روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

هؤلاء (لَشِرْذِمَةٌ) أي طائفة من الناس ، وقيل : هي السفلة منهم ، وقيل : بقية كل شيء خسيس ، ومنه ثوب شرذام وشرذامة أي خلق مقطع ، قال الراجز :

جاء الشتاء وقميصي أخلاق

شراذم يضحك منه التواق

وقرئ «لشرذمة» بإضافة شر مقابل خير إلى ذمة ، قال أبو حاتم : وهي قراءة من لا يؤخذ منه ولم يروها أحد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَلِيلُونَ) صفة شرذمة ، وكان الظاهر قليلة إلا أنه جمع باعتبار أن الشرذمة مشتملة على أسباط كل سبط منهم قليل ، وقد بالغ اللعين في قلتهم حيث ذكرهم أولا باسم دال على القلة وهو شرذمة ثم وصفهم بالقلة ثم جمع القليل للإشارة إلى قلة كل حزب منهم وأتى بجمع السلامة وقد ذكر أنه دال على القلة ؛ واستقلهم بالنسبة إلى جنوده.

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه‌السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفا لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ، وقيل : أرسل فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة ، وهم كانوا على ما روي عن ابن عباس ستمائة ألف وسبعين ألفا ، وأنا أقول : إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين ، والأخبار في ذلك لا تكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة. والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم.

وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم ، وقيل : الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس ، و (قَلِيلُونَ) إما صفة لها أو خبر بعد خبر لأن ، والظاهر ما تقدم.

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة ، فقد روي أن الله تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به ، وتقديم (لَنا) للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنزيل المتعدي منزلة اللازم (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي إنا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الحزم في الأمور ، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقيق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذارا بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به عليه اللعنة ما يكسر سلطانه.

وقرأ جمع من السبعة. وغيرهم «حذرون» بغير ألف ، وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بأن الأول اسم فاعل يفيد التجدد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات ، وقريب منه ما روي عن الفراء والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه ، وقال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينصب المفعول به ، وأنشد :

حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم أن الحاذر التام السلاح. وفسروا ما في الآية بذلك ، وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي آلة الحرب سميت بذلك مجازا ، وحمل على ذلك

٨١

قوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء : ٧١] ، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع «حادرون» بالألف والدال المهملة من قولهم : عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم. قال ابن عطية : والمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه : الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء. ومنه قول الشاعر :

أحب الصبي السوء من أجل أمه

وأبغضه من بغضها وهو حادر

وقيل : المعنى تام والسلاح على هذه القراءة أيضا أخذا من الحدارة بمعنى الجسامة والقوة فإن تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه ، و (جميع) على جميع القراءات والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا إليه ولو كانت هذه المؤكدة لنصبت (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) كانت لهم بحافتي النيل كما روي عن ابن عمر. وغيره (وَكُنُوزٍ) أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض. وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فإخراجهم عنها معلوم بالضرورة. وقيل : لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير.

وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والإخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة. وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنان فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر.

وقيل : المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى ، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة. وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذان ، وقال ابن جبير : المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر ، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) هي المساكن الحسان كما قال النقاش ، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالفيوم من أرض مصر ، وقيل : مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع ، وقيل : الأسرة في الكال ، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل ، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء. وقرأ قتادة والأعرج «ومقام» بضم الميم من أقام (كَذلِكَ) إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجا مثل ذلك الإخراج أخرجنا ، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه. واختار هذا الطيبي فقال : هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفا عليه ، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو (فَأَخْرَجْناهُمْ) والمعطوف وهو قوله تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ) لأن الاتباع عقب الإخراج لا الإيراث.

قال الواحدي : إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن ، وعلى غير هذا الوجه يكون (أورثنا) عطفا على (أخرجنا) ولا بد من تقدير نحو فأردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى ، ويفهم من كلام بعضهم أن جملة

٨٢

(أَوْرَثْناها) إلخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه ، وما ذكر عن الواحدي من أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة.

وأظهر منه في هذا ما روي عن الحسن قال : كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم ؛ ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه‌السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين ، وقيل : إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه‌السلام إلى أرض الشام.

وقيل : إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه‌السلام وملكوها زمن سليمان عليه‌السلام ، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم ، ومعنى (أتبعوهم) لحقوهم يقال : تبعت القوم فأتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم مبالغة في اللحوق ، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل. وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بوصل الهمزة وشد التاء (مُشْرِقِينَ) أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء ، وقال أبو عبيدة : هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق. والجمهور على الأول ، وعن السدي أن الله تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه‌السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضا ، والوصف حال من الفاعل ، وقيل : هو حال من المفعول.

ومعنى (مُشْرِقِينَ) في ضياء بناء على ما روي أن بني إسرائيل كانوا في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر ، نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهارا عمود من غمام وليلا عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جدا ولاموا موسى عليه‌السلام في الخروج وقالوا له : أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك : دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى : لا تخافوا وانظروا إغاثة الله تعالى لكم ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصحح أمر الحالية المذكورة فتأمل.

وقرأ الأعمش وابن وثاب «ترا» بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لا يكون أبدا قاله أبو الفضل الرازي ، وقال ابن عطية وقرأ حمزة «تريء» بكسر الراء وبمد ثم بهمز ، وروي مثله عن عاصم وروي عنه أيضا «تراءى» بالفتح والمد ، وقال أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري في كتابه الإقناع (تَراءَا الْجَمْعانِ) في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا كإمالة الألف المنقلبة.

