روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وقرأ الأعمش «فبرزت» بالفاء ، وقرأ مالك بن دينار «وبرزت» بالفتح والتخفيف «والجحيم» بالرفع على الفاعلية (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) في الدنيا (تَعْبُدُونَ) تستمرون على عبادته (مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفع ذلك عن أنفسهم ، وهذا سؤال تقريع لا يتوقع له جواب ولذلك قيل : (فَكُبْكِبُوا فِيها) أي ألقوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها فالكبكبة تكرير الكب وهو مما ضوعف فيه الفاء كما قال الزجاج وجمهور البصريين ، وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني فأصل كبكب عندهم كبب فأبدل من الباء الثانية كاف وضمير الجمع لما يعبدون من دون الله وهم الأصنام وأكد بالضمير المنفصل أعني (هُمْ) وكلا الضميرين للعقلاء واستعملا في الأصنام تهكما أو بناء على إعطائها الفهم والنطق أي كبكب فيها الأصنام (وَالْغاوُونَ) الذين عدوها.

والتعبير عنهم بهذا العنوان دون العابدون للتسجيل عليهم بوصف الغواية ، وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالها فينقطع رجاؤهم قبل دخول الجحيم.

وعن السدي أن ضمير (كبكبوا) ومؤكده لمشركي العرب والغاوون سائر المشركين وقيل : الضمير للمشركين مطلقا ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون ، وقيل : الضمير لمشركي الإنس مطلقا و (الْغاوُونَ) الشياطين والكل كما ترى ويبعد الأخير. قوله تعالى : (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) فإن الظاهر أن المراد منه الشياطين وإنه عطف على ما قبله والعطف يقتضي المغايرة بالذات في الأغلب ولا حاجة إلى تخريجه على الأقل وجعله من باب :

إلى الملك الندب وابن الهمام

وقيل : المراد بجنود إبليس متبعوه من عصاة الثقلين ، واختار بعض الأجلة الأول وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه‌السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الأصنام ، ولا يخفى أن للتعميم وجها أيضا من حيث إنّ فيه مزيد تهويل لذلك اليوم ، وقوله تعالى : (أَجْمَعُونَ) تأكيد للضمير وما عطف عليه.

وقوله سبحانه : (قالُوا) إلخ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون إليها قيل : فما وقع؟ فقيل : قالوا أي العبدة الغاوون (وَهُمْ) أي الغاوون (فِيها يَخْتَصِمُونَ) أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين ، والجملة في موضع الحال ، والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها الله تعالى أهلا للخطاب (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنْ) مخففة من المثقلة واسمها على ما قيل ضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية كما ذهب إليه البصريون أي إنه أي الشأن كنا في ضلال مبين ، وذهب الكوفيون إلى أن أن نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال واضح لا خفاء فيه ، ووصفهم له بالوضوح للمبالغة في إظهار ندمهم وتحسرهم وبيان خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبئ عنه تصديرهم قسمهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب على ما قيل.

وقوله سبحانه : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف لكونهم في ضلال مبين ، وقيل : لمحذوف دل عليه الكلام أي ضللنا ، وقيل : للضلال المذكور وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث إن المصدر الموصوف لا يعمل بعد

١٠١

الوصف ، ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفا ، وقيل : ظرف لمبين ، وجوز أن تكون (إِذْ) تعليلية كما قيل به في قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩] وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أو لأنا سويناكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الظاهر بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين ليكون ذلك من الاختصام معهم وإن لم يورد على وجه الخطاب كما أن ما تقدم من الاختصام مع الأصنام ، وكون المراد بهم ذلك مروي عن مقاتل ، وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم ، والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم ، وفي قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧]. وعن السدي هم الأولون الذين اقتدوا بهم ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وعن ابن جريج أنهم إبليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل والمعاصي ، والقصر قيل بالنسبة إلى الأصنام ، ولعلهم أرادوا بنفي الإضلال عنها إهانتها بأنها لا قدرة لها ؛ وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين ، ولعل الأولى كونه قصرا حقيقيا بادعاء أنهم الأوحديون في سببية الإضلال حتى إن سببية غيرهم له كلا سببية ، وهذا واضح في الشياطين لأن إضلال غيرهم من الكبراء ونحوهم بواسطة إضلالهم لأنهم الذين يزينون الباطل المتبوع والتابع ، ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك إذا أريد بالمجرمين غيرهم ، ثم إن المشركين لا يزالون في حيرة يوم القيامة لا يدرون بم يتشبثون فلا يضر إسنادهم الإضلال تارة إلى شيء وأخرى إلى غيره على أن الإسناد إلى كل باعتبار هذا.

وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض ، والخطاب في (نُسَوِّيكُمْ) للأصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلا له بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر ، وفيه مبالغة في التحسر والندامة ، والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر : أنت مبدأ ضلالي ولو لا أنت لكنت مؤمنا اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه ، وجوز أيضا أن يكون من الأصنام ينطقهم الله تعالى فيخاصمون العبدة فضمير (هُمْ) عائد عليهم ، والمعنى قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه : إن كنا إلخ والحال إن الأصنام يخاصمونهم قائلين : نحن جمادات متبرءون عن جميع المعاصي وأنتم اتخذتمونا آلهة فألقيتمونا في هذه الورطة. وهذا كله على تقدير كون جملة (قالُوا) مستأنفة كما هو الظاهر ، وجوز أن يكون (جُنُودُ إِبْلِيسَ) مبتدأ وجملة (قالُوا) إلخ خبره وضمير (قالُوا) وكذا ما بعده عائد عليه.

وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لا يتسنى على تقدير أن يراد بجنود إبليس الشياطين لما أن المقول المذكور لا يصح أن يكون منهم وإذا أريد بهم متبعوه من عصاة الثقلين عبادة الأصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة فإسناده إلى الجميع خلاف الظاهر ؛ ويبعد كل البعد بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة ، نعم لو أريد بجنود إبليس على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر إليه الغاوون بعينهم وتكون الإضافة للعهد ، والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم بالعنوان السابق لتذليلهم لم يبعد جدا. ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين وفسر الجنود بالعصاة مطلقا. وجعل ضمير (قالُوا) للغاوون وضمير (هُمْ) و (يَخْتَصِمُونَ) للجنود أو للأصنام وفيه مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام ما لا يخفى على ذوي الأفهام.

١٠٢

وقوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) مرتب على ما اعترفوا به من عظم الجناية وظهور الضلالة. والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف حيث نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ونفوا ثانيا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم وأتى بالشافع في سياق النفي جمعا وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الإثبات من الجمع.

