روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة ، ثم إن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)(٣٧)

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) الظاهر أن الضمير للهدهد و (بَعِيدٍ) صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل : مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد ، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان عليه‌السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، وقيل : الضمير لسليمان وهو كما ترى ، وقيل : (بَعِيدٍ) صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان ، وجعله صفة الزمان أولى ، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه‌السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وفي بعض الآثار أنه عليه‌السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علي به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ ألا رحمتني فتركته وقالت : ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فقال : نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال : يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عزوجل فارتعد سليمان وعفا عنه ، وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه كان بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما ، ثم سأله :

١٨١

(فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته ، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه‌السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل ، وأيد ذلك بقوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه‌السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبإ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه ، وقال الزمخشري : إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا به في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى ، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها الأعلى مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وما ذا صدر عنه عليه‌السلام مع ما حكى عنهما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهية تنبيهه عليه‌السلام على تركه ، واعترض بأن قوله : (أَحَطْتُ) إلخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه‌السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل ، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه‌السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) ، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا. و (سَبَإٍ) منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وفي حديث فروة وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة (١) حمير وكندة والأزد وأشعر وخثعم ، والأربعة لخم وجذام وعاملة وغسان ؛ وقيل : سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان واسمه عبد شمس ، وقيل : عامر ، ولقب بذلك لأنه أول من سبى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «من سبأ» بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به مأرب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة ، وأنشدوا على صرفه قوله :

الواردون وتيم في ذرى سبأ

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي ، وقرأ الأعمش «من سبإ» بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسما للقبيلة أو للمدينة وهو كما ترى ، وقرأ ابن كثير في رواية «من سبى» بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورا مصروفا ، وذكر أبو معاذ أنه قرأ «من سبأى» بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلى فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم.

وروى ابن حبيب عن اليزيدي «من سبأ» بألف ساكنة كما في قولهم : تفرقوا أيدي سبأ وقرأت فرقة «بنبإ» بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبا بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة

__________________

(١) قوله والستة حمير إلخ المذكور في عبارته خمسة ويؤخذ السادس من حديث آخر أورده في شرح القاموس وهو مذحج كمجلس.

١٨٢

والتنوين ، وفي التحرير أن مثل «من سبا بنبإ» يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر : ٧٥] وحديث : «الخيل معقود بنواصيها الخير».

وقال الزمخشري : إن قوله تعالى : «من سبأ بنبإ» من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى ألا ترى لو وضع مكان (بِنَبَإٍ) بخبر لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال ا ه. وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن ، وكون النبأ بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين. والظاهر أنه معنى وضعي له. وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء ، وقول المحدثين : أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم. وقرأ الجمهور «فمكث» بضم الكاف ، والفتح قراءة عاصم وأبي عمرو في رواية الجعفي وسهل وروح وقرأ أبي «فمكث ثم قال». وعبد الله «فمكث فقال» ، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف. وقرئ في السبعة (أَحَطْتُ) بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي.

وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي. واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق إن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعا قاله الطيبي. وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الإطباق وعدمه. وقال سيبويه : كل كلام عربي كذا الحواشي الشهابية فتأمل.

وفي قوله تعالى : (أَحَطْتُ) إلخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات ، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور ، وقد سئل علي كرّم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال : لا أدري فقال السائل : ليس مكانك هذا مكان من يقول : لا أدري فقال الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه. بلى والله هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له يعني به الله عزوجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالما بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهدا. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقوله تعالى : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ. وتفصيل له إثر إجمال وعنى بهذه المرأة بلقيس (١) بنت شراحيل بن مالك ابن ريان من نسل يعرب بن قحطان ، ويقال : من نسل تبع الحميري.

__________________

(١) بكسر الباء معرب وهو قبل التعريب بفتحها اه منه.

١٨٣

وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور ، وقيل : اسم أبيها السرج بن الهداهد.

ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة. وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم رجلا يقال : إنه ابن عمها وكان خبيثا فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا الياس منك قالت : لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا : لا نراها تفعل فقال : بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت : نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرّعتهم ، وقالت : أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا ، وقالت : اختاروا رجلا تملكوه عليكم فقالوا : لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية.

وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد والحكيم الترمذي وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوجه إياها. وقيل : إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردا فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال : لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتله هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال : لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد أبوي بلقيس كان جنيا» والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر ، وفي البحر قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما ، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته : إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال : لا يتوالدون أي إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس. نعم روي عن مالك ما يقتضي صحة ذلك.

ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا : إن هاهنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال : ما أرى بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها : من زوجك؟ قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى ، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة ، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون

١٨٤

متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى ، وإيثار (وَجَدْتُ) على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه‌السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه‌السلام ، وقيل : للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال ، وضمير (تَمْلِكُهُمْ) لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها. وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه. وفي الأشباه لا ينبغي أن تولى القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص ، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة (تَمْلِكُهُمْ) ، وقد يقال : ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت.

والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة (تَمْلِكُهُمْ) وأن تكون حالا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن ، وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا ، وقيل : كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا ، وقيل : كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، وقيل : غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير ، وقال أبو مسلم : المراد به الملك ولا داعي إليه. واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك ، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه‌السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته. وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه‌السلام لما ذكر أولا من ترغيبه عليه‌السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه‌السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى. قال الحسن كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ، وقيل : كانوا زنادقة.

والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على (عَظِيمٌ) قال صاحب المرشد ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس. وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل ، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس في الكلام ما يدل عليه ، وفي الكشاف من نوكى القصاص من وقف على (عَرْشٌ) يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، والجملة تحتمل العطف على جملة (يَسْجُدُونَ) والحالية من الضمير على نحو ما مر

١٨٥

آنفا (فَصَدَّهُمْ) أي الشيطان ، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الحق والصواب (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يَهْتَدُونَ) إليه وقوله تعالى (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء في (فَصَدَّهُمْ) لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله عزوجل أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له تعالى ، وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من أعمالهم وما بينهما اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود لله تعالى ، وتعقب بأنه ظاهر في عد عدم السجود من الأعمال وهو بعيد ، وجوز أن يكون ذلك بدلا من السبيل و (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] كأنه قيل فصدهم عن السجود لله تعالى ، وجوز أن يكون بتقدير إلى و (لا) زائدة أيضا والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لا يهتدون إلى السجود له عزوجل ، وأنت تعلم أن زيادة ـ لا ـ وإن وقعت في الفصيح خلاف الظاهر ، وجوز أن لا يكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود ، وقيل : التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفا ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري والسلمي والحسن وحميد والكسائي «ألا» بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله :

ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد

ونظائره الكثيرة. وسقطت ألف يا وألف الوصل في (اسجدوا) وكتبت بالياء متصلة بالسين على خلاف القياس. ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار ، وفي البحر الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادى وإذا لم نحذفه كان دليلا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف النداء حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به (ألا) التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد. وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله :

فأصبحن لا يسألنني عن بما به

والمتفقي اللفظ العاملين أيضا في قوله :

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء

وجاز ذلك وإن عدّوه ضرورة أو قليلا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا. وليس ـ يا ـ في قوله :

يا لعنة الله والأقوام كلهم

حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى ، وللبحث فيه مجال. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافا من كلام الهدهد إما خطابا لقوم سليمان عليه‌السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين. ويحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله عزوجل أو من سليمان عليه‌السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول.

١٨٦

ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافا من جهته عزوجل خاطب سبحانه به هذه الأمة. والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على (يَهْتَدُونَ) استحسانا ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض ، وقيل : لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل. والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذما على ترك السجود وفيها على الثانية أمرا بالسجود. وأيا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية ، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه. وقرأ الأعمش : «هلا يسجدون» على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين. وفي قراءة أبي «ألا تسجدون» على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين ، وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية. وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية وفي الكشاف ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو الله عزوجل.