وقرئ «فلما تراءت» الفئتان (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي لملحقون جاءوا بالجملة الاسمية مؤكدة بحرفي التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجيزهما ، وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلبا

٨٣

للتدبير. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير «لمدّركون» بفتح الدال مشددة وكسر الراء من الإدراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال : أدرك الشيء إذا فني تتابعا وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفني شيئا فشيئا حتى يذهب جميعه ، وقد جاء التتابع بهذا المعنى في قول الحماسي :

أبعد بني أمي الذين تتابعوا

أرجي حياة أم من الموت أجزع

والمعنى إنا لهالكون على أيديهم شيئا فشيئا (قالَ) موسى عليه‌السلام ردعا لهم عن ذلك وإرشادا إلى أن تدبير الله عزوجل يغني عن تدبيره : (كَلَّا) لن يدركوكم (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالحفظ والنصرة (سَيَهْدِينِ) قريبا إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم ، ولم يشركهم عليه‌السلام في المعية والهداية إخراجا للكلام على حسب ما أشاروا إليه في قولهم : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) من طلب التدبير منه عليه‌السلام ، وقيل : لما كان عليه‌السلام هو الأصل وغيره تبع له محفوظون منصورون بواسطته وشرفه وكرامته قال : (مَعِي) دون معنا وكذا قال : (سَيَهْدِينِ) دون سيهدينا ، وقيل : قال ذلك جزاء لهم على غفلتهم عن قوله تعالى له عليه‌السلام (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] حتى خافوا فقالوا ما قالوا فإن الظاهر أنهم سمعوا ذلك من موسى عليه‌السلام في مدة بقائهم معه في مصر أو غفلتهم عن عناية الله تعالى بهم حين كانوا مع القبط في مصر حيث لم يصبهم ما أصابهم من الدم ونحوه من الآيات المقتضية بواسطة حسن الظن إنجاءهم منهم حين أمروا بالخروج فلحقوهم وكان تأديبه لهم على ذلك بمجرد عدم إشراكهم فيما ذكر لا أنه نفاه عنهم كما يتوهم من تقديم الخبر فإن تقديمه لأجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة ، وقيل : للحصر لكن بالنسبة إلى فرعون وجمعه ، وقيل : على القول الثاني في توجيه عدم إشراكهم : إنه للحصر بالنسبة إليهم أيضا على معنى إن معي أولا وبالذات ربي لا معكم كذلك ، وقيل : قدم المعية هنا وأخرت في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] لأن المخاطب هنا بنو إسرائيل وهم أغبياء يعرفون الله عزوجل بعد النظر والسماع من موسى عليه‌السلام والمخاطب هناك الصديق رضي الله تعالى عنه وهو ممن يرى الله تعالى قبل كل شيء ، ولاختلاف المقام نظم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعا وزجرا وخاطبه على نحو مخاطبة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام عند تسليته بما صورته النهي عن الحزن ، وأتى بالاسم الجامع وهو لفظ الله دون اسم مشعر بصفة واحدة مثلا ولم يكن كلام موسى عليه‌السلام ومخاطبته لقومه على هذا الطرز وسبحان من فضل بعض العالمين على بعض.

وزعم بعضهم أن في الكلام حذفا والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال : (مَعِي) دون معنا وفيه ما فيه. (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) هو القلزم على الصحيح ، وقيل : بحر من وراء مصر يقال له أساف ، وقيل : النيل ، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الأمر بالإسراء ، فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه‌السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون : يا نبي الله أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال : أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه‌السلام لا يدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر.

وأخرج أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء ، وقال أصحاب موسى : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه ؛ وقيل : له اضرب بعصاك البحر ؛ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن

٨٤

عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله ابن سلام أن موسى عليه‌السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر.

وروي أنه عليه‌السلام قال : اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وفي الدر المنثور من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا ما يدل على أنه عليه‌السلام قال ذلك حين الانفلاق (فَانْفَلَقَ) أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة ، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله ، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه‌السلام ، وإنما أمر عليه‌السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاما لموسى عليه‌السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عزوجل لفلقه بدون ضربه بالعصا ، ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد : وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك ، وعن قيس بن عباد أنه عليه‌السلام حين جاءه قال له : انفلق أبا خالد فقال : لن أنفلق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقا فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي رواية عن ابن مسعود أنه عليه‌السلام حين انتهى إليه قال : أنفرق فقال له : لقد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعا أنه عليه‌السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثا ، وقيل : ضربه مرة واحدة فانفلق ، وقيل : ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كان البحر ساكنا لا يتحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر ولا أظن لهذا صحة ، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه‌السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره ، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة ، والأسلم الاقتصار على ما قص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كالجبل المنيف الثابت في مقره ، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل ، وقال في الصحاح : الطود الجبل العظيم.

والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة ، وحينئذ لا إشكال في قول من قال : إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها ، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ما قيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكا بعدد الأسباط ، وقيل : إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكونا منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يميزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقا بل أقل ، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر يجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهم من البحر بين كل منهما وبينه مسلك ، ويقال : إن كل سبط من الأسباط الاثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه‌السلام من القبط انتهى.

٨٥

وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى ذلك فعليه البيان ، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم ، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لا سيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر.

فقد روي أن بني إسرائيل قالوا : نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، نعم قيل عليه : إن في بعض الآثار ما يأباه ، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في تاريخه. وابن عبد البر في التمهيد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال : وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقببا كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال.

وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق ، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطيا وإنما يتأتى على كونه قوسيا ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاما ظاهره الاختلال ، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف ، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة ما أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقا أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعا ومنضما إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقا واحدا متصلا طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء. وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معا أو متعاقبا في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور ، وأيضا يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظا من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه ، وأيضا يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه ، ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعا بمعنى ذاهبا ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر. ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء.

ويحتمل أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحرا من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطود الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر ، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه ، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط ، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جدا وطول زمان قطعه ، فالظاهر وقوع

٨٦

احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون ، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه.

ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكا فلا بأس به ، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلّة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسيا أيضا ، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه‌السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسيا لأنه لو كان خطيا يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم ، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعا في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الاثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليم ما غشيهم لا يخفى ما فيه ، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطيا يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر.

والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك ، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسيا سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا ، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسيا أن يكون دخول موسى عليه‌السلام وقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه‌السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولا رجع موسى عليه‌السلام وقومه القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه‌السلام دخولا وبان لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا وقد كمل جمع فرعون دخولا أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليم ما غشيه وهو كما ترى.

والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطيا وأن المسالك اثني عشر مسلكا لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام ، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الأخبار ما يشهد بصحة بعضه ، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته ، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم ، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ «كل فلق» باللام بدل الراء ، قال الراغب : الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق والفرق يقال اعتبارا بالانفصال. ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس (وَأَزْلَفْنا) عطف على (أوحينا) ، وقيل : على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فأدخلنا بني إسرائيل فيما انفلق من البحر وأزلفنا (ثَمَ) أي هنالك (الْآخَرِينَ) أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه‌السلام حتى دخلوا

٨٧

على أثرهم مداخلهم ، وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد.

أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال : كان جبريل عليه‌السلام بين الناس بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل آل فرعون فيقول : رويدكم ليلحقكم آخركم فقالت بنو إسرائيل : ما رأينا سائقا أحسن سياقا من هذا وقال آل فرعون : ما رأينا وازعا أحسن زعة من هذا ، وقرأ الحسن وأبو حيوة «وزلفنا» بدون همزة ، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث «وأزلقنا» بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم ، والمعنى أذهبنا عزهم كقوله :

تداركتما عبسا وقد ثل عرشها

وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

ويحتمل أن يجعل الله تعالى طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. هذا وقال صاحب اللوامح : قيل من قرأ بالقاف أراد بالآخرين فرعون وقومه ومن قرأ بالفاء أراد بهم موسى عليه‌السلام وأصحابه أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. ولا يخفى أنه يبعد إرادة موسى عليه‌السلام وأصحابه من الآخرين قوله سبحانه : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر ، وقيل : (وَمَنْ مَعَهُ) للإشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه‌السلام ومتابعته ، وقيل : لينتظم من آمن به عليه‌السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) فرعون وجنوده بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه‌السلام ومن معه وكان له وجبة. روي عن ابن عباس أن بني إسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا : ما هذا؟ فقال موسى عليه‌السلام : غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل : والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير ، والظاهر أن (ثُمَ) للتراخي الزماني ، ولعل الأولى حملها على التراخي المعنوي لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من القصة ، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه ؛ وقيل : لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة (لَآيَةً) أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى عليه‌السلام وتصديقه بما جاء به ، وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعبانا وخروج يده عليه‌السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وأفردت لاتحاد المدلول.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه‌السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون. وآسية امرأة فرعون ، وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا. والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليهما‌السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه ، وقيل : المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه‌السلام ومن معه وإغراق الآخرين ، وضمير (أَكْثَرُهُمْ) للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني إسرائيل ، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لا يقبل الزوال فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور ، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين ، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ إيمان من ذكر كان في ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني إسرائيل كما

٨٨

جاء في حديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعا بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (١) أنها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه‌السلام فهي بنت أخي يوسف عليه‌السلام فتكون أقرب من موسى عليه‌السلام إلى إسرائيل.

وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء بل يقول : المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر ويقول : إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم ، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين فإنهم لم يستمروا عليه. فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاءوا موسى عليه‌السلام فقالوا : قد حضرنا العدو فما ذا أمرت قال : إن أنزل هاهنا فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم.

ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير على بني إسرائيل خاصة فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه. وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء ، وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال : إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه‌السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية وآية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن موسى عليه‌السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه‌السلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن موسى عليه‌السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا ، ومعنى (ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ما أكثرهم مؤمنين على أن (كانَ) زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا) [الشعراء : ٥] إلخ ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه.

ويجوز أن تجعل (كانَ) بمعنى صار كما في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤ ، ص: ٧٤]

__________________

(١) وذكر بعضهم أن اسم هذه العجوز مريم بنت ياموشا ا ه منه.

٨٩

فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا. ثم قال : وأما ما قيل من أن ضمير (أَكْثَرُهُمْ) لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه‌السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه‌السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. ورجوع ضمير (أَكْثَرُهُمْ) في قصة إبراهيم عليه‌السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام فتدبر اه.

وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه. أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين. وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق. وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب ، وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير (أَكْثَرُهُمْ) إلى قوم نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص الآتية المصدرة بكذبت ، وأما ثالثا فلأن قوله : لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه‌السلام إلخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما. وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه‌السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم. وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه‌السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال : إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات.

أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا ، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال : وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة

٩٠

قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا محل تردد ، وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى : (وَأَنْجَيْنا). (ثُمَّ أَغْرَقْنَا) وكذا آخر قصة لوط عليه‌السلام قوله تعالى : (فَنَجَّيْناهُ) [الشعراء : ١٧٠] (ثُمَّ دَمَّرْنَا) [الشعراء : ١٧٢] و (أَمْطَرْنا) [الشعراء : ١٧٣] فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها. وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه‌السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وقوله عزوجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه‌السلام ما قال في جوابهم (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٤] فيكون ضمير (أَكْثَرُهُمْ) راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك. ومثله كثير في الكلام ؛ ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه‌السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط عليه‌السلام فتأمل انتهى ، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.

وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.

وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شئونه عزوجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم. وكذا الكلام في (كانَ) وما يتعلق بالجملة.

