روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال : «شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي في قولهم آمنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) في ذلك ؛ والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان ، واللام واقعة في جواب القسم ، والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة ، وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير ، ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه ، وقال ابن المنير : الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه ، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل : فو الله ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه ، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم ، وقال محيي السنة : أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار.

وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد والزهري رضي الله تعالى عنهم «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون الفعل على هذه القراءة متعديا لاثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن الله الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة ، أو الأول محذوف أي فليعلمن الله الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر ، والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا ، وقال أبو حيان : في الدنيا والآخرة ، وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أي يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها ، وقيل : يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا كقوله عليه الصلاة والسلام : «من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها».

وقرأ الزهري الفعل الأول كما قرأ الجماعة ، والفعل الثاني كما قرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي الله تعالى عنهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) قال مجاهد : أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت ، ثم أريد منه ما ذكر وقيل : أي يعجلونا محتوم القضاء ، والأول أولى.

وفسر قتادة على ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير (السَّيِّئاتِ) بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل : أو عن قصد كما قال الراغب : أم لا لا ضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها ، وقيل : المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا ، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء ، ويحسب أنه يفوت الله عزوجل.

وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي ، وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت

٣٤١

يحتمل أن يكون باعتبار التغليب ، وظاهر الآثار يدل على أن هذه الآية نزلت في شأن الكفرة ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاصي بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبي معيط وحنظلة بن وائل وأنظارهم من صناديد قريش ، وفي البحر أن الآية وإن نزلت على سبب فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم ، والظاهر أن (أَمْ) منقطعة بمعنى بل التي للإضراب بمعنى الانتقال وهو انتقال من إنكار حسبان عدم الفتن لمجرد الإيمان إلى إنكار حسبان عدم المجازاة على عمل السيئات.

وقال ابن عطية : (أَمْ) معادلة للهمزة في قوله تعالى : (أَحَسِبَ) وكأنه سبحانه قرر الفريقين ، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله تعالى ويعجزونه انتهى. ورد بأنها لو كانت معادلة للهمزة لكانت متصلة والتالي باطل لأن شرط المتصلة أن يكون ما بعدها مفردا نحو أزيد قائم أم عمرو أو ما هو في تقدير المفرد نحو أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين أو الأشياء وبعدها هنا جملة ؛ ولا يمكن الجواب هنا أيضا بأحد الشيئين فالحق أنها منقطعة والاستفهام الذي تشعر به إنكاري لا يحتاج للجواب كما لا يخفى ، والظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن (أَنْ يَسْبِقُونا) ساد مسدهما.

وجوز الزمخشري هنا أن يضمن معنى التقدير فيكون متعديا لواحد وإن يسبقونا هو ذلك الواحد ، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك على أن ساء بمعنى بئس و (ما) موصولة و (يَحْكُمُونَ) صلتها ، والعائد محذوف وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك على أن ما موصوفة ويحكمون صفتها والرابط محذوف وهي تمييز وفاعل ساء ضمير مفسر بالتمييز والمخصوص محذوف أيضا.

وقال ابن كيسان : (ما) مصدرية ، والمصدر المؤول مخصوص بالذم فالتمييز محذوف ، وجوز كون ساء بمعنى قبح وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة ، والمضارع للاستمرار إشارة إلى أن دأبهم ذلك أو هو واقع موقع الماضي لرعاية الفاصلة وكلا الوجهين حكاهما في البحر ، والأول أولى ، وعندي أن مثل هذا لا يقال : إلا في حق الكفرة (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : أي من كان يخشى البعث في الآخرة فالرجاء بمعنى الخوف كما في قول الهذلي في وصف عسال :

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل

ولعل إرادة البعث من لقائه عزوجل لأنه من مباديه ، وقيل : لعله جعل لقاء الله تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة إلا أنه لما كان البعث من أعظم ما يتوقف ذلك عليه خصه بالذكر ، وفي الكشاف أن لقاء الله تعالى مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء ، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ؛ وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى (مَنْ كانَ) إلخ من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من الله تعالى والبشرى ، فالكلام عنده من باب التمثيل والرجاء بمعنى الأمل والتوقع.

