روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

العاقل على غيره ، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد ـ كما قال ابن خروف ـ لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى ا ه.

وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه ، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما ، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق ، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها ، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا ، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله : «وبلدة» إلخ ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم : ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر ، وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السماوات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة ، وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال ، وقيل : يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا ، وهذا وما قبله كما ترى ، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم ، فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله» ، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع ، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث ، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها ، وقد قيل في حديث أنس : النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين ، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية ، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر ، وجوز أن يعرب من مفعول ـ يعلم. والغيب ـ بدل اشتمال منه ، والاسم الجليل فاعل (يَعْلَمُ) ويكون استثناء مفرغا أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله ولا يخفى بعده.

والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين ، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عزوجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال : إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه ، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته ـ على من قال ذلك قاصدا ما ذكر ـ أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء ، والظاهر عموم الغيب ، وقيل : المراد به الساعة ، وقيل : ما يضمره أهل السماوات والأرض في قلوبهم ، وقيل : المراد جنس الغيب ، ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عزوجل نفي علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير ، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عزوجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من

٢٢١

ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك ، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه ، وتعقب بأن الغيب من حيث إنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل.

واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السماوات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام ، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السماوات والأرض من يعلم بعض الغيوب ، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك ، ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر الناس بما يكون في غد. وفي بعض الروايات. يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب ، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له : أتعلم الغيب؟ فقال : نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] ، وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] ما نصه : وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر ، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الجن : ٢٦] الآية ، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة ، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا ، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى.

ولعل الحق أن يقال : إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له ، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السماوات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة ، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السماوات والأرض إشارة إلى علة الحكم ، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عزوجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال : إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا ، وإنما يقال : إنهم أظهروا أو اطلعوا. بالبناء للمفعول ، على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم ، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا ، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال : يجوز على هذا أن يقال : أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف ، ومتى جاز هذا جاز أن يقال : علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول : لا كلام في جواز. أعلم. بالبناء للمفعول ، وإنما الكلام في قولك : ومتى جاز هذا جاز أن يقال إلخ ، فنقول : إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله ، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وغيرها ؛ وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس‌سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه : «لا يعلم الغيب» متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه ، وقد شنعوا أيضا على من قال : أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت ، وبالفتنة المال أو الولد ، وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى. نعم لا يكفر قائل

٢٢٢

ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله ، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عزوجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لالتزم فيه ما التزم فيه ، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلّم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم : إنهم عالمون بالغيب ، وقائله إما كافر أو مسلم آثم ، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى ، والتأهل له قد يكون فطريا ، وقد يكون كسبيا ، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى ، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين ، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة ، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم ، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة ، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك ، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشئ من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم ، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه ، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك ، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى.

وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك ، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلا أو بعضا مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلا ، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب ، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس ، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب ، ويلتزم أن القاعدة أغلبية. وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل ؛ فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه ؛ والله تعالى أعلم.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه ، ومن أهم الأمور عندهم ـ فأيان ـ اسم استفهام عن الزمان ، ولذا قيل : إن أصلها أي آن أي أيّ زمان ، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة

٢٢٣

ليبعثون ، والجملة في موضع النصب. بيشعرون. وعلقت (يَشْعُرُونَ) لمكان الاستفهام ، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا ، وقيل : الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم ، وفيه بحث.

وقرأ السلمي. «إيان». بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره ، وأصل (ادَّارَكَ) تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء ، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا ، و (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بعلمهم. والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء ، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما ، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش ، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا ، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه ، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.

وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم ، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط ، وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها ، وقوله سبحانه : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة ، فالمراد (عَمُونَ) عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا ، و (مِنْها) متعلق بعمون ، قدم عليه رعاية للفواصل ، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.

وجوز أن يكون (ادَّارَكَ) بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك على سبيل الهزء ، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن ، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا.

وجوز أيضا أن يكون المراد بالإدراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك ، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.

وقال الكرماني : التدارك التتابع ، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول ؛ والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها ، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.

وقيل : إن في الآخرة متعلق. بادّارك. وإليه ذهب الزجاج والطبرسي ، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس

٢٢٤

رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا ، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.

وقيل : التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته ، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه ، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم ، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت ، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر.

