مقاتل الطالبيّين

أبي الفرج الاصفهاني

مقاتل الطالبيّين

المؤلف:

أبي الفرج الاصفهاني


المحقق: السيد أحمد صقر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٤

فقيده وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله ، فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين ثم أطلق ، وأقام بها إلى أن مات ، وكان سبب منيته أنه جدر فمات في الجدري. قال : وهو الذي يقول في الحبس (١) :

طرب الفؤاد وعاودت أحزانه

وتشعبت شعبا به أشجانه

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى

برق تألّق موهنا لمعانه (٢)

يبدو كحاشية الرداء ودونه

صعب الذّرا متمنع أركانه (٣)

فدنا لينظر أين لاح فلم يطق

نظرا إليه وردّه سجانه (٤)

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه

والماء ما سحت به أجفانه (٥)

ثم استعاذ من القبيح وردّه

نحو العزاء عن الصبا إيقانه (٦)

وبدا له أن الذي قد ناله

ما كان قدّره له ديّانه

حتى استقر ضميره وكأنما

هتك العلائق عامل وسنانه

يا قلب لا يذهب بحلمك باخل

بالنّيل باذل تافه منانه (٧)

يعد القضاء وليس ينجز موعدا

ويكون قبل قضائه ليّانه

خدل الشّوى حسن القوام مخصر

عذب لماه طيّب أردانه (٨)

واقنع بما قسم الإله فأمره

ما لا يزال عن الفتى إتيانه (٩)

والبؤس فإن لا يدوم كما مضى

عصر النعيم وزال عنك أوانه (١٠)

فحدثني عمي الحسين بن محمد ، قال : حدثني أحمد بن أبي طاهر ، قال (١١) كنت مع أبي عبد الله محمد بن علي بن صالح بن علي الحسني في منزل بعض أصحابنا ، فأقام عندنا حتى انتصف الليل ، وأنا أظنه يبيت بمكانه ، فإذا هو قد قام فتقلّد سيفه وخرج ، فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت ، وسألته المقام والمبيت ، وأعلمته خوفي عليه ، فالتفت إليّ مبتسما وقال :

__________________

(١) نوادر القالي ١٨٣.

(٢) في نوادر القالي «تتابع موهنا».

(٣) في ط وق «كحاسبة الردى».

(٤) في ط وق «فبدا لينظر».

(٥) في ط وق «ما سمحت».

(٦) في ط وق «ثم استعاد ... نحو العراء».

(٧) في نوادر القالي «يا نفس لا يذهب بقلبك باخل بالود».

(٨) في الأغاني «عذب لثاه».

(٩) في نوادر القالي «ما لا يرد عن الغنى».

(١٠) في النسخ «عنك لبانه».

(١١) الأغاني ١٥ / ٨٩.

٤٨١

إذا ما اشتملت السيف والليل لم أهل

بشيء ولم تقرع فؤادي القوارع (١)

أخبرني عمي الحسين بن محمد ، والحسين بن القاسم ، قالا : حدثنا أحمد بن أبي طاهر ، قال (٢) :

مرّ محمد بن صالح بقبر لبعض بني المتوكل ، فرأى الجواري يلطمن عنده فأنشدني لنفسه :

رأيت بسامرا صبيحة جمعة

عيونا يروق الناظرين فتورها

تزور العظام الباليات لدى الثرى

تجاوز عن تلك العظام غفورها

فلولا قضاء الله أن تعمر الثرى

إلى أن ينادي يوم ينفخ صورها

لقلت عساها أن تعيش وأنها

ستنشر من جرّا عيون تزورها

أسيلات مجرى الدمع امّا تهللت

شؤون الأماقي ثم سحّ مطيرها (٣)

بوبل كأتوام الجمان تفيضه

على نحرها أنفاسها وزفيرها (٤)

فيا رحمة ما قد رحمت بواكيا

ثقالا تواليها لطفا خصورها (٥)

* * *

حدثني الحسن بن علي (٦) الخفاف ، قال : حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه ، قال:

حدثني إبراهيم بن المدبر (٧) ، قال :

جاءني محمد بن صالح الحسيني وسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحربي (٨) أو قال أخته ، شك ابن مهرويه ، ففعلت ذلك ، وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه ، فأبى وقال لي : لا أكذبك والله ، إني لا أردّه لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره ، ولكني أخاف المتوكل وولده بعده على نعمتي ونفسي ، فرجعت إليه فأخبرته بذلك ، فأضرب عنه مدة ، ثم عاودني بعد

__________________

(١) في ط وق «ولم يفزع فؤادي الأجازع».

(٢) الأغاني ١٥ / ٨٠.

(٣) في ط وق «ثم سبح مطيرها».

(٤) في ط وق «فويل كأبوام».

(٥) في ط وق «ثقالا بواكيها».

(٦) في ط وق «الحسن بن علي».

(٧) ترجمته في الأغاني ١٩ / ١١٤ ـ ١٢٧».

(٨) في الخطية «الحرمي» وفي الأغاني «الحري».