وقال في الكشاف : جمع الشافع لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلدة رحمة له وحسبة إن لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الأنوق ، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فإنه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع. وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجها آخر أيضا ، وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء ، وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفي به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل :

الناس ألف منهمو كواحد

وواحد كالألف إن أمر عنا

وقال بعض الكلمة : إن إيراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة ، وأما إيراد الصديق مفردا فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى ، وقال سعد أفندي : لا يبعد أن يكون جمع الأول وإفراد الثاني إشارة إلى أنه لا فرق بين الاستغراقين ، وفيه أن إيثار صيغة لإفادة مسألة عربية ليس من دأب القرآن المجد ، والذي أميل إليه أن الإفراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للأصنام والكبراء والملائكة والأنبياء عليهم‌السلام كما هو المتبادر إلى الفهم ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جريج أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض.

وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم (ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) فكأنهم قالوا : سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا ، وفي الكشاف فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فإنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى.

والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لا ينفع فيه أحد ولو أدنى نفع وهو وجه وجيه ، والوجه الأول لا يكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لا يجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين فما لنا من شافعين

١٠٣

يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاء الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال : المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة يجوزون بعض أصنافها كالشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لكن لا يخلو عن بعد والله تعالى أعلم ، و (لو) في قوله تعالى : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) مستعملة في التمني بدليل نصب قوله سبحانه : (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في جوابها وأصلها لو الامتناعية وحيث إن التمني يكون لما يمتنع أريد بها ذلك مجازا مرسلا أو استعارة تبعية ثم شاع حتى صارت كالحقيقة في ذلك ، وقيل : هي حقيقة فيما ذكر ؛ وقيل : أصلها المصدرية وليس بشيء.

والمعنى فليت لنا رجعة إلى الدنيا فإن نكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لا ينفع فيه أحد ، وجوز كون لو شرطية وجوابها محذوف والتقدير لفعلنا من الخيرات كيت وكيت أو لخلصنا من العذاب أو لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو ما أضلنا المجرمون ، والتقدير الأول أجزل ، ويقدر المحذوف بعد (فَنَكُونَ) إلخ لأن المصدر المتحصل منه معطوف على (كَرَّةً) أي فلو أن لنا كرة فنكونا من المؤمنين لفعلنا إلخ.

وتعقب شيخ الإسلام ذلك بأنه إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معا من غير دلالة على استلزام الكرة للإيمان أصلا مع أنه المقصود حتما ، وفي قوله : من غير دلالة إلخ بحث على ما قيل حيث يمكن أن يقال : حاصل الآية إن تيسر لنا الرجعة والإيمان المتعقب إياها لفعلنا من عبادات أهل الإيمان ما يقصر عنه العبارة ، والتزام ثمرات الإيمان التزام للإيمان أولا ، ومقصودهم بيان استلزام الرجعة لفعل الخيرات كلها ، وأما نفس الإيمان بعد هذه المشاهدة فلا يحتاج إلى البيان.

وقال بعض الناس : إن قولهم (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بمعنى فنكون من المقبول إيمانهم وقبول الله تعالى إيمانهم لا يترتب على رجعتهم البتة بل يجوز أن يتخلف فلا بد أن يكون مرادهم إن تيسر لنا الرجعة وإن قبل إيماننا لفعلنا إلخ فليس المقصود الدلالة على استلزام الكرة للإيمان كما زعم شيخ الإسلام ، ونوقش فيه بأن تيسر الرجعة إنما يكون لرحمة الله تعالى وعفوه وهي تستلزم قبول إيمانهم ، والحق أنه لا ينبغي الالتفات إلى احتمال شرطية لو والتكلف له مع جزالة المعنى الظاهر المتبادر ، والكلام في قوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) قد تقدم آنفا فلا حاجة إلى إعادته وقد علمت مختارنا في ذلك فتذكر فما في العهد من قدم ، ولشيخ الإسلام كلام في هذه الآية لا يخفى ما فيه على المتأمل فتأمل (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) القوم كما في المصباح يذكر ويؤنث وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ولذا يصغر على قويمة ، وقيل : هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه وتكذيبهم المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والإعصار ، وجوز أن يراد بالمرسلين نوح عليه‌السلام بجعل اللام للجنس فهو نظير قولك : فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة واحدة وبرد واحد ، و (إِذْ) في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُمْ) ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما صدر منهم من حين ابتداء دعوته عليه‌السلام إلى انتهائها ، وزعم بعضهم أن (إِذْ) للتعليل أي كذبت لأجل أن قال لهم : (أَخُوهُمْ نُوحٌ) أي نسيبهم كما يقال : يا أخا العرب ويا أخا تميم ، وعلى ذلك قوله :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

١٠٤

والضمير لقوم نوح ، وقيل : هو للمرسلين والأخوة المجانسة وهو خلاف الظاهر (أَلا تَتَّقُونَ) اللهعزوجل حيث تعبدون غيره (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله تعالى أرسلني لمصلحتكم (أَمِينٌ) مشهور بالأمانة فيما بينكم ، وقيل : أمين على أداء رسالته جل شأنه (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى ، وقدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بالطاعة لأن تقوى الله تعالى سبب لطاعته عليه‌السلام (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على ما أنا متصد له من الدعاء والنصح (مِنْ أَجْرٍ) أي ما أطلب منكم على ذلك أجرا أصلا لا مالا ولا غيره (إِنْ أَجْرِيَ) فيما أتولاه (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو سبحانه الذي يؤجرني في ذلك تفضلا منه لا غيره ، والفاء في قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه‌السلام من الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على كونه رسولا من الله تعالى بما فيه نفع الدارين مع أمانته ، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا ، وقرئ «إن أجري» بسكون الياء وهو والفتح لغتان مشهورتان في مثل ذلك اختلف النحاة في أيتهما الأصل.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) أي وقد اتبعك على أن الجملة في موضع الحال وقد لازمة فيها إذا كان فعلها ماضيا وكثير من الأجلة لا يوجب ذلك ، وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوب «وأتباعك» جمع تابع كصاحب وأصحاب ، وقيل : جمع تبيع كشريف وأشراف ، وقيل : جمع تبع كبطل وأبطال ، وهو مرفوع على الابتداء و (الْأَرْذَلُونَ) خبره ، والجملة في موضع الحال أيضا ، وقيل : معطوف على الضمير المستتر في (نُؤْمِنُ) وحسن ذلك للفصل بلك و (الْأَرْذَلُونَ) صفته ، ولا يخفى أنه ركيك معنى ، وعن اليماني «وأتباعك» بالجر عطفا على الضمير في (لَكَ) وهو قليل وقاسه الكوفيون و (الْأَرْذَلُونَ) رفع بإضمارهم ، وهو جمع الأرذل على الصحة والرذالة الخسة والدناءة ، والظاهر أنهم إنما استرذلوا المؤمنين به عليه‌السلام لسوء أعمالهم يدل عليه قوله في الجواب (١) :