وجوز أن يكون بمعنى ذلك إلا أن الكلام بتقدير مضاف أي من كان يتوقع ملاقاة جزاء الله تعالى ثوابا أو عقابا أو

٣٤٢

ملاقاة حكمه عزوجل يوم القيامة وأن يكون بمعنى الخوف ، والمضاف محذوف أيضا أي من كان يخاف ملاقاة عقاب الله تعالى ، وأن يكون بمعنى ظن حصول ما فيه مسرة وتوقعه كما هو المشهور ، والمضاف كذلك أيضا ، أي من كان يرجو ملاقاة ثواب الله تعالى ، ويجوز أن لا يقدر مضاف ، ويجعل لقاء الله تعالى مجازا عن الثواب لما أنه لازم له.

واختار بعضهم أن الرجاء بمعناه المشهور وأن لقاء الله تعالى مشاهدته سبحانه على الوجه اللائق به عزوجل كما يقوله أهل السنة والجماعة إذ لا حاجة للخروج عن الظاهر من غير ضرورة وما حسبه المعتزلي منها فليس منها كما بين في علم الكلام أي من كان يتوقع مشاهدة الله تعالى يوم القيامة التي لا نعيم يعدلها ويلزمها الفوز بكل خير ونعيم (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) الأجل غاية لزمان ممتد عينت لأمر من الأمور ، وقد يطلق على كل ذلك الزمان ، والأول أشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه جل شأنه لذلك (لَآتٍ) لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائما ، ومجيء ذلك الوقت كناية عن إتيان ما فيه ووقوعه ، والجملة الاسمية قائمة مقام جواب الشرط وهي في الحقيقة دليل الجواب المحذوف أي فليبادر ما ينفقه من امتثال الأوامر واجتناب المناهي أو فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو نحو ذلك مما يلائم الشرط فتدبر.

وقيل : يجوز أن تكون هي الجواب على أن المراد بها المعنى الملائم للشرط كما ذكر (وَهُوَ السَّمِيعُ) جل شأنه لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والعقائد والصفات الباطنة ، والجملة تذييل لتحقيق حصول المرجو والمخوف وعدا ووعيدا (وَمَنْ جاهَدَ) في طاعة الله عزوجل.

(فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لعود المنفعة من الثواب المعد لذلك إليها (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم سبحانه بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته وحكمته.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الكفر الأصلي أو العارضي بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أحسن جزاء أعمالهم والجزاء الحسن أن يجازي بحسنة حسنة ، وأحسن الجزاء أن تجازى الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة ، وقيل : لو قدر لنجزينهم بأحسن أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم لإخراج المباح جاز (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما ، وانتصب حسنا على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسنا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن ، وقال الزمخشري : حسنا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسنا ، وفيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين ، وجوز أن يكون حسنا مصدرا لفعل محذوف أي أحسن حسنا ، والجملة في موضع المفعول لوصي لتضمنه معنى القول ، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول ، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنا ، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده ، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير ، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنا مفعولا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنا ، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين ، وقيل : إن حسنا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما

٣٤٣

ترى ، وقرأ عيسى والجحدري «حسنا» بفتحتين وفي مصحف أبي «إحسانا» (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) عطف على ما قبله ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا : إن جاهداك إلخ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذا كان جوابها إنشاء فهي إنشائية كما صرحوا به فإذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقا في الإنشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منهي عن مطاوعتهما ، وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الإفضاء إلى المعصية مآلا فكأنه قيل : أحسن إليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل ، والظاهر الذي يقتضيه المقام أن (ما) عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه : (بِهِ) على حذف مضاف أي ما ليس لك بإلهيته علم ، وتنكير علم للتحقير.

والمراد لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم ، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذان بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه ، وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالبا في حق الله تعالى نحو «أتعلمون الله بما لا يعلم» (١) ثم قال : وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما ورد «كل مولود يولد على الفطرة» وذلك أن المخاطب بقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) جنس الإنسان انتهى ، وفيه بحث. ومتعلق تطعهما محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مرجع من آمن منكم ـ ومن أشرك ـ ومن بر ـ ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازي كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس : يا سعد بلغني أنك صبأت فو الله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.

وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم ما لي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعها وعصى عمر رضي الله عنه تعالى عنه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك ، قال : نعم. فنزل ليوطئ لنفسه

__________________

(١) نص الآية ٧٩ من سورة آل عمران : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ...).

٣٤٤

وله فأخذاه فشداه وثاقا وجلده كل واحد مائة جلدة وذهبا به إلى أمه ، فقالت : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه ، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير ، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا ، ولذا طلبها الأنبياء عليهم‌السلام كما قال سليمان عليه‌السلام (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩] ويحتمل أن يكون الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة ، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء ، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم (وَمِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي لأجله عزوجل على أن في للسببية ، أو المراد في سبيل الله تعالى بأن عذبهم المشركون على الإيمان به تعالى (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم (كَعَذابِ اللهِ) أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا بالله تعالى كما يطيع الله تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عزوجل.

(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَ) بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع لالتقاء الساكنين ، وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها ، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها ، وحكى أبو معاذ النحوي أنه قرئ «ليقولن» بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة ، وقيل : أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال. ورد بأنها غير واقعة ، والآية نزلت في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين ، ولذا قال ابن زيد والسدي : إن الآية في المنافقين فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه :

(أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس إلخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور الله تعالى بأحوالهم عالمين وليس إلخ ، و (أعلم) إما على أصله أي أليس هو عزوجل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو بمعنى عالم. وقال قتادة : نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة ، وقيل : نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] الآية ، وما تقدم هو الأوفق لما سبق من الآية وما لحق من قوله سبحانه : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) سواء كان كفرهم بأذية أو لا ، والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق ، وكأن تلوين الخطاب في الذين آمنوا والمنافقين لرعاية الفواصل ، والظاهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية ، وهو يؤيد ما تقدم من عدها من المستثنيات ، ولعل من يقول إنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول بمكية السورة ، وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب بمكة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد ، ووصفهم بالكفر هاهنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه ، واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين ، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة

٣٤٥

السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي إذا كان ذلك الاتباع خطيئة يؤاخذ عليها يوم القيامة كما تقولون أو ولنحمل ما عليكم من الخطايا إن كان بعث ومؤاخذة ، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على الأمر بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع ، فكأن أصل الكلام اتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم بجزم نحمل على أنه جواب الأمر ، فيكون المعنى إن تتبعوا نحمل فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة المذكورة ، ومنشؤها الإشارة إلى أن الحمل لتحققه كأنه أمر واجب أمروا به من آمر مطاع ، والتعليق على الشرط الذي تضمنه الأمر كما في قولهم : أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك ، والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع ، والحمل هنا مجاز ، وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول ، وقال مجاهد : الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى.

والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فإن كان عليكم شيء فعلينا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون : إنه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية ، وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه : إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك.

وقيل : قائله الوليد بن المغيرة ، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة ، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك ، وقرأ الحسن وعيسى ونوح القارئ «ولتحمل» بكسر لام الأمر ، ورويت عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئا ما من خطاياهم التي التزموا حملها ، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي ، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير ، ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق ، وهذه الجملة اعتراض أو حال.

وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي «من خطيئتهم» على التوحيد قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة ، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ «من خطيئاتهم» جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء ، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من «خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فأشبهت الياء لأن قياس تسهيلها هو ذلك ؛ وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) استئناف مقرر للنفي السابق ، والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فإنه إخبار لا إلى الأمر السابق لأنه إنشاء ولا يجري الكذب فيه ، وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون إخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة ، ولذا قال الزمخشري : إن ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه ؛ وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون ، وأجاب عن ذلك بوجهين ، ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه ، وحاصله أن الكذب ليس راجعا إلى أنهم غير حاملين ليقال : إن الضامن لا يسمى كاذبا بل أخبر الله تعالى أنهم عجزوا عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضمان عند وجود الوصف ، والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبا وإن لم يضمن سمي كاذبا ، وأولهما أنه شبه الله تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه.