٤٨٢

ذلك وسألني معاودته فعاودته ورفقت به حتى أجاب وزوّجه ، فأنشدني محمد بعد ذلك لنفسه (١) :

خطبت إلى عيسى بن موسى فردّني

فلله وإلى مرّة وعتيقها

لقد ردّني عيسى ويعلم أنني

سليل بنات المصطفى وعريقها

وأنّ لنا بعد الولادة بيعة

بنى الإله صنوها وشقيقها (٢)

فلما أبى بخلا بها وتمنعا

وصيرني ذا خلّة لا أطيقها (٣)

تداركني المرء الذي لم يزل له

من المكرمات رحبها وطريقها

سميّ خليل الله وابن وليه

وحمال أعباء العلا وطريقها (٤)

تزوجها والمن عندي لغيره

فيبايعه وفتني الربح سوقها (٥)

ويا نعمة لابن المدبر عندنا

يجدّ على كرّ الزمان أنيقها

قال ابن مهرويه : قال ابن المدبر : وكان اسم المرأة حمدونة ، فلما نقلت إليه ، وكانت امرأة جميلة عاقلة كاملة من النساء ، أنشدني لنفسه فيها قوله :

لعمر حمدونة إني بها

لمغرم القلب طويل السقام

مجاوز للقدر في حبها

مباين فيها لأهل الملام

مطرح للعذل ماض على

مخافة النفس وهول المقام (٦)

مشايعي قلب يعاف الخنا

وصارم يقطع صمّ العظام

جشمني ذلك وجدي بها

وفضلها بين النساء الوسام (٧)

ممكورة الساق ردينية

مع الشوي الخدل وحسن القوام

صامتة الحجل خفوق الحشا

مائرة الساق ثقال القيام

ساجية الطرف نؤوم الضحى

منيرة الوجه كبرق الغمام

__________________

(١) الأغاني ١٥ / ٩٠.

(٢) في الأغاني «نبعة».

(٣) في الأغاني «لا يطيقها».

(٤) كذا في الأغاني ، وفي الخطية «ومطيقها» وفي ط وق «وتطيقها».

(٥) في الخطية «فزوجني» وفي ط وق «فيبايعه أفشى وأربح».

(٦) في ط وق «وهول الظلام» وفي الخطية «وطول الظلام».

(٧) في ط وق «حسبي من ذلك ... الوشام».

٤٨٣

زيّنها الله وما شأنها

وأعطيت منيتها من تمام

تلك التي لولا غرامي بها

كنت بسامرا قليل المقام

قال أبو الفرج :

وقد حدثني بخبره على أتم من هذه الحكاية عمي الحسين بن محمد قال : حدثنا أبو جعفر بن الدهقانة النديم ، قال : حدثني إبراهيم بن المدبر ، قال (١) :

جاءني يوما محمد بن صالح الحسني بعد أن أطلق من الحبس فقال لي : إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئا لا يصلح أن يسمعه أحد غيرنا ، فقلت : افعل. فصرفت من كان بحضرتي وخلوت معه وأمرت برد دابته ، فلما اطمأن وأكلنا واضطجعنا قال لي : أعلمك أني خرجت في سنة كذا وكذا ومعي أصحابي على القافلة الفلانية ، فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة ، فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال ، إذ طلعت على امرأة من عمارية ما رأيت قط أحسن منها وجها ، ولا أحلى منطقا ، فقالت لي: يا فتى ، إن رأيت أن تدعو الشريف المتولي أمر الجيش فإن له عندي حاجة.

فقلت : قد رأيته وسمع كلامك.

فقالت لي : سألتك بالله وبحق رسوله أنت هو؟.

قلت : نعم والله وحق رسوله (ص) إني لهو.

فقالت : أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحربي ، ولأبي محل من سلطانه ، ولنا نعمة إن كنت سمعت بها فقد كفاك ما سمعت ، وإن كنت لم تسمع بها فاسأل عنها غيري ، وو الله لا استأثرت عليك بشيء أملكه ، ولك عليّ بذلك عهد الله جلّ وعز وميثاقه ، وما أسألك إلّا أن تصونني وتسترني ، وهذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالا ، وهذا حليّ [عليّ] من خمسمائة دينار فخذه وأضمن لك بعد أخذك إيّاه ما شئت على حكمك ، آخذه لك من تجار مكة والمدينة ، ومن أهل الموسم العراقيين ؛ فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه وادفع عني واحمني من أصحابك ومن عار يلحقني.

فوقع قولها في قلبي موقعا عظيما فقلت لها : قد وهب الله لك مالك وجاهك

__________________

(١) الأغاني ١٥ / ٩١.

٤٨٤

وحالك ، ووهبت لك القافلة بجميع ما فيها ، ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا إليّ ، فناديت فيهم إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها ، وجعلت لها ذمّة الله وذمة رسوله وذمتي ، فمن أخذ منها خيطا أو مخيطا أو عقالا فقد آذنته بحرب. فانصرفوا معي وانصرفت ، وسار أهل القافلة سالمين.

فلما أخذت وحبست ، بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان فقال لي : إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك ، وقد حظر عليّ أن يدخل [عليك] أحد ، إلّا أنهما قد أعطتاني دملج ذهب ، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك ، وقد أذنت لهما وهما في الدهليز ، فاخرج إليهما إن شئت.

فتنكرت من يجيئني في بلد غربة وفي حبس وحيث لا يعرفني أحد ، ثم تفكرت فقلت : لعلهما من ولد أبي أو من بعض نساء أهلي ، فخرجت إليهما وإذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لما رأت من تغيير خلقي وثقل حديدي ، فأقبلت عليها الأخرى فقالت : أهو هو؟ قالت : إي والله لهو هو ، ثم أقبلت عليّ فقالت : فداك أبي وأمي ، لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت ، ولكنت بذاك مني حقيقيا ، وو الله لا تركت المعاونة والسعي في خلاصك ، وكلّ حيلة ومال وشفاعة ، وهذه دنانير وطيب وثياب فاستعن بها على موضعك ، ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك حتى يفرج الله عنك. ثم أخرجت إليّ المرأة كسوة وطيبا ومائتي دينار ، وكان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف ، ويتصل برها عند السجان فلا يمتنع من كل ما أريد ، حتى منّ الله بخلاصي.