(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول. وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات ، وروي ذلك عن ابن زيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روي ذلك جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

و (فِي السَّماواتِ) متعلق بالخبء ، وعن الفراء أن (فِي) بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم. واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به. وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عزوجل ، وقيل : إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثاره التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض. وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه ، وأيضا التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه (أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافا من جهته عزوجل أو من جهة سليمان عليه‌السلام. وقرأ أبي وعيسى «الخب» بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد.

وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأة المرأة والكماة بإبدال الهمزة ألفا وفتح ما قبلها. وذكر أن هذا الإبدال لغة.

وجوز أن يكون (الْخَبْءَ) من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة. وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه. وتعقبه في الكشف فقال : تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وإجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك. وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى. وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلا وهو من قصور العلم ، قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. وأشير بعطف قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) على (يُخْرِجُ) إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل. ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عزوجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر. وقدم (ما

١٨٧

تُخْفُونَ) لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السماوات لأنه أشد ملاءمة للمقام ، والخطاب على ما قيل إما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس. وفي الكلام التفات.

وقرأ الحرميان والجمهور «ما يخفون وما يعلنون» بياء الغيبة ، وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون».

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) في معنى التعليل لوصفه عزوجل بكمال القدرة وكمال العلم. و (الْعَظِيمِ) بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه ، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي في ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة ، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كري خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى ، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك. وأيا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم.

وقرأ ابن محيصن وجماعة «العظيم» بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى. واحتمل أن يكون صفة للرب (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا فعل سليمان عليه‌السلام عند قوله ذلك؟ فقيل قال : (سَنَنْظُرُ) أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر ، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) جملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان ، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا ، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به ، وقوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه‌السلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده. فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه‌السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلا ، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب ، وقرئ في السبعة «فألقه» بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء ، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله : (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد وأبو علي وهو غير مناسب. وأمره عليه‌السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب.

والنظر بمعنى التأمل والتفكر و (ما ذا) إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة (يَرْجِعُونَ) خبره. وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة (يَرْجِعُونَ) صلة الموصول والعائد محذوف. وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض ، وقيل : النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] فلا

١٨٨

تعليق بل كلمة (ما ذا) موصول في موضع المفعول كذا قيل ، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ما ذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم ، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه. وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده.

(قالَتْ) أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به ، وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره.

روي أنه عليه‌السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وفي رواية بين ثدييها ، وقيل : نقرها فانتبهت فزعة ، وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت ، وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.

واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز. وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا ، ولعل سليمان عليه‌السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب ، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق ، ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه ، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليه‌السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) إلخ ، وأقدم سليمان عليه‌السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها ، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك ، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه‌السلام ما وقف عليه بعد.

وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد : (جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) [النمل : ٢٢ ، ٢٣] فإنه عليه‌السلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم ، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوما ففي الحديث : «كرم الكتاب ختمه» ، وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته ، وقال ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ، وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد «الكريم» هنا بالمختوم ، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو

١٨٩

لبداءته باسم الله عزوجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد ، وقيل : إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء. وبناء (أُلْقِيَ) للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل ، وقيل : لجهلها به أو لكونه حقيرا. وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الفصوص : من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها. وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى ، وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم ، وأما التأكيد في قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فلذاك أيضا أو لوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ممن هذا الكتاب وما ذا مضمونه؟ فقيل : إنه من سليمان إلخ ، ويحسن التأكيد بأن في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر ، ويعلم مما ذكر أن ضمير (إِنَّهُ) الأول للكتاب وضمير (إِنَّهُ) الثاني للمضمون وإن لم يذكر ، وليس في الآية ما يدل على أنه عليه‌السلام قدم اسمه على اسم الله عزوجل ، وعلمها بأنه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال : كتب سليمان بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها ـ أن لا تعلوا ـ إلخ ، وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب (بِسْمِ اللهِ) إلخ ، وقيل : ضمير (إِنَّهُ) الأول للعنوان وأنه عليه‌السلام عنوان الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان (بِسْمِ اللهِ) إلخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال : وقدم عليه‌السلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما لا يليق إذ كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم الله عزوجل وهو كما ترى ، وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف ، وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة والسلام لم تفتتح بها ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] فكتب بسم الله ثم نزلت (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت آية النمل (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) الآية فكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) الآية كتب بسم الله إلخ ، وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة ، وهذا عندي مما لا يكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لا ينبغي أن يذهب إلى خلافه ، فقد قال الجلال السيوطي في إتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال ، أحدها وهو الصحيح (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] واحتج له بعده أخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور ، وثانيها (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] وثالثها سورة الفاتحة ، ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق ا ه.

