المنذر ، قال :

٣٤٩

حدثنا الحسن بن الحسين الكندي ، قال حدثنا خصيب الوابشي ، قال :

كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور تجري في وجهه.

* * *

حدثنا جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قال : حدثني محمد بن علي بن خلف العطار ، قال حدثني محمد بن عمر والفقمي الرازي ، قال : سمعت علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب العابد وهو أبو الحسين بن علي صاحب فخ ، يقول :

لقد رأيتنا ونحن متوفرون وما فينا أحد خير من عيسى بن زيد.

حدّثنا جعفر بن محمد العلوي ، قال : حدّثني محمد بن علي بن خلف ، قال : حدّثني محمد بن عمرو الفقمي ، قال :

قرأ عيسى بن زيد على عبد الله بن جعفر.

قال أبو الفرج :

عبد الله بن جعفر هذا والد علي بن عبد الله بن جعفر المدني المحدث ، وكان من قراء القرآن ، وكبار المحدثين ، وخرج مع محمد بن عبد الله ، فلم يزل معه حتى قتل محمد وطلبه المنصور فتوارى منه ، وقد ذكرت خبره في ذلك في مقتل إبراهيم (١).

* * *

حدّثني عبد الله بن زيدان البجلي ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني سعيد بن عمر بن جنادة البجلي ، قال :

كان الحسن بن صالح ، وعيسى بن زيد بمنى ، فاختلفا في مسألة من السيرة ، فبينما هما يتناظران فيها جاءهما رجل فقال : قد قدم سفيان الثوري ، فقال الحسن بن صالح : قد جاء الشفاء.

فقال عيسى بن زيد : فأنا أسأله عن هذا الذي اختلفنا فيه ، وسأل عن

__________________

(١) راجع صفحة ٣٠٤.

٣٥٠

موضعه فأخبر به ، فقام إليه فمر في طريقه بجناب بن نسطاس (١) العرزمي فسلم عليه ، ومضى إلى سفيان فسأله عن المسألة فأبى سفيان أن يجيبه خوفا على نفسه من الجواب لأنه كان شيء فيه على السلطان ، فقال له الحسن [بن صالح] إنه عيسى بن زيد ، فتنبه سفيان واستوفز ، ثم نظر إلى عيسى بن زيد كالمستثبت فتقدم إليه فقال له : نعم أنا عيسى بن زيد. فقال : أحتاج إلى من يعرفك.

قال : جناب بن نسطاس أجيئك به.

فقال : افعل. قال : فذهب عيسى فجاءه به ، فقال جناب بن نسطاس : نعم يا أبا عبد الله هذا عيسى بن زيد ، فبكى سفيان فأكثر البكاء ، وقام من مجلسه فأجلسه فيه وجلس بين يديه ، وأجابه عن المسألة ، ثم ودعه وانصرف.

قال أبو الفرج :

وقد حدّثني بهذا الحديث أحمد بن محمد بن سعيد ، وكنت ذكرت له ما حدثني به ابن زيدان من ذلك فقال : حدثني محمد بن سالم بن عبد الرحمن قال : حدّثني المنذر بن جعفر العبدي عن أبيه ، قال :

خرجت أنا والحسن ، وعلي بن صالح ابنا حي ، وعبد ربه بن علقمة ، وجناب بن نسطاس مع عيسى بن زيد حجاجا بعد مقتل إبراهيم ، وعيسى بيننا يستر نفسه في زي الجمالين ، فاجتمعنا بمكة ذات ليلة في المسجد الحرام ، فجعل عيسى بن زيد ، والحسن بن صالح يتذاكران أشياء من السيرة ، فاختلف هو وعيسى في مسألة منها ، فلما كان من الغد دخل علينا عبد ربه بن علقمة فقال : قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه ، هذا سفيان الثوري قد قدم ، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه ، فجاءوه وهو في المسجد جالس ، فسلموا عليه ، ثم سأله عيسى بن زيد عن تلك المسألة ، فقال : هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأن فيها شيئا على السلطان.

فقال له الحسن : إنه عيسى بن زيد ، فنظر إلى جناب بن نسطاس مستثبتا ، فقال له جناب : نعم هو عيسى بن زيد ، فوثب سفيان فجلس بين يدي

__________________

(١) في ط وق «بن قسطاس» راجع إتقان المقال ١٧٣.