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التجسس والتفتيش عن البواطن ، وما استفهامية ، وقال الحوفي والطبرسي : نافية ، وعليه يكون في الكلام حذف أي وما علمي بما كانوا يعملون ثابت (إِنْ حِسابُهُمْ) أي ما محاسبتهم على ما يعملون (إِلَّا عَلى رَبِّي) فاعتبار البواطن من شئونه عزوجل وهو المطلع عليها (لَوْ تَشْعُرُونَ) أي بشيء من الأشياء أو لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك لكنكم لستم كذلك فلذا قلتم ما قلتم ، وأل على هذا الوجه للجنس ، وقال جمع : إن استرذالهم إياهم لقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : لكونهم من أهل الصناعات الدنيئة ، وقد كانوا كما روي عن عكرمة حاكة وأساكفة ، وقيل : لاتضاع نسبهم ، ومنشأ ذلك على الجميع سخافة عقولهم وقصور أنظارهم لأن الفقر ليس من الرذالة في شيء :

قد يدرك المجد الفتى ورداؤه

خلق وجيب قميصه مرقوع

وكذا خسة الصناعة لا تزري بالشرف الأخروي ولا تلحق التقي نقيصة عند الله عزوجل ، وقد أنشد أبو العتاهية :

وليس على عبد تقي نقيصة

إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم

__________________

(١) في الأصل قوله في الجواب «وما علمي» والتلاوة قال وما علمي فصححناه.

١٠٥

ومثلها صفة النسب فقد قيل :

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

وما ذكره الفقهاء في باب الكفاءة مبني على عرف العامة لانتظام أمر المعاش ونحوه على أنه روي عن الإمام مالك عدم اعتبار شيء من ذلك أصلا وأن المسلمين كيفما كانوا أكفاء بعضهم لبعض ، وأل على هذه الأقوال للعهد.

والجواب بما ذكر عما أشاروا إليه بقولهم ذلك من أن إيمانهم لم يكن عن نظر وبصيرة وإنما كان لحظ نفساني كحصول شوكة بالاجتماع ينتظمون بها في سلك ذوي الشرف ويعدون بها في عدادهم ، وحاصله وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون الشق عن القلوب والتفتيش عما في السرائر فما يضرني عدم إخلاصهم في إيمانهم كما تزعمون ؛ وجوز أن يقال : إنهم لما قالوا : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وعنوا الذين لا نصيب لهم من الدنيا أو الذين اتضعت أنسابهم أو كانوا من أهل الصنائع الدنيئة تغابى عليه‌السلام عن مرادهم وخيل لهم أنهم عنوا بالأرذلين من لا إخلاص له في العمل ولم يؤمن عن نظر وبصيرة فأجابهم بما ذكر كأنه ما عرف من الأرذلين إلا ذلك ، ولو جعل هذا نوعا من الأسلوب الحكيم لم يبعد عندي ، وفيه من لطف الرد عليهم وتقبيح ما هم عليه ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أنهم عنوا بالأرذلين نساءه عليه‌السلام وبنيه وكناته وبني بنيه واسترذالهم لعضة النسب لا يتصور في جميعهم حقيقة كما لا يخفى فلا بد عليه من اعتبار التغليب ونحوه ، وقرأ الأعرج وأبو زرعة وعيسى بن عمر الهمداني «يشعرون» بياء الغيبة وقوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا أتباعهم مانعا عنه ، وقد نزلوا لذلك منزلة من يدعي أنه عليه‌السلام ممن يطرد المؤمنين وأنه ممن يشترك معه فيه فقدم المسند إليه وأولى حرف النفي لإفادة أن ذلك ليس شأنه بل شأن المخاطبين.

وجوز أن يكون التقديم للتقوى وهو أقل مئونة كما لا يخفى ، وقيل : إنهم طلبوا منه عليه‌السلام طردهم فأجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرد من آمن به من الضعفاء فنزلت (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الأنعام : ٥٢] الآية ، وقوله تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) كالعلة له أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عما لا يرضيه سبحانه وتعالى سواء كانوا من الأشرفين أو الأرذلين فكيف يتسنى لي طرد من زعمتم أنهم أرذلون.

وحاصله أنا مقصور على إنذار المكلفين لا أتعداه إلى طرد الأرذلين منهم أو ما عليّ إلا إنذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما عليّ استرضاء بعضكم بطرد الآخرين ، وحاصله أنا مقصور على إنذاركم لا أتعداه إلى استرضائكم.

وقيل : إن مجموع الجملتين جواب وإن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أنهم زعموا أنه عليه‌السلام موصوف بصفتين ، إحداهما اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين لأجل أن يؤمنوا ، وثانيتهما أنه نذير مبين فقصر الحكم على الثاني دون الأول ولا يخلو عن بحث (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عما أنت عليه (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي المرميين بالحجارة كما روي عن قتادة ، وهو توعد بالقتل كما روي عن الحسن ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن المعنى من المشتومين على أن الرجم مستعار للشتم كالطعن ، وفي إرشاد العقل السليم أنهم قاتلهم الله تعالى قالوا ذلك في أواخر الأمر ، ومعنى قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) استمروا على تكذيبي وأصروا عليه بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فرارا. وهذا ليس بإخبار بالاستمرار على التكذيب لعلمهعليه‌السلام أن

١٠٦

عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم به في قولهم : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) تلطفا في فتح باب الإجابة ، وقيل : لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة ، وقيل : إنه خبر لم يقصد منه الإعلام أصلا وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فلئن رميت يصيبني سهمي

ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) على ذلك أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة ، و (فَتْحاً) مصدر ، وجوز أن يكون مفعولا به على أنه بمعنى مفتوحا وهذه حكاية إجمالية لدعائه عليه‌السلام المفصل في سورة نوح (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم ، وفيه إشعار بحلول العذاب بهم (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) على حسب دعائه عليه‌السلام (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي المملوء بهم وبما يحتاجون إليه حالا كالطعام أو مالا كالحيوان.

والفلك يستعمل واحدا وجمعا ، وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا أو غير فاصلة استعمل جمعا كما في البحر (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بعد إنجائهم ، و (ثُمَ) للتفاوت الرتبي ، ولذا قال سبحانه بعد (الْباقِينَ) أي من قومه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم ، وكذا الكلام في قوله تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى ، وكثيرا ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافا إليه فيقال : بنو فلان أو آل فلان ، وكذا الكلام في قوله سبحانه :

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وحكاية الأمر بالتقوى والإطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم‌السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والإعصار وأنهم عليهم‌السلام منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية.

ولعله لم يسلك هذا المسلك في قصتي موسى وإبراهيم عليهما‌السلام تفننا مع ذكر ما يشعر بذلك ، وقيل : إن ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها الله تعالى مفاوز ورمالا ، ويشير إلى عمارتها قوله تعالى (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) أي طريق كما روي عن ابن عباس وقتادة.

وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان المرتفع عن الأرض وعن عطاء أنه عين الماء والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء.