وهو يقوي ما قلناه فإن البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب الله تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح الله تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه.

والقول بأنها نزلت قبل إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليه‌السلام إياها في كتابه إلى أهل سبأ مما لا يقدم عليه إلا جاهل بقدره عليه الصلاة والسلام ، وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها.

١٩٠

وفي أدب الكتاب للصولي أنهم يختارون أن يبدأ الكاتب بالبسملة من حاشية القرطاس ثم يكتب الدعاء مساويا لها ويستقبحون أن يخرج الكلام عن البسملة فاضلا بقليل ولا يكتبونها وسطا ويكون الدعاء فاضلا ا ه.

وما ذكر من كتابة الدعاء بعدها لم يكن في الصدر الأول وإنما كان فيه كتابة من فلان إلى فلان.

وتقديم اسم الكاتب على اسم المكتوب له مشروع وإن كان الأول مفضولا والثاني فاضلا ، ففي البحر عن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدءوا بأنفسهم.

وقال أبو الليث في البستان له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه انتهى.

وظاهر الآية أن البسملة ليست من الخصوصيات ، وقال بعضهم : إنها منها لكن باللفظ العربي والترتيب المخصوص ، وما في كتاب سليمان عليه‌السلام لم تكن باللفظ العربي وترجمت لنا به وليس ذلك بعيد.

وقرأ عبد الله «وإنه من سليمان» بزيادة واو ، وخرجه أبو حيان على أنها عاطفة للجملة بعدها على جملة (إِنِّي أُلْقِيَ) ، وقيل : هي واو الحال والجملة حالية ، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة «أنه من سليمان وأنه» بفتح همزة أن في الموضعين ، وخرج على الإبدال من (كِتابٌ) أي ألقي إلي أنه إلخ أو على أن يكون التقدير لأنه إلخ كأنها عللت كرم الكتاب بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم الله عزوجل ، وقرأ أبي «أن من سليمان وأن بسم الله» بفتح الهمزة وسكون النون ، وخرج على أن أن هي المفسرة لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول أو على أنها المخففة من الثقيلة وحذفت الهاء. و (أن) في قوله تعالى : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية. ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية ، وقيل : يجوز كونها ناهية أيضا ، ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من (كِتابٌ) أو خبر لمبتدإ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا عليّ أي أن لا تتكبروا عليّ كما يفعل جبابرة الملوك ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي «أن لا تغلوا» بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لا تتجاوزا حدكم (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) عطف على ما قبله فإن كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الإنشاء على الأخبار والكلام فيه مشهور ، والأكثرون على جوازه في مثل هذا. والمراد بالإسلام الإيمان أي وأتوني مؤمنين ، وقيل : المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين. والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه‌السلام هو الأول.

وفي بعض الآثار كما ستعلم إن شاء الله تعالى ما يؤيده. ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة ، وعادة الأنبياء عليهم‌السلام الدعوة إلى الإيمان أولا فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة ؛ وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة ، وقيل : إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه‌السلام دلالة بينة. وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصا وهي لم تقارن التحدي ؛ ورجح الثاني بأن قولها : (إِنَّ الْمُلُوكَ) إلخ صريح في دعوة الملك والسلطنة.

وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه‌السلام حينئذ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه‌السلام ملكا وهذا كما ترى ، والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص الله تعالى وهو إحدى الروايتين عن مجاهد ، وثانيتهما أن فيه ـ السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين

١٩١

وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب ـ من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى ـ إلى آخر ما ذكر ، ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال ، وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل فيا له كتاب في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز ، وعن قتادة كذلك كانت الأنبياء عليهم‌السلام تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون.

هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بأنه عليه‌السلام كتب ذلك على الكاغد أو الرق أو غيرهما ، واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب ، وزعموا أن قطعهم شيئا مر القرطاس من تلك الزاوية تشبيها لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه‌السلام وهذا مما لا يعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزها ، والإفتاء على ما قال صاحب المطلع الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الإشكال كالإشكاء إزالة الشكوى ، وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل ، وأيا ما كان فالمعنى أشيروا عليّ بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذكرت لكم خلاصته ، وقصدت بما ذكرت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي ما أقطع أمرا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم ، والإتيان بكان للإيذان بأنها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا و (حَتَّى تَشْهَدُونِ) غاية للقطع.

واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة ، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمرا» (قالُوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل : فما ذا قالوا في جوابها؟ فقيل قالوا : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في الأجساد والعدد (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل واحد على عشرة آلاف ، وروي ذلك عن قتادة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل تحت يد كل قيل مائة ألف ، وقيل : كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل ، وهذه الأخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق ، ولعمري إن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران الأخيران ، وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) تسليم للأمر إليها بعد تقديم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لا يتوهم أنه من العجز. والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ و (إِلَيْكِ) متعلق بمحذوف وقع خبرا له ويقدر مؤخرا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق أي والأمر إليك موكول.

(فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك ، وقيل : أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من

١٩٢

أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ما ذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه‌السلام حسبما تعتقده ، وذلك قوله تعالى : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) من القرى على منهاج المقاتلة والحرب (أَفْسَدُوها) بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال.

(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال ، ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديق لها من جهته عزوجل على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك ، وقيل : هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لا تأكيدا. وتعقب بأن التأكيد لازم على ذلك أيضا للاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل : إن سليمان ملك والملوك هذا شأنهم وغلبتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون ما يكون فالصلح خير ، وقيل : إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إذا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه‌السلام وقررت رأيها بقولها : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ (١) الْمُرْسَلُونَ) حتى أعمل بما يقتضيه الحال ، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه‌السلام هديتها.

وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى ، والتنوين فيها للتعظيم ؛ و (ناظرة) عطف على (مُرْسِلَةٌ) و (بِمَ) متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر ، والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف.

واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقال وهب. وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجوهر وعليه أغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بني عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه : إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول : فإن أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج أنس ولا جن وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ، ثم قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه‌السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار

١٩٣

تسع فراسخ وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال : أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا : يا نبي الله ما رأينا أحسن من دواب في البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال عليّ بها الساعة فأتوه بها قال: شدوها عن يمين الميدان وشماله وقال للجن : عليّ بأولادكم فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير ثم قعد في مجلسه على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله وأمر جميع الإنس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان عليه‌السلام ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تصاغرت إليهم أنفسهم وخبئوا ما كان معهم من الهدايا ، وقيل : إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك فوضعوا ما معهم من اللبن فيه ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين : جوزوا لا بأس عليكم وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم ملقى حسنا وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطاه الكتاب فنظر فيه وقال : أين الحق فأتى به فحركه فجاء جبريل عليه‌السلام فأخبره بما فيه فقال لهم : إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب قال الرسول : صدقت فأثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان عليه‌السلام من لي بثقبها وسأل الجن والإنس فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا نرسل إلى الأرضة فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها : ما حاجتك؟ قالت : تصير رزقي في الشجر فقال : لك ذلك ثم قال : من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي الله فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال : ما حاجتك؟ قالت : يكون رزقي في الفواكه فقال : لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها والغلام على ظاهره ثم رد سليمان عليه‌السلام الهدية كما أخبر الله تعالى ، وقيل : إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت : أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها وبقدح ماء وقالت : تملؤه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء فأرسل عليه‌السلام العصا إلى الهواء وقال أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال : هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء ا ه. وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها ، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه والله تعالى أعلم.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) في الكلام حذف أي فأرسلت الهدية فلما جاء إلخ ، وضمير (جاءَ) للرسول ، وجوز أن يكون لما أهدت إليه والأول أولى ، وقرأ عبد الله «فلما جاءوا» أي المرسلون (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) خطاب للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب وإطلاقا للجمع على الاثنين ، وجوز أن يكون للرسول ومن معه وهو أوفق بقراءة عبد الله ، ورجح الأول لما فيه من تشديد الإنكار والتوبيخ المستفادين من الهمزة على ما قيل وتعميمهما لبلقيس وقومها ، وأيد بمجيء قوله تعالى : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) بالإفراد ؛ وتنكير (مال) للتحقير.