٣٥١

عيسى وعانقه وبكى بكاء شديدا واعتذر إليه مما خاطبه به من الرد ، ثم أجابه عن المسألة وهو يبكي وأقبل علينا فقال : إن حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل والتطريد ليبكي من في قلبه شيء من الإيمان ، ثم قال لعيسى : قم بأبي أنت فأخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء شيء نخافه ، فقمنا فتفرقنا.

أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثني محمد بن سالم بن عبد الرحمن ، قال علي بن جعفر الأحمر ، حدثني أبي ، قال :

كنت أجتمع أنا ، وعيسى بن زيد ، والحسن ، وعلي ابنا صالح بن حي ، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ، وجناب بن نسطاس ، في جماعة من الزيدية في دار بالكوفة ، فسعى ساع إلى المهدي بأمرنا ودلّه على الدار ، فكتب إلى عامله بالكوفة بوضع الأرصاد علينا ، فإذا بلغه اجتماعنا كبسنا وأخذنا ووجه بنا إليه. فاجتمعنا ليلة في تلك الدار ، فبلغه خبرنا فهجم علينا ، ونذر القوم به وكانوا في علو الدار ، فتفرقوا ونجوا جميعا غيري ، فأخذني وحملني إلى المهدي فأدخلت إليه ، فلما رآني شتمني بالزنا (١) وقال لي : يابن الفاعلة أنت الذي تجتمع مع عيسى بن زيد وتحثّه على الخروج عليّ وتدعو إليه الناس؟.

فقلت له : يا هذا ، أما تستحيي من الله ، ولا تتقي الله ولا تخافه ، تشتم المحصنات وتقذفهن بالفاحشة ، وقد كان ينبغي لك ويلزمك في دينك وما وليته ، أن لو سمعت سفيها يقول مثل قولك أن تقيم عليه الحد.

فأعاد شتمي ثم وثب إليّ فجعلني تحته ، وضربني بيديه ، وخبطني برجليه ، وشتمني.

فقلت له : إنك لشجاع شديد أيّد ، حين قويت على شيخ مثلي تضربه ، لا يقدر على المنع من نفسه ولا انتصار لها.

فأمر بحبسي والتضيق عليّ ، فقيدت بقيد ثقيل وحبست سنين ، فلما بلغه وفاة عيسى بن زيد بعث إليّ فدعاني فقال لي : من أي الناس أنت؟ قلت من المسلمين. قال : أعرابي أنت؟ قلت لا. قال فمن أي الناس أنت؟. قلت : كان

__________________

(١) في ط وق «شتمني بالرأي».

٣٥٢

أبي عبدا لبعض أهل الكوفة وأعتقه فهو أبي.

فقال لي : إن عيسى بن زيد قد مات.

فقلت : أعظم بها مصيبة ، رحمه الله ، فلقد كان عابدا ورعا ، مجتهدا في طاعة الله ، غير خائف لومة لائم.

قال : أفما علمت بوفاته؟ قلت : بلى. قال : فلم لم تبشرني بوفاته؟.

فقلت : لم أحب أن أبشرك بأمر لو عاش رسول الله (ص) فعرفه لساءه.

فأطرق طويلا ثم قال : ما أرى في جسمك فضلا للعقوبة ، وأخاف أن أستعمل شيئا منها فيك فتموت وقد كفيت عدوي ، فانصرف في غير حفظ الله ، والله لئن بلغني أنك عدت لمثل فعلك لأضربن عنقك.

قال : فانصرفت إلى الكوفة فقال المهدي للربيع : أما ترى قلّة خوفه وشدّة قلبه ، هكذا يكون والله أهل البصائر.

قال علي بن جعفر : وحدثني أبي ، قال :

اجتمعت أنا ، وإسرائيل بن يونس ، والحسن ، وعلي ابنا صالح بن حي ، في عدة من أصحابنا ، مع عيسى بن زيد ، فقال له الحسن بن صالح بن حي : متى تدافعنا بالخروج وقد اشتمل ديوانك على عشرة آلاف رجل؟.

فقال له عيسى : ويحك ، أتكثر عليّ العدد وأنا بهم عارف ، أما والله لو وجدت فيهم ثلثمائة رجل أعلم أنهم يريدون الله عزّ وجلّ ، ويبذلون أنفسهم له ، ويصدقون للقاء عدوه في طاعته ، لخرجت قبل الصباح حتى أبلي عند الله عذرا في أعداء الله ، وأجري أمر المسلمين على سنّته وسنّة نبيه (ص) ، ولكن لا أعرف موضع ثقة يفي ببيعته لله عزّ وجلّ ، ويثبت عند اللقاء!