٣٤٦

وقال بعض المحققين : الكذب راجع إلى الخبر الذي في ضمن وعدهم بالحمل وهم أنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا ، والكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه يتطرق إليه باعتبار ما يلزم مدلوله ، وفي الانتصاف أن في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك في هذه الآية لأنه سبحانه أردف قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) على صيغة الأمر بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار انتهى ، ويعلم منه وجه كونهم كاذبين في قولهم ذلك مع إخراجهم له مخرج الأمر إلا أن في كون الآية دليلا على ما ذكره نظرا كما لا يخفى.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا ، والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة (وَأَثْقالاً) أخر (مَعَ أَثْقالِهِمْ) وهي أثقال ما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما. فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «أيما داع دعا إلى هدي فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» قال عون : وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، وللإشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الأثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالا مع أثقالهم.

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تقريع وتبكيت (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم‌السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم‌السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى ، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة ، قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار ، وهم قالوا : لا بد من ذكر المجرور ، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه‌السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار.

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : بعث الله تعالى نوحا عليه‌السلام وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه‌السلام ألف سنة وخمسين سنة ، وقيل : إنه عليه‌السلام عمر أكثر من ذلك ، أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال : إن الله تعالى أرسل نوحا عليه‌السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة ، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان

٣٤٧

عمر نوح عليه‌السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة ، وعن وهب أنه عليه‌السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة ، وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة ، وقيل : مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون ما ذكر الله عزوجل مدة إقامته عليه‌السلام من لدن مولده إلى غرق قومه ، وقيل : يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه‌السلام ، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم ؛ وجاء في بعض الآثار أنه عليه‌السلام أطول الأنبياء عليهم‌السلام عمرا ، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح عليهما‌السلام فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال : كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر ، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه‌السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء ، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة ، والنكتة في اختيار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه‌السلام فيه ما قاسى من قومه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي عقيب تمام المدة المذكورة ، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج :

حتى إذا ما يومها تصبصبا

وغم طوفان الظلام الأثأبا (١)

وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا (وَهُمْ ظالِمُونَ) أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه‌السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا عليه‌السلام (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه ، وكانوا ثمانين ، وقيل : ثماني وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم ، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة ، وروي مرفوعا كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة أي مع أهليهم (وَجَعَلْناها) أي السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) عبرة وعظة لهم لبقائها زمانا طويلا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس ، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم (وَإِبْراهِيمَ) نصب بإضمار اذكر معطوفا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافهما خبرا وإنشاء وإذ في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) بدل اشتمال منه لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد جوز ذلك الزمخشري وابن عطية ، وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والبدلية تقتضي ذلك. ثم ذكر أن إذ إن كانت ظرفا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لأذكر لأن المستقبل لا يقع في الماضي فلا يجوز قم أمس ، وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولا به ومعمولا لأذكر ، وجوز غير واحد أن يكون نصبا بالعطف على نوحا فكأنه قيل : وأرسلنا إبراهيم فإذ حينئذ ظرف للإرسال ، والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق ، وهذا

__________________

(١) قوله الأثأبا هو شجر الأثل ا ه منه.

٣٤٨

على ما قاله بعض المحققين لما أن القول المذكور في حيز إذ إنما كان منه عليه‌السلام بعد ما راهق قبل الإرسال ، وأنت تعلم أن قوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [العنكبوت : ١٨] إلخ إذا كان من قوله عليه‌السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه‌السلام كان بعد الإرسال ؛ وفي الحواشي السعدية أن ذلك إشارة إلى دفع ما عسى أن يقال : الدعوة تكون بعد الإرسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه ، وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الإرسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر ، مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة ، ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرتهعليه‌السلام للامتثال ا ه فتدبر.