ثم راسلتها فخطبتها ، فقالت : أما من جهتي فأنا لك سامعة مطيعة ، والأمر إلى أبي ، فأتيته فخطبتها إليه ، فردني وقال : ما كنت لأحقق عليها ما شاع في الناس عنك من أمرها فقد صيرتنا فضيحة. فقمت من عنده منكسرا مستحيا وقلت في ذلك :

رموني وإياها بشنعاء هم بها

أحق أدال الله منهم فعجلا (١)

بأمر تركناه وربّ محمد

عيانا فإما عفة أو تجملا

فقلت له : إن عيسى صنيعة أخي (٢) ، وهو لي مطيع ، وأنا أكفيك أمره ، فلما

__________________

(١) في ط وق «وإيّاها بسعياهم بها ... أزال».

(٢) في ط وق «صنيعة أبي».

٤٨٥

كان من غد لقيت عيسى في منزله ثم قلت له : قد جئتك في حاجة لي.

فقال : هي مقضية ولو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني أن أجيئك فجئتك فكان أسرّ إليّ.

فقلت له : قد جئتك خاطبا إليك ابنتك.

فقال : هي لك أمة ، وأنا لك عبد ، وقد أجبتك.

فقلت : إني خطبتها على من هو خير مني أبا وأما وأشرف لك صهرا ومتصلا محمد بن صالح العلوي.

فقال لي : يا سيدي ، هذا رجل قد لحقنا بسببه ظنّة ، وقيلت فينا أقوال.

فقلت له : أفليست باطلة؟.

فقال : بلى والحمد لله. فقلت : فكأنها لم تقل ، وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع ، ولم أزل أرفق به حتى أجاب. وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته وما برح حتى زوجه ، وسقت الصداق عنه من مالي.

* * *

حدثني أحمد بن جعفر البرمكي ، قال (١) : حدثنا المبرد ، قال : لم يزد محمد بن صالح محبوسا حتى صنع بنان لحنا في قوله :

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى

برق تألّق موهنا لمعانه

فاستحسن المتوكل اللحن والشعر وسأل عن قائله ، فأخبر عنه وكلم في أمره ، وأحسن الجماعة رفده بالذكر الجميل ، وأنشد الفتح قصيدة يمدح بها المتوكل التي أولها :

ألف التقى ووفى بنذر الناذر

وأبى الوقوف على المحل الداثر

وتكفل الفتح بأمره فأمر بإطلاقه ، وأمر الفتح بأخذه إليه وأن يكون عنده حتى يقيم الكفلاء بنفسه ، وأن يكون مقامه بسر من رأى ، ولا يخرج إلى الحجاز فأطلقه الفتح وتكفل بأمره ، وخفف عنه في أمر الكفالة ، فلم يزل في سرّمن رأى حتى مات.

* * *

__________________

(١) الأغاني ١٥ / ٩٣.

٤٨٦

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن خلف وكيع (١) قالا : حدثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب ، قال : حدثني أبو عبد الله الجهمي (٢) قال :

دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل ، فأنشدني لنفسه يهجو أبا الساج :

ألم يحزنك يا ذلفاء أني

سكنت مساكن الأموات حيّا

وأن حمائلي ونجاد سيفي

علون مجدعا أشرا سنيا (٣)

فقصرهن لما طلن حتى اس

توين عليه لا أمسى سويا

أما والراقصات بذات عرق

تؤم البيت تحسبها قسيا

لو امكنني غداتئذ جلاد

لألفوني به سمحا سخيا (٤)

* * *

قال ابن عمّار (٥) : وأنشدني عبيد الله بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح العلوي الحسني :

نظرت ودوني ماء دجلة موهنا

بمطروفة الإنسان محسورة جدا

لتؤنس لي نارا بليل أوقدت

وتالله ما كلفتها منظرا قصدا (٦)

فلو صدقت عيني لقلت كذبتني

أرى النار قد أمست تضيء لنا هدأ (٧)

تضيء لنا منها جبينا ومحجرا

ومبتسما عذبا وذا غدر جعدا

قال : فأما القصيدة التي مدح بها المتوكل فهي قوله (٨) :

ألف التقى ووفى بنذر الناذر

وأبى الوقوف على المحل الداثر

ولقد تهيج له الديار صبابة

حينا ويكلف بالخليط السائر

فرأى الهداية أن أناب وإنه

قصر المديح على الإمام العاشر

__________________

(١) في ط وق «ووكيع ابن خالد».

(٢) في ط وق «الجهني».

(٣) في الأغاني والخطية «أشر وسنيا».

(٤) في ط وق «أمكنني غدا بيد جلاد ـ لألقوني».

(٥) الأغاني ١٥ / ٩٥.

(٦) في الأغاني «بليل توقدت» وفي الخطية «ما خلفتها منظرا».

(٧) في الأغاني «فلو لا أنها منها لقلت كأنني».

(٨) الأغاني ١٥ / ٩٤.

٤٨٧

يا ابن الخلائف والذين بهديم

ظهر الوفاء ، وبان غدر الغادر

وابن الذين حووا تراث محمد

دون البرية بالنصيب الوافر (١)

فوصلت أسباب الخلافة بالهدى

إذ نلتها وأنمت ليل الساهر (٢)

أحييت سنة من مضى فتجدّدت

وأبنت بدعة ذي الضلال الخاسر (٣)

فافخر بنفسك أو بجدك معلنا

أو دع فقد جاوزت فخر الفاخر (٤)

إني دعوتك فاستجبت لدعوتي

والموت مني نصب عين الناظر (٥)

فانتشتني من قعر موردة الرّدى

أمنا ولم تسمع مقال الزّاجر (٦)

وفككت أسري والبلاء موكل

وجبرت كسرا ما له من جابر

وعطفت بالرحم التي ترحو بها

قرب المحل من المليك القادر

وأنا أعوذ بفضل عفوك أن أرى

غرضا ببابك للملم الفاقر (٧)

أو أن أضيع بعد ما أنقذتني

من ريب مهلكة وجد عاثر

فلقد مننت فكنت غير مكدر

ولقد نهضت بها نهوض الشاكر

* * *

وكان محمد بن صالح صديقا لسعيد بن حميد ، وكان يقارضه الشعر. وله في هذا الحبس أشعار كثيرة يطول ذكرها.

