روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وهو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقة وهي الإفاضة والاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والإلهام ، وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الأعلين يسمع صريف أقلامهم وإلقاء كلامهم وهو كلام الله تعالى النازل في محل معرفتهم وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب ، ثم إذا نزل عليه الصلاة والسلام إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية ثم يتعدى منه الأثر إلى الظاهر ، وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسية لكن لا في الأغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه فهي تشايع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته فلا جرم إذا خاطبه الله تعالى خطابا من غير حجاب خارجي سواء كان الخطاب بلا واسطة أو بواسطة الملك واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير منفكة عن معناها وروحها الحقيقي لا كصورة الأحلام والخيالات العاطلة عن المعنى فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا فيرى صورته الخلقية القدرية ويسمع كلاما مسموعا بعد ما كان وحيا معقولا أو يرى لوحا بيده مكتوبا فالموحى إليه يتصل بالملك أولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الإلهية ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم. ثم إذا نزل عن هذا المقام الشامخ الإلهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة بحسبه ثم ينحدر إلى حسه الظاهر ثم إلى الهواء وهكذا الكلام في كلامه فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعة يختص هو بسماعها دون غيره فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه إلى شهادته ومن باطن سره إلى مشاعره ، وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه إذ كل له مقام معلوم لا يتعداه ولا ينتقل عنه بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي النبي عليه الصلاة والسلام من نشأة الغيب إلى نشأة الظهور ، ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي ثم يرى ويسمع ثم يقع منه الإنباء والإخبار فهذا معنى تنزيل الكتاب وإنزال الكلام من رب العالمين انتهى. وفيه ما تأباه الأصول الإسلامية مما لا يخفى عليك وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك وهو جسم عندهم ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم ، نعم أولو نزول القرآن وإنزاله.

قال الأصفهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله تعالى منزل واختلفوا في معنى الإنزال ، فمنهم من قال : إظهار القراءة ، ومنهم من قال : إن الله تعالى الهم كلامه جبريل عليه‌السلام وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان ، إحداهما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل عليه‌السلام ، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم منه ، والأولى أصعب الحالين انتهى ؛ وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.

وقال القطب في حواشي الكشاف الإنزال في اللغة الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل وكلاهما لا يتحققان في الكلام فهو مستعمل بمعنى مجازي فمن قال : القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ. ومن قال : القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ ، وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين.

ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى

١٢١

الثاني ، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم انتهى وفيه بحث لا يخفى ، وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب ، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلم وهذا ينافي ما قيل : إن آخر سورة البقرة كلمه الله تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة احتجاجا بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود «لما أسري برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم انتهى إلى سدرة المنتهى» الحديث وفيه: «فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله تعالى شيئا المقحمات» ، وأجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه‌السلام بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك ، وقد ثبت نزوله عليه‌السلام بالآية الواحدة مرتين لما ذكر ، وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب ، واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به إسرافيل عليه‌السلام وهو ما كان في أول النبوة وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا.

وفي الإتقان أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال : أنزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه‌السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه فنزل عليه القرآن على لسانه عشر سنين انتهى ، وهو صريح في خلاف ذلك وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل عليه‌السلام هو الذي نزل عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي من أول الأمر إلا أنه نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيره عليه‌السلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور ، وكثيرا ما ينزلون لتشييع الآيات القرآنية مع جبريل عليه وعليهم‌السلام.

ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب لأن إنزال جبريل عليه‌السلام قد لا يكون على القلب بناء على ما ذكره الشيخ محيي الدين قدس‌سره في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله : اعلم أن الملك يأتي النبي عليه الصلاة والسلام بالوحي على حالين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقى ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء.

وتعقب بأنه لا حاجة إلى ما ذكر ، وما نقل عن محيي الدين قدس‌سره لا يدل على أن نزول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين فيجوز أن يكون نزول الوحي إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحال الأولى فقط سلمنا دلالته على العموم وأن نزول الوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك لكن لا نسلم أنه يدل على أن نزول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثانية سلمنا دلالته على ذلك لكن لا نسلم صحة جعله مبنى لتأويل الآية ، وكي يؤول كلام الله تعالى لكلام مناف لظاهره صدر من غير معصوم ، ويكفي محيي الدين قدس‌سره من علماء الشريعة أن يؤولوا كلامه ليوافق كلام الله عزوجل فيسلم من الطعن ، ولعل من يؤول في مثل ذلك يحسن الظن بمحيي الدين قدس‌سره ويقول : إنه لم يقل ذلك إلا لدليل شرعي فقد قال قدس‌سره في الكلام على الإذن من الفتوحات : اعلم أني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي ، وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الكتاب المذكور جميع ما أتكلم به في مجالسي وتأليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فيه فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج عن مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه سبحانه إلى غير ذلك فالداعي للتأويل في الحقيقة ذلك الدليل لا نفس كلامه قدس‌سره العزيز وهو اللائق بالمسلمين الكاملين.

١٢٢

وقوله تعالى : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) متعلق بنزل أي نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة. وإيثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به ، وكذا قوله سبحانه : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) متعلق بنزل عند جمع من الأجلة ويكون حينئذ على ما قال الشهاب بدلا من (بِهِ) بإعادة العامل ، وتقديم (لِتَكُونَ) إلخ للاعتناء بأمر الإنذار ولئلا يتوهم أن كونه عليه الصلاة والسلام من جملة المنذرين المذكورين متوقف على كون الإنزال بلسان عربي مبين ، واستحسن كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير (بِهِ) أي نزل به ملتبسا بلغة عربية واضحة المعنى ظاهرة المدلول لئلا يبقى لهم عذر ، وقيل : بلغة مبينة لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم على أن (مُبِينٍ) من أبان المتعدي ، والأول أظهر.

