روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

غير ملجئ ، ثم قال : وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار ، ومعناه كما في الهداية أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من الله تعالى تحمله على فعله وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار وتحقيق للابتلاء اه ، وهو ظاهر على عدم الاستحالة الذاتية لصدور الذنب ، ولعل ما وقع في كلام بعض الأجلة من استحالة وقوع الذنب منهم عليهم‌السلام محمول على الاستحالة الشرعية كما يؤذن به كلام العلامة ابن حجر في شرح الهمزية ، وبالجملة الذي تقتضيه الظواهر ويشهد له العقل أن الأنبياء عليهم يخافون ولا يأمنون مكر الله تعالى لأنه وإن استحال صدور الذنب عنهم شرعا لكنه غير مستحيل عقلا بل هو من الممكنات التي يصح تعلق قدرة الله تعالى بها ومع ملاحظة إمكانه الذاتي وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقيام احتمال تقييد المطلق بما لم يصرح به لحكمة كالمشيئة لا يكاد يأمن معصوم من مكر الملك الحي القيوم فالأنبياء والملائكة كلهم خائفون ومن خشيته سبحانه عزوجل مشفقون ، وليس لك أن تخص خوفهم بخوف الإجلال إذ الظاهر العموم ولا دليل على الخصوص يعول عليه عند فحول الرجال ، نعم قد يقال بإمكان حصول الأمن من المكر وذلك بخلق الله تعالى علما ضروريا في العبد بعدم تحقق ما يخاف منه في وقت من الأوقات أصلا لعلم الله تعالى عدم تحققه كذلك وإن كان ممكنا ذاتيا ، ولعله يحصل لأهل الجنة لتتم لذتهم فيها فقد قيل :

فإن شئت أن تحيا حياة هنية

فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا

ولا يبعد حصوله لمن شاء الله تعالى من عباده يوم القيامة قبل دخولها أيضا ، ولم تقم أمارة عندي على حصوله في هذه النشأة لأحد والله تعالى أعلم فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك ، وروى الإمام عن بعضهم أنه قال معنى الآية : إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة. وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) الاستثناء فيه منقطع عند كثير إلا أنه روي عن الفراء والزجاج وغيرهما أن المراد بمن ظلم من أذنب من غير الأنبياء عليهم‌السلام ، قال صاحب المطلع : والمعنى عليه لكن من ظلم من سائر العباد ثم تاب فإني أغفر له ، وقال جماعة : إن المراد به من فرطت منه صغيرة ما وصدر منه خلاف الأولى بالنسبة إلى شأنه من المرسلين عليهم‌السلام.

والمراد استدراك ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من صدر منه ذلك ، والمعنى عليه لكن من صدر منهم ما هو في صورة الظلم ثم تاب فإني أغفر له فلا ينبغي أن يخاف أيضا ، وهو شامل على ما قيل لمن فعل منهم شيئا من ذلك قبل رسالته ، وخصه بعضهم بمن صدر منه شيء من ذلك قبل النبوة وقال : يؤيده لفظه (ثُمَ) فإنها ظاهرة في التراخي الزماني ، ولعل الظاهر كونه خاصا بمن صدر منه بعد الرسالة لظهور المرسل في المتلبس بالرسالة لا فيمن يتلبس بها بعد أو الأعم ، وكأن فيما ذكر على الوجهين الأولين تعريضا بما وقع من موسى عليه‌السلام من وكزه القبطي واستغفاره ، وتسميته ظلما مشاكلة لقوله عليه‌السلام ظلمت نفسي ، ولم يجعلوه على هذا متصلا مع دخول المستثنى في المستثنى منه أعني المرسلين مطلقا لأنه لو كان متصلا لزم إثبات الخوف لمن فرطت منه صغيرة ما منهم لاستثنائه من الحكم وهو نفي الخوف عنهم ونفي النفي إثبات وذلك خلاف المراد فلا يكون متصلا بل هو شروع في حكم آخر.