وله أيضا في إبراهيم بن المدبر وأخيه مدائح كثيرة.

وفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان هجاء كثير لأنه كان لشدة انحرافه عن آل أبي طالب يغري المتوكل به ويحذره من إطلاقه ، فهجاه هجاء كثيرا ، منه قوله يهجوه في قصيدة مدح فيها ابن المدبر (٨) :

__________________

(١) بعد هذا البيت في الأغاني :

نطق الكتاب لكم بذاك مصدقا

ومضت به سنن النبي الطاهر.

(٢) في الأغاني «عين الساهر».

(٣) في ط وق «وأمت».

(٤) بعد هذا البيت في الأغاني :

ما للمكارم غيركم من أول

بعد النبي وما لها من آخر

(٥) في الأغاني «والموت مني قيد شبر الشابر».

(٦) في ط وق «فانشتني ... الردى منا».

(٧) في ط وق «للمسلم الغافر».

(٨) الأغاني ١٥ / ٩٣.

٤٨٨

وما في آل خاقان اعتصام

إذا ما عمّم الخطب الكبير

لئام الناس إثراء وفقرا

وأعجزهم إذا حمى القتير

وقوم لا يزوجهم كريم

ولا تسنى لنسوتهم مهور (١)

وفيها يقول يمدح ابن المدبر (٢) :

أتخبر عنهم الدمن الدثور؟

وقد يبنى إذا سئل الخبير

وكيف تبين الأنباء دار

تعاقبها الشمائل والدبور (٣)

ويقول فيها في مدحه ابن المدبر :

فهلا في الذي أولاك عرفا

تسدّي من مقالك ما يسير (٤)

ثناء غير مختلق ومدحا

مع الركبان ينجد أو يغور (٥)

أخ آساك في كلب الليالي

وقد خذل الأقارب والنصير

حفاظا حين أسلمك الموالي

وضن بنفسه الرجل الصبور

فإن تشكر فقد أولى جميلا

وإن تكفر فإنك للكفور (٦).

وقال سعيد بن حميد يرثي محمد بن صالح ، وكانت وفاته في أيام المنتصر (٧) :

بأي يد أسطو على الدهر بعد ما

أبان يدي عضب الذنابين قاضب (٨)

وهاض جناحي حادث جلّ خطبه

وسدّدت عن الصبر الجميل المذاهب

ومن عادة الأيام أنّ صروفها

إذا سرّ منها جانب ساء جانب

لعمري لقد غال التجلد أننا

فقدناك فقد الغيث والعام جادب (٩)

فما أعرف الأيام إلّا ذميمة

ولا الدهر إلّا وهو بالثار طالب

ولا لي من الإخوان إلّا مكاشر

فوجه له راض ووجه مغاضب

__________________

(١) في الأغاني «لئام لا يزوجهم».

(٢) الأغاني ١٥ / ٩٢.

(٣) في ط وق «وكيف تبين للأنباء دار تعافتها».

(٤) في الخطية «فأنشدني» وفي ط وق «وسدى».

(٥) في ط وق «غير مختلف».

(٦) في ط وق «وإن تكفف».

(٧) الأغاني ١٥ / ٩٣.

(٨) في ط وق «عضب الدنانير».

(٩) في ط وق

«... عال التجلد آتيا

فقد أتعبت والعلم والعام جادب».

٤٨٩

فقدت فتى قد كان للأرض زينة

كما زيّنت وجه السماء الكواكب

لعمري لئن كان الردى بك فاتني

وكل امرئ يوما إلى الله ذاهب (١)

لقد أخذت مني النوائب حكمها

فما تركت حقّا عليّ النوائب

ولا تركتني أرهب الدهر بعده

لقد كلّ عني نابه والمخالب

سقى جدثا أمسى الكريم ابن صالح

يحل به دان من المزن ساكب

إذا بشّر الروّاد بالغيث برقه

مرته الصّبا واستجلبته الجنائب (٢)

فأبصر نور الأرض تأثير صوبه

بصوب زهت منه الربا والمذانب (٣)

هذا آخر خبر محمد بن صالح رحمة الله عليه ورضوانه.

٦٠ ـ محمد بن جعفر

قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني :

لما ولي المتوكل تفرق آل أبي طالب في النواحي ، فغلب الحسن بن زيد بن محمد بن اسماعيل بن زيد على طبرستان ونواحي الديلم.

وخرج بالري :

محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين يدعو إلى الحسن بن زيد فأخذه عبد الله بن طاهر فحبسه بنيسابور ، فلم يزل في حبسه حتى هلك. حدثني بذلك أحمد بن سعيد ، قال : حدثني يحيى بن الحسن.

وأم محمد بن جعفر رقية بنت عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي :

وكان ممن خرج معه عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد [بن علي](٤) بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

ثم خرج من بعده بالري أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، يدعو إلى الحسين بن زيد.

وخرج الكوكبي ، وهو الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن

__________________

(١) في ط وق «الردى فاتني به».

(٢) في ط وق «والحتائب».