وجوز أن تعلق الجار والمجرور بالمنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاد بعضهم خالد بن سنان وصفوان بن حنظلة عليهما‌السلام. وتعقب بأنه يؤدي إلى أن غاية الإنذار كونه عليه‌السلام من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليهم‌السلام ، ولا يخفى فساده كيف لا ، والطامة الكبرى في باب الإنذار ما أنذره نوح وموسى عليهما‌السلام ، وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره إبراهيم عليه‌السلام لانتمائهم إليه وادعائهم أنهم على ملته عليه‌السلام ، وذكر بعضهم أن المراد على هذا الوجه أنك أنذرتهم كما أنذر آباؤهم الأولون وأنك لست بمبتدع بهذا فكيف كذبوك ، والحق أن الوجه المذكور دون الوجه السابق ، وأما أنه فاسد معنى كما يقتضيه كلام المتعقب فلا.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإنّ ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة على أن الضمير للقرآن والكلام على حذف مضاف وهذا كما يقال : إن فلانا في دفتر الأمير. وقيل : المراد وإن معناه لفي الكتب المتقدمة وهو باعتبار الأغلب فإن التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور في الكتب السابقة فلا يضران منه ما ليس في ذلك بحسب الظن الغالب كقصة الإفك وما كان في نكاح امرأة زيد وما تضمنه صدر سورة التحريم وغير ذلك. واشتهر عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه جوز قراءة القرآن بالفارسية والتركية والهندية وغير ذلك من اللغات مطلقا استدلالا بهذه الآية. وفي رواية تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية لخبر لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري. وفي رواية أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية إذا كان ثناء كسورة الإخلاص أما إذا كان غيره فلا تجوز ، وفي أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة إذا كان المصلي عاجزا عن العربية وكان المقروء ذكرا وتنزيها أما القراءة بها في غير الصلاة أو في الصلاة وكان القارئ يحسن العربية أو في الصلاة وكان القارئ عاجزا عن العربية لكن كان المقروء من القصص والأوامر والنواهي فإنها لا تجوز ، وذكر أن هذا قول صاحبيه. وكان رضي الله تعالى عنه قد ذهب إلى خلافه ثم رجع عنه إليه. وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين. وللعلامة حسن الشرنبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية فمن أراد التحقيق فليرجع إليها. وكان رجوع الإمام عليه الرحمة عما اشتهر عنه لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى على المتأمل.

وفي الكشف أن القرآن كان هو المنزل للإعجاز إلى آخر ما يذكر في معناه فلا شك أن الترجمة ليست بقرآن وإن كان هو المعنى القائم بصاحبه فلا شك أنه غير ممكن القراءة ، فإن قيل : هو المعنى المعبر عنه بأي لغة كان قلنا لا شك في اختلاف الأسامي باختلاف اللغات وكما لا يسمى القرآن بالتوراة لا يسمى التوراة بالقرآن فالأسماء لخصوص

١٢٣

العبارات فيها مدخل لا أنها لمجرد المعنى المشترك اه ، وفيه بحث فإن قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) [فصلت : ٤٤] يستلزم تسميته قرآنا أيضا لو كان أعجميا فليس لخصوص العبارة العربية مدخل في تسميته قرآنا ، والحق أن قرآنا المنكر لم يعهد فيه نقل عن المعنى اللغوي فيتناول كل مقروء ، أما القرآن باللام فالمفهوم منه العربي في عرف الشرع فلخصوص العبارة مدخل في التسمية نظرا إليه ، وقد جاء كذلك في الآية الدالة على وجوب القراءة أعني قوله سبحانه : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] وبذلك تم المقصود ، وجعل من فيه للتبعيض وإرادة المعنى من هذا البعض لا يخفى ما فيه ، وقيل : ضمير (إِنَّهُ) عائد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس بواضح ، وقرأ الأعمش «زبر» بسكون الباء.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) الهمزة للتقرير أو للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين وإنه لفي زبر الأولين على أن (لَهُمْ) متعلق بالكون قدم على اسمه وخبره للاهتمام أو بمحذوف هو حال من (آيَةً) قدمت عليها لكونها نكرة و (آيَةً) خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله تعالى : (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، والعلم بمعنى المعرفة والضمير للقرآن أي ألم يكن لهم آية معرفة علماء بني إسرائيل القرآن بنعوته المذكورة في كتبهم ، وعن قتادة أن الضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : العلم على معناه المشهور والضمير للحكم السابق في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) إلخ وفيه بعد كما لا يخفى ، وذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي فقالوا : هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية في ذلك ، وهو ظاهر في أن الضمير له عليه الصلاة والسلام ويؤيده كون الآية مكية. وقال مقاتل : هي مدنية ، وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام ونحوه كما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم ، وقيل أنبياؤهم فإنهم نبهوا على ذلك وهو خلاف الظاهر ، ولعل أظهر الأقوال كون المراد به معاصريه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من علماء أهل الكتابين المسلمين وغيرهم.

وقرأ ابن عامر والجحدري «تكن» بالتأنيث و «آية» بالرفع وجعلت اسم تكن و (أَنْ يَعْلَمَهُ) خبرها. وضعف بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة ، ولا يدفعه كون النكرة ذات حال بناء على أحد الاحتمالين في (لَهُمْ) ، وجوز أن يكون (آيَةً) الاسم و (لَهُمْ) متعلقا بمحذوف هو الخبر و «أن يعلمه» بدلا من الاسم أو خبر مبتدأ محذوف ، وأن يكون الاسم ضمير القصة و (لَهُمْ آيَةً) مبتدأ وخبر والجملة خبر تكن و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلا أو خبر مبتدأ محذوف وأن يكون الاسم ضمير القصة و (آيَةً) خبر (أَنْ يَعْلَمَهُ) والجملة خبر تكن وأن تكون تكن تامة. و (آيَةً) فاعلا و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلا أو خبرا لمحذوف و (لَهُمْ) إما حالا أو متعلقا بتكن وقرأ ابن عباس «تكن» بالتأنيث و (آيَةً) بالنصب كقراءة من قرأ «ثم لم تكن» بالتأنيث فتنتهم بالنصب «إلا أن قالوا» وكقول لبيد يصف العير والأتان :

فمضى وقدمها وكانت عادة

منه إذا هي عردت إقدامها

وذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل «أن يعلمه» بالمعرفة وتأويل أن قالوا بالمقالة وتأويل الأقدام بالمتقدمة ، ودعوى اكتساب التأنيث فيه من المضاف إليه ليس بشيء لفقد شرطه المشهور.