ورجح الطيبي ما قاله الجماعة بأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يقتضي إزالة الخوف بالكلية وهو ظاهر على ما قالوه ، وروى عن الحسن ومقاتل وابن جريج والضحاك ما يقتضي أنه استثناء متصل والظاهر أنهم أرادوا بمن من أراده الجماعة ؛ وفي اتصاله على ما سمعت خفاء. وربما يقال : إن من يطلق الاتصال عليه في رأي

١٦١

الجماعة يكتفي في الاتصال بمجرد كون المستثنى من جنس المستثنى منه فإن كفى فذاك وإلا يلتزم إثبات الخوف ويجعل «بدل» عطفا على مستأنف محذوف كأنه قيل : إلا من فرطت منه صغيرة فإنه يخاف فمن فرط ثم تاب غفر له فلا يخاف. وحاصله إلا من ظلم فإنه يخاف أولا ويزول عنه الخوف بالتوبة آخرا ، وعن الفراء في رواية أخرى عنه أنه استثناء متصل من جملة محذوفة والتقدير وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس بأن الاستثناء من محذوف لا يجوز ولو جاز هذا لجاز أن يقال : لا تضرب القوم إلا زيدا على معنى وإنما اضرب غيرهم إلا زيدا وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه انتهى وهو كما قال : ولا يجدي نفعا القول باعتبار مفهوم المخافة. وقالت فرقة : إن إلا بمعنى الواو والتقدير ولا من ظلم إلخ.

وتعقبه في البحر بأنه ليس بشيء للمباينة التامة بين إلا والواو فلا تقع إحداهما موقع الأخرى. وحسن الظن يجوز أنهم لم يصرحوا بكون إلا بمعنى الواو وإنما فهم من نسبه إليهم من تقديرهم وهو يحتمل أن يكون تقدير معنى لا إعراب فلا تغفل ، والظاهر انقطاع الاستثناء ، ولعل الأوفق بشأن المرسلين أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم ، و (ثُمَ) يحتمل أن تكون للتراخي الزمان فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى ، ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبي وهو ظاهر بين الظلم والتبديل المذكور والتبديل قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه نحو (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦] وقد يتعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء أو بمن وهو المذهوب به والمبدل منه نحو بدله بخوفه أو من خوفه أمنا وقد يتعدى إلى واحد نحو بدلت الشيء أي غيرته. (وَمِنْهُ) فمن بدل بعد ما سمعه والمعنى هنا على المتعدي إلى مفعولين. وقد تعدى إلى أحدهما. وهو المبدل منه بالباء أو بمن فكأنه قيل : ثم بدل بظلمه أو من ظلمه حسنا ، ويشير إليه قوله تعالى : (بَعْدَ سُوءٍ) وحاصله ثم ترك الظلم وأتى بحسن ، والمراد به التوبة. فيكون المعنى في الآخرة إلا من ظلم ثم تاب وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنه أوفق بمقام الإيناس كذا قيل ، والظاهر عليه أن إسناد التبديل إلى من ظلم حقيقي ، وقيل : إن المعنى ثم رفع الظلم والسوء ومحاه من صحيفة أعماله ووضع مكانه الحسن بسبب توبته نظير ما في قوله تعالى : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] ، وإسناد التبديل إلى من ظلم على هذا مجازي لأنه سبب لتبديل الله تعالى له بتوبته ، وكأني بك تختار الأول ، ومحل «من» على كل من تقديري انقطاع الاستثناء واتصاله ظاهر. والظاهر أنها موصولة في التقديرين. ولا يخفى أنها إذا اعتبرت منصوبة المحل على الاستثناء أو مرفوعته على البدل تكون جملة «فإني» إلخ مستأنفة. ومن قدر في الكلام محذوفا عطف عليه (بَدَّلَ) ، وقال : التقدير من ظلم ثم بدل جعل الجملة خبر من ، وجوز بعضهم أن تكون شرطية وجملة (فَإِنِّي) إلخ جوابها فتأمل ولا تغفل. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «ألا من ظلم» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على أن (إِلَّا) حرف استفتاح. وجعل أبو حيان (مَنْ) على هذه القراءة شرطية ولا أراه واجبا وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني «حسنى» على وزن فعلى ممنوع الصرف. وقرأ ابن مقسم «حسنا» بضم الحاء والسين منونا.

وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي علي والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش «حسنا» بفتح الحاء والسين مع التنوين (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي جيب قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد ، ولم يقل سبحانه في كمك لأنه عليه‌السلام كان لابسا إذ ذاك مدرعة من صوف لا كم لها ، وقيل : الجيب القميص نفسه لأنه يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول ، وقال السدي : (فِي جَيْبِكَ) أي تحت إبطك.

ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت إبطك ، وكانت مدرعته عليه‌السلام على ما روى عن

١٦٢

ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أزرار لها ، وقد ورد في بعض الآثار أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مطلق القميص في بعض الأوقات ، ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار لم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال : حدثني أبي قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق ، وفي رواية البغوي في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال : فبايعه ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم ، قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما ، ولا يزرانها أبدا وجاء أيضا عليه الصلاة والسلام أمر بزر الأزرار.

فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فإذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده وقال : اجمع عطفي ردائك على نحرك» وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذ ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب. وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود ، وأمره تعالى إياه عليه‌السلام بإدخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء ، والظاهر أن قوله تعالى :

(تَخْرُجْ) جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها ، وقيل : في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لا حاجة إليه ، وقوله تعالى : (بَيْضاءَ) حال وكذا قوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه. وكذا قوله سبحانه : (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي آية معدودة من جملة تسع آيات أو معجزة لك معها على أن التسع هي : الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه‌السلام لم يبعث به إلى فرعون وإن تقدمه بيسير ، ومن عده يقول : يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن آمن من قومه ولم تخلف من القبط ولم يؤمن ، وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع إلى شيء واحد فالتسع هذا الواحد. والعصا واليد وما بقي من المذكورات.

وذهب صاحب الفرائد إلى أن الجراد. والقمل واحد ، والجدب. والنقصان واحد ، وجوز أن يكون في تسع منقطعا عما قبله متعلقا بمحذوف أي اذهب في تسع آيات. ويدل على ذلك قوله تعالى بعد : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) وفي بمعنى مع ، ونظير هذا الحذف ما في قوله :

أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

وقلت إلى الطعام فقال منهم

فريق يحسد الإنس الطعاما

فإن التقدير هلموا إلى الطعام. ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) وعلى ما تقدم يتعلق بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون ، وأيا ما كان فقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل : إنهم إلخ ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه‌السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه‌السلام ، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه‌السلام.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ

١٦٣

عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٢١)

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) أي ظهرت لهم على يد موسى عليه‌السلام ، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي ، وقال بعض الأجلة : المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه‌السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه‌السلام ساغ ذلك.

ولعل النكتة في العدول عن ـ فلما جاءهم موسى بآياتنا ـ إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه‌السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه‌السلام تصرف في بعضها وكونه معجزة له لإخباره به ووقوعه بدعائه ونحوه ، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يديه للإعجاز في قوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) [القصص : ٣٦] في محل آخر ، وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه‌السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه ، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأن المقصود بيان جحودهم بها ، وإضافة الآيات للعهد ، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها (مُبْصِرَةً) حال من الآيات أي بينة واضحة ، وجعل الإبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب ، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضا مجازي.

ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمي لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة ، قال في الكشف : وهذا الوجه أبلغ ، وقيل : إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل.

وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما (مُبْصِرَةً) بفتح الميم والصاد على وزن مسبعة ، وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال : مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم : الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببا لكثرة تبصر الناظرين فيها ، وقال أبو حيان هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا (قالُوا هذا) أي الذي نراه أو نحوه (سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واضح سحريته على أن (مُبِينٌ) من أبان اللازم (وَجَحَدُوا بِها) أي وكذبوا بها (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي علمت علما يقينيا أنها آيات من عند الله تعالى ، والاستيقان أبلغ من الإيقان.

١٦٤

وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر ، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها (ظُلْماً) أي للآيات كقوله تعالى : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) [الأعراف : ٩] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا ، وقيل : ظلما لأنفسهم وليس بذاك (وَعُلُوًّا) أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) [الأعراف : ٣٦] وانتصابهما إما على العلية من (جَحَدُوا) وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله :

لدوا للموت وابنوا للخراب

وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين ، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين ، وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاصر. وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم.

وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب «وعليا» بقلب الواو ياء وكسر العين واللام ، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا ، وروى ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه‌السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه‌السلام ، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير ، وخصها مقاتل بعلم القضاء ، وابن عطاء بالعلم بالله عزوجل ، ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عزوجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير ؛ وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة ، وربما يرجح الثاني ، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء (وَقالا) أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بما آتانا من العلم (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا ، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز ، ومن ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.

وتعقب بأنه إذا سلّم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء ، وقال العلامة الزمخشري : عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك : أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه : ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، وقالا : الحمد لله الذي فضلنا ، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله : فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي ، وقوله : وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي ، وبقوله تعالى : (وَقالا) إلخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني ، وفي

١٦٥

الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء ، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده ، وهو أولى مما قيل أيضا : إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته ، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان ، وممن ذهب إلى الأول من يسمى هذه الواو الواو الفصيحة ، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما‌السلام ، وقيل : ذاك ومن لم يؤت علما أصلا.

وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعبادة تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن ، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل ، والمتبادر من البعض القليل ، وفي الكشاف أن في قوله تعالى : (عَلى كَثِيرٍ) أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وتعقب بأن فيه نظرا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين.

ورده صاحب الكشف بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه ، ولما بعد تساوي الأكثر من حيث العادة لا سيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه ، ألا ترى أنهم إذا قالوا : لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى.

وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم ، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) [النساء : ٢٠] الآية : كل الناس أفقه من عمر ، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه ، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم : أنا عالم. وقال قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه. وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وما شاع من حديث : «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده ، ويحيى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده ، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيا ملكا بعد موت أبيه داود عليهما‌السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته ، وقيل : المراد وراثة النبوة فقط ، وقيل : وراثة الملك فقط ، وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال ، وتعقب بأنه قد صح «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقد ذكره الصديق. والفاروق رضي الله تعالى عنهما بحضرة جمع من الصحابة وهم الذين لا يخافون في الله تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما.

وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال : «سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يقول : إن العلماء

١٦٦

ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضا ، ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وأيضا وراثة المال لا تختص بسليمان عليه‌السلام فإنه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضا ، وذكر غيره أنه عليه‌السلام توفي عن تسعة عشر ابنا فالأخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وإن كان المراد الأخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما‌السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود «يا أيها الناس» إلخ.

وأيضا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لا يخفى على منصف ، والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ، فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي الله تعالى عنه ما ينافي ثبوتها ، ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عزّ من قائل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) [فاطر : ٣٢] ، وقال سبحانه : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) [الأعراف : ١٦٩] ولا يضر تفاوت القرينة فافهم.

وكان عمره يوم توفي داود عليهما‌السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر ، وقيل : إن داود عليه‌السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر.

(وَقالَ) تشهيرا لنعمة الله تعالى وتعظيما لقدرها ودعاء للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارا (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم.

وقال بعض الأجلة : المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم ، والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : الناس عندنا أهل العلم (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي نطقه وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا ، وقد يطلق على كل ما يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة ، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلا ، وقيل يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك.

ويحتمل الأوجه الثلاثة قوله :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أوقال

وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم : الناطق والصامت للحيوان والجماد ، والذي علمه عليه‌السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه ، ويحكى أنه عليه‌السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله تعالى ونبيه أعلم قال : يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال : يقول استغفروا الله تعالى يا مذنبون ، وصاح طيطوى فقال : يقول كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف فقال : يقول قدّموا خيرا تجدوه ، وصاحت رخمة فقال : يقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، وقال الحدأ : يقول كل شيء هالك إلا الله تعالى ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه ؛ والديك يقول : اذكروا الله تعالى يا غافلون. والنسر يقول : يا ابن آدم

١٦٧

عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول : اللهم العن مبغض محمد وآل محمد ، والزرزور يقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول : الرحمن على العرش استوى انتهى. ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله ، ومع هذا الله تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية. وقيل : كانت الطير تكلمه عليه‌السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية. وقيل : علم عليه‌السلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه‌السلام وما يخاطب به بعضها بعضا. وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه ، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل ، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال.

ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم‌السلام ، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه‌السلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور ، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح ، وزعم بعضهم أنه عليه‌السلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا. وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك. ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال. والضمير في (عُلِّمْنا) و (أُوتِينا) قيل : له ولأبيه عليهما‌السلام وهو خلاف الظاهر. والأولى كونه له عليه‌السلام ، ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليه‌السلام ، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عزوجل من الأمور المهمة.

وقد أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك ، و (كُلِ) في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور ، وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت (مِنْ) صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم ، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل. وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى.

وفي البحر أن قوله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) إشارة إلى النبوة. وقوله سبحانه : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) إشارة إلى الملك ، والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليه‌السلام من أمر الدنيا والآخرة. وقد يقال : إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها (إِنَّ هذا) إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء (لَهُوَ الْفَضْلُ) والإحسان من الله تعالى (الْمُبِينُ) الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليه‌السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. ويقرب من هذا المعنى ولا فخر بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) بيان للجنود في البحر وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه‌السلام جميع الجن وجميع الإنس

١٦٨

وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد ، وكذا قصة الهدهد.