(٣) في الأغاني «فغادر باقي الدهر تأثير صوبه» وفي ط وق «الربى والمذاهب».

(٤) الزيادة من الخطية.

٤٩٠

عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

ولهؤلاء أخبار قد ذكرناها في الكتاب الكبير لم يحمل هذا الكتاب إعادتها لطولها ، ولأنا شرطنا ذكر خبر من قتل منهم دون من خرج فلم يقتل.

٦١ ـ القاسم بن عبد الله بن الحسين

والقاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين

ابن علي بن أبي طالب عليه السلام

وأمه أم ولد.

كان عمر بن الفرج الرخّجيّ حمله إلى سرّمن رأى ، فأمر بلبس السّواد فامتنع ، فلم يزالوا به حتى لبس شيئا يشبه السّواد (١) فرضي منه [بذلك].

وكان القاسم رجلا فاضلا.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال حدثني يحيى بن الحسن ، قال : سمعت أبا محمد اسماعيل بن محمد يقول :

ما رأيت الطالبيين انقادوا لرياسة أحد كانقيادهم للقاسم بن عبد الله.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثني محمد بن منصور ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، قال :

دخلت أنا ، والقاسم بن عبد الله نغسل أبا الفوارس عبد الله بن إبراهيم بن الحسين وقد صلينا الظهر ، فقال لي القاسم : هل نصلي العصر فإنا نخشى أن نبطئ في غسل الرجل ، فصليت معه ، فلما فرغنا من غسله خرجت أقيس الشمس فإذا ذلك أول وقت العصر ، فأعدت الصلاة ، فأتاني آت في النوم ، فقال : أعدت الصلاة وقد صليت خلف القاسم؟ فقلت : صلّيت في غير الوقت. قال : قلب القاسم أهدى من قلبك.

وكان اعتل فيما أخبرني أحمد بن سعيد ، عن يحيى بن الحسن ، عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين ، قال :

اعتل مولاي القاسم بن عبد الله ، فوجه إليه بطبيب يسأله عن خبره ، وجهه

__________________

(١) في الخطية «حتى لبس شاشة سوداء».

٤٩١

إليه السلطان ، فجس يده فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علة ، وجعل وجعها يزيد عليه حتى قتله قال : سمعت أهله يقولون : إنه دس إليه السم مع الطبيب.

٦٢ ـ أحمد بن عيسى بن زيد

قال أبو الفرج :

وممن توارى فمات في حال تواريه في تلك الأيام.

أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ، عليه السلام.

ويكنى أبا عبد الله.

وأمه عاتكة بنت الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث عبد المطلب.

وكان فاضلا عالما مقدما في أهله ، معروفا فضله.

وقد كتب الحديث ، وعمرو كتب عنه ، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة ، وقد روى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.

وكان ابتداء تواريه في غير هذه الأيام ، إلّا أنه توفي بعد تواريه بمدة طويلة في أيام المتوكل ، فذكرنا خبره في أيامه.

وقد ذكرنا بعض خبره في مجيء ابن علاق الصيرفي وصباح الزعفراني إلى المهدي بعد موت أبيه وإجرائه عليه الرزق ورده إلى الحجاز إلى أيام هارون الرشيد.

فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال : حدثني علي بن محمد النوفلي ، عن أبيه ، قال : ونسخت من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات ، قال : وحدثني هاشم بن أحمد البغوي ، عن جعفر بن محمد بن إسماعيل :

أنه وشى إلى هارون بأحمد بن عيسى ، والقاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين وأمه أم ولد ، فأمر بإشخاصهما إليه من الحجاز ، فلما وصلا إليه أمر بحبسهما ، فحبسا في سعة عند الفضل بن الربيع (١) فكانا عنده. قال : فاحتال

__________________

(١) في الخطية «عند الربيع بن عبد الله».

٤٩٢

بعض الزيدية فدس إليهما فالوذجا في جامات أحدهما مبنّج ، فأطعما المبنّج الموكلين ، فلما علما أن ذلك قد بلغ فيهم خرج.

هكذا قال النوفلي.

وقال هاشم بن أحمد ، عن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن رياح : أن أحمد بن عيسى كان قد خرج يوما لبعض حاجته ، فرأى الموكلين به نياما فأخذ كوزا فشرب فيه ، ثم رمى به من يده ليعلم أنهم نيام أم متيقظون ، فلم يتحرك منهم أحد ، فرجع إلى القاسم فأخبره ، فقال له : ويحك ، لا تحدث نفسك بالخروج فأنا في دعة وعافية مما فيه أهل الحبوس.

فقال له : لست والله براجع ، فإن شئت أن تخرج معي فافعل ، فإني سأستظهر لك بشيء أفعله تطيب نفسك به ، فاخرج فاتبعني فإنك إن لم تفعل لم تبق بعدي سليما.

ثم خرج أحمد بن عيسى فأخذ جرة فشالها ليشرب منها ، ثم رمى بها من قامته فما تحركوا ، وخرج لوجهه.

وتبعه القاسم ، فلما صار خارج الدار خالف كل واحد منهما طريق صاحبه ، وافترقا واتعدا لموضع يلتقيان فيه.

فلقي أحمد بن عيسى مولى للفضل بن الربيع ، فدنا يتعرفه (١) ، فعارضه في الطريق. فصاح به : تنح يا ماص كذا وكذا (٢) ، فخافه فتنحى وظن أنه أطلق ، وجاء إلى الدار التي كان فيها محبوسا فنظر إلى الحرس وهم نيام فأنبهم وسألهم عن الخبر ، فأيقنوا بالشر ، ومضوا في طلب الرجلين ، ففاتاهم فلم يقدروا عليهما.