قال : فبكى الحسن بن صالح حتى سقط مغشيا عليه.

* * *

قال : وحدثني أبي ، قال :

دخلت على عيسى بن زيد وهو يأكل خبزا وقثاء ، فأعطاني رغيفين وقثائتين

٣٥٣

وقال لي : كل ، فأكلت رغيفا ونصف الآخر مع قثاءة ونصف فشبعت وتركت الباقي ، فلما كان بعد أيام جئته فأخرج لي الكسرة ونصف القثاءة وقد ماتت فقال لي : كل فقلت : وأي شيء كان في هذا حتى خبأته لي.

قال : قد أعطيتك إيّاه فصار لك فأكلت بعضه وبقي البعض ، فكله إن شئت أو فتصدق به.

* * *

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي ، قال : حدثني عمي عبيد الله ، عن القاسم بن أبي شيبة ، عن أبي نعيم ، قال :

حدّثني من شهد عيسى بن زيد لما انصرف من واقعة باخمري وقد خرجت عليه لبؤة معها أشبالها ، فعرضت للطريق وجعلت تحمل على الناس ، فنزل عيسى فأخذ سيفه وترسه ثم نزل إليها فقتلها ، فقال له مولى له : أيتمت أشبالها يا سيدي فضحك فقال : نعم أنا ميتم الأشبال ، فكان أصحابه بعد ذلك إذا ذكروه كنوا عنه وقالوا : قال موتم الأشبال كذا ، وفعل موتم الأشبال كذا ، فيخفى أمره.

وقد ذكر ذلك يموت بن المزرّع (١) في قصيدة رثى فيها أهل البيت عليهم السلام.

وذكرها أيضا الشّميطي (٢) ، وكان من شعراء الامامية ، في قصيدة عاب فيها من خرج من الزيدية رضوان الله عليهم فقال :

سنّ ظلم الإمام للناس زيد

إنّ ظلم الإمام ذو عقّال

وبنو الشيخ والقتيل بفخ

بعد يحيى وموتم الأشبال

أخبرنا عيسى بن الحسين الورّاق ، قال : حدثني علي بن محمد بن سليمان

__________________

(١) راجع ترجمته في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٥٨ ـ ٣٦٠.

(٢) في ط وق «الشمطي» وفي الخطية «السميطي» وهو أبو السري معدان الأعمى الشميطي ، والشميطية فرقة من الشيعة الإمامية الرافضة نسبت إلى أحمر بن شميط. راجع الحيوان ٢ / ٢٦٨ والبيان والتبيين ٣ / ٢١٢.

٣٥٤

النوفلي قال : حدثني أبي عن أبيه وعمه ، قال :

إن عيسى بن زيد انصرف من وقعة باخمري بعد مقتل إبراهيم فتوارى في دور ابن صالح بن حي ، وطلبه المنصور طلبا ليس بالحثيث. وطلبه المهدي وجدّ في طلبه حينا فلم يقدر عليه ، فنادى بأمانه ليبلغه ذلك فيظهر ، فبلغه فلم يظهر ، وبلغه خبر دعاة له ثلاثة وهم : ابن علاق الصيرفي ، وحاضر مولى لهم ، وصباح الزعفراني ، فظفر بحاضر فحبسه ، وقرّره ورفق به واشتد عليه ليعرّفه موضع عيسى فلم يفعل ، فقتله.

ومكث طول حياة عيسى يطلب صباحا وابن علاق فلم يظفر بهما.

ثم مات عيسى بن زيد فقال صباح للحسن بن صالح : أما ترى هذا العذاب والجهد الذي نحن فيه بغير معنى ، قد مات عيسى بن زيد ومضى لسبيله وإنما نطلب خوفا منه ، فإذا علم أنه قد مات أمنوه وكفوا عنا ، فدعني آتي هذا الرجل ـ يعني المهدي ـ فأخبره بوفاته حتى نتخلص من طلبه لنا ، وخوفنا منه.

فقال : لا والله لا تبشر عدو الله بموت ولي الله ابن نبي الله ، ولا نقر عينه فيه ونشمته به ، فو الله لليلة يبيتها خائفا منه أحبّ إليّ من جهاد سنة وعبادتها.