والكلام في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كالكلام فيما تقدم أيضا ، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على المضمر العامل في (إِذْ نادى) إلخ أي اذكر ذلك لقومك واتل عليهم (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم. وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه‌السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه‌السلام (إِذْ قالَ) منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم (ما تَعْبُدُونَ) على أن المتلو ما قاله عليه‌السلام لهم في ذلك الوقت. وضمير (قَوْمِهِ) عائد على إبراهيم ، وقيل : عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤] ويلزم عليه التفكيك.

وسألهم عليه‌السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه‌السلام (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] و (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ

٩١

قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] إلى غير ذلك بل أطنبوا فيه بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم مع أنه لم يسأل عنه قصدا إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك. وهو على ما في الكشف من الأسلوب الأحمق ، والمراد بالظلول الدوام كما في قولهم : لو ظل الظلم هلك الناس. وتكون ظل على هذا تامة. وقد قال بمجيئها كذلك ابن مالك وأنكره بعض النحاة ، وقيل : فعل الشيء نهارا فقد كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل فتكون ظل على هذا ناقصة دالة على ثبوت خبرها لاسمها في النهار.

واختار بعض الأجلة الأول لتبادر الدوام وكونه أبلغ مناسبا لمقام الابتهاج والافتخار ، واختار الزمخشري الثاني لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضا لأنه يدل على إعلانهم الفعل لافتخارهم به. و (عاكِفِينَ) على الأول حال وعلى الثاني خبر والجار متعلق به. وإيراد اللام دون على لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا : نظل لأجلها مقبلين على عبادتها أو مستديرين حولها. وهذا أيضا على ما قيل من جملة إطنابهم (قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) دخل فعل السماع على غير مسموع ، ومذهب الفارسي أنه حينئذ يتعدى إلى اثنين ولا بد أن يكون الثاني مما يدل على صوت فالكاف هنا عنده مفعول أول والمفعول الثاني محذوف والتقدير هل يسمعونكم تدعون وحذف لدلالة قوله تعالى : (إِذْ تَدْعُونَ) عليه. ومذهب غيره أنه حينئذ متعد إلى واحد ، وإذا وقعت بعده جملة ملفوظة أو مقدرة فهي في موضع الحال منه إن كان معرفة وفي موضع الصفة له إن كان نكرة.

وجوز فيها البدلية أيضا. وإذا دخل على مسموع تعدى إلى واحد اتفاقا ، ويجوز أن يكون ما هنا داخلا على ذلك على أن التقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف لدلالة (إِذْ تَدْعُونَ) أيضا عليه ، وقيل : السماع هنا بمعنى الإجابة كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ومنه قوله عزوجل : (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران : ٣٨] أي هل يجيبونكم وحينئذ لا نزاع في أنه متعد لواحد ولا يحتاج إلى تقدير مضاف. والأولى إبقاؤه على ظاهر معناه فإنه أنسب بالمقام ، نعم ربما يقال : إن ما قيل أوفق بقراءة قتادة ويحيى بن يعمر «يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم من أسمع والمفعول الثاني محذوف تقديره الجواب. و (إِذْ) ظرف لما مضى وجيء بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وحكايتها. وأما كون هل تخلص المضارع لاستقبال فلا يضر هنا لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم وهو هنا كذلك لأن السماع بعد الدعاء ، وقال أبو حيان : لا بد من التجوز في (إِذْ) بأن تجعل بمعنى إذا أو التجوز في المضارع بأن يجعل بمعنى الماضي. واعتبار الاستحضار أبلغ في التبكيت وقرئ بإدغام ذال (إِذْ) في تاء (تَدْعُونَ) وذلك بقلبها تاء وإدغامها في التاء.

(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بسبب عبادتكم لهم (أَوْ يَضُرُّونَ) أي يضرونكم بترككم لعبادتهم إذ لا بد للعبادة لا سيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر. وترك المفعول للفاصلة. ويدل عليه ما قبله ، وقيل : المراد أو يضرون من أعرض عن عبادتهم كائنا من كان وهو خلاف الظاهر الذي يقتضيه العطف.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضر اعترافا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد فكأنهم قالوا لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وتقديم المفعول المطلق للفاصلة.

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي

٩٢

يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (١٤١)

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أي أنظرتم فأبصرتم أو تأملتم فعلمتم أي شيء استدمتم على عبادته أو أي شيء تعبدونه (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) والكلام إنكار وتوبيخ يتضمن بطلان آلهتهم وعبادتها وأن عبادتها ضلال قديم لا فائدة في قدمه إلا ظهور بطلانه كما يؤذن بهذا وصف آبائهم بالأقدمين. وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) قيل : تعليل لما يفهم من ذلك من إني لا أعبدهم أو لا تصح عبادتهم ؛ وقيل : خبر لما كنتم إذا المعنى أفأخبركم وأعلمكم بمضمون هذا. واختار بعض الأجلة أنه بيان وتفسير لحال ما يعبدونه التي لو أحاطوا بها علما لما عبدوه أي فاعلموا أنهم أعداء لعابديهم الذين يحبونهم كحب الله تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم تضرر الرجل من جهة عدوه فإطلاق العدو عليهم من باب التشبيه البليغ.

وجوز أن يكون من باب المجاز العقلي بإطلاق وصف السبب على المسبب من حيث إن المغري والحامل على عبادتهم هو الشيطان الذي هو عدو مبين للإنسان والأول أظهر. والداعي للتأويل أن الأصنام لكونها جمادات لا تصلح للعداوة. وما قيل : إن الكلام على القلب والأصل فإني عدو لهم ليس بشيء.

وقال النسفي : العدو اسم للمعادي والمعادي جميعا فلا يحتاج إلى تأويل ويكون كقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] وصور الأمر في نفسه تعريضا لهم كما في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي

٩٣

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٢٢] ليكون أبلغ في النصح وأدعى للقبول. ومن هنا استعمل الأكابر التعريض في النصح. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم. وضمير (إنهم) عائد على (ما) وجمع مراعاة لمعناها وإفراد العدو مع أنه خبر عن الجمع إما لأنه مصدر في الأصل فيطلق على الواحد المذكر وغيره أو لاتحاد الكل في معنى العداوة أو لأن الكلام بتقدير فإن كلا منهم أو لأنه بمعنى النسب أي ذو كذا فيستوي فيه الواحد وغيره كما قيل.