وقرأ الجحدري تعلمه بالتأنيث على أن المراد جماعة علماء بني إسرائيل وكتب في المصحف «علمؤا» بواو

١٢٤

بين الميم والألف ووجه ذلك بأنه على لغة من يميل ألف علماء إلى الواو كما كتبوا الصلوات والزكات والربو بالواو على تلك اللغة (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) أي القرآن كما هو بنظمه الرائق المعجز (عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية ، وهو جمع أعجمي كما في التحرير وغيره إلا أنه حذف ياء النسب منه تخفيفا. ومثله الأشعرين جمع أشعري في قول الكميت :

ولو جهزت قافية شرودا

لقد دخلت بيوت الأشعرينا

وقد قرأه الحسن وابن مقسم بياء النسب على الأصل ، وقال ابن عطية : هو جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب والعجمي هو الذي نسبته في العجم خلاف العرب وإن كان أفصح الناس انتهى.

واعترض بأن أعجم مؤنثة عجماء وفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة ، وأجيب بأن الأعجم في الأصل البهيمة العجماء لعدم نطقها ثم نقل أو تجوز به عما ذكر وهو بذلك المعنى ليس له مؤنث على فعلاء فلذلك جمع جمع السلامة ، وتعقب بأنه قد صرح العلامة محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه غرائب القرآن بأن الأعجم هو الذي لا يفصح والأنثى العجماء ولو سلّم أنه ليس له بذلك المعنى مؤنث فالأصل مراعاة أصله. وفيه أن كون ارتفاع المانع لعارض مجوزا مما صرح به النحاة. ثم إن كون أفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة مذهب البصريين والفراء وغيره من الكوفيين يجوزونه فلعل من قال : إنه جمع أعجم قاله بناء على ذلك. وظاهر الجمع المذكور يقتضي أن يكون المراد به العقلاء ، وعن بعضهم أنه جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل من الدواب العجم وجمع جمع العقلاء لأنه وصف بالتنزيل عليه وبالقراءة في قوله تعالى : (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) فإن الظاهر رجوع ضمير الفاعل إلى بعض الأعجمين وهما من صفات العقلاء ، والمراد بيان فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة كأنه قيل : ولو نزلناه بهذا النظم الرائق المعجز على من لا يقدر على التكلم بالعربية أو على ما ليس من شأنه التكلم أصلا من الحيوانات العجم (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) قراءة صحيحة خارقة للعادة (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ، وقيل : المراد بالأعجمين جمع أعجم أعم من أن يكون عاقلا أو غيره ، ونقل ذلك الطبرسي عن عبد الله بن مطيع ، وذكر أنه روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال : هذا من الأعجمين. والطبري على ما في البحر يروي نحو هذا عن ابن مطيع ، والمراد أيضا بيان فرط عنادهم ، وقيل : هو جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل وضمير الفاعل في (قرأه) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمير (عَلَيْهِمْ) لبعض الأعجمين وكذا ضمير (كانُوا) والمعنى لو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم فقرأه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أولئك البهائم ما كانوا أي أولئك البهائم مؤمنين به فكذلك هؤلاء لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المراد ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لعدم فهمهم ما فيه ، وأخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وهو بعيد عما يقتضيه مقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد. واستند بعضهم بالآية عليه في منع أخذ العربية في مفهوم القرآن إذ لا يتصور على تقدير أخذها فيه تنزيله بلغة العجم إذ يستلزم ذلك كون الشيء الواحد عربيا وعجميا وهو محال.

وأجيب بأن ضمير نزلناه ليس راجعا إلى القرآن المخصوص المأخوذ في مفهومه العربية بل إلى مطلق القرآن ويراد منه ما يقرأ أعم من أن يكون عربيا أو غيره ، وهذا نحو رجوع الضمير للعام في ضمن الخاص في قوله تعالى : (ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] الآية فإن ضمير عمره راجع إلى شخص بدون وصفه بمعمر إذ لا يتصور نقص عمر المعمر كما لا يخفى.

١٢٥

وقال بعضهم في الجواب : إن الكلام على حذف مضاف ، والمراد (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) معناه بلغة العجم على بعض الأعجمين فتدبر ؛ وفي لفظ (بَعْضِ) على كل الأقوال إشارة إلى كون ذلك المفروض تنزيله عليه واحدا من عرض تلك الطائفة كائنا من كان و (بِهِ) متعلق بمؤمنين ، ولعل تقديمه عليه للاهتمام وتوافق رءوس الآي.

والضمير في قوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) على ما يقتضيه انتظام الضمائر السابقة واللاحقة في سلك واحد للقرآن وإليه ذهب الرماني وغيره ، والمعنى على ما قيل مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية وقد انضم إليه علم أهل الكتابين بشأنه وبشارة الكتب المنزلة بإنزاله فقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرون على ما هم عليه (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الملجئ إلى الإيمان به وحينئذ لا ينفعهم ذلك.

والمراد بالمجرمين المشركون الذين عادت عليهم الضمائر من (لَهُمْ) و (عَلَيْهِمْ) و (كانُوا) وعدل عن ضميرهم إلى ما ذكر تأكيدا لذمهم ، وقال الزمخشري في معنى ذلك : أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها فكيف ما فعل بهم وصنع ، وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال سبحانه : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧] وموقع قوله تعالى (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) إلخ مما قبله موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا أي سلكناه فيها غير مؤمن به اه.