قال : ومات الحسن بن صالح بعده بشهرين ، فحدث صباح الزعفراني قال :

أخذت أحمد بن عيسى ، وأخاه زيدا فجئت بهما إلى بغداد فجعلتهما في موضع أثق به عليهما ، ثم لبست أطمارا وجئت إلى دار المهدي ، فسألت أن أوصل إلى الربيع وأن يعرف أن عندي نصيحة وبشارة بأمر يسر الخليفة. فدخلوا عليه فأعلموه بذلك فخرجوا إليّ فأذنوا لي ، فدخلت إليه وقال : ما نصيحتك؟.

فقلت : لا أقولها إلّا للخليفة.

فقال : لا سبيل إلى ذلك دون أن تعلمني النصيحة ما هي.

فقلت : أما النصيحة فلا أذكرها إلّا له ، ولكن أخبره أني صباح الزعفراني ، داعية عيسى بن زيد ، فأدناني منه ثم قال :

٣٥٥

يا هذا : لست تخلو من أن تكون صادقا أو كاذبا ، وهو على الحالين قاتلك ، إن كنت صادقا فأنت تعرف سوء أثرك عنده ، وطلبه لك ، وبلوغه في ذلك أقصى الغايات ، وحرصه عليه ، وحين تقع عينه عليك يقتلك.

وإن كنت كاذبا وإنما أردت الوصول إليه من أجل حاجة لك غاظه ذلك من فعلك فقتلك ، وأنا ضامن لك قضاء حاجتك كائنة ما كانت لا أستثني شيئا.

فقلت : أنا صباح الزعفراني ، والله الذي لا إله إلّا هو ما لي إليه حاجة ، ولو أعطاني كل ما يملك ما أردته ولا قبلته ، وقد صدقتك فإن أخبرته وإلّا توصلت إليه من جهة غيرك.

فقال : اللهم اشهد اني بريء من دمه ، ثم وكّل بي جماعة من أصحابه وقام فدخل ، فما ظننت أنه وصل إليه حتى نودي : هاتوا الصباح الزعفراني. فأدخلت إلى الخليفة فقال لي : أنت صباح الزعفراني؟ قلت : نعم.

قال : فلا حيّاك الله ولا بيّاك ، ولا قرّب دارك ، يا عدو الله ، أنت الساعي على دولتي ، والداعي إلى أعدائي؟.

قلت : أنا والله هو ، وقد كان كل ما ذكرته.

فقال : أنت إذا الخائن الذي أتت به رجلاه ، أتعترف بهذا مع ما أعلمه منك ، وتجيئني آمنا؟.

فقلت : إني جئتك مبشرا ومعزيا.

قال : مبشرا بماذا؟ ومعزيا بمن؟.

قلت : أما البشرى فبوفاة عيسى بن زيد.

وأما التعزية ففيه لأنه ابن عمك ولحمك ودمك.

فحول وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله ، ثم أقبل عليّ وقال : ومنذ كم مات؟ قلت : منذ شهرين.

قال : فلم لم تخبرني بوفاته إلّا الآن؟.

٣٥٦

قلت : منعني الحسن بن صالح ، وأعدت عليه بعض قوله. قال : وما فعل؟ قلت : مات ، ولولا ذلك ما وصل إليك الخبر ما دام حيا. فسجد سجدة أخرى وقال : الحمد لله الذي كفاني أمره ، فلقد كان أشدّ الناس عليّ ، ولعلّه لو عاش لأخرج عليّ غير عيسى ، سلني ما شئت فو الله لأغنينك ، ولا رددتك عن شيء تريده.

قلت : والله ما لي حاجة ، ولا أسألك شيئا إلّا حاجة واحدة.

قال : وما هي؟ قلت : ولد عيسى بن زيد ، والله لو كنت أملك ما أعولهم به ما سألتك في أمرهم ولا جئتك بهم ، ولكنهم أطفال يموتون جوعا وضرّا ، وهم ضائعون ، وما لهم شيء يرجعون إليه ، إنما كان أبوهم يستقي الماء ويعولهم ، وليس لهم الآن من يكفلهم غيري ، وأنا عاجز عن ذلك وهم عندي في ضنك ، وأنت أولى الناس بصيانتهم ، وأحق بحمل ثقلهم ، فهم لحمك ودمك ، وأيتامك وأهلك.

قال : فبكى حتى جرت دموعه ، ثم قال : إذا يكونون والله عندي بمنزلة ولدي ، لا أوثرهم عليهم بشيء ، فأحسن الله يا هذا جزاءك عني وعنهم ، فلقد قضيت حق أبيهم وحقوقهم ، وخففت عني ثقلا ، وأهديت إليّ سرورا عظيما.