ونقل عن بعضهم أنه عليه‌السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير. ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لإباء قصة بلقيس أيضا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.

والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه‌السلام. وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر. لكن إذا صح فيه خبر قبل ، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت (مِنَ) بيانية أو تبعيضية. وكونه عليه‌السلام أحد المؤمنين اللذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج. وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه ، وكانت مدة ملكه عليه‌السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما‌السلام.

والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له. ولا تستعبد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد ، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه‌السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم. ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها ، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر ، وما علينا أن نقول : إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي. ولعل فيها من يهتدي إلى ما لا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل ، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم. وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم ، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة بالله تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار ، وقد قدمنا بعضا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل ، وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا في غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور إكفار من زعم ذلك. وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء ، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه‌السلام لم يسخر له الوحش. وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد ابن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه‌السلام أيضا ، وسنذكره قريبا إن شاء الله تعالى لكنه لا يعول عليه ، وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه‌السلام وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير. ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام.

وقيل في تقديم الجن : إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للأنبياء

١٦٩

عليهم‌السلام شرف لأنه في الحقيقة لله عزوجل الذي سخر كل شيء. وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والأول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لا يتأذى أحد بهم. وأصل الوزع الكف والمنع ، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقول الحسن لا بد للقاضي من وزعة ، وقول الشاعر :

ومن لم يزعه لبه وحياؤه

فليس له من شيب فوديه وازع

وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين ، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير ، وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير ، وقيل : إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وأخرج الطبراني ، والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير والله تعالى أعلم بصحة الخبر. والظاهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو ، والأخبار في قصته عليه‌السلام كثيرة.

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الإنس مما يليه ومؤمني الجن من ورائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها ، وأخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال : بلغنا أن سليمان عليه‌السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاطف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به. وأوحى الله عزوجل إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدتك في ملكك إنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك. ويروى أن الجن نسجت له عليه‌السلام بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء عليهم‌السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر.

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : مر سليمان عليه‌السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح على رجل حراث من بني إسرائيل فلما رآه قال : سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال : ائتوني بالرجل قال : ما ذا قلت؟ فأخبره فقال سليمان : إني خشيت عليك الفتنة لثواب سبحان الله عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت. آل داود أوتوا فقال الحراث أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي. وفي بعض الروايات أنه عليه‌السلام نزل ومشى إلى الحراث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود ، وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الأخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عزوجل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ بالله تعالى ، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين

١٧٠

الإسلام (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي هاهنا غاية لما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) من السير كأنه قيل : فساروا حتى إذا أتوا إلخ ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل ، وقال كعب : هو وادي السدير من أرض الطائف ، وقيل : واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها ، وقيل : هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه.

وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدي بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي :

ولشد ما جاوزت قدرك صاعدا

ولشد ما قربت عليك الأنجم

لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق ، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره. ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته ، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة ، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل (قالَتْ نَمْلَةٌ) جواب إذا. والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه‌السلام منه معنى (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وهذا كما يفهم عليه‌السلام من أصوات الطير ما يفهم ، ولا يقدح في ذلك أنه عليه‌السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما ، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه‌السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير ، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد ، وقال ابن بحر : إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه‌السلام كما نطق الضب والذراع لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال مقاتل : وقد سمع عليه‌السلام قولها من ثلاثة أميال ، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد ، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل. وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر ، وقيل : إنه عليه‌السلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى ، وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير :

لو كنت أوتيت كلام الحكل

علم سليمان كلام النمل

فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته ؛ وقال بعضهم : كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية ، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية.

وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس

١٧١

فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق. وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة ، وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات. وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول : يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك. ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه‌السلام وجنوده كان عن إلهام منه عزوجل وذلك كعلم الضب برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة ، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي ، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند.

وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية ، وقيل : جرمى ، وفي البحر اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى ، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف ، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملا على الحروف المألوفة ، والظاهر أن تاء (نَمْلَةٌ) للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم.

وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم ـ وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه حاضرا وهو غلام حدث ـ فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكر أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل له : من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى : «قالت نملة» ولو كان ذكرا لقال سبحانه قال نملة ، وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكشاف ، وتعقبه ابن المنير فقال : لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه ، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس فيقال : نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون : حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل ، ألا ترى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء» كيف أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى : قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء ، وكيف يسأل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه ، والأشبه أن ذلك لا يصح عنهما ا ه.