وتعقب بأن الأول هو الأنسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الإيمان وتناجد مبادئ الهداية والإرشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية ، وقد يقال : إن هذا التفسير أوفق بتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي كالمبنى لهذه السورة الكريمة وبها صدرت حيث قال سبحانه : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] كأنه جل وعلا بعد أن ذكر فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وهو تفسير واضح في نفسه فهو عندي أولى مما تقدم.

وفي المطلع أن الضمير للتكذيب والكفر المدلول عليه بقوله تعالى : (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) وبه قال يحيى بن سلام ، وروى عن ابن عباس والحسن ، والمعنى وكذلك سلكنا التكذيب بالقرآن والكفر به في قلوب مشركي مكة ومكناه فيها ، وقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) إلخ واقع موقع الإيضاح لذلك ولا يظهر على هذا الوجه كونه حالا ولا أرى لهذا المعنى كثرة بعد عن قول من قال أي على مثل هذا السلك سلكنا القرآن وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم ، وحاصل الأول كذلك سلكنا التكذيب بالقرآن في قلوبهم.

وحاصل هذا وكذلك سلكنا القرآن بصفة التكذيب به في قلوبهم فتأمل ، وجوز جعل الضمير للبرهان الدال عليه قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو بعيد لفظا ومعنى ، هذا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمجرمين غير الكفرة المتقدمين الذين عادت عليهم الضمائر وهم مشركو مكة من المعاصرين لهم ومن يأتي بعدهم وذلك إشارة إلى السلك في قلوب أولئك المشركين أي مثل ذلك السلك في قلوب مشركي مكة سلكناه في قلوب المجرمين غيرهم لاشتراكهم في الوصف ، وقوله سبحانه : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) إلخ بيان لحال المشركين

١٢٦

المتقدمين الذين اعتبروا في جانب المشبه به أو إيضاح لحال المجرمين وبيان لما يقتضيه التشبيه وهو كما ترى ؛ ونقل في البحر عن ابن عطية أنه أريد مجرمي كل أمة أي إن سنة الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر انتهى ، وكأنه جعل ضمير (سَلَكْناهُ) لمطلق الكفر لا للكفر بالقرآن ، وضمير (بِهِ) لله تعالى أو لما أمروا بالإيمان به للقرآن وإلا فلا يكاد يتسنى ذلك ، وعلى كل حال لا ينبغي أن يعول عليه.

(فَيَأْتِيَهُمْ) أي العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بإتيانه (فَيَقُولُوا) أي تحسرا على ما فات من الإيمان وتمنيا للإمهال لتلافي ما فرطوه (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي مؤخرون ، والفاء في الموضعين عاطفة وهي كما يدل عليه كلام الكشاف للتعقيب الرتبي دون الوجودي كأنه قيل : حتى يكون رؤيتهم للعذاب الأليم فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة نظير ما في قولك إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله تعالى ، فلا يرد أن البغت من غير شعور لا يصح تعقبه للرؤية في الوجود ، وقال سري الدين المصري عليه الرحمة في توجيه ما تدل عليه الفاء من التعقيب : إن رؤية العذاب تكون تارة بعد تقدم أماراته وظهور مقدماته ومشاهدة علاماته وأخرى بغتة لا يتقدمها شيء من ذلك فكانت رؤيتهم العذاب محتاجة إلى التفسير فعطف عليها بالفاء التفسيرية قوله تعالى : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) وصح بينهما معنى التعقيب لأن مرتبة المفسر في الذكر أن يقع بعد المفسر كما فعل في التفصيل بالقياس إلى الإجمال كما يستفاد من تحقيقات الشريف في شرح المفتاح. ويمكن أن تكون الآية من باب القلب كما هو أحد الوجوه في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤] للمبالغة في مفاجأة رؤيتهم العذاب حتى كأنهم رأوه قبل المفاجأة. والمعنى حتى يأتيهم العذاب الأليم بغتة فيروه انتهى. وجعلها بعضهم للتفصيل ، واعترض على ما قال صاحب الكشاف بأن العذاب الأليم منطو على شدة البغت فلا يصح الترتيب والتعقيب الرتبي وهو وهم كما لا يخفى.

والظاهر أن جملة وهم لا يشعرون حال مؤكدة لما يفيده (بَغْتَةً) فإنها كما قال الراغب مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب.

ثم إن هذه الرؤية وما بعدها إن كانت في الدنيا كما قيل فإتيان العذاب الأليم فيها بغتة مما لا خفاء فيه لأنه قد يفاجئهم فيها ما لم يكن يمر بخاطرهم على حين غفلة. وإن كانت في الآخرة فوجه إتيانه فيها بغتة على ما زعمه بعضهم أن المراد به أن يأتيهم من غير استعداد له وانتظار فافهم ، واختار بعضهم أن ذلك أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة.

وقرأ الحسن وعيسى «تأتيهم» بتاء التأنيث ، وخرج ذلك الزمخشري على أن الضمير للساعة ، وأبو حيان عن أنه للعذاب بتأويل العقوبة ، وقال أبو الفضل الرازي : للعذاب وأنث لاشتماله على الساعة فاكتسى منها التأنيث وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها انتهى وهو في غاية الغرابة وكأنه اعتبر إضافة العذاب إلى الساعة معنى بناء على أن المراد بزعمه حتى يروا عذاب الساعة الأليم ، وقال : باكتسائه التأنيث منها بسبب إضافته إليها لأن الإضافة إلى المؤنث قد تكسى المضاف المذكر التأنيث كما في قوله :

كما شرقت صدر القناة من الدم

ولم أر أحدا سبقه إلى ذلك. وقرأ الحسن «بغتة» بالتحريك ، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه «ويروه بغتة»

١٢٧

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أي يطلبونه قبل أوانه وذلك قولهم : أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقولهم : فائتنا بما تعدنا ونحوهما (أَفَرَأَيْتَ) أي فاخبر (إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) أي مدة من الزمان بطول الأعمال وطيب المعاش أو عمر الدنيا على ما روي عن عكرمة. وعبر عن ذلك بما ذكر إشارة إلى قلته (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) أي الذين كانوا يوعدونه من العذاب (ما أَغْنى عَنْهُمْ) أي أي شيء أو أي غناء أغنى عنهم (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها. وأيا ما كان فالاستفهام للنفي والإنكار.