وقوله سبحانه : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع من ضمير «إنهم» عند جماعة منهم الفراء واختاره الزمخشري أي لكن رب العالمين ليس كذلك فإنه جل وعلا ولي من عبده في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل عليه بالمنافع.

وقال الزجاج : هو استثناء متصل من ذلك الضمير العائد على (ما تَعْبُدُونَ) ويعتبر شموله لله عزوجل وفي آبائهم الأقدمين من عبد الله جل وعلا من غير شك أو يقال : إن المخاطبين كانوا مشركين وهم يعبدون الله تعالى والأصنام. وتخصيص الأصنام هنا بالذكر للرد لا لأن عبادتهم مقصورة عليها ولو سلّم أنه لذلك فهو باعتبار دوام العكوف وذلك لا ينافي عبادتهم إياه عزوجل أحيانا ، وقال الجرجاني : إن الاستثناء من (ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) و (إِلَّا) بمعنى دون وسوى وفي الآية تقديم وتأخير والأصل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين أي دون رب العالمين فإنهم عدو لي ولا يخفى ما فيه (الَّذِي خَلَقَنِي) صفة لرب العالمين. ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين زيادة في الإيضاح في مقام الإرشاد ، وقيل : تصريحا بالنعم الخاصة به عليه‌السلام وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى.

(فَهُوَ يَهْدِينِ) عطف على الصلة أي فهو يهديني وحده جل شأنه إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور المعاش والمعاد هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح متجددة على الاستمرار كما ينبئ عنه الفاء وصيغة المضارع فإنه تعالى يهدي كل ما خلقه لما خلق له هداية متدرجة من مبتدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعا وإما اختيارا مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث في المشهور ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم ، وجوز الحوفي وغيره كون الموصول مبتدأ وجملة هو (يَهْدِينِ) خبره ودخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم.

وتعقبه أبو حيان بأن الفاء إنما يؤتى بها في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط إذا كان عاما وهنا لا يتخيل فيه العموم فليس ما نحن فيه نظير المثال. وأيضا الفعل الذي هو خلق مما لا يمكن فيه تجدد بالنسبة إلى إبراهيم عليه‌السلام فلعل ذلك على مذهب الأخفش من جواز زيادة الفاء في الخبر مطلقا نحو زيد فاضربه ، وأجيب بأن اشتراط العموم غير مسلم كما فصله الرضي وإنما هو أغلبي. وبأن مطلق الخلق مما يمكن فيه التجدد وهو ممكن الإرادة وإن ظهر في صورة المخصوص وتسبب الخلق للهداية بمقتضى الحكمة ، وقيل : إنه سبب للإخبار بها لتحققها وليس بشيء ويلزم على الإعراب المذكور أن يكون الموصول في قوله سبحانه : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده. ولا يخفى ما في ذلك لفظا ومعنى فاللائق بجزالة التنزيل الإعراب

٩٤

الأول وعليه يكون الموصول عطفا على الموصول الأول ، وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما في حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيق بأن تجري عليه عزوجل بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها ، والظاهر أن المراد إطعام الطعام المعروف وسقي الشراب المعهود وجيء بهو هنا دون الخلق لشيوع إسناد الإطعام والسقي إلى غير عزوجل بخلاف الخلق وعلى هذا القياس فيما جيء فيه بهو وما ترك مما يأتي إن شاء الله تعالى.

وعن أبي بكر الوراق أن المعنى يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب كما جاء «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» وهو مشرب صوفي. وأتى بهذين الصفتين بعد ما تقدم لما أن دوام الحياة وبقاء نظام خلق الإنسان بالغذاء والشراب ما سلك فيهما مسلك العدل وهو أشد احتياجا إليهما منه إلى غيرهما ألا ترى أن أهل النار وهم في النار لم يشغلهم ما هم فيه من العذاب عن طلبهما فقالوا : «أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله».

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) عطف على «يطعمني ويسقين» نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبا :

فإن الداء أكثر ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

وقالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا : التخم ونسبة المرض الذي هو نقمة إلى نفسه والشفاء الذي هو نعمة إلى الله جل شأنه لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه‌السلام : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢] ولا يرد إسناده الإماتة وهي أشد من المرض إليه عزوجل في قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) لإمكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله عزوجل على سائر البشر وحكم عام لا يخص ولا كذلك المرض فكم من معافى منه إلى أن يبغته الموت فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة فيسوغ الأدب نسبته إليه تعالى. وأما المرض فلما كان يخص به بعض البشر دون بعض كان نقمة محققة فاقتضى العلو في الأدب أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار السبب الذي لا يخلو منه.

ويؤيد ذلك أن كل ما ذكر مع غير المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما لأنه أمر لا بد منه وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا أورده مقرونا بشرط إذا فقال : (وَإِذا مَرِضْتُ) وكان يمكنه أن يقول : والذي أمرض فيشفيني كما قال في غيره فما عدل عن المطابقة والمجانسة المأثورة إلا لذلك كذا قاله ابن المنير.

وقال الزمخشري : إنما قال : مرضت دون أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك وكأنه إنما عدل في التعليل عن حسن الأدب لما رأى أنه عليه‌السلام أضاف الإماتة إليه عزوجل وهي أشد من المرض ولم يخطر له الفرق بما مر أو نحوه وغفل عن أن المعنى الذي أبداه في المرض ينكسر بالموت أيضا فإن المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في المطعم وغيره كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضاف عليه‌السلام الإماتة مطلقا إليه عز شأنه.