وقال ابن الحاجب عليه الرحمة : التأنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين ، ولا فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره كدجاجة وحمامة إذا قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي ، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ) أنثى لورود تاء التأنيث في (قالَتْ) وهما لجواز أن يكون مذكرا في الحقيقة ، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة. وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال : لعمري إنه قد تعسف هاهنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على إمام أهل الإسلام ، واعتراضه يقوله : وورود تاء التأنيث كورودها إلخ ليس بشيء إذ لو كان جائزا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر

١٧٢

الحقيقي لكان ينبغي جواز أن يقال : جاءتني طلحة مع أنه لا يجوز ، وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله : وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلول آخر فاعتبروا فيها المدلول الثاني ، ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتبارا للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لا يقال : أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فإن سمى به مذكر فشرطه الزيادة يعني فإن سمي بالمؤنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل ، والفاعل هاهنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكرا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة.

وينصر قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثورا فإن عنيت به أنثى قلت : هذه بقرة ا ه. وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ما سلكه الإمام. وفي الكشف أن التاء في نملة للوحدة فهي في حكم المؤنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل ، ولا يشكل بنحو طلحة حيث لم يجز إلحاق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب ، ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب أن سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر.

وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى هو فيما يرجع إلى المعنى لا فيما يرجع إلى اللفظ ، وإلحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وإما لشبه التأنيث من الوحدة أو الجمعية ونحوها فإذا لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للإلحاق. وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظا أو تقديرا وذلك غاير مختلف في المنقول والمنقول عنه ، وكفاك دليلا لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا ، وإن الإمام رضي الله تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى. وهو كلام متين.

والحزم القول بعدم صحة هذه الحكاية فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه من عرفت وإن كان إذ ذاك غلاما حدثا. وقتادة بن دعامة السدوسي بإجماع العارفين بالرجال كان بصيرا بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما والله تعالى أعلم.

والحطم الكسر والمراد به الإهلاك. والنهي في الظاهر لسليمان عليه‌السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهي على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك : لا أرينك هاهنا فإنه في الظاهر نهي للمتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهي المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ، وقول بعضهم : إذا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي أنه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وعلى ما ذكر لا حاجة إليه ؛ وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الإبدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله ، وجوز الزمخشري كون لا يحطمنكم جوابا للأمر ، أعني ـ ادخلوا ـ و (لا) حينئذ نافية وتعقب بأن دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله :

١٧٣

مهما تشأ منه فزارة تعطه

ومهما تشأ منه فزارة يمنعا

وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب. وأرادت النملة على ما في الكشاف لا يحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ. ونحوه قوله :

عجبت من نفسي ومن إشفاقها

حيث أراد عجبت من إشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للإجماع والتفصيل. وتعقب ذلك في البحر بأن فيه القول بزيادة الأسماء وهي لا تجوز بل الظاهر إسناد الحطم إليه عليه‌السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما.

وجوز أن تكون حالا من الجنود والضمير لهم ، وأيا ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه‌السلام وجنوده ، وليت من طعن في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب ، وروي أن سليمان عليه‌السلام لما سمع قول النملة : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ) إلخ قال ائتوني بها فأتوا بها فقال لم حذرت النمل ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل فلم قلت : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) وجنوده فقالت : أما سمعت قولي : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ومع ذلك إني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم الله تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر إليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود؟ قال : لا قالت : لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان؟ قال : لا قالت : لأنك سليم القلب والصدر. ثم قالت : أتدري لم سخر الله تعالى لك الريح؟ قال : لا قالت : أخبرك الله تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح. وهذا ظاهر الوضع كما لا يخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية والله تعالى أعلم بصحة ما روى من أنها أهدت إليه نبقة وأنه عليه‌السلام دعا للنمل بالبركة.

وجوز أن تكون جملة (هُمْ لا يَشْعُرُونَ) في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَتَوْا) وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لا يشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل إنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عزوجل كأنه قيل : فهم سليمان ما قالت والجنود لا يشعرون بذلك. وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي نملة بضم الميم كسمرة وكذلك النمل كالرجل والرجل لغتان ، وعن أبي سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم. وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» على الإفراد. وعن أبي «أدخلن مساكنكن لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل الكاف.

وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي. ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشددا. وعن الحسن بفتح الياء (١) وإسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء وأصله يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا

__________________

(١) قوله وإسكان الحاء كذا بخطه ولعله سبق قلم ففي الكشاف وقرئ (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بفتح الحاء وكسرها وأصله يحتطمنكم ا ه.

١٧٤

أنهم سكنوا نون التأكيد ، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم. ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوما في جواب الأمر (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل. ولعله عليه‌السلام إنما تبسم من ذلك سرورا بما ألهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه.

وجوز أن يكون ذلك تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها : والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء. وانتصب (ضاحِكاً) على الحال أي شارعا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم. وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر التبسم مبادئ الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعد فهو القهقهة ، وكأن من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم‌السلام فإن ضحكهم تبسم ، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

سيد ضحكه التبسم والم

شي الهوينا ونومه الإغفاء

وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : ما رأيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا قط ضاحكا أي مقبلا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم ، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث إن تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه. وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجا منها وأهل الجنة دخولا الجنة. وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وكذا في حدب أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان ، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا ضاحكا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره.

وأول الزمخشري ما روى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة ، ولعله إنما لم يقل سبحانه : فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكا نصبا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيا أو إثباتا ، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه‌السلام حيث أداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط.

وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به ، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون : تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئ وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى : (ضاحِكاً) لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا انتهى.

ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح. وكذا قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٣٤] كما هو الظاهر. وإن هرعت إلى التأويل قلنا الواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك

١٧٥

منك أولو الألباب ، وفيه أيضا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب ، وقرأ ابن السميقع «ضحكا» على أنه مصدر في موضع الحال ، وجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق نحو شكرا في قولك حمد شكرا.

(وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل : رب اجعلني مداوما على شكر نعمتك ، وهمزة أوزع للتعدية ، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين. وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر. وقال ابن زيد : أي حرضني. وقال أبو عبيدة أي أولعني. وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمني. وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك. قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر. وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك. وقرئ «أوزعني» بفتح الياء (الَّتِي أَنْعَمْتَ) أي أنعمتها ، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسا (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أدرج ذكر والديه تكثيرا للنعمة فإن الأنعام عليهما أنعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميما لها فإن النعمة عليه عليه‌السلام يرجع نفعها إليهما ، والفرق بين الوجهين ظاهر ، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر. وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما‌السلام قطعا ، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] بعد قوله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) [سبأ : ١٠] إلخ ، وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [الأنبياء: ٨١ ، سبأ : ١٢] إلخ فتدبر فإنه دقيق (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) عطف على (أَنْ أَشْكُرَ) فيكون عليه‌السلام قد طلب جعله مداوما على عمل العمل الصالح أيضا. وكأنه عليه‌السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميما له لأن عمل الصالح شكر بالأركان ، وفي البحر أنه عليه‌السلام سأل أولا شيئا خاصا وهو شكر النعمة وثانيا شيئا عاما وهو عمل الصالح ، وقوله تعالى : (تَرْضاهُ) قيل صفة مؤكدة أو مخصصة إن أريد به كمال الرضا ، واختير كونه صفة مخصصة. والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلا لا عقلا ولا شرعا (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي في جملتهم.

والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة. وقدر بعضهم الجنة مفعولا ثانيا لأدخلني ، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير ، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملا صالحا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلا العامل عملا صالحا ، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب إدخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه إدخال الجنة ، ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وكأن في ذكر (بِرَحْمَتِكَ) في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك.

ولا يأبى ما ذكر قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢] لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى.

وقال الخفاجي : لك أن تقول إنه عليه‌السلام عد نفسه غير صالح تواضعا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية ، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال بإغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه.

وقيل : المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم‌السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعزله عن منصب النبوة الذي هو منحة إلهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين ، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى.

١٧٦

وقيل : المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني أذكر معهم إذا ذكروا ، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين. وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه‌السلام (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية ، وقيل : يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عزوجل وأراد بالصلاح في قوله : (فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص. وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي ، وكان دعاؤه عليه‌السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن ، قال في الكشاف : روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه‌السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي أراد معرفة الموجود منها من غيره ، وأصل التفقد معرفة الفقد ، والظاهر أنه عليه‌السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا لا سيما الضعفاء منها ؛ قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد ، وقيل : كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره ، وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه‌السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم يرد الهدهد (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار وأبي الربيع وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري ، وتصغيره على القياس هديهد ، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء ألفا ، وأنشدوا :

كهداهد كسر الرماة جناحه

ونظير ذلك دوابة وشوابة في دويبة وشويبة.