وقرأ ابن أبي عبلة «ريع» بفتح الراء (آيَةً) أي علما كما روى عن الحبر رضي الله تعالى عنه ، وقيل : قصرا عاليا مشيدا كأنه علم وإليه ذهب النقاش وغيره واستظهره ابن المنير ؛ ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذ فقوله تعالى : (تَعْبَثُونَ) على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين إليها وإنما بنوها للفخر بها. والبعث ما لا فائدة فيه حقيقة أو حكما ، وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضا ، وقيل : إن عبثهم في ذلك من حيث إنهم

١٠٧

بنوها ليهتدوا بها في أسفارهم والنجوم تغني عنها. واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه. وأجيب بأن الغيم نادر لا سيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج إليها لم يحتج إلى أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثا.

وقال الفاضل اليمني : إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث ، وقيل : كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم : وروي ذلك عن الكلبي والضحاك ، وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به ، وقيل : بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم. وله نظير في بلادنا اليوم ، ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم.

والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال (وَتَتَّخِذُونَ) أي تعملون (مَصانِعَ) أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء. وعن مجاهد أنها القصور المشيدة ، وقيل : الحصون المحكمة. وأنشدوا قول لبيد :

وتبقى جبال بعدنا ومصانع

وليس بنص في المدعي (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء ، وقيل : هي للتعليل وفي قراءة عبد الله كي تخلدون.

وقال ابن زيد : هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون ، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : المعنى كأنكم خالدون وقرئ بذلك كما روي عن قتادة ، وفي حرف أبي «كأنكم تخلدون» وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه ، وحكي ذلك صريحا الواقدي عن البغوي.

وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة. ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه انتهى.

وقرأ قتادة «تخلدون» مبنيا للمفعول مخففا ويقال : خلد الشيء وأخلده غيره ، وقرأ أبي وعلقمة «تخلّدون» مبنيا للمفعول مشددا كما قال الشاعر :

وهل يعمن إلا سعيد مخلد

قليل هموم ما يبيت بأوجال

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) أي أردتم البطش بسوط أو سيف (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة. وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سببا للمقيد ، وقيل : لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة ، وقيل : الجزائية باعتبار الإعلام والأخبار وهو كما ترى. ونظير الآية قوله :

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

ودل توبيخه عليه‌السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية (فَاتَّقُوا اللهَ) واتركوا هذه الأفعال (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة ، وقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) منزل منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني ، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى ، وقوله سبحانه :

١٠٨

(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) إلخ أو في بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوزانه وزان ـ وجهه ـ في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن ما (تَعْلَمُونَ) يشمل الأنعام وما بعدها من المعطوفات ، ولا يخفى ما في التفصيل بعد الإجمال من المبالغة ، وفي البحر إن قوله تعالى : (بِأَنْعامٍ) على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه : (بِما تَعْلَمُونَ) وأعيد العامل كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) [يس : ٢٠ ، ٢١] والأكثرون لا يجعلون مثل هذا أبدالا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحدا ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك انتهى.

ونقل نحوه عن السفاقسي ، وقال أبو حيان : الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها ، وبدأ بذكر الأنعام لأنها تحصل بها الرئاسة والقوة على العدو والغنى الذي لا تكمل اللذة بالبنين وغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الأموال إلى العرب ثم بالبنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعلم وجه قرنهما ، ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ظاهر وكذا وجه قرنهما مع الأنعام ، وقوله سبحانه : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إلخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقوموا بشكر هذه النعم : (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع :

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فإنا لا نرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه‌السلام ، وعدلوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه‌السلام لما في كلامهم على ما في النظم الجليل من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم ، وقيل : في وجه المبالغة إفادة كان الاستمرار و (الْواعِظِينَ) الكمال واعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملا بحيث لا يرجى منك نقيضه ، وقال في البحر : إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : ١٩٣] وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لا يخفى. وروي عن أبي عمرو والكسائي إدغام الظاء في التاء في «وعظت» وبالإدغام قرأ ابن محيصن. والأعمش إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ «أوعظتنا» وينبغي أن يكون إخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والإدغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني.

وأما إدغام الأقوى في الأضعف فلا يحسن ، وإذا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس. وقوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) تعليل لما ادعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الإعادة الأولين يلفقون مثله ويدعون إليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من الآباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون ، وقرأ أبو قلابة والأصمعي عن نافع «خلق» بضم الخاء وسكون اللام ، والمعنى عليه كما تقدم.

وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي «خلق» بفتح الخاء وسكون اللام أي ما

١٠٩

هذا إلا اختلاق الأولين وكذبهم ، ويؤيد هذا المعنى ما روى علقمة عن عبد الله أنه قرأ «إلا اختلاق الأولين» ويكون هذا كقول سائر الكفرة (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥ وغيرها] أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيي كما حيوا ونموت كما ماتوا ، ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب ، ولعل قولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك (فَكَذَّبُوهُ) أي أصروا على تكذيبه عليه‌السلام (فَأَهْلَكْناهُمْ) بسببه بريح صرصر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) هو اسم عجمي عند بعض والأكثرون على أنه عربي وترك صرفه لأنه اسم قبيلة ، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائة لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفد مادة ماله أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف. وفي القاموس ثمود قبيلة ويصرف وتضم الثاء وقرئ به أيضا. وفي سبائك الذهب أنه في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم نقل وجعل اسما لها ، ووجه تأنيث الفعل هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى : «كذبت عاد» وكذا الكلام في قوله سبحانه :

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ(١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ

١١٠

لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)(٢١٢)

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) كالكلام فيما تقدم وقوله تعالى : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) إنكار لأن يتركوا فيما هم فيه من النعمة آمنين عن عذاب يوم عظيم فالاستفهام مثله في قوله تعالى السابق : (أَتَبْنُونَ) وقوله تعالى اللاحق : (أَتَأْتُونَ) وكأن القوم اعتقدوا ذلك فأنكره عليه‌السلام عليهم ، وجوز أن يكون الاستفهام للتقرير تذكيرا للنعمة في تخليته تعالى إياهم وأسباب نفعهم آمنين من العدو ونحوه واستدعاء لشكر ذلك بالإيمان.

وفي الكشف أن هذا أوفق في هذا المقام ، وما موصولة و (هاهُنا) إشارة إلى المكان الحاضر القريب أي أتتركون في الذي استقر في مكانكم هذا من النعمة ، وقوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) بدل من ـ ما هاهنا ـ بإعادة الجار كما قال أبو البقاء وغيره ، وفي الكلام إجمال وتفصيل نحو ما تقدم في قصة عاد.