ومضى أحمد بن عيسى حتى أتى منزل محمد بن إبراهيم الذي يقال له : إبراهيم الإمام ، فقال لغلامه : قل له أحمد بن عيسى بن زيد. فدخل الغلام فأخبره ، [وعرف مولاه الخبر] فقال له : ويحك هل رآه أحد؟ قال : لا ، قال : أدخله ، فدخل فسلّم عليه وعرّفه الخبر وقال له : لقد رأيتك موضعا لدمي ، فاتق الله فيّ. فأدخله منزله وستره.

ولم يزل مدة ببغداد مستترا ، وقد بلغ الرشيد خبره ، فوضع الرصد في كل

__________________

(١) في ط وق «مديني يعرفه».

(٢) في ط وق «فصاح به يا أحمد تنح من كذا وكذا».

٤٩٣

موضع ، وأمر بتفتيش كل دار يتهم صاحبها بالتشيع وطلب أحمد فيها ، فلم يزل ذلك [دأبه] حتى أمكنه التخلص ، فمضى إلى البصرة فأقام بها.

وقد اختلف أيضا في تخلصه كيف كان ، فلم نذكره كراهة الإطالة ، إلّا أن أقرب ذلك إلى الحق ما ذكره النوفلي من أن محمد بن إبراهيم كان له ابن منهوم بالصيد ، فدفع إليه أحمد بن عيسى ، وأقسم عليه أن يخرجه في جملة غلمانه متلثما متنكرا ، ولا يسأله عن شيء حتى يوافي به المدائن ، ويخرجه عنها إلى نحو فرسخ من خارجها ، وينتظر حتى يمرّ به زورق منحدر فيقعده فيه ويحدره إلى البصرة ، ففعل ذلك ، ونجا أحمد فمضى إلى البصرة.

* * *

رجع الحديث إلى حكاية هارون بن محمد :

قال :

ثم إن الرشيد دعا برجل من أصحابه يقال له : ابن الكردية ، واسمه يحيى بن خالد فقال له : قد وليتك الضياع بالكوفة ، فامض إليها وتول العمل بها ، وأظهر أنك تتشيع ، وفرّق الأموال في الشيعة حتى تقف على خبر أحمد بن عيسى.

فمضى ابن الكردية هذا ففعل ما أمر به ، وجعل يفيض الأموال في الشيعة ويفرقها عليهم ولا يسألهم عن شيء حتى ذكروا له رجلا منهم يقال له : أبو غسان الخزاعي ، فأطنبوا في وصفه ، وأعرض عنهم ولم يكشفهم عنه إلى أن [ذكروه مرة أخرى فقال : وما فعل هذا الرجل؟ إنا إليه لمشتاقون](١) ، قالوا : هو مع أحمد بن عيسى بالبصرة ، فكتب بذلك إلى الرشيد ، فأمره بالرجوع إلى بغداد ، ثم ولّاه البصرة مثل ما كان ولّاه بالكوفة ، فمضى إليها.

وكان [مع] أحمد بن عيسى بن زيد رجل من أصحاب يحيى بن عبد الله يقال له : حاضر ، وكان ينقله من موضع إلى موضع ، حتى أنزله في دار يقال لها : دار عاقب في العتيك ، وكان لا يظهره لأحد ، ويقول : إنما نزل في تلك الناحية هربا من دين عليه. قال : فحدثني يزيد بن عيينة أنه كان يخرج إليهم فيقول لهم : [عليّ دين] ويسألهم. قال : فيقولون له : لو طلبك السلطان لم يقدر عليك فكيف لمن له عليك دين.

__________________

(١) الزيادة من الخطية.

٤٩٤

قال : وجاء ابن الكردية هذا إلى البصرة ففعل ما فعله بالكوفة ، وجعل يفرق الأموال في الشيعة حتى ذكروا له حاضرا وأحمد بن عيسى ، فتغافل عنهم ، ثم أعادوا ذكره بعد ذلك فتعرض لهم بذكره ولم يستقصه ، ثم عاودوه فقال لهم : إني أحب أن ألقى هذا الرجل ، فقالوا له : لا سبيل إلى ذلك. قال : فاحملوا إليه مالا يستعين به ، وأعلموه أني لو قدرت على أن أعطيه جميع مال السلطان لفعلت ، فأخذوا المال وحملوه إلى حاضر فقبله ، وجعل ابن الكردية يتابع الأموال إلى حاضر بعضها ببعض حتى أنسوا به واطمأنوا إليه ، فقال لهم يوما : ألا يجيئنا هذا الشيخ؟ فقالوا له : لا يمكن ذلك. قال : فليأذن لنا نأته نحن. قالوا : نسأله ذلك ، فأتوه وسألوه إيّاه فقال : لا والله لا آذن له أبدا ، ويحكم ألا تنتهون؟ هذا والله محتال : فقالوا له : لا والله ما هو بمحتال. فلم يزالوا به حتى أجابهم إلى أن تلقاه ، فلما كان الليل قال لأحمد بن عيسى : قم فاخرج إلى موضع آخر ، فإن ابتليت سلمت أنت ، فخرج أحمد ، وبعث ابن الكردية إلى أحمد بن الحرث الهلالي (١) ، وكان أمير البصرة يأمره أن يبعث بالرجال إليه ليهجموا عليه حيث يدخل ، ومضى هو حتى أتى الدار ، وبعث بغلامه حتى جاء معه بالرجال فهجموا على حاضر ، فقال لابن الكردية : ويلك غررتني بالله. قال : ما فعلت ، ولعلّ السلطان أن يكون قد بلغه خبرك. فأخذ فأتى به محمد بن الحارث فحبسه ليلته ، فلما كان من غد اجتمع الناس إليه ، وأمر من أتاه بحاضر فجيء به فقال له : اتق الله في دمي ، فو الله ما قتلت نفسا ، ولا أخفت السبيل ، فسمعته يقول : جاءوا بحاضر ولا أعلمه صاحبي الذي كان يجالسني ، ويذكر أنه مستتر من غرمائه ، فأدخل عليه ، فخشيت أن يلحقني ما لا أحب ، فنظر إليّ نظرة فتوقعت أن يكلمني أو يستشهدني كما يفعل المستغيث فما فعل من ذلك شيئا ، إنما لحظني لحظة ثم حول وجهه عني كأنه لم يعرفني قط ، فقال له محمد بن الحرث : إن أمير المؤمنين غير متهم عليك ، فحمله إليه. فأتى به هارون الرشيد وهو في الشماسية ، فأحضره وأحضر الحازمي رجلا من ولد عبد الله بن حازم ، وكان قد أخذ له بيعة ببغداد فوقعت في يد الرشيد فبدأ به ، ثم قال : جئت من خراسان إلى دار مملكتي تفسد عليّ أمري وتأخذ بيعة؟.