والظاهر أن قوله عليه‌السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول : (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لإبل أم شاء.

وقال ابن عطية : مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله : (ما لِيَ) ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى.

وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مقام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم ، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراه ، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك ، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية ، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور ، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق : لا أجادلك

١٧٧

بعدها بشيء ، ولا مانع من أن يقال : يجوز أن يرى الحبة أيضا إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده ، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة.

ويجوز أيضا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمرا سلب من ذوي العقول عقولهم ، نعم إن رؤيته الماء تحت الأرض وإن جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جدا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم ، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن ، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه‌السلام أن التفقد كان منه عليه‌السلام عناية بأمور ملكه واهتماما بضعفاء جنده ، وكأنه عليه‌السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه أنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك ، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكرة له عليه‌السلام للتفقد.

وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها ، وكون الهدهد قنا قنه ، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه‌السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا : فبأي دين يدين يا نبي الله؟ فقال : بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا : كم بيننا وبين خروجه؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم‌السلام ، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان.

وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج ، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه‌السلام سار من إصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه ، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أبكيك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ واجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل ، ولا يظهر الجمع بين الخبرين ، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه‌السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج.

والظاهر أن المراد جميع ريشه ، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه ، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه.

١٧٨

وزاد بعضهم مع النتف إلقاءه للنمل وآخر تركه في الشمس ، وقيل : ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص ، وقيل بجمعه مع غير جنسه ، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه‌السلام ، وقيل بالتفريق بينه وبين إلفه ، وقيل بإلزامه خدمة أقرانه. وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب. ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصلح به. وفي الإكليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك. وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه.

وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به ا ه فلا تغفل (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كأس المنية. وقد قيل :

كل شيء دون المنية سهل

(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة تبين عذره في غيبته. وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الإتيان ببلقيس وهي سلطان. ثم إن هذا الشق وإن قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل. وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك ، ومآل كلامه عليه‌السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما فاو في الموضعين للترديد. وقيل : هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح وفي الثاني للترديد بينهما وبين الإتيان بالسلطان وهو كما ترى.

وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم ، وجوز أن تكون الأمور الثلاثة مقسما عليها حقيقة ، وصح قسمه عليه‌السلام على الإتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع ، وتعقب بأن قوله : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] ينافي حصول العلم وما حكاه له. ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه‌السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله : (مُبِينٍ) يأباه. وبالجملة الوجه ما ذكر أو لا فتأمل. وقرأ عيسى بن عمر «ليأتينّ» بنون مشددة مفتوحة بغير ياء ، وكتب في الإمام «لا أذبحه» بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كأكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف ، وقيل : هو التنبيه على أن الذبح لم يقع.

وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه : إن الكتابة العربية كانت في غاية الإتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإتقان والجودة وإلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في «لا أذبحنه» من قلة الإجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك. وتوجيه بعض المغفلين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح والداعي له إلى ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم

١٧٩

يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام. ومثل الأمية تنزه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هوصلى‌الله‌عليه‌وسلم منقطع إلى ربه عزوجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى ملخصا.

وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في «لا أذبحنه» لقلة إجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد ، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في (لَأُعَذِّبَنَّهُ) لأن التعذيب لم يقع أيضا. وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يستحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء ، وإن أراد به أن الإتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل ما يفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيئات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة.

والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب. وما يقتضي أن يوصل. وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة ؛ ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال : قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون؟ قال : نعم قلت : وممن أخذتموه؟ قال : من حرب بن أمية قلت : وممن أخذه حرب؟ قال : من عبد الله بن جدعان قلت : وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال : من أهل الأنبار قلت : وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال : من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت : وممن أخذ ذلك الطارئ؟ قال : من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه‌السلام وهو الذي يقول :

في كل عام سنة تحدثونها

ورأي على غير الطريق يعبر

وللموت خير من حياة تسبنا

بهاجرهم فيمن يسب وحمير

انتهى ، وفي كتاب محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم ، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لإصابتهم فيها. والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وإنصاف.

ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك ، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وإما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصورا ، وهذا

١٨٠