وقرأ أبيّ أم «تدارك». على الأصل وجعل أم بدل (بَلِ) ، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل ، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم : اثرد وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل ، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل» ، وروى ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك». على وزن أفعل بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم ، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. «بل آدّرك». بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية ، وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] ، أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار ا ه.

وقد أجاز بعض المتأخرين ، كما قال أبو حيان ، الاستفهام بعد (بَلِ) وشبهه بقول القائل : أخبزا أكلت ، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني ، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل (بَلِ) وأدرك على وزن أفعل ، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على (ادَّارَكَ) فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن ، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل ، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك». بهمزة ، وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا ، وقرأ ورش في رواية. «بل ادّرك». بحذف همزة أدرك ، ونقل حركتها إلى اللام ، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك». بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي ، وقرأ. «بل آإدّارك». بألف بين الهمزتين ، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي ، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم : إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم : بلى إيجابا لما نفوا ، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ا ه ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة ، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا ، وقال بعض المحققين : ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال :

٢٢٥

تحية بينهم ضرب وجيع

أو رد وإنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) كالبيان لجهلهم بالآخرة وعما هم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول ، وإذا. ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون. أي أنخرج إذا كنا ترابا ولا مساغ لأن يكون ظرفا (لَمُخْرَجُونَ) لأن كلا من الهمزة وإن واللام على ما قيل : مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت ، ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناء على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيدا طعامك لآكل ، ويكفي حينئذ مانعان وأظن أن من قال : يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها لا يقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالإخراج الإخراج من القبور ، وجوز أن يكون الإخراج من حال الفناء إلى الحياة ، والأول هو الظاهر ، وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له بزعمهم ، وقوله سبحانه : (وَآباؤُنا) عطف على اسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد ، وتكرير الهمزة في أإنا. للمبالغة والتشديد في الإنكار ، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم ، فإن تقديم الهمزة لأصالتها في الصدارة ، والضمير في. أإنا. لهم ولآبائهم لأن الكون ترابا قد تناولهم وآباءهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو. أإذا. وأ إنا. بالجمع بين الاستفهامين ، وقلب الثانية ياء وفصل بينهما بألف أبو عمرو.

وقرأ نافع «إذا» بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر ، وآينا ، بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياء وبينهما مدة ، وقرأ آخرون أإذا. باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي الإخراج المذكور (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل وعد محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وتقديم الموعد على (نَحْنُ) هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطرح وعلاوة له كما ينبئ عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكدا مقررا مكررا ؛ وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل ، ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى أتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم ، والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد ، وقوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) تقرير إثر تقرير.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى

٢٢٦

وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨٤)

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله عزوجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار ، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقا مبغوض لله عزوجل (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لإصرارهم على الكفر والتكذيب (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) أي في حرج صدر (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي من مكرهم فإن الله تعالى يعصمك من الناس.

وقرأ ابن كثير «ضيق» بكسر الضاد وهو مصدر أيضا ، وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففا من ضيق ، وقد قرئ كذلك أي لا تكن في أمر ضيق ، وكره أبو علي كون ذلك مخففا مما ذكر لأنه يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد ، وفيه بحث.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي العذاب العاجل الموعود ، وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين ، ويعلم منه وجه للتعبير ـ بيقولون ـ وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني وقال الذين كفروا وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الاستهزاء والإنكار ، ولذا قالوا :

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) عانين إن كنتم صادقين في إخباركم بإتيانه فبينوا لنا وقته ، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أصل معنى (رَدِفَ) تبع والمراد به هنا لحق ، ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح.

وقيل : اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، وقيل : إن اللام لتضمين (رَدِفَ) معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدي بمن في قوله :

فلما ردفنا من عمير وصحبه

تولوا سراعا والمنية تعنق

وقيل : اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي (رَدِفَ) الخلق لأجلكم ولا يخفى ضعفه ، وقيل : إن الكلام تم عند (رَدِفَ) على أن فاعله ضمير يعود على الوعد ، ثم استأنف بقوله تعالى : (لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) على أن (بَعْضُ) مبتدأ ، و (لَكُمْ) متعلق بمحذوف وقع خبرا له ، ولا يخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي ، والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتا فوقتا ، والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر ، وقيل : عذاب القبر وليس بذاك ، ونسبة استعجال ذلك إليهم بناء على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة ، والترجي المفهوم من عسى قيل : راجع إلى العباد.