وقيل : ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه ، والأول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة أوجه كما في الكشاف ، الأول أن قوله سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ) إلخ متصل بقوله تعالى : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) وقوله جل وعلا : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها ، والمعنى على هذا كما في الكشف أنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه : إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أياما قلائل فهو لاحق بهم لا محالة وهنالك لا ينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الإيمان ، وأصل النظم الكريم لا يؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فإن متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الأيام القلائل فجيء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر إفادة لمعنى التعجب والإنكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب.

ووسط (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) للتبكيت والهمزة فيه للإنكار ، وجيء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل : أيستعجل هذا العذاب عاقل. وفي الإرشاد اختيار أن قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) متصل بقوله سبحانه : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون إلخ ، وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال : إن العطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له ، ولعل المنصف يقول : لكل وجهة.

والثاني أن قوله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) حكى لنا لطفا و (يَسْتَعْجِلُونَ) عليه في معنى استعجلتم إذ كذلك يقال لهم ذلك اليوم ، وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر ، وارتباط (أَفَرَأَيْتَ) إلخ بقولهم : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) على نحو ما تقدم في الوجه السابق.

والثالث أن قوله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة. وأمن فقال عزوجل : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل ثم قال سبحانه : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم.

وعلى هذا يكون (فَبِعَذابِنا) إلخ عطفا على مقدر بلا خلاف نحو أيستهزءون (فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ).

١٢٨

وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) إلخ تعجبا من حالهم مترتبا على الاستهزاء والاستعجال ، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك : هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فاحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة.

وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله ، وأيا ما كان فقوله سبحانه : (بعذابنا) متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل. وقرئ «يمتعون» من الامتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب. روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى المهلكة (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و (مُنْذِرُونَ) مبتدأ ، والجملة في موضع الحال من (قَرْيَةٍ) قاله أبو حيان ثم قال : الأعراب أن يكون (لَها) في موضع الحال وارتفع (مُنْذِرُونَ) بالجار والمجرور أي إلا كائنا لها منذرون فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائما فصبح انتهى ، وفي الوجهين مجيء الحال من النكرة. وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها ، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغا لمجيء الحال قياسا على جعلهم إياه مسوغا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة. وذهب الزمخشري إلى أن «لها منذرون» جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال : مذهب الجمهور إنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر. وايا ما كان فضمير «لها» للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر.

وقوله تعالى : (ذِكْرى) منصوب على الحال من الضمير في (مُنْذِرُونَ) عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارا للمبالغة. وعلى المصدر فالعامل (مُنْذِرُونَ) لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل : مذكرون ذكرى أي تذكرة. وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. وأن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ، وجوز أيضا أن يكون متعلقا بأهلكنا على أنه مفعول له. والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال : وهذا هو الوجه المعول عليه. وبين ذلك في الكشف بقوله : لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالا وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذ يتلاءم الكلام انتهى ، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من

١٢٩

غيرنا بأن نهلك أحدا قبل إنذاره أو بأن نعاقب من لم يظلم. ولإرادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال : (وَما كُنَّا) دون وما نظلم (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) متعلق بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه إليه عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي ، وقرأ الحسن وابن السميقع «الشياطون» فقال أبو حاتم : هو غلط من الحسن أو عليه ، وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية ، وقال الفراء : غلط الشيخ ظن أنها النون التي على هجاءين ، وقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه ، وقال يونس بن حبيب. سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبرون وفلسطون أجرى فيه نحو ما أجرى فيهما فقيل الشياطون.

وحقه على هذا على ما في الكشاف أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك ، وفي البحر نقلا عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه. قيل : ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روى عنهما التشديد وقرأ به غيرهما ، وقال بعض : إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطا كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى ، وقال صاحب الكشف. لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة. وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال : وعلى كل حال فالشياطون غلط وأبو حيان لا يرضى بكونه غلطا ويقول : قرأ به الحسن. وابن السميقع والأعمش ولا يمكن أن يقال. غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان والله تعالى أعلم. والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الأجلة لزم توجيهها فإنهم لا يقرءون إلا عن رواية كغيرهم من القراء في جميع ما يقرءونه عندنا ، وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي.

(وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك (وَما يَسْتَطِيعُونَ) أي وما يقدرون على ذلك أصلا.

(إِنَّهُمْ) أي الشياطين (عَنِ السَّمْعِ) لما يتكلم به الملائكة عليهم‌السلام في السماء (لَمَعْزُولُونَ) أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٨ ، ٩] والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره الله عزوجل لمن شاء في سمائه من باب أولى ، وقيل : المعنى إنهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم‌السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم‌السلام ، وتعقب بأنه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم‌السلام مطلقا مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفون الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب وأيضا لو كان ما ذكر شرطا للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم.

وأيضا لو صح ما ذكر لم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم‌السلام سواء كان مشتملا على

١٣٠

الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله : والقرآن مشتمل إلخ إلى غير ذلك. وإن أراد أن السمع لكلام الملائكةعليهم‌السلام إذا كان وحيا منزلا على الأنبياء عليهم‌السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضا كيف وقد ثبت أن جبريل عليه‌السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظا للوحي من الشيطان وقد قال عزوجل : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٨] وأيضا ظاهر العزل عن السمع يقتضي أنهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطا للسمع ، فإن ادعى أن الشرط كان موجودا إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على إبليس عليه اللعنة مما لا يخفى حاله فتدبر.