قال : ما فعلت يا أمير المؤمنين.

__________________

(١) في الخطية «محمد بن حرب الهمذاني».

٤٩٥

قال : بلى والله قد فعلت ، وهذه بيعتك عندي ، والله لا تبايع أحدا بعدها. ثم أمر به فأعقد في النطع وضرب عنقه.

ثم أقبل على حاضر فقال : هيه صاحب يحيى بن عبد الله بالحيل ، عفوت عنك وأمنتك ، ثم صرت تسعى عليّ مع أحمد بن عيسى تنقله من مصر إلى مصر ، ومن دار إلى دار كما تنقل السنور أولادها ، والله لتجيئني به أو لأقتلنك.

قال يا أمير المؤمنين ، بلغك عني غير الحق.

قال : والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك.

قال : إذا أخاصمك بين يدي الله.

قال : والله لتجيئني به أو لأقتلنك وإلّا فأنا نفي من المهدي.

قال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها لك عنه ، وأنا أجيئك بابن رسول الله (ص) حتى تقتله؟ افعل ما بدا لك.

فأمر هرثمة فضربت عنقه ، وصلب مع الحازمي ببغداد.

هذه رواية النوفلي.

والصحيح الذي ذكرته متقدما أن المهدي قتله لأنه طالبه بعيسى بن زيد فقتله ولكن ذكرت كل ما روى في ذلك.

* * *

وأخبرني علي بن الحسين بن علي بن حمزة (١) العلوي ، عن عمه محمد بن علي بن حمزة ، عن المدائني ، عن الهيثم ، ويونس بن مرزوق :

أن رجلا رفع إلى صاحب البريد بأصبهان ، أن أحمد بن عيسى وحاضرا بالبصرة وكور الأهواز يترددان ، فكتب الرشيد في حملهما والقدوم بهما عليه ، وكتب إلى أبي الساج وهو على البحرين ، وإلى خالد بن الأزهر ، وهو على الأهواز ، وإلى خالد طرشت (٢) وكان على بريد طريق السند ، بالسمع والطاعة لصاحب بريد أصبهان ، وأمر له بثلاثين ألف ، وأمره بالمصير إلى هذه النواحي ، وطلب أحمد بن عيسي.

فورد الأهواز ، وأظهر أنه يطلب الزنادقة ، وكان الذي أتاه بالخبر رجل

__________________

(١) في الخطية «علي بن المحسن بن حمزة».

(٢) في ط وق «خالد سرطست».

٤٩٦

بربري كان أحمد بن عيسى يأنس به ، فلما قدم هذا الرجل وكان يعرف بعيسى الرواوزدي ، أتى ذلك البربري أحمد بن عيسى كما كان يأتيه ، فوصف له عيسى هذا وقال له : إنه من شيعتك ومن حاله ومن قصته ، فأذن له فدخل إليه وهو جالس ، ومعه ابن إدريس بن عبد الله ، وكاتب كان لإبراهيم بن عبد الله ، فبدأ بأحمد بن عيسى وابن إدريس فقبل أيديهما ، وجلس معهما وآنسهما ، وجعل يرسل إليهما بالهدايا والكسوة ، واشترى لهما وصيفتين ، فاطمأنا إليه وأكلا من طعامه وشربا من شرابه ، فلما وقعت الثقة قال له : هذا بلد ضيّق ولا خير فيه ، فهلما معي حتى أوافي بكما مصر وإفريقية ؛ فإن أهلهما يخفون معي ويطيعونني. قالوا : وكيف تأخذ بنا؟ قال : أجلسكم الماء إلى واسط ، ثم آخذ بكم على طريق الكوفة ، ثم على الفرات إلى الشام. فأجابوه فأجلسهم في السفينة ، وصيّر معهم أعوان أبي الساج أمناء عليهم ومضوا.

ولما كان في بعض الطريق قال لهم : أتقدمكم إلى واسط لإصلاح بعض ما نحتاج إليه من سفرنا من كراء أو غيره ، ومضى هو والبربري فركبا دواب البريد وأوصى الموكلين بهما ألّا يعلمونهم بشيء ولا يوهمونهم أنهم من أصحاب السلطان ، وأن يحتاطوا عليهم ما قدروا ، ففعلوا ذلك ومضوا.

