روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر السين (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من القرية على ما عليه الأكثر (آيَةً بَيِّنَةً) قال ابن عباس : هي آثار ديارها الخربة ، وقال مجاهد : هي الماء الأسود على وجه الأرض ، وقال قتادة : هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقد أدركتها أوائل هذه الأمة ، وقال أبو سليمان الدمشقي : هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن ؛ وأنكر ذوو الأبصار ذلك ، وقال الفراء : المعنى تركناها آية كما يقال : إن في السماء آية ويراد أنها آية. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه إلا على زيادة (من) في الواجب نحو قوله :

أمهرت منها جبة وتيسا

يريد أمهرتها. وقال بعضهم : إن ذلك نظير قولك : رأيت منه أسدا ، وقيل : الآية حكايتها العجيبة الشائعة ، وقيل : ضمير (مِنْها) للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة ، أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر.

ولا يخفى معنى (من) على هذه الأقوال (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، فالفعل منزل منزلة اللازم و (لِقَوْمٍ) متعلق بتركنا أو ببينة ، واستظهر الثاني هذا ، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى ، فهي كبيرة بالإجماع ، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا. وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا ، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها ، وقال بعض العلماء : إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر ، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف ، ففي الفتح قيل : إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز أن تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٢٨] وسماها خبيثة فقال عزوجل (كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) [الأنبياء : ٧٤] والجنة منزهة عنها. وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة ، وفيه بحث ، لأن خبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة. وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات ، وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر ، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا ، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه ، وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل (وَإِلى مَدْيَنَ) متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ) لهم (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته ، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب ، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه ، وقيل : الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية.

وقال أبو عبيدة : الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدوه (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لأن العثو الفساد (فَكَذَّبُوهُ) فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان ، وقيل : من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك (فَأَخَذَتْهُمُ) بسبب تكذيبهم إياه (الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة الشديدة وفي سورة

٣٦١

هود (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٩٤] أي صيحة جبريل عليه‌السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض ، وفسر مجاهد الرجفة هنا بالصيحة ، فقيل : لذلك ؛ وقيل : لأنها رجفت منها القلوب (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي بلدهم فإن الدار تطلق على البلد ، ولذا قيل : للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة ؛ ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحد (جاثِمِينَ) أي باركين على الركب ، والمراد ميتين على ما روي عن قتادة.

وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم : جثم الطائر إذا قعد ولطئ بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضا (وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بإضمار فعل ينبئ عنه ما قبله من قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي وأهلكنا عادا وثمود ، وقوله تعالى : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها. وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه ، وجوز كون (مِنْ) تبعيضية ، وقيل : هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود.

والمراد ذكر قصتهما أو بإضمار اذكر خطابا له صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وجملة (قَدْ تَبَيَّنَ) حالية ، وقيل : هي بتقدير القول أي وقل : قد تبين ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عادا وثمود قائلا قد مررتم على مساكنهم وقد تبين لكم إلخ ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن (مِنْ) زائدة في الواجب ، ويؤيده قراءة الأعمش «مساكنهم» بالرفع من غير من ، وكون (مِنْ) هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله.

وقيل : هما منصوبان بالعطف على الضمير في (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) والمعنى يأباه ، وقال الكسائي : منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو كما ترى ، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه. وقرأ أكثر السبعة «وثمودا» بالتنوين بتأويل الحي ، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة ، وقرأ ابن وثاب «وعاد وثمود» بالخفض فيهما والتنوين عطفا على مدين على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) بوسوسته وإغوائه (أَعْمالَهُمْ) القبيحة من الكفر والمعاصي (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق ، وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف (وَكانُوا) أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم : (مُسْتَبْصِرِينَ) أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل : عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا ، وقيل : متبينين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسل عليهم‌السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا.

وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنه على هدى وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال : أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر ، وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس ومجاهد ، والضحاك ، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) معطوف على عادا ، وتقديم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له ، وقارون كان من قوم موسى عليه‌السلام وقد لقي منه ما لقي ، أو لأن حاله أوفق بحال عاد وثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا ،

٣٦٢

أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع ، أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لإيمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه‌السلام ، ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئا ولا ينقذ من غضب الله تعالى على الكفر (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا) عن الايمان والطاعة (فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر.

(وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين أمر الله تعالى ، من قولهم : سبق طالبه أي فاته ولم يدركه ، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك ، وقال أبو حيان : المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم‌السلام ، وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون وفرعون وهامان ، وقيل : الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير ـ كانوا ـ لجميع المهلكين ، وفيه تبر للنظم الجليل (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه ، وقال أبو السعود : هذا تفسير لما ينبئ عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ ، وفي القلب منه شيء. وكأنه اعتبر رجوع ضمير ـ كانوا ـ إلى المهلكين ، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق ، وقال الفاضل : المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض ، وبحث فيه بأن كلّا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت ، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل ، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم : كل رجل وضيعته. وقولهم : الترتيب جعل كل شيء في مرتبته ، وهو شهير بين الطلبة (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفا فيها حصباء ، وقيل : ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط.