١١١

وجوز أن يكون ظرفا لآمنين الواقع حالا وليس بذاك ، والهضيم الداخل بعضه في بعض كأنه هضم أي شدخ. وسأل عنه نافع بن الأزرق بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له : المنضم بعضه إلى بعض فقال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول امرئ القيس :

دار لبيضاء العوارض طفلة

مهضومة الكشحين ريا المعصم

وقال الزهري : هو اللطيف أول ما يخرج ، وقال الزجاج : هو الذي رطبه بغير نوى وروي عن الحسن. وقيل : هو المتدلي لكثرة ثمره ، وقيل : هو النضيج من الرطب وروي عن عكرمة ، وقيل : الرطب المذنب وروى عن يزيد بن أبي زياد ، فوصف الطلع بالهضيم إما حقيقة أو مجاز وهو حقيقة وصف لثمره ، وجعل بعضهم على بعض الأقوال الطلع مجازا عن الثمر لأوله إليه ، والنخل اسم جنس جمعي يذكر كما في قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ويؤنث كما هنا ، وليس ذلك لأن المراد به الإناث فإنه معلوم بقرينة المقام ولو ذكر الضمير.

وإفراده بالذكر مع دخوله في الجنات لفضله على سائر أشجارها أو لأن المراد بها غيره من الأشجار.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) أي أشرين بطرين كما روي عن ابن عباس ومحمد بن العلاء ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيره بنشطين مهتمين ، وقال أبو صالح : أي حاذقين وبذلك فسره الراغب.

وقال ابن زيد : أي أقوياء ، وأنت تعلم أن هذه الجملة داخلة في حيز الاستفهام السابق والأوفق به على القول الأول وعلى القول الثاني كل من الأقوال الباقية وكلها سواء في ذلك إلا أنه يفهم من كلام بعضهم أن الفراهة حقيقة في النشاط مجاز في غيره وعليه يترجح تفسيره بنشطين إذا أريد التذكير.

وقرأ أبو حيوة وعيسى والحسن «تنحتون» بفتح الحاء. وقرئ «تنحاتون» بألف بعد الحاء إشباعا ، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه أنه قرأ «ينحتون» بالياء آخر الحروف وكسر الحاء ، وعن أبي حيوة والحسن أيضا أنهما قرءا بالياء التحتية وفتح الحاء وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر «فارهين» بألف بعد الفاء ، وقراءة الجمهور أبلغ لما ذكروا في حاذر وحذر وقرأ مجاهد «متفرهين» (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه بالمسرفين كبراءهم وأعلامهم في الكفر والإضلال وكانوا تسعة رهط ونسبة الإطاعة إلى الأمر مجاز وهي للآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى وكونه لا يناسب المقام فيه بحث. ويجوز أن تكون الإطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشبه في الإفضاء إلى فعل ما أمر به أو مجازا مرسلا عنه للزومه له. ويحتمل أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية ، وجوز عليه أن يكون الأمر واحد الأمور وفيه من البعد ما فيه والإسراف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، والمراد به هنا زيادة الفساد وقد أوضح ذلك على ما قيل بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ولعل المراد ذمهم بالضلال في أنفسهم بالكفر والمعاصي وإضلالهم غيرهم بالدعوة لذلك ، وللإيماء إلى عدم اختصاص شؤم فعلهم بهم حثا على امتثال النهي قيل (فِي الْأَرْضِ) والمراد بها أرض ثمود ، وقيل : الأرض كلها ولما كان (يُفْسِدُونَ) لا ينافي إصلاحهم أحيانا أردف بقوله تعالى : (وَلا يُصْلِحُونَ) لبيان كمال إفسادهم وأنه لم يخالطه إصلاح أصلا (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم ، وقيل : أي من ذوي السحر أي الرئة فهو كناية عن كونه من الأناسي فقوله تعالى : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) على هذا تأكيد له وعلى الأول هو مستأنف للتعليل أي أنت مسحور لأنك بشر مثلنا لا تميز لك علينا فدعواك إنما هي لخلل في عقلك (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي بعلامة على صحة دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيها (قالَ هذِهِ ناقَةٌ) أي بعد ما أخرجها الله تعالى بدعائه.

١١٢

روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من صخرة عينوها ثم تلد سقبا فقعد عليه‌السلام يتذكر فقال له : جبريل عليه‌السلام صل ركعتين وسل ربك ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم فعند ذلك قال لهم : هذه ناقة (لَها شِرْبٌ) أي نصيب مشروب من الماء كالسقي وألقيت للنصيب من السقي والقوت وكان هذا الشرب من عين عندهم.

وفي مجمع البيان عن علي كرّم الله تعالى وجهه أن تلك العين أول عين نبعت في الأرض وقد فجرها الله عزوجل لصالح عليه‌السلام (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها.

وقرأ ابن أبي عبلة «شرب» بضم الشين فيهما ، واستدل بالآية على جواز قسمة ماء نحو الآبار على هذا الوجه (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من عظم العذاب وهذا من المجاز في النسبة ، وجعل (عَظِيمٍ) صفة (عَذابُ) والجر للمجاورة نحو هذا جحر ضب خرب ليس بشيء (فَعَقَرُوها) نسب العقر إليهم كلهم مع أن عاقرها واحد منهم وهو قدار بن سالف وكان نساجا على ما ذكره غير واحد ، وجاء في رواية أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار لما روي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقول : أترضين؟ فتقول : نعم وكذلك الصبيان فرضوا جميعا ، وقيل: لأن العقر كان بأمرهم ومعاونتهم جميعا كما يفصح عنه قوله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] وفيه بحث (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) خوفا من حلول العذاب كما قال جمع ، وتعقب بأنه مردود بقوله تعالى : (وَقالُوا) أي بعد ما عقروها : (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، وأجيب بأن قوله بعد ما عقروها في حيز المنع إذ الواو لا تدل على الترتيب فيجوز أن يريدوا بما تعدنا من المعجزة أو الواو حالية أي والحال أنهم طلبوها من صالح ووعدوه الإيمان بها عند ظهورها مع أنه يجوز ندم بعض وقول بعض آخر ذلك بإسناد ما صدر من البعض إلى الكل لعدم نهيهم عنه أو نحو ذلك أو ندموا كلهم أولا خوفا ثم قست قلوبهم وزال خوفهم أو على العكس ، وجوز أن يقال : إنهم ندموا على عقرها ندم توبة لكنه كان عند معاينة العذاب وعند ذلك لا ينفع الندم ، وقيل : لم ينفعهم ذلك لأنهم لم يتلافوا ما فعلوا بالإيمان المطلوب منهم.