وبالجملة الذي أميل إليه في معنى الآية ما ذكرته أولا. وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك ، وجوز كون ضمير (إِنَّهُمْ) للمشركين. والمراد أنهم لا يصغون للحق لعنادهم ، وفي الآية شمة من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] وهو بعيد جدا.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢٢٧)

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة والسلام تهييجا وحثا لازدياد الإخلاص فهو كناية عن أخلص في التوحيد حتى لا ترى معه عزوجل سواه. وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهي عنه من لم يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه. وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع الله إلها آخر (وَأَنْذِرْ) العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي (عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قربا إليك من غيرهم.

والعشيرة على ما قال الجوهري : رهط الرجل الأدنون. وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة. واشتهر أن طبقات الأنساب ست ، الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان ، الثانية القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر الثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة الرابعة البطن وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم الخامسة الفخذ وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية السادسة الفصيلة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده.

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة

١٣١

مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة ، وفي البحر أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة ، والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول.

وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه : وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة ، ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتخذت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات ، وأنت تعلم أن الأقربية إذا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور.

وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بأمر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة ومضر ، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش وكنانة ، ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف. وبني مخزوم ، ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم انتهى. ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة ، ووجه تخصيص عشيرته صلّى الله تعالى عليه وسلّم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام دفع توهم المحاباة وأن الاهتمام بشأنهم أهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده كما قال سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وفي كيفية الإنذار أخبار كثيرة ، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) [المسد : ١ ، ٢]» ومنها ما أخرجه أحمد وجماعة عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها».

وجاء في بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة والسلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم أطلع عليهم فأنذرهم ، وجاء في بعض آخر منها أنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا كرّم الله تعالى وجهه أن يصنع طعاما ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذ أربعون رجلا فبعد أن أكلوا أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم من الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجىء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة ، فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.

١٣٢

ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ورهطك منهم المخلصين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بالتواضع على سبيل الاستعارة أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم ، ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر :

وأنت الشهير بخفض الجناح

فلا تك في رفعه أجدلا

و (مِنَ) قيل : بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن اتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك ، وقيل : للتبعيض بناء على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقا ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى ، وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن ولا شك أيضا أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين.

وقال بعضهم : على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان ـ من اتبعك ـ شائعا في من آمن حقيقة. ومن آمن مجازا فبين بقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إن المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفا ، وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا آمنا وهم صنفان : صنف صدق واتبع وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل : من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة. وعلى هذا يكون الذين أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة والسلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض. وقال بعض الأجلة الاتباع والإيمان توأمان إذ المتبادر من اتباع عليه الصلاة والسلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الإيمان الإيمان الحقيقي ، وذكر (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لإفادة التعميم كذكر (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] بعد طائر في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من آمن من عشيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم.

وقال الطيبي : الإجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وإن الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل إلى المؤمنين ليعم ويؤذن أن صفة الإيمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون من بيانية وإن عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) بدأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى : «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين».

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الظاهر أن الضمير المرفوع في (عَصَوْكَ) عائد على من أنذر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذارهم وهم العشيرة أي فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم فقل : إني بريء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع الله تعالى إلها آخر ، وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق ، وقيل : هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل : إني بريء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم. وذكر على هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة ، والآية على غير هذا القول منسوخة.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم ، وفي البحر هذه موادعة

١٣٣

نسختها آية السيف (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) فهو سبحانه يقهر من يعصيك منهم ومن غيرهم بعزته وينصرك برحمته ، وتقديم وصف العزة قيل لأنه أوفق بمقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجوز أن يكون ذلك لأن العزة كالعلة المصححة للتوكل والرحمة كالعلة الداعية إليه ، وفسره غير واحد بتفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على أن ينفعه ويضره. وقالوا : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى ، وذكر بعضهم أن هذا من أحط مراتب التوكل وأدناها ، ونقل عن بعض العارفين أنه فيما بين الناس على ثلاث درجات. الأولى التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى ، والثانية التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهادا في تصحيح التوكل وقمع تشرف النفس تفرغا إلى حفظ الواجبات والثالثة التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل. وذلك أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها وشأنه سبحانه سوق المقادير إلى المواقيت ، فالمتوكل من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين وهو أن يعلم أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يمنع ومتى طلع بتوكله عوضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا وإذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله تعالى كفاه الله تعالى كل مهم. وبين العلامة الطيبي إن في قوله تعالى : «وتوكل» إلخ إشارة إلى المراتب الثلاث بما فيه خفاء.

وفي مصاحف أهل المدينة والشام «فتوكل» بالفاء وبه قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وخرج على الإبدال من جواب الشرط. وجعل في الكشاف الفاء للعطف وما بعده معطوفا على (فَقُلْ) أو (فَلا تَدْعُ) وما ذكر أولا أظهر (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي إلى الصلاة (وَتَقَلُّبَكَ) أي ويرى سبحانه تغيرك من حال كالجلوس والسجود إلى آخر كالقيام (فِي السَّاجِدِينَ) أي فيما بين المصلين إذا أممتهم ، وعبر عنهم بالساجدين لأن السجود حالة مزيد قرب العبد من ربه عزوجل وهو أفضل الأركان على ما نص عليه جمع من الأئمة ، وتفسير هذه الجملة بما ذكر مروي عن ابن عباس وجماعة من المفسرين إلا أن منهم من قال : المراد حين تقوم إلى الصلاة بالناس جماعة ، وقيل : المعنى يراك حين تقوم للتهجد ويرى تقلبك أي ذهابك ومجيئك فيما بين المتهجدين لتتصفح أحوالهم وتطلع عليهم من حيث لا يشعرون وتستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى الله تعالى عليه وسلّم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى والتلاوة. وعن مجاهد أن المراد بقوله سبحانه : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) تقلب بصره عليه الصلاة والسلام فيمن يصلي خلفه فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان يرى من خلفه ، ففي صحيح البخاري عن أنس قال : «أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري».

وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان يقول : «استووا استووا استووا والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي» ولا يخفى بعد حمل ما في الآية على ما ذكر.

وقيل : المراد بالساجدين المؤمنون ، والمعنى يراك حين تقوم لأداء الرسالة ويرى تقلبك وترددك فيما بين المؤمنين أو معهم فيما فيه إعلان أمر الله تعالى وإعلاء كلمته سبحانه ، وتفسير الساجدين بالمؤمنين مروي عن ابن عباس وقتادة إلا أن كون المعنى ما ذكر لا يخلو عن خفاء.

١٣٤

وعن ابن جبير أن المراد بهم الأنبياء عليهم‌السلام ، والمعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم‌السلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه وهو كما ترى ، وتفسير الساجدين بالأنبياء رواه جماعة منهم الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس أيضا إلا أنه رضي الله تعالى عنه فسر التقلب فيهم بالتنقل في أصلابهم حتى ولدته أمه عليه الصلاة والسلام ، وجوز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يراد بالساجدين المؤمنون ، واستدل بالآية على إيمان أبويه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كما ذهب إليه كثير من أجلة أهل السنة ، وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله تعالى عنهما على رغم أنف على القارئ وأضرابه بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية الآية على هذا المطلب ، ورؤية الله تعالى انكشاف لائق بشأنه عز شأنه غير الانكشاف العلمي ويتعلق بالموجود والمعدوم الخارجي عند العارفين ، وقالوا : إن رؤية الله تعالى للمعدوم نظير رؤية الشخص القيامة ونحوها في المنام وكثير من المتكلمين أنكروا تعلقها بالمعدوم ، ومنهم من أرجعها إلى صفة العلم وتحقيق ذلك في محله ، وفي وصفه تعالى برؤيته حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بما تقدم تحقيق للتوكل وتوطين لقلبه الشريف عليه الصلاة والسلام عليه.

وقرأ جناح بن حبيش «ويقلّبك» مضارع قلب مشددا وخرج ذلك أبو حيان على العطف على يراك وجوز العطف على (تَقُومُ). وفي الكلام على هذه القراءة إشارة إلى وقوع تقلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الساجدين على وجه الكمال وكمال التقلب في الصلاة كونه بخشوع يغفل معه عما سوى الله تعالى (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) بكل ما يصح تعلق السمع به ويندرج فيه ما يقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْعَلِيمُ) بكل ما يصح تعلق العلم به ويندرج فيه ما يعمله أو ينويه عليه الصلاة والسلام ، وفي الجملة الاسمية إشارة إلى أنه سبحانه متصف بما ذكر أزلا وأبدا ولا توقف لذلك على وجود المسموعات والمعلومات في الخارج ، والحصر فيها حقيقي أي هو تعالى كذلك لا غيره سبحانه وتعالى.

وكأن الجملة متعلقة بالجملتين الواقعتين في حيز الجزاء جيء بها للتحريض على القول السابق والتوكل ، وجوز أن تكون متعلقة بما في حيز الصلة والمراد منها التحريض على إيقاع الأقوال والأفعال التي في الصلاة على أكمل وجه فتأمل.

وقوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) إلخ مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن ، وهذه الجملة وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلخ وقوله سبحانه : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) إلخ أخوات وفرق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع إلى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت عناية الله تعالى بها ، ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه ، والاستفهام للتقرير و (عَلى مَنْ) متعلق بتنزل قدم عليه لصدارة المجرور وتقديم الجار لا يضر كما بين في النحو ، وقال الزمخشري في ذلك : إن من متضمنة معنى الاستفهام وليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا معنى الاسم ومعنى الحرف وإنما معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من هل والأصل أهل كما قال :

سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فإذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول : أعلى من تنزل الشياطين كقولك : أعلى زيد مررت اه. وتعقبه صاحب الفرائد بقوله : يشكل ما ذكر بقولهم : من أين أنت ومن أين جئت وقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] وقوله فيم : وبم ومم وحتام ونحوها. وأجاب صاحب

١٣٥

الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت؟ لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه لا يحتاج على ما حققه النحاة إلى جميع ذلك ، وجملة (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ) إلخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني إن قدرت الفعل متعديا لاثنين ومسد مفعولين إن قدرته متعديا لثلاثة ، والمراد هل أعلمكم جواب هذا الاستفهام ـ أعني على من تنزل الشياطين ـ وأصل تنزل تتنزل فحذف إحدى التاءين. والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل : قل يا محمد هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي كثير الإفك وهو الكذب (أَثِيمٍ) كثير الإثم ، و (كُلِ) للتكثير وجوز أن تكون للإحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الإفك والإثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير وسطيح بن ربيعة بن عدي ، والمراد بواسطة التخصيص في معرض البيان أو السياق أو مفهوم المخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه عليه الصلاة والسلام (يُلْقُونَ) أي الأفاكون (السَّمْعَ) أي سمعهم إلى الشياطين ، وإلقاء السمع مجاز عن شدة الإصغاء للتلقي فكأنه قيل : يصغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون (وَأَكْثَرُهُمْ) أي الأفاكين (كاذِبُونَ) فيما يقولونه من الأقاويل ، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل.

وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادرا في بعض الأحايين ، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع وإلقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقى الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل. واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل : هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنونا وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم مع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع ، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم‌السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم ، ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع ، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوحون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم‌السلام لقصور فهمهم عنهم ، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم‌السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع ، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر. وقيل : هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه إليهم.

فقد أخرج البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «سأل أناس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان فقال : إنهم ليسوا بشيء فقالوا : يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا قال : تلك الكلمة من الحق (١) يحفظها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ، وقيل : هو قبل البعثة وبعدها كثرة

__________________

(١) ورواية من الجن بجيم ونون بدله رواية صحيحة ا ه منه بزيادة.