وقال الزمخشري : إن عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال

٢٢٧

للشك بعده ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، فعلى ذلك جرى وعد الله تعالى ووعيده سبحانه انتهى.

وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك ، وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : عسى أن يردفكم إلخ لكونه أدل على تحقق الوعد ، وقرأ ابن هرمز «ردف» بفتح الدال وهو لغة فيه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس ، ومن جملة إفضاله عزوجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يشكرونه جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء ، وقيل : لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك (وَما يُعْلِنُونَ) أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكي عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه ، أو فيجازيهم على ذلك ، وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازى عليه ، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكي عنهم ، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا ، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح ، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون.

وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميفع «تكنّ» بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي من شيء خفي ثابت الخفاء فيهما ؛ على أن (غائِبَةٍ) صفة غلبت في هذا المعنى فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر ، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوية للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة ، ويجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى ، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة ، والفرق بين المغلب والمنقول ـ على ما قال الخفاجي ـ ان الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني.

والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي بين ، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم‌السلام وهو اللوح المحفوظ ، واشتماله على ذلك إن كان متناهيا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى ، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة.

وقيل : المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأزلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة ، وقيل : حكمه سبحانه الأزلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك.

وقيل : المراد به القرآن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه ، وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام الله تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين.

٢٢٨

وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه ، وقال الحسن : الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها ، وقال صاحب الغنيان : الحوادث والنوازل ، وقيل : أعمال العباد ، وقيل : ما غاب من عذاب السماء والأرض ، والعموم أولى ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية يقول سبحانه : ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى ، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي ، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به.

وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاء بالآخر وكلامه رضي الله تعالى عنه محتمل لذلك ، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى ، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد ـ بغائبة ـ في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدإ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل ، والمراد بهم ـ كما روي عن قتادة ـ اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجهه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون ، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه‌السلام ، فمن قائل : هو الله تعالى ، ومن قائل : ابن الله سبحانه ، ومن قائل : ثالث ثلاثة ، ومن قائل : هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن قائل : هو ـ وحاشاه ـ كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه ، وأمر النبي المبشر به في التوراة ، فمن قائل : هو يوشع عليه‌السلام ، ومن قائل : هو عيسى عليه‌السلام ، ومن قائل : إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود : بحرمة أكله ، وقالت النصارى : بحله إلى غير ذلك.

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا ، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر ، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس (بِحُكْمِهِ) قيل : أي بحكمته جل شأنه ، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه ـ بكسر الحاء وفتح الكاف ـ جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى ، وقيل : المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول ، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل ، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري ، والداعي لذلك أن ـ يقضي ـ بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك : زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي ، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا ، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق ، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر ، وقيل عليه : ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في ـ سعى لها سعيها ـ إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد ، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف بملابسة الحق ، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه ، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد ، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم ، وأيضا الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر ، والأولى إبقاؤه

٢٢٩

على المصدرية ، وجل الإضافة للعهد ، وكون المعنى كما قال المورد : يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام ؛ وأيا ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن على أن المعنى يحكم بالحكم الذي تضمنه القرآن واشتمل عليه من إثابة المحق وتعذيب المبطل وحينئذ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال لا يخفى ما فيه من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله (الْعَلِيمُ) بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به ، والفاء في قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لترتيب الأمر على ما ذكر من شئونه عزوجل فإنها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به ؛ وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فإنه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه جل وعلا ، وقوله تعالى :

(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين ، أو الفاصل بينه وبين الباطل. أو بين المحق والمبطل فإن كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة ، وقوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إلخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه ؛ وقد علل أولا بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عزوجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى ، وثانيا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق ، ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى ، فإن كونهم كالموتى والصم والعمي موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا ، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى ، وهو المعني بالتوكل عليه جل شأنه ، وجوز أن يكون قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ) إلخ استئنافا بيانيا وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله ، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل : ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إلخ.

وتعقب بأنه يأباه السياق ، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع ، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات ، وقيل : لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة ، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) [الأعراف : ١٧٩] ، وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمي مزيد مزية وكأنه لهذا قال في البحر : أي موتى القلوب ، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم.

وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع ، وما ذكر أولا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر ، ووجهه أنه على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل : كيف تسمعهم الإرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضا لأنهم صم ، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه ، ثم إنا لو أسمعناهم أيضا فهم عمي لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون ، وهذا خاتمة أمرهم ، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف.