وقال ابن عطية : يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية ، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) وهو فرعون ومن معه ، وذكر بعضهم قوم نوح عليه‌السلام أيضا. واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين ، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة ؛ ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها ، وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة قوم إبراهيم عليه‌السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا ، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى : (فَكُلًّا) إلخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم ، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار ، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء ، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب ، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة. وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عزوجل ، ويفيد ذلك أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع ، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام. وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى :

٣٦٣

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم ، وقال مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني ما حاصله : إن ظلم الكفرة أنفسهم إنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الأمر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سببا لظهور شقائهم ا ه ، والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله ، وتقديم المعمول لرعاية رءوس الآي (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) استئناف متضمن تقبيح حال أولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير الله عزوجل ، وفيه إشارة إلى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون الله عزوجل الأوثان.

وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلا ومعتمدا آلهة كان ذلك أو غيرها ، ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) أي كصفتها أو شبهها.

(اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) بيان لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه ، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) إلخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه ، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة ، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال ، والجملة من تتمة الوصف. واللام في البيوت للاستغراق ، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتا والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها ، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم ، وإن شئت فقل : إنها اتخذت بيتا في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلا في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه ، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالا من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس ، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بال الجنسية نحو قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة (الْعَنْكَبُوتِ) أي التي اتخذت ، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه ، وعليه لا يوقف على العنكبوت ، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر. والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان ، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية ، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه ، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وإدماج توطيد الآخر ، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه ، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي.

وقال صاحب الكشف : كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله : وكما أن أوهن البيوت إلخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول ، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من تفسيره ، وهذه مجازفة على صاحب الكشاف كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا في دينهم وتولوه من دون الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتا ، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه ، وكذلك في

٣٦٤

الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذا بالأسر ، والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها ، ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتماد ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : (إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) تذييلا يقرر الغرض من التشبيه.

وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها ، فكأنه قيل : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبارة الأوثان ، وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه ، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به ، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها ، ونظير ذلك قولك : زيد في الكرم بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعارا للكريم ، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته ، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه ، ولأن هذا إنما يتميز عن الألغاز بعد سبق التشبيه.

وجوز أن يكون قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ) إلخ كالمقدمة الأولى ، وقوله سبحانه : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف ، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل ، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام ، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك ، لا لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها» فإنه كما ذكر الدميري ضعيف.

وقيل : لا يسن قتلها فقد أخرج الخطيب عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن» ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور ، والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به ، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة ، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها ، وفي هذا بعد. وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة ، وذكر أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر» وهذا إن صح عن الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه فذاك ، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها. والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومن استعماله مذكرا قوله :

على هطالهم منهم بيوت

كأن العنكبوت هو ابتناها

واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد ، وذهب إلى تأنيثه أيضا فذكر أنه اختير هنا تأنيثه لأنه المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه ، وقال مولانا الخفاجي معرضا به : الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى : (الَّذِينَ) وأما أفراد البيت فلأن المراد الجنس ، ولذلك أنث (اتَّخَذَتْ) لا لأن المراد المؤنث ، وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباة والعنكبوه والعنكباء ، والذكر عنكب وهي عنكبة ، وجمعه عنكبوتات وعناكب ، والعكاب ، والعكب والأعكب أسماء الجموع ، وتعقب بأن عد ما عدا ما ذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن

٣٦٥

أعكب لا يصح فيه ذلك ، وذكروا في جمعه أيضا عناكيب ، واختلف في نونه فقيل أصلية ، وقيل : زائدة كالتاء ، وجمعه على عكاب يدل على ذلك. وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع : وزنه فناعل وفي آخر فعالل ، فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلظ ا ه المراد منه ، ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقا من العكب بالفتح بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند قراره أطلق عليه اسم العنكبوت (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون شيئا من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، وقيل : أي لو كانوا يعلمون وهن الأوثان لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى ، وفي الكشف أن قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرناها فيما مر من الإيغال ، جهلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلا أنهم لا يعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة ، و (لَوْ) شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا إليه ، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)(٤٥)

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله إلخ ، وقيل : لا حاجة إلى إضماره لجواز أن يكون (تدعون) من باب الالتفات للإيذان بالغضب ، وفيه بحث. وقرأ أبو عمرو وسلام «يعلم ما» بالإدغام. وأبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بياء الغيبة حملا على ما قبله ، و (ما) استفهامية منصوبة بتدعون و (يَعْلَمُ) معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها و (مِنْ) الأولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر و (مِنْ) الثانية للتبيين ؛ وجوز كونها للتبعيض ، ويجوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون ، أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئا ، كأن ما يدعونه من دونه عزوجل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئا ، وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية ، أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل : (مِنْ) للتبيين و (شَيْءٍ) بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير ، أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة ، وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية.

وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده ، ولا يخفى ما فيه. والكلام على الوجهين الأولين في (ما) تجهيل للكفرة المتخذين من دون الله تعالى أولياء لما فيهما من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا ؛ والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار ، وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف ، وعلى الوجهين الأخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه ، وترك العطف فيه لأنه استئناف ، ويجوز إرادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها ، وقوله

٣٦٦

تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في موضع الحال ويفهم منه التعليل على المعنيين ، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه ، وإن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدوم البحت ، وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) أي هذا المثل ونظائره من الأمثال المذكورة في الكتاب العزيز. (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تقريبا لما بعد من أفهامهم (وَما يَعْقِلُها) على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد (إِلَّا الْعالِمُونَ) الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي. وروى محيي السنة بسنده عن جابر «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الآية فقال العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه» (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنها حال من مفعوله ، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على شئونه تعالى المتعلقة بذاته سبحانه وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) دالة لهم على ما ذكر من شئونه عزوجل ، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والإرشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي دم على تلاوة ذلك تقربا إلى الله تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي داوم على إقامتها. وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بإقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) كأنه قيل : وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عزوجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به ، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عزوجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به إن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله ، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك ، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل : ٩٠] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى ، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء ، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل. ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبي وابن جريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها ، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء. ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال : إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عزّ من قائل : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] ومن كان ذاكرا لله عزوجل منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره ، وهو كما ترى ، وقيل : إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك ، وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال ، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم

٣٦٧

النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الإتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم ، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنه لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له : ضيعك الله تعالى كما ضيعتني ، وكأن مراد القائل : إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا.

وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» وفي لفظ : «لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعدا» وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : إن فلانا يطيل الصلاة فقال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من الله تعالى وكرما ، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي ، ويشير إلى هذا ما أخرج أحمد وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول» وأصرح منه فيما ذكرنا ما روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب ، إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث. ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحة ، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن ، وقال ابن بحر : إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية : المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه ، وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى ، وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢].

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك أنه قال ذكر الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت ، وجوز أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء ، وقيل : المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة ، وقيل : أي ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة ، وقيل : أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله ، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه. أخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله تعالى قال : ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

٣٦٨

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من إعطاء الدنانير والدراهم قالوا : وما هو يا أبا الدرداء؟ قال ذكر الله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)». وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال : أما تقرأ القرآن؟ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) لا شيء أفضل من ذكر الله ، ونسب في البحر إلى أبي الدرداء. وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت ، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما ، وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه.

أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عنترة قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال : ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة.

وقيل : المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، وقيل : المعنى ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر ، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة ، (فذكر) على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف ، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في الله أكبر (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة ، وقال أبو حيان : (يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة. (١)

__________________

(١) تم الجزء العشرين ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي والعشرون أوله قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا) إلخ

٣٦٩
٣٧٠

فهرس المجلد العاشر

من

روح المعاني

٣٧١
٣٧٢

الفهرس

تتمة سورة الفرقان

الآيات : ٢١ ـ ٣٥.............................................................. ٣

الآيات : ٣٦ ـ ٥٩.............................................................. ٨

الآيات : ٦٠ ـ ٧٧............................................................. ٣٩

سورة الشعراء

الآيات : ١ ـ ٢٢.............................................................. ٥٨

الآيات : ٢٣ ـ ٧٤............................................................. ٧٠

الآيات : ٧٥ ـ ١٢٣........................................................... ٩٢

الآيات : ١٢٤ ـ ٢١٢........................................................ ١١٠

الآيات : ٢١٣ ـ ٢٢٧........................................................ ١٣١

سورة النمل

الآيات : ١ ـ ١٢............................................................. ١٥١

الآيات : ١٣ ـ ٢١........................................................... ١٦٣

الآيات : ٢٢ ـ ٣٧........................................................... ١٨١

الآيات : ٣٨ ـ ٥٥........................................................... ١٩٦

الآيات : ٥٦ ـ ٦٨........................................................... ٢١٣

الآيات : ٦٩ ـ ٨٤........................................................... ٢٢٦

الآيات : ٨٥ ـ ٩٣........................................................... ٢٣٩

سورة القصص

الآيات : ١ ـ ١٧............................................................. ٢٥٢

٣٧٣

الآيات : ١٨ ـ ٢٩........................................................... ٢٦٦

الآيات : ٣٠ ـ ٥٦........................................................... ٢٨١

الآيات : ٥٧ ـ ٧٧........................................................... ٣٠٣

الآيات : ٧٨ ـ ٨٨........................................................... ٣١٩

سورة العنكبوت

الآيات : ١ ـ ٢٤.............................................................. ٣٧

الآيات : ٢٥ ـ ٤١........................................................... ٣٥٤

الآيات : ٤٢ ـ ٤٥........................................................... ٣٦٦

٣٧٤