وقيل : ندموا على ترك سقبها ولا يخفى بعده ، ومثله ما قيل : إنهم ندموا على عقرها لما فاتهم به من لبنها ، فقد روي أنه إذا كان يوما أصدرتهم لبنا ما شاءوا (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) الموعود وكان صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ) وكانوا من أصهاره عليه‌السلام (أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) إنكار وتوبيخ والإتيان كناية عن الوطء. و (الذُّكْرانَ) جمع ذكر مقابل الأنثى ، والظاهر أن (مِنَ الْعالَمِينَ) متصل به أي أتأتون الذكران من أولاد بني آدم على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكرانهم كأن الإناث قد أعوزتكم فالمراد بالعالمين الناس لأن المأتي الذكور منهم خاصة والقرينة إيقاع الفعل والجمع بالواو والنون من غير نظر إلى تغليب. وأما خروج الملك والجن فمن الضرورة العقلية. ويجوز أن يكون متصلا بتأتون أي أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم فالمراد بالعالمين كل من يتأتى منه الإتيان. والعالم على هذا ما يعلم به الخالق سبحانه

١١٣

والجمع للتغليب وخروج غيره لما مر. ولا يضر كون الحمار والخنزير يأتيان الذكور في أمر الاختصاص للندرة أو لإسقاطهما عن حيز الاعتبار ، وجوز أن يراد بالعالمين على الوجه الثاني الناس أيضا ، وإذا قيل بشمولهم لمن تقدم من العالمين تفيد الآية أنهم أول من سن هذه السنة السيئة كما يفصح عنه قوله تعالى : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٨٠ ، العنكبوت : ٢٨].

(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ) لأجل استمتاعكم ، وكلمة (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ أَزْواجِكُمْ) للبيان إن أريد بما جنس الإناث ، ولعل في الكلام حينئذ مضافين محذوفين أي وتذرون إتيان فروج ما خلق لكم أو للتبعيض إن أريد بما العضو المباح من الأزواج. ويؤيده قراءة ابن مسعود «ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم» وحينئذ يكتفي بتقدير مضاف واحد أي وتذرون إتيان ما خلق ويكون في الكلام على ما قيل تعريض بأنهم كانوا يأتون نساءهم أيضا في محاشهن ولم يصرح بإنكاره كما صرح بإنكار إتيان الذكران لأنه دونه في الإثم.

وهو على المشهور عند أهل السنة حرام بل كبيرة ، وقيل : هو مباح ، وقد تقدم الكلام (١) في ذلك مبسوطا عند الكلام في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣] وقيل : ليس في الكلام مضاف محذوف أصلا ، والمراد ذمهم بترك ما خلق لهم وعدم الالتفات إليه بوجه من الوجوه فضلا عن الإتيان ، وأنت تعلم أن المعنى ظاهر على التقدير ، وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) إضراب انتقالي والعادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد ومتعلقه مقدر وهو إما عام أو خاص أي بل أنتم قوم متعدون متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الناس بل أكثر الحيوانات.

وقيل : متجاوزون الحد في الظلم حيث ظلمتم بإتيان ما لم يخلق للإتيان وترك إتيان ما خلق له ، وفي البحر أن تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيما لفعلهم وتنبيها على أنهم مختصمون بذلك كأنه قيل : بل أنتم قوم عادون لا غيركم (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن توبيخنا وتقبيح أمرنا أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الإيمان وإنكار ما أنكرته من أمرنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي من المنفيين من قريتنا المعهودين ، وكأنهم كانوا يخرجون من غضبوا عليه بسبب من الأسباب ، وقيل : بسبب إنكار تلك الفاحشة من بينهم على عنف وسوء حال ، ولهذا هددوه عليه‌السلام بذلك ، وعدلوا عن لنخرجنك الأخصر إلى ما ذكر ؛ ولا يخفى ما في الكلام من التأكيد.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي من المبغضين غاية البغض ، قال الراغب : يقال قلاه ويقليه فمن جعله من الواو فهو من القلو أي الرمي من قولهم : قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة إذا رميتها فكأن المقلو بقذفه القلب من بغضه فلا يقبله. ومن جعله من الياء فهو من قليت السويق على المقلاة فكأن شدة البغض تقلي الفؤاد والكبد

__________________

(١) بيد أني وقفت عند كتابتي في هذا الموضع على كلام العز بن عبد السلام في أماليه في هذا المبحث حاصله أن حرمة إتيان الزوجة في المحل المكروه ليست إجماعية إلا أن معظم أهل الإسلام على تحريمه كما قال الطرسوسي والخلاف فيه يسير جدا كالذي لا عبرة به. ويذكر أن ابن عبد الحكم نقل حله عن الشافعي وأن الربيع قال : كذب والله ابن عبد الحكم. وقد نص الإمام على تحريمه في ست كتب ولم يحفظ عن مالك شيء في إباحته البتة ونقله من كتاب السر غير صحيح بل في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد الأندلسي النص على خلاف ذلك. ورواية الطحاوي عن أبي الفرج عن ابن القاسم حله لا يعول عليها ولا تصح. وأما إباحة زيد ابن أسلم ونافع لذلك فلا يؤخذ بها فنافع إمام في القراءات وليس معدودا في الفقهاء أهل الحل والعقد ، وأما زيد فصاحب تفسير لا يعتد لخلافه فليحفظ اه منه.

١١٤

وتشويهما ، فقول أبي حيان : إن قلى بمعنى أبغض يائي ، والذي بمعنى طبخ وشوى واوي ناش من قلة الاطلاع ، والعدول عن قالي إلى ما في النظم الجليل لأنه أبلغ فإنه إذا قيل : قالي لم يفد أكثر من تلبسه بالفعل بخلاف قوله : (مِنَ الْقالِينَ) إذ يفيد أنه مع تلبسه من قوم عرفوا واشتهروا به فيكون راسخ القدم عريق العرف فيه ، وقد صرح بذلك ابن جني وغيره ، واللام في «لعملكم» قيل للتبيين كما في سقيا لك فهو متعلق بمحذوف أعني ـ أعني. ، وقيل : هي للتقوية ومتعلقها عند من يرى تعلق حرف التقوية محذوف أي إني من القالين لعملكم من القالين. وقيل : هي متعلقة بالقالين المذكور ويتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها فتقدم حيث لا يقدم غيرها ، والمراد بعملهم إما ما أنكره عليه‌السلام عليهم من إتيان الذكران وترك ما خلق ربهم سبحانه لهم وإما ما يشمل ذلك وسائر ما نهاهم عنه وأمرهم بضده من الأعمال القلبية والقالبية ، وقابل عليه‌السلام تهديدهم ذلك بما ذكر تنبيها على عدم الاكتراث به وأنه راغب في الخلاص من سوء جوارهم لشدة بغضه لعملهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله تعالى قائلا : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي من شؤم عملهم أو الذي يعملونه وعذابه الدنيوي. وقيل : يحتمل أن يكون دعاء بالنجاة من التلبس بمثل عملهم وهو بالنسبة إلى الأهل دونه عليه‌السلام إذ لا يخشى تلبسه بذلك لمكان العصمة. واعترض بأن العذاب كذلك إذ لا يعذب من لم يجن وفيه منع ظاهر. كيف وقد قال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥]. وقيل : قد يدعو المعصوم بالحفظ عن الوقوع فيما عصم عنه كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وهو مسلم إلا أن الظاهر أن المراد النجاة مما ينالهم بسبب عملهم من العذاب الدنيوي. ويؤيده ظاهر قوله تعالى : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ).