وقرأ جمهور السبعة «تمدونن» بنونين وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي عن نافع بنون واحدة خفيفة والمحذوف نون الوقاية ، وجوز أن يكون الأولى فرفعه بعلامة مقدرة كما قيل في قوله :

١٩٤

أبيت أسري وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الذكي

(فَما آتانِيَ اللهُ) أي من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي من المال الذي من جملته ما جئتم به ، وقيل : عنى بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ ، والجملة تعليل للإنكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم ، وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل : أنكر إمدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي ، والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاءوه كما يؤذن به قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) إلخ. ولعل ذلك لمزيد حرصه على إرشادهم إلى الحق ، وقيل : لعله عليه‌السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره ، واستدل بالآية على استحباب هدايا المشركين.

والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لا مطلقا ، وإنما لم يقل : وما آتاني الله خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للإشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك ، وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه‌السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها ، ففي ذلك من الحط عليهم ما لا يخفى ، والهدية مضافة إلى المهدي إليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدي أو إضراب عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه‌السلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها ، وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه‌السلام بالمال منكر قبيح ، وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه‌السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل ، قيل : وينبئ عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) بعد عدها إياه عليه‌السلام ملكا عظيما.

وكذا ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك ، وقيل : فرحهم بما أهدوه إليه عليه‌السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فإن الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا ، وقيل : الكلام كناية عن الرد ، والمعنى أنتم من حقكم أن تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء (ارْجِعْ) أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله : (أَتُمِدُّونَنِ) إلخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الإمداد نحوه ، وقيل : هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير.

وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد الله «ارجعوا» على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف (إِلَيْهِمْ) أي إلى بلقيس وقومها (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ) أي فو الله لنأتينهم (بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها. وقرأ عبد الله «بهم» (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ) عطف على جواب القسم (مِنْها) أي من سبأ (أَذِلَّةً) أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا فيه من العز والتمكين ، وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم ، وقوله تعالى : (وَهُمْ صاغِرُونَ) حال أخرى ، والصغار وإن كان بمعنى الذل إلا أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل : ارجع إليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتينهم إلخ.

١٩٥

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٥٥)

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) في الكلام حذف أي فرجع الرسول إليها وأخبرها بما أقسم عليه سليمان فتجهزت للمسير إليه إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتاله ، فروي أنها أمرت عند خروجها فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من قصورها وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم وأرسلت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، قال عبد الله بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان قال : أيكم يأتيني بعرشها.

وعن ابن عباس كان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ فقالوا : بلقيس فقال : أيكم إلخ ، ومعنى مسلمين على ما روي عنه طائعين ، وقال بعضهم : هو بمعنى مؤمنين ، واختلفوا في مقصوده عليه‌السلام من استدعائه عرشها ، فعن ابن عباس وابن زيد أنه عليه‌السلام استدعى ذلك

١٩٦

ليريها القدرة التي هي من عند الله تعالى وليغرب عليها. ومن هنا قال في الكشاف : لعله أوحى إليه عليه‌السلام باستيثاقها من عرشها فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى : من إجراء العجائب على يده مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان عليه‌السلام ويصدقها انتهى ؛ وتقييد الإتيان بقوله: (قَبْلَ) إلخ لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأدل على عظيم قدرة الله عزوجل وصحة نبوته عليه‌السلام وليكون اطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها.

وقال الطبري : أراد عليه‌السلام أن يختبر صدق الهدهد في قوله : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] واستبعد ذلك لعدم احتياجه عليه‌السلام إلى هذا الاختبار فإن أمارة الصدق في ذلك غاية الوضوح لديه عليه‌السلام لا سيما إذا صح ما روي عن وهب وغيره. وقيل : أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها.