١٣٦

خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين ، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبر المذكور ، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذبا كثيرا فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقا وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذبا ، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه ، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير (يُلْقُونَ) في الآية راجعا إلى الشياطين ، والمعنى يلقي الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم ، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم‌السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم ، وقيل : المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم‌السلام على وجهه ، وجملة (يُلْقُونَ) على تقدير كون الضمير للأفاكين صفة (لِكُلِّ أَفَّاكٍ) لأنه في معنى الجمع سواء أريد بإلقاء السمع الإصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس ، وجوز أن تكون استئنافا إخبارا لحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل ، واستظهر تقدير المبتدأ على هذا ، وأن تكون استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل : ما يفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم؟ فقيل : يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس ، وجوز أن تكون حالا منتظرة على التقديرين أيضا.

وهي على تقدير كون الضمير للشياطين ، والمعنى ما سمعت أولا قيل : تحتمل أن تكون استئنافا مبينا للغرض من التنزل مبنيا على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم؟ فقيل : يلقون إليهم ما سمعوه ، وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إليهم ؛ وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانيا قيل : لا يجوز أن تكون استئنافا نظير ما ذكر آنفا ولا أن تكون حالا أيضا لأن الفاء السمع بمعنى الإنصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضا منه أو حالا مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافا للإخبار بحالهم.

وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل ، ومن هنا قيل : إن جعل الضمير للشياطين وحمل إلقاء السمع على إنصاتهم وتسمعهم إلى الملأ الأعلى مما لا سبيل إليه وفيه نظر ، وجملة (أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية ، هذا واعلم أن هاهنا إشكالا واردا على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد أن الشياطين يسمعون من الملائكة عليهم‌السلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين. وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢].

وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما هاهنا السمع في الجملة ويراد به الخطفة المذكورة في قوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) [الصافات : ١٠] والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين وابن مردويه السابق آنفا ، واعترض بأن من خطف لا يبقى حيا إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) فإن ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه.

وأجيب بأن نفي بقائه حيا غير مسلم ، ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب

١٣٧

الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الإهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حيا فإن الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك. وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السماوات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطئ أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري ، وقيل : إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها ، وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه التي لم ينسج على منوالها وإن كان للطعن فيها مجال قال : إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك ، بل ربما يقال : إن في كلامه بعد إشعارا ما بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط. لا قبل ذلك ولا بعده.

ولا يخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقا إلى يوم القيامة ، بل قد يدعي أن في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وإن خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضا قبل ولادته صلّى الله تعالى عليه وسلّم من خبر السماء ، ويشكل هذا على ظاهر العزل إلا أن يدعي أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل المنع شديدا بالنسبة إليه. وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا يتوصلون إلى الإنس ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى.

قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضا. فقد نقل النووي عنه في شرحه صحيح مسلم أنه قال : كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب ، أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى آخر ما قال. وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول :

بعث الله عند مبعثه الشه

ب حراسا وضاق عنها الفضاء

تطرد الجن عن مقاعد للسم

ع كما يطرد الذئب الرعاء

فمحت آية الكهانة آيا

ت من الوحي ما لهن انمحاء

وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاؤهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدا. والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه ، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان ، وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره : يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم امتحنه فأضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد : هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور فقال له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك».

وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا : أصح الأقوال إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة

١٣٨

والسلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك» أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لا يبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب ، وقد يقال في دفع هذا الإشكال : إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد ، والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافا للمعتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب ، وكذا الضرب السابق آنفا ، وأنه يحتمل أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة والسلام ، وكلا القولين الأخيرين حكاهما الداودي عن بعض العلماء كما في شرح صحيح مسلم.

وأيا ما كان يكون ابن الصياد قد أخبر بأمر طارئ تطلع عليه الشياطين بدون استراق السمع من السماء وليس ذلك من الاطلاع على ما في القلب في شيء ، ومع ذلك لم يخبر به تاما بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص.

ولعل مراد القاضي بقوله : إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف إلخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحال من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لأشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولا كما لا يخفى ، وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضا إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة ، وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين.

ومن الناس من قال : إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه الشهاب ثم إن من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك ، وقيل : إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملائكة عليهم‌السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى : (يُلْقُونَ السَّمْعَ) وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم‌السلام في السماء وهو المراد بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) واستدل لذلك بما أخرجه البخاري وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الأرض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ، ولا يخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم‌السلام في السماء بالمعنى المعروف لا نفيا ولا إثباتا ، وقد يختار القول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة ، وأما سمع ما لا يعتد به فقد يقع لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الكذب ما يخلطون ، فحيث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع ، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك ، ويقال : إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام ، نعم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خبأت» ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك ، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت. ويمكن أن يقال على بعد : إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم ، وإرجاع ضمير (يُلْقُونَ) إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و (أَكْثَرُهُمْ)

١٣٩

بمعنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود. والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من الملائكة عليهم‌السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه. والأمر في تسميته مسموعا هين. وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة ، ويقال : إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم ، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه ، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم‌السلام ألقاه الشيطان إليه. وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم‌السلام في السماء بما أضمره صلّى الله تعالى عليه وسلّم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو إلا ضرب من ضروب الكهانة.

وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها. ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الأتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن هاهنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عند ما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني ، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوي في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السائلين ، ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة والسلام عن البشرية واتصاله بالملإ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن الصياد حين سأله كاشفا عن حاله بقوله عليه الصلاة والسلام : «كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال : يأتيني صادق وكاذب : خلط عليك الأمر» يريد عليه الصلاة والسلام نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال ، وإنما قيل : أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة ، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث

١٤٠