والظاهر أن المراد بأهله أهل بيته. وجوز أن يكون المراد بهم من تبع دينه مجازا فيشمل أهل بيته المؤمنين وسائر من آمن به. وقيل : لا حاجة إلى هذا التعميم إذ لم يؤمن به عليه‌السلام إلا أهل بيته. والمراد بهذه العجوز امرأته عليه‌السلام وكانت كافرة مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. والتعبير عنها بالعجوز للإيماء إلى أنه مما لا يشق أمر هلاكها على لوط عليه‌السلام وسائر أهله بمقتضى الطبيعة البشرية. وقيل : للإيماء إلى أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزا ، والغابر الباقي بعد مضي من معه. وأنشد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك قول عبيد بن الأبرص :

ذهبوا وخلفني المخلف فيهم

فكأنني في الغابرين غريب

والمراد فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند مشارفة حلوله بهم إلا عجوزا مقدرة في الباقين في العذاب بعد سلامة من خرج. وإنما اعتبر البقاء في العذاب دون البقاء في الدار لما روي أنها خرجت مع لوط عليه‌السلام فأصابها حجر في الطريق فهلكت ، وقيل : المراد من الباقين في الدار بناء على أنها لهلاكها كأنها ممن بقي فيها أو أنها خرجت ثم رجعت فهلكت كما في بعض الروايات أو أنها لم تخرج مع لوط عليه‌السلام أصلا كما في البعض الآخر منها. وقيل : الغابر طويل العمر وكأنه إنما أطلق عليه ذلك لبقائه مع مضي من كان معه. والمراد وصف العجوز بأنها طاعنة في السن وقرأ عبد الله كما روى عنه مجاهد «وواعدنا أن نؤتيه أهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين» (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه وكان ذلك الائتفاك. والظاهر العطف على (نجينا) والتدمير متراخ عن التنجية من مطلق العذاب فلا حاجة إلى القول بأن المراد أردنا تنجيته أو حكمنا بها أو معنى (فَنَجَّيْناهُ) فاستجبنا دعاءه في تنجيته وكل ذلك خلاف الظاهر.

١١٥

وجوز الطيبي كون (ثُمَ) للتراخي في الرتبة (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي نوعا من المطر غير معهود فقد كان حجارة من سجيل كما صرح به في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢].

وجمع الأمران لهم زيادة في إهانتهم. وقيل : كان الائتفاك لطائفة والأمطار لأخرى منهم. وكانت هذه على ما روى عن مقاتل للذين كانوا خارجين من القرية لبعض حوائجهم ولعله مراد قتادة بالشذاذ فيما روي عنه (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) اللام فيه للجنس وبه يتسنى وقوع المضاف إليه فاعل ساء بناء على أنها بمعنى بئس. والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم وإذا لم تكن ساء كذلك جاز كونها للعهد.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر وهي غيضة من ساحل البحر إلى مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه‌السلام وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل. (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) ولم يقل أخوهم ، وقيل : (الْأَيْكَةِ) الشجر الملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل ، وعلى القولين (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) غير أهل مدين ، ومن غريب النقل عن ابن عباس أنهم هم أصحاب مدين.

وقرأ الحرميان وابن عامر «ليكة» بلام مفتوحة بعدها ياء بغير ألف ممنوع الصرف هنا ، وفي ص ؛ قال أبو عبيدة : وجدنا في بعض كتب التفسير أن «ليكة» اسم للقرية و (الْأَيْكَةِ) البلاد كلها كمكة وبكة ، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه في [الحجر : ٧٨] و [ق : ١٤] (الْأَيْكَةِ) وفي [الشعراء : ١٧٦ ، وص : ١٣] ليكة واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف ، وفي الكشاف من قرأ بالنصب ، وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة هنا وفي «ص» بغير ألف ، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو الآن لأن والأولى لولى لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن «ليكة» اسم لا يعرف انتهى ، وتعقب بأنه دعوى من غير ثبت وكفى ثبتا للمخالف ثبوت القراءة في السبعة وهي متواترة كيف وقد انضم إليه ما سمعت عن بعض كتب التفسير. وإن لم تعول عليه فما روى البخاري في صحيحه (الْأَيْكَةِ) وليكة الغيضة ، هذا وإن الأسماء المرتجلة لا منع منها ، وفي البحر أن كون مادة ل ي ك مفقودة في لسان العرب كما تشبث به من أنكر هذه القراءة المتواترة إن صح لا يضر وتكون الكلمة عجمية ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث ، وبالجملة إنكار الزمخشري صحة هذه القراءة يقرب من الردة والعياذ بالله تعالى. وقد سبقه في ذلك المبرد وابن قتيبة والزجاج والفارسي والنحاس ، وقرئ «ليكة» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام والجر بالكسرة وتكتب على حكم لفظ اللافظ بدون همزة وعلى الأصل بالهمزة وكذا نظائرها.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أتموه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي حقوق الناس بالتطفيف ولعل المبالغة المستفادة من التركيب متوجهة إلى النهي أو أنه لا يعتبر المفهوم لنحو ما قيل في قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] وأيا ما كان ففي النهي المذكور تأكيد للأمر السابق عليه (وَزِنُوا) الموزونات.

١١٦

(بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بالميزان السوي ، وقيل : القسطاس القبان وروي ذلك عن الحسن ، وهو عند بعض معرب رومي الأصل ومعناه العدل وروي ذلك عن مجاهد وعند آخرين عربي فقيل : هو من القسط ووزنه فعلاع بتكرير العين شذوذا إذ هي لا تكرر وحدها مع الفصل باللام ، وقيل : من قسطس وهو رباعي ووزنه فعلال ، والمراد الأمر بوفاء الوزن وإتمامه والنهي عن النقص دون النهي عن الزيادة ، والظاهر أنه لم ينه عنها ولم يؤمر بها في الكيل والوزن ، وكأن ذلك دليل على أن من فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عليه.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى (وَزِنُوا) إلخ وعدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله تعالى لعباده ، والظاهر إذ عادل سبحانه به (أَوْفُوا الْكَيْلَ) [الأنعام : ١٥٢] ما تقدم.