قلت : ولهم أمان الله ورسوله وأمانك ، وذمتك وذمة آبائك في أنفسهم وأهليهم وأصحاب أبيهم أن لا تتبع أحدا منهم بتبعة ولا تطلبه؟.

قال : ذلك لك لوهم من أمان الله وأماني ، وذمتي وذمة آبائي ، فاشترط ما شئت ، فاشترطت عليه واستوثقت حتى لم يبق في نفسي شيء.

ثم قال : يا حبيبي ، وأي ذنب لهؤلاء وهم أطفال صغار ، والله لو كان أبوهم بموضعهم حتى يأتيني أو أظفر به ما كان له عندي إلّا ما يحب ، فكيف بهؤلاء ، إذهب يا هذا أحسن الله جزاءك فجئني بهم ، وأسألك بحقي أن تقبل مني صلة تستعين بها على معاشك.

قلت : أما هذا فلا ، فإنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم.

وخرجت فجئته بهم ، فضمهم إليه وأمر لهم بكسوة ومنزل وجارية

٣٥٧

تحضنهم ، ومماليك يخدمونهم ، وأفرد لهم في قصره حجرة.

وكنت أتعهدهم فأعرف أخبارهم. فلم يزالوا في دار الخلافة إلى أن قتل محمد الأمين وانتصر أمر دار الخلافة ، وخرج من كان فيها ، فخرج أحمد بن عيسى فتوارى ، وكان أخوه زيد مرض قبل ذلك ومات.

حدّثني أحمد بن عبيد الله بن عمّار بهذا الخبر على خلاف هذه الحكاية ، قال : حدّثني هاشم بن أحمد البغوي ، قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن إسماعيل ، قال : حدّثني إبراهيم بن رياح ، قال : حدّثني الفضل بن حماد الكوفي ، وكان من أصحاب الحسن بن صالح بن حي :

أن عيسى بن زيد صار إلى الحسن بن صالح فتوارى عنده ، فلم يزل على ذلك حتى مات في أيّام المهدي ، فقال الحسن لأصحابه : لا يعلم بموته أحد فيبلغ السلطان فيسره ذلك ، ولكن دعوه بخوفه ووجله منه وأسفه عليه حتى يموت ، ولا تسروه بوفاته فيأمن مكروهه.

فلم يزل ذلك مكتوما حتى مات الحسن بن صالح رحمه الله ، فصار إلى المهدي رجل يقال له ابن علّاق الصيرفي ، وكان اسمه قد وقع إليه وبلغه أنه من أصحاب عيسى ، فلما وقف ببابه واستأذن له الحاجب أمر بإدخاله إليه ، فأدخل فسلم على المهدي بالخلافة وقال : أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك عيسى.

فقال له : ويحك ما تقول؟.

قال : الحق والله أقول. فقال : ومتى مات؟ فعرفه فقال : ما منعك أن تعرفني قبل هذا؟ قال : منعني الحسن بن صالح. وصدقه عن قوله فيه فقال له : لئن كنت صادقا لأحسنن صلتك ، ولأوطئن الرجال عقبك.

قال : ليس لهذا قصدت ، إنما علمت أنك في شك من أمره ، ولم آمن أن يتشوف به الناس عندك ، فأحببت أن تقف على خبره فتستريح وتريح.

قال : أما إنك جئتني ببشارتين يجل خطرهما موت عيسى والحسن بن صالح ، وما أدّى بأيّهما أنا أشدّ فرحا ، فسلني حاجتك.

٣٥٨

قال : ولده تحفظهم ، فو الله ما لهم من قليل ولا كثير. وكان الحسن بن عيسى بن زيد قد مات في حياة أبيه ، وكان الحسين متزوجا ببنت الحسن بن صالح ، فأتاه أحمد وزيد ابنا عيسى فنظر إليهما وأجرى لهما أرزاقا ، ومضيا بإذنه إلى المدينة ، فمات زيد بها ، وبقي أحمد إلى خلافة الرشيد وصدرا من خلافته وهو ظاهر ، ثم بلغ الرشيد بعد ذلك أنه يتنسك ويطلب الحديث وتجتمع إليه الزيدية ، فبعث فأخذه وحبسه مدة إلى أن أمكنه التخلّص من الحبس ، وخبره في ذلك يذكر مشروحا إذا انتهى الكتاب إلى أخباره ، إن شاء الله تعالى.