وجوز أبو البقاء ، وابن عطية أن يكون نصبا بالعطف على مفعول أنجيناه وهو كما ترى ، والأوفق بما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [الأعراف : ٨٥ ، هود : ٨٤ ، العنكبوت : ٣٦] أن يكون النصب بالعطف على نوحا وقرأ أبو حنيفة ، والنخعي وأبو جعفر وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم ، وقيل : التقدير ومما ينبغي ذكره إبراهيم ، وقيل : التقدير وممن أنجينا إبراهيم ، وعلى الأول المعول لدلالة ما قبل وما بعد عليه ، ويتعلق بذلك المحذوف (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (وَاتَّقُوهُ) أن تشركوا به سبحانه شيئا (ذلِكُمْ) أي ما ذكر من العبادة والتقوى (خَيْرٌ لَكُمْ) من كل شيء فيه خيرية أو مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم ، ويجوز كون خير صفة لا اسم تفضيل (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر ، أو إن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق ، أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله سبحانه ؛ أو تعملونها وتنحتونها للإفك والكذب ، واللام لام العاقبة وإلا فهم لم يعملوها لأجل الكذب ، وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم. وقال بعض الأفاضل : الأظهر كون إفكا مفعولا به والمراد به نفس الأوثان وجعلها كذبا مبالغة ، أو الإفك بمعنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه ، وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعا. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تخلّقون» بفتح التاء والخاء واللام مشددة ، قال ابن مجاهد : ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق بمعنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة. وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل بمعنى فعل ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أيضا «تخلقون» من خلق بالتشديد للتكثير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء ، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان «أفكا» بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقا أفكا أي ذا أفك (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) بيان لشرية ما يعبدونه من حيث إنه لا يكاد يجديهم نفعا ، و (رِزْقاً) يحتمل أن يكون مصدرا مفعولا به ليملكون ، والمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، وأن يكون بمعنى المرزوق أي لا يستطيعون ، إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولا مطلقا ليملكون من معناه ولمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقا وهو كما ترى ونكر. وقال بعض الأجلة : للتحقير والتقليل مبالغة في النفي ، وخص الرزق لمكانته من الخلق (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق. قال الطيبي : هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الأول فيها ، وجوز أن تكون عين الأول بناء

٣٤٩

على أن كلا منهما مستغرق (وَاعْبُدُوهُ) عزوجل وحده (وَاشْكُرُوا لَهُ) على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بشكره تعالى للعتيد ومستجلبين به للمزيد ، فالجملتان ناظرتان لما قبلهما ، وجوز أن يكونا ناظرتين لقوله تعالى : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كأنه قيل : استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فإنه إليه ترجعون ، وجوز بعض المحققين أن تكون هذه الجملة تذييلا لجملة ما سبق مما حكي عن إبراهيم عليه‌السلام أو لأوله ، والمعنى إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه ترجعون بالموت ثم بالبعث فافعلوا ما أمرتكم به وما بينهما اعتراض لتقرير الشرية كما سمعت. وقرئ «ترجعون» بفتح التاء من رجع رجوعا (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) عطف على مقدر تقديره فإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وإن تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهذا تعليل للجواب في الحقيقة ، والأصل فلا تضرونني بتكذيبكم فإنه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث وإدريس ونوح وهود وصالح عليهم‌السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا.

وهذه الآية أعني (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) إلخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه‌السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى : (ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) [الأعراف : ٨٢ ، النمل : ٥٦ ، العنكبوت : ٢٤ ، ٢٩] وجوز أن يكون ذلك اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلي بنحو ما ابتلي به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، قالوا : وفي (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) اعتراضية ، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم على معنى وقل لقريش (إِنْ تُكَذِّبُوا) إلخ.

وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى : (إِنْ تُكَذِّبُوا) إلخ من كلام إبراهيم عليه‌السلام ، وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله ، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها ، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه «ألم تروا» بتاء الخطاب ، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول ؛ ومن لم يجعل ذلك كلاما مستأنفا مسوقا من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال : إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم : «ألم تروا».

ووجه ذلك بأنه جعل ضمير (أَوَلَمْ يَرَوْا) على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى : (أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) فيجعل في قراءة الخطاب له أيضا ليتحد معنى القراءتين ، وحينئذ يحتاج لتقدير القول ليحكي خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه.

وقيل : إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا) إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا ، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل

٣٥٠

له العلم بكيفية الخلق ، والقول بأن الأول دليل أنفسي ، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه ا ه فتدبر ، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين.

وقرأ الزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه كيف يبدأ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره الهمداني ، وقوله تعالى : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) عطف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) لا على يبدئ لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل.

وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب ، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء (إِنَّ ذلِكَ) أي ما ذكر من الإعادة ، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عزوجل.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أمر لإبراهيم عليه‌السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين ، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه‌السلام ، ومن جعل قوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) إلى قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ذلك لقريش.

وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه‌السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له ، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته ، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عزوجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير ، والسير كما قال الراغب : المضي في الأرض ، وعليه يكون في الآية تجريد ، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم ، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم‌السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة ، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب ، والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الأرض وسيحوا فيها (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) الله تعالى (الْخَلْقَ) أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى ، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها ، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال. ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني (يُبْدِئُ) دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة ، وأنت إذا لاحظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى إيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني ، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الافعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا : إنه مخل بالفصاحة لو لا وقوعه مع (يعيد) ، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق.

٣٥١

وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناء على المعنى الثاني في الآية. وقال بعضهم في تغاير الدليلين : إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي وقرأ الزهري «كيف بدأ الخلق» بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ثم حذفها في الوصل. قال أبو حيان : وهو تخفيف غير قياسي كما قال : فارعي فزارة لا هناك المرتع ، وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق ، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شئون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل.

والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض ، والأدلة متعارضة ، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية ، وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي ، فإن قيل : فما تقولون أتعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا : كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى ، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء ، وقد يقال : إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر ، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره. نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية ، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وحينئذ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة ، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور ، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل ، والجملة معطوفة على جملة (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) داخلة معها في حيز القول ، ولا يضر تخالفهما خبرا وإنشاء فإنه جائز بعد القول وما له محل من الإعراب ، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الدليل لا في النتيجة ، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه ؛ وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «النشاءة» بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر ، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشئ بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشئ فينشئون النشأة الآخرة نحو (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عزوجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به ، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده ، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة ، ومنهم من يقول باستحالته عقلا فلا يصلح متعلقا للقدرة ، وهؤلاء هم

٣٥٢

القائلون باستحالة إعادة المعدوم ، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة ، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك ، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته وهم المقرون بها (وَإِلَيْهِ) سبحانه لا إلى غيره (تُقْلَبُونَ) أي تردون ، والجملة تقرير للإعادة وتوطئة لما بعد ، وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل ، وهو خلاف الظاهر ، وقال ابن زيد والفراء : إن (فِي السَّماءِ) صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر ؛ والتقدير ولا من في السماء بمعجز ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

على ما هو الظاهر فيه ، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت ، وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة إليه ، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة ، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال : التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم‌السلام فكيف تعجزون الله عزوجل ، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى.

وقيل ليس في الآية حذف أصلا ، والسماء هي المظلة إلا أن (أَنْتُمْ) خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي (وَلا نَصِيرٍ) يدفعه عنكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله ، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا ، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام (وَلِقائِهِ) الذي تنطق به تلك الآيات (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عزوجل (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد ، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا ؛ إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء ، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم ، وأن يكون الكلام على الاستعارة.

٣٥٣

شبهوا بالآيسين من الرحمة وهم الذين ماتوا على الكفر لأنه ما دامت الحياة لا يتحقق اليأس من الرحمة لرجاء الإيمان ، أو من قدر آيسا من الرحمة على الفرض دلالة على توغلهم في الكفر وعدم ارعوائهم وقرأ الذماري وأبو جعفر ، «ييسوا» بغير همز بل بياء بدل الهمزة (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في تكرير اسم الإشارة وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على فظاعة حالهم ما لا يخفى لكن قال الإمام : إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه عزوجل دون العذاب ليؤذن بأن رحمته جل وعلا سبقت غضبه سبحانه ، وأنت تعلم أن في الآية على هذا دلالة على سوء حالهم أيضا لإفادتها أنهم حرموا تلك الرحمة العظيمة بما ارتكبوه من العظائم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ).

وقرأ الحسن : وسالم الأفطس بالرفع على العكس ، وقد مر ما فيه في نظائره ، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له ، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل ، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه ، وأيا ما كان ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل ، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه‌السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق ، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه‌السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه‌السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم ، بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة ، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر ، وقد مر بيان كيفية إلقائه عليه‌السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها ، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة ، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرها وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنجائه عليه‌السلام منها (لَآياتٍ) بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها.

وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه‌السلام به ، ولو لا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالفحص عنها ، والتأمل فيها.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ

٣٥٤

الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤١)

(وَقالَ) إبراهيم عليه‌السلام مخاطبا لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار.

(إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم ، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج ، أو المعنى إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه ، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودّة له ، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج ، والمراد نفى أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر ، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمرا موهوما لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسببا حاملا لمن له أدنى عقل.

وقال بعضهم : يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناسا مخصوصين ، والقائلون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أناسا غيرهم ، وقيل : إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة ، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصوروا أحجارا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا

٣٥٥

فجيلا حتى عبدت ، فالآية إشارة إلى ذلك ، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثانا إلخ ، ومثله في القرآن الكريم كثير ، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف تقديره آلهة.

وقال مكي : يجوز أن يكون اتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) [الأعراف : ١٥٢] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا ، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة ، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب ، وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة ، أو بجعلها نفس المودة مبالغة ، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما ، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تفيد تخفيفا في اللفظ ، كذا قيل : وهو كما ترى.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر «مودة» بالنصب والتنوين بينكم بالنصب ، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و «بينكم» منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس «مودة بينكم» برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالإضافة ، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة ؛ والجملة صفة أوثانا ، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية ، أي إن اتخاذكم ، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول ، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم ، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها.

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبي بكر «مودة» بالرفع والتنوين «بينكم» بالنصب ، ووجه كل معلوم مما مر. وروي عن عاصم «مودة» بالرفع من غير تنوين و «بينكم» بفتح النون ، جعله مبنيا لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه ، ولذا سقط التنوين منها. وفي قوله تعالى : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء. الأول : أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية ، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر. الثاني : أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا ، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره ، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف. الثالث : أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم. الرابع : أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالإضافة. وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان. الخامس : أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها ، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا. السادس : أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا ، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما. السابع : أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال ، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك. وقال مكي : لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة. وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا» بزيادة «إنما» بعد أوثانا ورفع «مودة» بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره ، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يتبدل الحال حيث (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ) وهم العبدة (بِبَعْضٍ)

٣٥٦

وهم الأوثان (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر ، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء ، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير ، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان.

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا.

(وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها ، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع ، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي صدقه عليه‌السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل ، فإنه عليه‌السلام كان متنزها عن الكفر ، وما قيل : إنه آمن له عليه‌السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية ، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه‌السلام ، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد ، ولوط على ما في جامع الأصول ابن أخيه هاران بن تارح ، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية (وَقالَ) إبراهيم عليه‌السلام : كما ذهب إليه قتادة والنخعي ؛ وقيل : الضمير للوط عليه‌السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا كان منه عليه‌السلام؟ فقيل : قال (إِنِّي مُهاجِرٌ) أي من قومي (إِلى رَبِّي) أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها ، وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي ، وقيل : المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي (إِنَّهُ) عزوجل (هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.

روي أنه عليه‌السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطا وسارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين ، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما‌السلام ، وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في الله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر ، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره ، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه‌السلام ، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل وقيل لأنه لا يناسب ذكره هاهنا لأنه ابتلي بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس ، وقال الزمخشري : إنه عليه‌السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره ، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به ، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على ما عمل لنا (فِي الدُّنْيا) قال مجاهد : بإنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة ، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه.

وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته ، وقال السدي : إن ذلك إراءته عليه‌السلام مكانه من الجنة ، وقال بعضهم : هو التوفيق لعمل الآخرة ، وقيل : هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر ، وقال الماوردي : هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره ، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال ، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا ، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه‌السلام بعد الهجرة من الأجر ، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