وجوز أن يكون التشبيه لطوائف على مراتبهم في الضلال ، فمنهم من هو كالميت ومن هو كالأصم ومن هو كالأعمى ، وهو وإن كان وجها خفيف المئونة إلا أنه خلاف الظاهر أيضا (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي الدعوة إلى

٢٣٠

أمر من الأمور ، وتقييد النفي بقوله تعالى : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) لتتميم وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم ، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه ، ومثله في التتميم قول امرئ القيس :

حملت ردينيا كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان

وقرأ ابن كثير ـ لا يسمع الصم الدعاء ـ بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الضم (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي وما أنت بصارف العمي عن ضلالتهم هاديا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر ، و (عَنْ) متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه ، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد ، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية.

وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة ـ «بهاد» ـ بالتنوين «العمي» بالنصب ، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة ـ «تهدي» ـ مضارع هدى «العمي» بالنصب ، وقرأ ابن مسعود ـ وما أن تهتدي ـ بزيادة أن بعد ما كما في قول امرئ القيس :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صال

و ـ «تهتدي» ـ مضارع اهتدى ، و «العمي» بالرفع (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا.

(إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي من شأنهم الإيمان بها وهم الذين ليسوا موتى ولا صما ولا عميا.

وقال بعض الأجلة : أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك ، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي ، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعا ، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال ، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف.

وقال بعض المحققين : قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالا كما يشمل من يؤمن استقبالا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية ، نعم قيل : إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع ، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك ، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح ، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحاصل على طرف الثمام لظهور الفرق بين الاسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لا يخفى ، وجوز أن يزاد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط ، والإيمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالإسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كان الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فيه شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء ، وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الاسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال : إن تهدي إلا من يؤمن إلخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم ، وقوله تعالى : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) قيل : تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل : فإنهم منقادون للحق في كل وقت.

٢٣١

وقيل : مخلصون لله تعالى من قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢] ، وقيل : هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعا نافعا لهم ، وفي توحيد الضمير تارة. وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها.

واستدل بقوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) بيان لما أشير إليه بقوله تعالى : (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها ، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها ، وإسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث إنها مصداق للقول الناطق بمجيئها ، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل: ١] ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه.

(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ، وهو. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع ، قيل : وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال : يسرى عليهم ليلا فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم» ، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير ، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهم‌السلام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون.

وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال : أول الآيات الروم والثانية الدجال والثالثة يأجوج ومأجوج والرابعة عيسى والخامسة الدخان والسادسة الدابة ، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان ، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر ، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح ، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما أخرج أحمد والطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما‌السلام فتجلو (١) وجه المؤمن بالخاتم وتحطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» وقد اختلفت الروايات فيها اختلافا كثيرا ، فحكى أبو حيان في البحر والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة ؛ وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد ، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح ، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى ، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضا فقيل : هي من الإنس واستؤنس له بما روى محمد بن كعب القرظي قال : سئل عليّ كرّم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال : أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية ، وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي ـ

__________________

(١) قوله : فتجلو إلخ قال الطيبي : أهل الحديث يروونه بالحاء المهملة وفتح اللام والهمز من حلأت الأديم إذا قشرته ، وفي الكشاف ، وكذا في المطلع بالجيم من جلوت السيف إذا صقلته ا ه منه.

٢٣٢

وهو كذاب ـ قال أبو حنيفة : ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول : هي من الإنس وأنها عليّ نفسه كرّم الله تعالى وجهه ؛ وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات : منها ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : قال رجل لعمار بن ياسر : يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي ، قال عمار : وأية آية هي؟! فقال : قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) الآية فأية دابة هذه؟ قال عمار : والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمرا وزبدا فقال : يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل : سبحان الله حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار : قد أريتكها إن كنت تعقل ، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر أيضا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح ، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل.

وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال : قيل لعلي كرّم الله تعالى وجهه : إن ناسا يزعمون أنك دابة الأرض ، فقال : والله إن لدابة الأرض لريشا وزغبا وما لي ريش ولا زغب وإن لها لحافرا وما لي من حافر وإنها لتخرج من حفر الفرس الجواد ثلاثا وما خرج ثلثها ، والمشهور ـ وهو الحق ـ أنها دابة ليست من نوع الإنسان ، فقيل : هي الثعبان الذي كان في جوف الكعبة واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض ، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس ، والأكثرون على أنها غيرها.

أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا ـ زاد ابن جرير ـ بذراع آدم عليه‌السلام.

ونقل السفاريني عن كعب أنه قال : صوتها صوت حمار ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال : الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين ، وعن أبي هريرة أنه قال : فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب ، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير ، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين ، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعا ، واختلف في محل خروجها فقيل : المسجد الحرام لما أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال : «ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة فقال حذيفة : يا رسول الله من أين تخرج؟ قال : من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه‌السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر : أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر».

وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم»

.

٢٣٣

وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن مردويه عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : «ذهب بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر».

وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية ، وفي بعض من مدينة قوم لوط ، وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر : تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرا ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية ، ثم بينما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفضّ الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله تعالى فتنفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية ، واختلف أيضا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن؟ فقيل : إنها تخلق يوم تخرج ، وقيل : إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج.

واستدل بما روي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم ؛ وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه ، وعليه من يقول : إنها الثعبان ، ومن يقول : إنها الجساسة التي تتجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم‌السلام ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن «أن موسى عليه‌السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه‌السلام منظرا فظيعا فقال : يا رب ردها فردها ، وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة ـ وهو ساجد ـ وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها وتحقق هلاكه عنده ، والأخبار في هذه الدابة كثيرة.

وفي البحر أنهم اختلفوا ـ في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها وعدد خروجها ومقدار ما يخرج منها وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به ـ اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه ، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا ، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاخرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء.

ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي ، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار ، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلا يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض ، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه: (مِنَ الْأَرْضِ) نوع إشارة على ما قيل : إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات.

وقيل : إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياء كاملة خلقتهم ، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق (مِنَ الْأَرْضِ) ب (أَخْرَجْنا) وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض.

(تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات ، وقيل : بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها.

٢٣٤

وقيل : لأنها حكاية منها لقول الله عزوجل ؛ وقيل : لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا ، وإنما الخيل والبلاد لمولاه ، وقيل : هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا.

والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم ، وتكليمها إياهم ـ وهم موتى ـ بعيد أو غير معقول ، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها ، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها. ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة ، ومثله ضميرا ـ عليهم. ولهم ـ والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقا لا مشركو أهل مكة فقط ، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة ، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التكذيب وإنكار البعث ، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الإخبار على حاله.

وقيل : يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة ، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث ، والمراد بالإخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر ، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالإخبار ذلك.

وقيل : المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع ، وكان بين يدي الساعة ليردفه بلا كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعا مع تشنيع الدابة ، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم ، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لا يوقنون وقيل : ضميرا ـ عليهم. ولهم ـ لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق ، ومعنى (لَهُمْ) لذمهم أو نحوه ، وضمير (تُكَلِّمُهُمْ) للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك ، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون ، وقيل : غير ذلك ، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأولى والأظهر في الآية من الأقوال ، وأيا ما كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها ، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر ، ويؤيده قراءة أبي ـ تنبئهم ـ وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم.

وقيل : هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير ، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم ـ «تجرحهم» ـ مكان تكلمهم ، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل ، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائر عليه إلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه ، وقوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ) إلخ بتقدير بأن الناس ، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام ، ويراد بالناس فيه أولئك المشنع عليهم ، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك ، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه ، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس ، والنكتة فيه على ما قيل : الإيماء إلى كثرتهم.

وقيل : الرمز إلى مزيد قبح عدم الإيقان منهم ، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن ـ أنهم ـ إلى (أَنَّ النَّاسَ) وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس إلخ ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم ، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة ، وجوز أن تقدر الباء على أنها سببية.

٢٣٥

وجوز أيضا أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم ، فقد روي أنها تسم جبهة الكافر ، وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه‌السلام التي معها ، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما في حديث أخرجه نعيم بن حماد وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى ، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم أو تكلمهم؟ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه ، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح ، والوسم راجعة إلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم ، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر ، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون ، وقرأ ابن مسعود ـ بأن ـ وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح ، وقرأ بعض السبعة ـ إن ـ بكسر الهمزة ، وخرج على إضمار القول. أو إجراء التكليم من الكلام مجراه ، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها ، و (يَوْمَ) منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي اذكر يوم ، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا ، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] إلى آخره ، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عزوجل والتعذيب على ذلك التكذيب ، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان (فَوْجاً) ، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب ، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم‌السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة ، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى ، وقيل : (مِنْ) الثانية تبعيضية كالأولى ، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة ، وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار ؛ وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة.

قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال : إن دخول (مِنْ) في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] ، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته.

ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه‌السلام ، وصح عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم قوله:

٢٣٦

«سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه» ، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، وأولو الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح ، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها ، وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى.

وأقول : أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرّم الله تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت ، ولما أتى القرن الثالث قرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي ، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت ، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا ، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الإمامية ، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك ، بل قصارى ما يقول : إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها ، وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا.

وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عزوجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه ، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم ، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر ، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة ، وربما يقال أيضا : ـ مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة ـ أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا ، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية ، وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها ، وفي الآيات ما يأبى ذلك ، منه قوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عزوجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة ، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مئونة ردها ، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها ، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه ، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم ، وما ذكر من قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «سيكون في أمتي» الحديث لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه‌السلام : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك.

٢٣٧

وبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل ، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل ، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب (قالَ) أي الله عزوجل موبخا لهم على التكذيب لا سائلا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عزوجل ، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم‌السلام وإن كان ممكنا على ما يدل عليه قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] على أحد التفسيرين ، والالتفات لتربية المهابة (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) الناطقة بلقاء يومكم هذا ، وقوله تعالى : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه ، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما ، وهذا على ما قيل : ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها.

وقال بعض الأجلة : إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك ، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر ، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية ، وقيل : هو معطوف على ـ كذبتم ـ والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل : أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها.

(أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أم ما ذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري ، وقرره في الكشف بأن (أم) متصلة ، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم ، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق ، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيها على انتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث ، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يشمل التكذيب المذكور أولا وعديله الحقيقي ، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلا بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتّا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا ، ثم قال : وهذا وجه لائح ، وإنما جاز دخول (أم) على (ما) الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول ، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من غير ذلك ، وقرره في الكشف أيضا بأن (أم) على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولا والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيره ، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل ، ثم قال : وهذا وجه وجيه بالغ ، ومنه ظهر أن دخول (أم) على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ ا ه.

واختار أبو حيان كون (أم) منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك

٢٣٨

شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام ، وما تقدم أبعد مغزى ، وما (ذا) تحتمل أن تكون بجملتها استفهاما منصوب المحل بخبر كان وهو (تَعْمَلُونَ) أو مرفوعة على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه ، وتحتمل أن تكون (ما) فيها استفهاما ، و (ذا) اسم موصول بمعنى الذي ، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف.

وقرأ أبو حيوة ـ «أما ذا» ـ بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام ؛ وقد سمعت وجهه.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم ، وقيل : يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا.

وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم ، قال بعض الرجاز :

النوم راحة القوى الحسية

من حركات والقوى النفسية

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الابصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها ، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الابصار ، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإشعار ببعد درجته في الفضل (لَآياتٍ) عظيمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم‌السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين

٢٣٩

بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون ، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قادر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان ، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالحهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم‌السلام.

وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاء متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه ، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى ا ه.

ولعل الأول أولى لا سيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة ، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات ، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إما معطوف على (يَوْمَ نَحْشُرُ) منصوب بناصبه ، أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب ، والصور ـ على ما في التذكرة ـ قرن من نور ، وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق.

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما الصور؟ قال : قرن ينفخ فيه» ، والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه‌السلام.

وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم ، فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ؟! فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل» وروي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان».

وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع «إن عظم دائرة فيه كعرض السماوات والأرض» وهذا مما يؤمن به وتفوض كيفيته إلى علام الغيوب ، وقيل : إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة ـ وعليه أبو عبيدة ـ والكلام في الوجهين على حقيقته ، وقيل : في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إذا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل عين لهم ، والأول قول الأكثرين ـ وعليه المعول ـ لأن قوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) [الزمر : ٦٨] ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا لقال سبحانه : فيها بدل فيه ، وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة ، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح ، وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات ، وهذا النفخ قيل : المراد به النفخة الثانية ، وإليه ذهب صاحب الغنيان ، واختاره العلامة أبو السعود وقال : الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسباقه ذلك ، وأن المراد بالفزع في قوله تعالى :

٢٤٠