حدثني عمي الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه. قال : حدثنا محمد بن أبي العتاهية ، قال : حدثني أبي (١) :

لما امتنعت من قول الشعر وتركته أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم ، فأخرجت من بين يديه إلى الحبس ، فلما أدخلته دهشت وذهل عقلي ، ورأيت منظرا هالني ، فرميت بطرفي أطلب موضعا آوي إليه أو رجلا آنس بمجالسته ، فإذا أنا بكهل حسن السمت ، نظيف الثوب ، يبين عليه سيماء الخير فقصدته فجلست إليه من غير أن أسلم عليه أو أسأله عن شيء من أمره ؛ لما أنا فيه من الجزع والحيرة ، فمكثت كذلك مليا وأنا مطرق مفكر في حالي ، فأنشد هذا الرجل هذين البيتين. فقال :

تعوّدت مسّ الضرّ حتى ألفته

وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر

وصيّرني يأسي من الناس واثقا (٢)

بحسن صنيع الله من حيث لا أدري

فاستحسنت البيتين وتبركت بهما وثاب إلى عقلي ، فأقبلت على الرجل فقلت له : تفضل أعزّك الله بإعادة هذين البيتين.

فقال لي : ويحك يا إسماعيل ، ولم يكنني ، ما أسوأ أدبك ، وأقل عقلك ومروءتك ، دخلت إليّ ولم تسلم عليّ بتسليم المسلم على المسلم ، ولا توجعت لي توجع المبتلي للمبتلى ، ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم حتى إذا سمعت من

__________________

(١) الأغاني ٣ / ١٧٢.

(٢) في الأغاني «راجيا لحسن».

٣٥٩

ببيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيرا ولا أدبا (١) ولا جعل لك معاشا غيره ، لم تتذكر ما سلف منك فتتلافاه ، ولا اعتذرت مما قدمته وفرّطت فيه من الحق حتى استنشدتني مبتديا ، كأن بيننا أنسا قديما ، ومعرفة شافية ، وصحبة تبسط المنقبض!

فقلت له : اعذرني متفضلا ؛ فإن دون ما أنا فيه يدهش.

قال : وفي أي شيء أنت ، إنما تركت قول الشعر الذي كان جاهك عندهم وسبيلك إليهم ، فحبسوك حتى تقوله ، وأنت لا بد من أن تقوله ، فتطلق ، وأنا يدعى بي الساعة فأطالب بإحضار عيسى بن زيد بن رسول الله (ص) ، فإن دللت عليه فقتل لقيت الله بدمه ، وكان رسول الله (ص) خصمي فيه ، وإلّا قتلت ، فأنا أولى بالحيرة منك ، وأنت ترى احتسابي وصبري.

فقلت : يكفيك الله وأطرقت خجلا منه (٢).

فقال لي : لا أجمع عليك التوبيخ والمنع ، اسمع البيتين واحفظهما. فأعادهما عليّ مرارا حتى حفظتهما ، ثم دعى به وبي فلما قمنا قلت : من أنت أعزك الله؟.

قال : أنا حاضر (٣) صاحب عيسى بن زيد. فأدخلنا على المهدي ، فلما وقف بين يديه قال له : أين عيسى بن زيد؟.

__________________

(١) في ط وق «لولا أدبا» وفي الأغاني «من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتهما ، ولم تقدم قبل مسئلتك عنهما عذرا لنفسك في طلبهما ، فقلت له إلخ».

(٢) في الأغاني «فقلت له أنت والله أولى ، سلمك الله وكفاك ، ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك ، فقال : فلا نبخل عليك إذا ...».

(٣) في الأغاني «أنا خالص داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد ، ولم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرة ، ولبس ثوبا نظيفا كان عنده ، ودخل الحرس والجند معهم الشمع فأخرجونا جميعا ، وقدم قبلي إلى الرشيد فسأله عن أحمد بن عيسى. فقال : لا تسألني عنه واصنع ما أنت صانع ، فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه ، وأمر بضرب عنقه ، فضرب. ثم قال لي : أظنك قد ارتعت يا اسماعيل ، فقلت : دون ما رأيته تسيل منه النفوس. فقال ردوه إلى محبسه ، فرددت ، وانتحلت هذين البيت وزدت فيهما :

إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما

تكرهت منه طال عتبي على الدهر

٣٦٠