وقال قتادة وابن جريج : إنه عليه‌السلام أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإيمان ويمنع أخذ أموالهم. قال في الكشف : فيه أن حل الغنائم مما اختص به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال في التحقيق لا يناسب رد الهدية. وتعليله بقوله : (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ). وأجيب بأن هذا ليس من باب أخذ الغنائم وإنما هو من باب أخذ مال الحربي. والتصريف بغير رضاه مع أن الظاهر أنه بوحي فيجوز أنه من خصوصياته لحكمة ولم يكن ذلك هدية لها حتى لا يناسب الرد السابق وفيه بحث ، ولعل الألصق بالقلب أن ذاك لينكره فيمتحنها اختبارا لعقلها مع إراءتها بعض خوارقه الدالة على صحة نبوته وعظيم قدرة الله عزوجل. ثم الظاهر أن هذا القول بعد رد الهدية وهو الذي عليه الجمهور.

وفي رواية عن ابن عباس أنه عليه‌السلام قال ذلك حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير وأظن أنه لا يصح هذا عن ابن عباس (قالَ عِفْرِيتٌ) أي خبيث مارد (مِنَ الْجِنِ) بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، وقرأ أبو حيوة «عفريت» بفتح العين وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «عفرية» بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث ، وقال ذو الرمة :

كأنه كوكب في إثر عفرية

مصوب في سواد الليل منقضب

وقرأت فرقة «عفر» بلا ياء ولا تاء ويقال في لغة طيئ وتميم : عفراة بألف بعدها تاء التأنيث ، وفيه لغة سادسة عفارية ؛ وتاء عفريت زائدة للمبالغة في المشهور. وفي النهاية الياء في عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة والهاء فيهما للمبالغة والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل ا ه. واسم هذا العفريت على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس صخر.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شعيب الجبائي أن اسمه كوزن. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن رومان أن اسمه كوزي. وقيل : اسمه ذكوان (أَنَا آتِيكَ بِهِ) أي بعرشها ، وآتي يحتمل أن يكون مضارعا وأن يكون اسم فاعل. قيل : وهو الأنسب بمقام ادعاء الإتيان به في المدة المذكورة في قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلسك الذي تجلس فيه للحكومة وكان عليه‌السلام يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم قاله قتادة ومجاهد ووهب وزهير بن محمد وقيل : أي قبل أن تستوي من جلوسك قائما (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌ) لا ينتقل على حمله. والقوة صفة تصدر عنها الأفعال الشاقة ويطيق بها من قامت به لتحمل الأجرام العظيمة ولذا اختير قوي على قادر هنا ، وظاهر كلام بعضهم أن في الكلام حذفا فمنهم من قال : أي على حمله ومنهم قال : أي على الإتيان به ، ورجح الثاني

١٩٧

بالتبادر نظرا إلى أول الكلام. والأول بأنه أنسب بقوله لقوي : (أَمِينٌ) لا أقتطع منه شيئا ولا أبدله (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل ، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور ، وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم ، وقيل كان كاتبه.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم ، وقيل : أسطورس.

وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه‌السلام ، وعن قتادة أن اسمه مليخا ؛ وقيل : ملخ ، وقيل : تمليخا ، وقيل : هود ، وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله ، وقال النخعي هو جبريل عليه‌السلام ، وقيل : هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليه‌السلام ، وقال الجبائي : هو سليمان نفسه عليه‌السلام.

ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قال سليمان عليه‌السلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل : قال إلخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه ، ويكون الخطاب في قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) ثم قال ما قال وأتى به قصدا لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم. وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم ، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : ٣] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر.

وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته ، الثاني إن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليه‌السلام وأنه غير جائز ، الثالث أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس.

الرابع أن ظاهر قوله عليه‌السلام فيما بعد (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) إلخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه‌السلام ا ه. وللمناقشة فيه مجال. واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في (آتِيكَ) يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال : أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا ، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد ـ فلما أتى به ـ دون (فَلَمَّا رَآهُ) إلخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه ، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه ، ولا يلزم من ذلك أنه عليه‌السلام لم يكن قادرا على الإتيان به كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة ، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن وأتعابه كما لا يخفى.

وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه‌السلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين ، وقال القيصري : كان سليمان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا

١٩٨

وخوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من ورّاثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ، ومن منن الله تعالى عليهم أن يرزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم ا ه ، وما في الفصوص أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لا يخلو عن بحث على مشرب القوم أيضا.

وفي مجمع البيان روى العياشي بإسناده قال : التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل منها : هل كان سليمان محتاجا إلى علم آصف؟ فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال: اكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه عليه‌السلام أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق ا ه وهو كما ترى. والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة ؛ وقيل : اللوح المحفوظ ، وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيد جدا ، وقيل : المراد به الذي أرسل إلى بلقيس ، ومن ابتدائية وتنكير (عِلْمٌ) للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود ، قيل : كان ذلك العلم باسم الله تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب ، وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه ، وهو يا حي يا قيوم ، وقيل يا ذا الجلال والإكرام ، وقيل الله الرحمن وقيل : هو بالعبرانية آهيا شراهيا.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها ، والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد ، فالمعنى آتيك به قبل أن ينضم جفن عينك بعد فتحه ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر ، والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة ، فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه‌السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمن فقبل أن يرتد إليه حضر العرش عنده. وقيل : هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتى به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك.

وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع إليه النظر ، وأن المعنى قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إذا نظرت أمامك وهو كما ترى (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي فلما رأى سليمان عليه‌السلام العرش ساكنا عنده قارّا على حاله التي كان عليها (قالَ) تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم‌السلام وخلص عباد الله عزوجل (هذا) أي الإتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة ، وقيل : أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي تفضله جل شأنه على من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى ، وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه إلخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الإخبار به وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه‌السلام إياه شيء ما أصلا ، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده. فمستقرا منتصب على الحال و (عِنْدَهُ) متعلق به. وهو على ما أشرنا إليه كون خاص ولذا ساغ ذكره. وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة : إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برءاه لا به. ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وأنه قد يظهر كما في هذه الآية. وقوله :

١٩٩

لك العز إن مولاك عز وإن يهن

فأنت لدي بحبوحة الهون كائن

وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية. وفي كيفية وصول العرش إليه عليه‌السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف. فأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان وإلى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه‌السلام من السماء وكان عليه‌السلام إذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع إليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو من مسافة شهرين. وعلى القول بأنه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام ، وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله ، وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل ، وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره إن آصف تصرف في عين العرش فأعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فإن القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى.

ومسألة حصول العرش من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الإيجاد والإعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا. وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى ، وما ذكره من أنه كان بالإعدام والإيجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الأشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية. واستدل بها على ثبوت الكرامات.

وأنت تعلم أن الاحتمال يسقط الاستدلال. وعلل عليه‌السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله : (لِيَبْلُوَنِي) أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر (أَشْكُرُ) على ذلك بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد ، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني ، ونقل مثله في البحر عن ابن عباس والظاهر عدم صحته ، وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقرا عنده جزع وقال : رجل غيري أقدر على ما عند الله عزوجل مني ، ولعل الحق الجزم بكذب ذلك ، وجملة (أَأَشْكُرُ) إلخ في موضع نصب على أنها مفعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفا له.

وقيل : محله النصب على البدل من الياء (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران (وَمَنْ كَفَرَ) أي لم يشكر (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره (كَرِيمٌ) بترك تعجيل العقوبة والأنعام مع عدم الشكر أيضا ، والظاهر أن من شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط ، وجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه أي فضرر كفرانه عليها. وتعقب بأنه لا يناسب قوله : (كَرِيمٌ) وجوز أيضا أن تكون من موصولة ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط (قالَ) أي سليمان عليه‌السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه‌السلام تنبيها على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر لله عزوجل والثاني أمر لخدمه (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي اجعلوه بحيث لا يعرف ولا يكون ذلك إلا بتغييره عما كان

٢٠٠