٣٥٧

أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص ، بأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه : وجمعنا له مع ما ذكر خير الدارين (وَلُوطاً) عطف على إبراهيم أو على نوحا والكلام في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) كالذي في القصة السابقة.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الجمهور «أإنّكم» على الاستفهام الإنكاري: (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لكمال قبحها ، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة ، وجوز أبو حيان كون الجملة حالا من ضمير تأتون ، كأنه قيل : إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي تنكحونهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ، وقيل : تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال ، وقيل : تقطعونه بقبح الأحدوثة (وَتَأْتُونَ) أي تفعلون (فِي نادِيكُمُ) أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة ، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فإذا ناموا عنه لم يطلق عليه ناد (الْمُنْكَرَ) أخرج أحمد والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم ، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها ، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي وبالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه‌السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه‌السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها ، وأما إبراهيم وشعيب عليهما‌السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عزوجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره ، وهذا ظاهر في أنه عليه‌السلام كان أوعدهم بالعذاب ، وقيل : أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري ، وقيل : أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه‌السلام ، وما في سورة الأعراف المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢] الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك ، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود. وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر ، وذلك أن (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات و (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) ونحوه من باب التعذيب والانتقام ، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي ، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر ، وقيل

٣٥٨

في دفع المنافاة بين الحصرين : إن ما هنا جواب قومه عليه‌السلام له إذ نصحهم ، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره ، وقيل : إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم والآخر صدر عن غيرهم ، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه عليه‌السلام في متابعته فتأمل.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أي بإنزال العذاب الموعود (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية ، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي البشارة بالولد والنافلة (قالُوا) أي لإبراهيم عليه‌السلام في تضاعيف الكلام (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل ، ولذا خصت بالذكر ، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل إبراهيم عليه‌السلام وإضافة (مُهْلِكُوا) إلى (أَهْلِ) لفظية لأن المعنى على الاستقبال ، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي ، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه : (إِنَّ أَهْلَها) دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي.

وقال بعض المدققين : إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم ، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليه‌السلام ، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليه‌السلام كما هو ظاهر قوله تعالى : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) وقيل : يجوز أن يكون عليه‌السلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه ، وقيل : أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون ، وكأن في قوله : (إِنَّ فِيها) دون إن منهم إشارة إلى ذلك ، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) اعتراض على الرسل عليهم‌السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم ، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها ، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم ، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى : (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تسليم لقوله عليه‌السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض ، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة ، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة ، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه‌السلام داخلا في الأهل ، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) وفهم إبراهيم عليه‌السلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه.

ولعله عليه‌السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال : (إِنَّ فِيها لُوطاً) على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦] وجل قصده ان لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] وأكدوا الوعد بالتنجية إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه‌السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في

٣٥٩

حقه ، وتحمل التنجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فإنها بهذا المعنى الفرد الأكمل ، ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين ، ثانيهما ما روي عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل ، فكلام الله تعالى ذو وجوه ، وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليه‌السلام المؤمنين ، وجملة (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع إليه (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) المذكورون بعد مفارقتهم إبراهيم عليه‌السلام (لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء ، وقد جاءوا إليهعليه‌السلام بصور حسنة إنسانية.

وقيل : ضمير (بِهِمْ) للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم ، وكذا ضمير (بِهِمْ) الآتي وليس بشيء ، و (أَنْ) مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل : لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم : ضاقت يده ، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه ، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.

(وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) عطف على سيء ، وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) [هود : ٨١] وقالوا إلخ ، وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه‌السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠] والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر ، وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك ، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر ، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به.

وقال الطبرسي : المعنى لا تخف علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ) إنها (كانَتْ) في علم الله تعالى (مِنَ الْغابِرِينَ) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «لننجينه» و «منجوك» بالتخفيف من الإنجاء ، ووافقهم ابن كثير في الثاني.

وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد ، وفرقه بتخفيفها ، وأيا ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالإضافة ولذا حذفت النون عند سيبويه و «أهلك» منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك ، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الكاف في محل النصب وأهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للإضافة ، وقال بعض الأجلة : لا مانع من أن يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها

بالاعتبارين ، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «سيء» بإشمام السين الضم ، وقرأ عيسى وطلحة «سوء» بضمها وهي لغة بني هذيل وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله :

حوكت على نولين إذ تحاك

تختبط الشوك ولا تشاك

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) استئناف مسوق لبيان ما أشير إليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم ، والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرأ ابن عامر «منزّلون» بالتشديد. وابن محيصن «رجزا» بضم الراء (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم المعهود المستمر ،

٣٦٠