فلما كانوا ببعض الطريق حبسهم أصحاب الصدقة وقالوا : لا تجوزوا ، فصاح بهم الموكلون : نحن من أصحاب أبي الساج وأعوانه جئنا في أمر مهم ، فخلوا عنهم ، وانتبه أحمد بن عيسى وأصحابه لذلك ، فلما جاوزوا قليلا قال لهم أحمد بن عيسى : أقدموا إلى الشط (١) لنصلي. فقدم الملاحون ، وخرجوا ، فتفرقوا بين النخل وتستروا بها وأبعدوا عن أعين الموكلين ، والموكلون في الزورق لا يوهمونهم أنهم معهم ، فلما بعدوا عن أعينهم جعلوا يحضرون على أقدامهم حتى فاتوهم هربا وبعدوا عنهم. وطال انتظار الموكلين بهم ، فلم يعرفوا خبرهم وما الذي أبطأ بهم ، فخرجوا يطلبونهم ، فلم يجدوهم ، وتتبعوا آثارهم وجدّوا في أمرهم ، فلم يقدروا عليهم ، فرجعوا إلى الزورق خائبين حتى أتوا واسط ، وقد قدمها عيسى صاحب بريد أصبهان الذي دبّر على القوم ما دبر ، وقد وجّه معه الرشيد ثلاثين رجلا ليتسلم

__________________

(١) في ط وق «اقدموا إلى واسط».

٤٩٧

أحمد ، فأخبروه ما كان ، فقال : لا والله ولكن ارتشيتم وصانعتم وداهنتم ، وقدم بهم على الرشيد فضربهم بالسياط ضربا مبرحا ، وحبسهم جميعا في المطبق ، وغضب على أبي الساج دهرا حتى سأله فيه أخوه الرشيد ، فرضي عنه بعد أن كان قد همّ بقتله.

ومضى أحمد بن عيسى وأصحابه فرجعوا إلى البصرة ، فلم يزالوا مقيمين حتى مات أحمد بن عيسى ، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال : حدثني علي بن أحمد بن عيسى :

ان أباه توفي في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين ومائتين.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال :

سألت أحمد بن عيسى : كم تعد من السنين؟.

قال : ولدت يوم الثاني من المحرم سنة سبع وخمسين ومائة.

٦٣ ـ عبد الله بن موسى

وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن

ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام

وأمه أم سلمة بنت محمد بن طلحة (١) بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، ولها يقول وحشي الرياحي :

يعجبني من فعل كل مسلمه

مثل الذي تفعل أم سلمه

إقصاؤها عن بيتها كل أمه

وأنها قدما تساوي المكرمه

* * *

وكان عبد الله توارى في أيام المأمون ، فكتب إليه بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه ويبايع له ، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله ، وما أشبه هذا من القول :

فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها :

__________________

(١) في الخطية «بنت محمد بن علي».

٤٩٨

فبأي شيء تغرني (١)؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إيّاه فقتلته.

والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له ، ولكن لا أجد لي فسحة (٢) في تسليطك على نفسي ، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.

ويقول فيها :

هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا ، الآخذين حقنا ، الذين جاهروا (٣) في أمرنا فحذرناهم ، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا ، تختل واحدا فواحدا منا ، ولكني كنت امرأ حبب إليّ الجهاد ، كما حبب إلى كل امرئ بغيته (٤) ، فشحذت سيفي ، وركبت سناني على رمحي ، واستقرهت فرسي ، لم أدر أيّ العدوّ أشد ضررا على الإسلام ، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء ، فقرأته فإذا فيه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(٥).

فما أدري من يلينا منهم ، فأعدت النظر ، فوجدته يقول : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(٦) فعلمت أنّ عليّ أن أبدأ بما قرب مني.

وتدبرت فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم ، لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم الناس وقاتلوهم ، وأنت دخلت فيه ظاهرا فأمسك الناس وطفقت تنقض عراه عروة عروة ، فأنت أشد أعداء الإسلام ضررا عليه.

وهي رسالة طويلة قد أتينا بها في الكتاب الكبير.

* * *

__________________

(١) في الخطية «بأي شيء نعتذر مما فعلته ...».

(٢) في ط وق «قسمة».

(٣) في ط وق «جاهدوا».

(٤) في ط وق «تبعته».

(٥) سورة التوبة ١٢٣.

(٦) سورة المجادلة ٢٢.

٤٩٩

وأخبرني (١) جعفر بن محمد الوراق الكوفي ، قال : حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني ، عن أبيه ، قال :

كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه الأمان ، ويضمن له أن يوليه العهد بعده ، كما فعل بعلي بن موسى ، ويقول : ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا ، وبعث الكتاب إليه.

فكتب إليه عبد الله بن موسى :

وصل كتابك وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال على حيلة المغتال القاصد لسفك دمي.

وعجبت من بذلك العهد وولايته لي بعدك ، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا ، ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟.

أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟ فو الله لأن أقذف وأنا حيّ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمرا بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل.

أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟

أم ظننت أن الاستتار قد أملّني وضاق به صدري ، فو الله إني لدلك ، ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا ، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك ، ولكن الله قد حظر على المخاطرة بدمي ، وليتك قدرت عليّ من غير أن أبذل نفسي لك فقتلتني ، ولقيت الله ـ عزّ وجلّ ـ بدمي ، ولقيته قتيلا مظلوما ، فاسترحت من هذه الدنيا.

واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي ، واجتهدت فيما يرضى الله عزّ وجلّ عني ، وفي عمل أتقرب به إليه ، فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك ، فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء ، فتصفحته سورة سورة ، وآية آية ، فلم أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه جل وعز من الشهادة في طلب مرضاته.

ثم تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيه أفضل ، ولأي صنف ، فوجدته جل وعلا

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «ولم يزل عبد الله متواريا إلى أن مات في أيام المتوكل» غير موجود في الخطية.

٥٠٠