وقال بعض الأجلة بعد التعليل بحسن الأدب في وجه إسناد الإماتة إليه تعالى : إنها حيث كانت معظم خصائصه عزوجل كالإحياء بدءا وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) على أن الموت لكونه ذريعة إلى نيله عليه‌السلام للحياة الأبدية بمعزل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه‌السلام انتهى ، وأولى من هذه العلاوة ما قيل : إن الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب

٩٥

الأبدية التي يستحقر دونها الحياة الدنيوية. وفيه تخليص العاصي من اكتساب المعاصي ، ثم إن حمل المرض والشفاء على ما هو الظاهر منهما هو الذي ذهب إليه المفسرون. وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن المعنى وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة ولعله لا يصح وإن صح فهو من باب الإشارة لا العبارة ، و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يُحْيِينِ) للتراخي الزماني لأن المراد بالإحياء الإحياء للبعث وهو متراخ عن الإماتة في الزمان في نفس الأمر وإن كان كل آت قريب ، وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في (يَهْدِيَنِي) وما بعده وهي رواية عن نافع (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) استعظم عليه‌السلام ما عسى يندر منه من فعل خلاف الأولى حتى سماه خطيئة. وقيل : أراد بها قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، وقوله لسارة هي أختي ، ويدل على أنه عليه‌السلام عدها من الخطايا ما ورد في حديث الشفاعة من امتناعه عليه‌السلام من أن يشفع حياء من الله عزوجل لصدور ذلك عنه. وفيه أنه وإن صح عدها من الخطايا بالنظر إليه عليه‌السلام لما قالوا : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين إلا أنه لا يصح إرادتها هنا لما أنها إنما صدرت عنه عليه‌السلام بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه ، أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه‌السلام إلى الشام ؛ وأما الأوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام ، ومن البين أن جريان هذه المقالات فيما بينهم كان في مبادئ الأمر ، وهذا أولى مما قيل : إنها من المعاريض وهي لكونها في صورة الكذب يمتنع لها من تصدر عنه من الشفاعة ولكونها ليست كذبا حقيقة لا تفتقر إلى الاستغفار فلا يصح إرادتها هنا لأن ذلك الامتناع ليس إلا لعده إياها من الخطايا ومتى عدت منها افتقرت إلى الاستغفار ، وقيل : أراد بها ما صدر عنه عند رؤية الكوكب والقمر والشمس من قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] وكان ذلك قبل هذه المقاولة كما لا يخفى ، وقد تقدم أن ذلك ليس من الخطيئة في شيء ، وقيل : أراد بها ما عسى يندر منه من الصغائر وهو قريب مما تقدم ، وقيل : أراد بها خطيئة من يؤمن به عليه‌السلام كما قيل نحوه في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، وهو كما ترى والطمع على ظاهره ولم يجزم عليه‌السلام لعلمه أن لا وجوب على الله عزوجل. وعن الحسن أن المراد به اليقين وليس بذاك. والظرفان متعلقان بيغفر.

والإتيان بالأول للإشارة إلى أن نفع مغفرته تعالى إنما يعود إليه عليه‌السلام. وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يتبين يومئذ ولأن في ذلك تهويلا لذلك اليوم. وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر. وفي هذه الجملة من التلطف بأبيه وقومه في الدعوة إلى الإيمان ما فيها. وقرأ الحسن «خطاياي» على الجمع (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) لما ذكر لهم من صفاته عزوجل مما يدل على كمال لطفه تعالى به ما ذكر حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد. والمراد بالحكم على ما اختاره الإمام الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. وقيل : الأولى أن يفسر بكمال العلم المتعلق بالذات والصفات وسائر شئونه عزوجل وأحكامه التي يتعبد بها. وقيل : هي النبوة ورد بأنها كانت حاصلة له عليه‌السلام. فالمطلوب إما عين الحاصل وهو محال ضرورة امتناع تحصيل الحاصل أو غيره وهو محال أيضا لأن الشخص الواحد لا يكون نبيا مرتين. وأجيب بمنع كونها حاصلة وقت الدعاء سلمنا ذلك إلا أنه لا محذور لجواز أن يكون المراد طلب كمالها ويكون بمزيد القرب والوقوف على الأسرار الإلهية والأنبياء عليهم‌السلام متفاوتون في ذلك. وجوز أن يكون المراد طلب الثبات ولا يجب على الله تعالى شيء. والمراد بقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) طلب كمال القوة العملية بأن يكون موفقا لأعمال ترشحه للانتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها. وقدم الدعاء الأول على الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكن أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير

٩٦

ممكن ، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل ، وقيل : المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل. والمراد بقوله : (وَأَلْحِقْنِي) إلخ طلب الكمال في العمل ، وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث إنه النتيجة والثمرة للعلم. وقيل : المراد بالأول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد. وقيل : المراد بالحكم رئاسة الخلق وبالإلحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى. وقيل : المراد بهذا الجمع بينه عليه‌السلام وبين الصالحين في الجنة ، وأنت تعلم أنه لا يحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عزوجل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ ما لم يقبلا لا يلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم. وكأنه لذلك عدل عن قول: رب هب لي حكما وصلاحا أو رب هب لي حكما واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي اجعل لنفعي ذكرا صادقا في جميع الأمر إلى يوم القيامة ، وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون. فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل ، وتعريف (الْآخِرِينَ) للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه‌السلام في زمانه ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا.

ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه‌السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلما لهم أن ذلك ملة إبراهيم عليه‌السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) [البقرة : ١٢٩] إلخ ، ولذا قال صلّى الله تعالى عليه وسلم : «أنا دعوة إبراهيم عليه‌السلام».

وقيل إذا أريد ذلك فلا بد من تقدير مضاف في كلامه عليه‌السلام أي اجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازا عن الداعي بإطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال : اجعل لي داعيا إلى الحق صادقا في الآخرين ، ولا يخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله ، وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشئ من قلة إمعان النظر فلا تغتر به.

واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحا ، وفائدة ذلك بعد الموت على ما قال بعض الأجلة انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله تعالى زلفى وأنه قد يصير سببا لاكتساب المثنى أو غيره نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها (وَاجْعَلْنِي) في الآخرة (مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) قد مر معنى وراثة الجنة فتذكر. واستدل بدعائه عليه‌السلام بهذا بعد ما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند الله عزوجل وإلا لاستغنى عليه‌السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك ، وأنت تعلم أنه تحسن الإطالة في مقام

٩٧

الابتهال ولا يستغني بملزوم عن لازم في المقال فالأولى الاستدلال على ذلك بغير ما ذكر وهو كثير مشتهر ، هذا وفي بعض الآثار ما يدل على مزيد فضل هذه الأدعية.

أخرج ابن أبي الدنيا في الذكر وابن مردويه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فأسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج بسم الله الذي خلقني فهو يهدين هداه الله تعالى للصواب – ولفظ ابن مردويه ـ لصواب الأعمال والذي هو يطعمني ويسقين أطعمه الله تعالى من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة وإذا مرضت فهو يشفين شفاه الله تعالى وجعل مرضه كفارة لذنوبه والذي يميتني ثم يحيين أحياه الله تعالى حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين غفر الله تعالى له خطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين وهب الله تعالى له حكما وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي واجعل لي لسان صدق في الآخرين كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ثم يوفقه الله تعالى بعد ذلك للصدق واجعلني من ورثة جنة النعيم جعل الله تعالى له القصور والمنازل في الجنة» وكان الحسن رضي الله تعالى عنه يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيرا وكأنه أخذ من قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) قال ابن عباس كما أخرج عنه ابن أبي حاتم أي امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك ، وحاصله وفقه للإيمان كما يلوح به تعليله بقوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) وهذا ظاهر إذا كان هذا الدعاء قبل موته وإن كان بعد الموت فالدعاء بالمغفرة على ظاهره وجاز الدعاء بها لمشرك والله تعالى لا يغفر أن يشرك به لأنه لم يوح إليه عليه‌السلام بذلك إذ ذاك والعقل لا يحكم بالامتناع ، وفي شرح مسلم للنووي (١) أن كونه عزوجل لا يغفر الشرك مخصوص بهذه الأمة وكان قبلهم قد يغفر وفيه بحث ، وقيل : لأنه كان يخفي الإيمان تقية من نمروذ ولذلك وعده بالاستغفار فلما تبين عداوته للإيمان في الدنيا بالوحي أو في الآخرة تبرأ منه.

وقوله على هذا : (مِنَ الضَّالِّينَ) بناء على ما ظهر لغيره من حاله أو معناه من الضالين في كتم إيمانه وعدم اعترافه بلسانه تقية من نمروذ ، والكلام في هذا المقام طويل وقد تقدم شيء منه فتذكر (وَلا تَحْزَنِي) بتعذيب أبي أو ببعثه في عداد الضالين بعدم ترفيقه للإيمان أو بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي. وحيث كانت العاقبة مجهولة وتعذيب من لا ذنب له جائز عقلا صح هذا الطلب منه عليه‌السلام ، وقيل : يجوز أن يكون ذلك تعليما لغيره وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بفتح الخاء بمعنى الحياء (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي الناس كافة ، والإضمار وإن لم يسبق ذكرهم لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه ، وقيل : الضمير للضالين والكلام من تتمة الدعاء لأبيه كأنه قال : لا تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم ، ولا يخفى أنه يجوز على الأول أن يكون من تتمة الدعاء لأبيه أيضا ، واستظهر ذلك لأن الفصل بالدعاء لأبيه بين الدعوات لنفسه خلاف الظاهر ، وعلى ما ذكر يكون قد دعا لأشد الناس التصاقا به بعد أن فرغ من الدعاء لنفسه.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) بدل من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) جيء به تأكيدا لتهويل ذلك اليوم وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلخ من كلام إبراهيم عليه‌السلام ، وابن عطية بعد أن أعرب الظرف بدلا من الظرف الأول قال : إن هذه الآيات عندي منقطعة عن كلام إبراهيم عليه‌السلام وهي أخبار من الله عزوجل تتعلق بصفة ذلك اليوم الذي طلب إبراهيم أن لا يخزيه الله تعالى فيه ، ولا يخفى عدم صحة ذلك مع البدلية ،

__________________

(١) نقله الشهاب ا ه منه.

٩٨

والمراد بالنون معناه المتبادر ، وقيل : المراد بهم جميع الأعوان ، وقيل : المعنى يوم لا ينفع شيء من محاسن الدنيا وزينتها ، واقتصر على ذكر المال والبنين لأنهما معظم المحاسن والزينة ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) استثناء من أعم المفاعيل ، و (مَنْ) محل نصب أي يوم لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم عن مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان ، وفي هذا تأييد لكون استغفاره عليه‌السلام لأبيه طلبا لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه عليه‌السلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة ، وقيل : هو استثناء من فاعل (يَنْفَعُ) ومن في محل رفع بدل منه والكلام على تقدير مضاف إلى من أي لا ينفع مال ولا بنون إلا مال وبنون من أتى الله بقلب سليم حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عبادا لله تعالى مطيعين شفعاء له يوم القيامة ، وقيل : هو استثناء مما دل عليه المال والبنون دلالة الخاص على العام أعني مطلق الغنى والكلام بتقدير مضاف أيضا كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم وغناه سلامة قلبه وهو من الغنى الديني وقد أشير إليه في بعض الأخبار.

أخرج أحمد والترمذي : وابن ماجة عن ثوبان قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٣٤] الآية قال بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو علمنا أي المال خير اتخذناه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» وقيل : هو استثناء منقطع من (مالٌ) والكلام أيضا على تقدير مضاف أي لا ينفع مال ولا بنون إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، والمراد بحاله سلامة قلبه ، قال الزمخشري : ولا بد من تقدير المضاف ولو لم يقدر لم يحصل للاستثناء معنى ، ومنع ذلك أبو حيان بأنه لو قدر مثلا لكن من أتى الله بقلب سليم يسلم أو ينتفع يستقيم المعنى. وأجاب عنه في الكشف بأن المراد أنه على طريق الاستثناء من مال لا يتحصل المعنى بدون تقدير المضاف ، وما ذكره المانع استدراك من مجموع الجملة إلى جملة أخرى وليس من المبحث في شيء ، ولما لم يكن هذا مناسبا للمقام جعله الزمخشري مفروغا عنه فلم يلم عليه بوجه ، وقد جوز اتصال الاستثناء بتقدير الحال على جعل الكلام من باب :

تحية بينهم ضرب وجيع

ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون فقال ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب بدلا عن ذلك ، هذا وكون المراد من القلب السليم القلب السليم عن مرض الكفر والنفاق هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن سيرين وغيرهم ، وقال الإمام : هو الخالي عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها ويتبع ذلك الأعمال الصالحات إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح.

وقال سفيان : هو الذي ليس فيه غير الله عزوجل ، وقال الجنيد قدس‌سره : هو اللديغ من خشية الله تعالى القلق المنزعج من مخافة القطيعة وشاع إطلاق السليم في لسان العرب على اللديغ ، وقيل : هو الذي سلّم من الشرك المعاصي وسلّم نفسه لحكم الله تعالى وسالم أولياءه وحارب أعداءه وأسلم حيث نظر فعرف واستسلم وانقاد لله تعالى وأذعن لعبادته سبحانه ، والأنسب بالمقام المعنى المأثور وما ذكر من تأويلات الصوفية ، وقال في الكشاف فيما نقل عن الجنيد قدس‌سره وما بعده : إنه من بدع التفاسير وصدقه أبو حيان بذلك في شأن الأول.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) عطف على (لا يَنْفَعُ) وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه

٩٩

في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على الاستمرار وهو متوجه إلى النفع فيدل الكلام على استمرار انتفاء النفع واستمراره حسبما يقتضيه مقام التهويل أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر ، وقيل : عنه وعن سائر المعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشرون إليها.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) الضالين عن طريق الحق وهو التقوى والإيمان أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها ، وفي اختلاف الفعلين على ما ذكره بعض المحققين ترجيح لجانب الوعد لأن التعبير بالإزلاف وهو غاية التقريب يشير إلى قرب الدخول وتحققه ولذا قدم لسبق رحمته تعالى بخلاف الإبراز وهو الإراءة ولو من بعد فإنه مطمع في النجاة كما قيل من العمود إلى العمود فرج ، وقال ابن كمال : في اختلاف الفعلين دلالة على أن أرض الحشر قريبة من الجحيم ، وحاصله أن الجنة بعيدة من أرض المحشر بعدا مكانيا والنار قريبة منها قربا مكانيا فلذا سند الإزلاف أي التقريب إلى الجنة دون الجحيم ، قيل : ولعله مبني على أن الجنة في السماء وأن النار تحت الأرض وأن تبديل الأرض يوم القيامة بمدها وإذهاب كريتها إذ حينئذ يظهر أمر البعد والقرب لكن لا يخفى أن كون الجنة في السماء مما يعتقده أهل السنة وليس في ذلك خلاف بينهم يعتد به وأما كون النار تحت الأرض ففيه توقف ، قال الجلال السيوطي في إتمام الدراية : نعتقد أن الجنة في السماء ونقف عن النار ونقول : محلها حيث لا يعلمه إلا الله تعالى فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك ، وقيل تحت الأرض انتهى ، وكون تبديل الأرض بمدها وإذهاب كريتها قول لبعضهم ، واختار الإمام القرطبي بعد أن نقل في التذكرة أحاديث كثيرة أن تبديل الأرض بمعنى أن الله سبحانه يخلق أرضا أخرى بيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى فيها ظلم قط ، والأولى أن يقال في بعد الجنة وقرب النار من أرض المحشر : إن الوصول إلى الجنة بالعبور على الصراط وهو منصوب على متن جهنم كما نطقت به الأخبار فالوصول إلى جهنم أولا وإلى الجنة آخرا بواسطة العبور وهو ظاهر في القرب والبعد ، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن الجنة تنقل عن مكانها اليوم يوم القيامة إذ التقريب يستدعي النقل وليس في الأحاديث على ما نعلم ما يدل على ذلك نعم جاء فيها ما يدل على نقل النار.

ففي التذكرة أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك» ، والظاهر أن معنى يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه وقد صرح بذلك في التذكرة ، وقال أبو بكر الرازي في أسئلته فإن قيل : قال الله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قربت والجنة لا تنتقل عن مكانها ولا تحول قلنا : معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة وهذا كما يقال الحاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا ، وقيل : معناه أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينها وبينهم كان ذلك تقريبا انتهى ، ويرد على الأخير أنه يمكن أن يقال مثله في الجحيم وحينئذ يسأل عن وجه اختلاف الفعلين. ويرد على القول بأن الجنة لا تنتقل عن مكانها أنه خلاف ظاهر الآية ولا يلزم لصحة القول به نقل حديث يدل على نقلها يومئذ فلا مانع من القول به وتفويض الكيفية إلى علم من لا يعجزه شيء وهو بكل شيء عليم وإذا أريد التأويل فليكن ذلك بحمل التقريب على التقريب بحسب الرؤية وإن لم يكن هناك نقل فقد يرى الشيء قريبا وإن كان في نفس الأمر في غاية البعد كما يشاهد ذلك في النجوم ، وقد يقرب البعيد في الرؤية بواسطة المناظر والآلات الموضوعة لذلك وقد ينعكس الحال بواسطتها أيضا فيرى القريب بعيدا ومتى جاز وقوع ذلك بواسطة الآلات في هذه النشأة جاز أن يقع في النشأة الأخرى بما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير فتأمل والله تعالى أعلم.

١٠٠