وقرأ أكثر السبعة «بالقسطاس» بضم القاف (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوهم شيئا من حقوقهم أي حق كان فإضافة أشياء جنسية ويجوز أن تكون للاستغراق ، والمراد مقابلة الجمع بالجمع فيكون المعنى لا تبخسوا أحدا شيئا ، وجوز أن يكون الجمع للإشارة إلى الأنواع فإنهم كانوا يبخسون كل شيء جليلا كان أو حقيرا ، وهذا تعميم بعد تخصيص بعض المراد بالذكر لغاية انهماكهم فيه ، وقيل : المراد بأشيائهم الدراهم والدنانير وبخسها بالقطع من أطرافها ولولاه لم يجمع. وبخس مما يتعدى إلى اثنين فالمنصوبان مفعولاه ، وقيل هو متعد لواحد فالثاني بدل اشتمال (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بالقتل والغارة وقطع الطريق ونحو ذلك ، والعثو الفساد أو أشده و «مفسدين» حال مؤكدة ، وجوز أن يكون المراد مفسدين آخرتكم فتكون حالا مؤسسة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وذوي الجبلة أي الخلقة والطبيعة أو والمجبولين على أحوالهم التي بنوا عليها وسبلهم التي قيضوا لسلوكها المتقدمين عليكم من الأمم ، وجاء في رواية عن ابن عباس أن الجبلة الجماعة إذا كانت عشرة آلاف كأنها شبهت على ما قيل بالقطعة العظيمة من الجبل ، وقيل : هي الجماعة الكثيرة مطلقا كأنها شبهت بما ذكر أيضا.

وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن بخلاف عنه «الجبلّة» بضم الجيم والباء وشد اللام وقرأ السلمي «الجبلة» بكسر الجيم وسكون الباء كالخلقة ، وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء قيل وتشديد اللام في القراءتين للمبالغة (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الكلام فيه نظير ما تقدم في قصة ثمود بيد أنه أدخل الواو بين الجملتين هنا للدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة فكيف إذا اجتمعا وأرادوا بذلك المبالغة في التكذيب ، ولم تدخل هناك حيث لم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم كذا في الكشاف ، وفي الكشف أن فيه ما يلوح إلى اختصاص كل بموضعه وإن الكلام هنالك في كونه مثلهم غير ممتاز بما يوجب الفضيلة ولهذا عقبوه بقولهم : (فَأْتِ بِآيَةٍ) [الشعراء : ١٥٤] فدل على أنهم لم يجعلوا البشرية منافية للنبوة وإنما جعلوا الوصف تمهيدا للاشتراك وأنه أبدع في دعواه ، وهاهنا ساقوا ذلك مساق ما ينافي النبوة فجعلوا كل واحد صفة مستقلة في المنافاة ليكون أبلغ. وجعلوا إنكار النبوة أمرا مفروغا ولذا عقبوه بقولهم : (وَإِنْ نَظُنُّكَ) إلخ ، وقال النيسابوري في وجه الاختصاص : إن صالحا عليه‌السلام قلل في الخطاب فقللوا في الجواب وأكثر شعيب عليه‌السلام في الخطاب ولهذا قيل له : خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب ، ولعله أراد أن شعيبا عليه‌السلام بالغ في زجرهم فبالغوا في تكذيبه ولا كذلك صالح عليه‌السلام مع قومه فتأمل ، و (إِنْ) في قوله سبحانه : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) هي المخففة من الثقيلة واللام في (لَمِنَ) هي الفارقة ، وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا وهو خلاف مشهور أي وإن الشأن نظنك من الكاذبين في الدعوى أو ما نظنك إلا من الكاذبين فيها ، ومرادهم أنه عليه‌السلام وحاشاه راسخ القدم في الكذب في دعواه الرسالة أو فيها وفي دعوى نزول العذاب الذي يشعر به الأمر بالتقوى من التهديد.

١١٧

وظاهر حالهم أنهم عنوا بالظن الإدراك الجازم ، وقوله عزوجل : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) من الاقتراح الذي تحته كل الإنكار على نحو (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] ولعلهم قابلوا به ما أشعر به الأمر بالتقوى مما ذكرنا ، و (كِسَفاً) أي قطعا كما روي عن ابن عباس وقتادة جمع كسفة كقطعة.

وقرأ الأكثرون «كسفا» بكسر الكاف وسكون السين وهو أيضا جمع كسفة مثل سدرة وسدر ، وقيل : الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة ، والمراد بالسماء إما المظلة وهو الظاهر وإما السحاب ، والظاهر أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله وتعلقه بأسقط في غاية السقوط ، وجوز عليه أن يراد بالسماء جهة العلو ، وجواب أن محذوف دل عليه فأسقط ، ومن جوز تقدم الجواب جعله الجواب.

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي هو تعالى أعلم بأعمالكم من الكفر والمعاصي وبما تستوجبون عليها من العذاب فسينزله عليكم حسبما تستوجبون في وقته المقدر له لا محالة (فَكَذَّبُوهُ) فاستمروا على تكذيبه وكذبوه تكذيبا بعد تكذيب (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وذلك على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أن الله تعالى بعث عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم فخرجوا منها هرابا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس وهي الظلة فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقطها الله عزوجل عليهم نارا فأكلتهم جميعا. وجاء في كثير من الروايات أن الله عزوجل سلط عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم كان ما كان من الخروج إلى البرية وما بعده وكان ذلك على نحو ما اقترحوه لا سيما على القول بأنهم عنوا بالسماء السحاب ، وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذان بأن لهم عذابا آخر غير عذاب الظلة وفي ترك بيانه تعظيم لأمره.

وقد أخرج ابن جرير والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة فكذبه ، وكأنه أراد بذلك مجموع عذاب الظلة الذي ذكر في الخبر السابق والعذاب الآخر الذي آذنت به الإضافة إلى اليوم (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي في الشدة والهول وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هذا آخر القصص السبع التي سيقت لما علمته سابقا ، ولعل الاقتصار على هذا العدد على ما قيل لأنه عدد تام وأنا أفوض العلم بسر ذلك وكذا العلم بسر ترتيب القصص على هذا الوجه لحضرة علام الغيوب جل شأنه ، وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلخ عود لما في مطلع السورة الكريمة من التنويه بشأن القرآن ، العظيم ، ورد ما قال المشركون فيه فالضمير راجع إلى القرآن ، وقيل : هو تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الأخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله عزوجل ، فالضمير لما ذكر من الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص المحكية ، وجوز أن يكون للقرآن الذي هي من جملته والإخبار عن ذلك بتنزيل للمبالغة والمراد أنه لمنزل من الله تعالى ووصفه سبحانه بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته عزوجل ورأفته بالكل (نَزَلَ بِهِ) أي أنزله على أن الباء للتعدية.

وقال أبو حيان وابن عطية : هي للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال كما في قوله تعالى : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) [المائدة : ٦١] أي نزل مصاحبا له (الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعني جبرائيل عليه‌السلام ، وعبر عنه بالروح

١١٨

لأنه يحيي به الخلق في باب الدين أو لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح ، ووصف عليه‌السلام بالأمين لأنه أمين وحيه تعالى وموصوله إلى من شاء من عباده جل شأنه من غير تغيير وتحريف أصلا. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر نزل به الروح الأمين بتشديد الزاي ونصب الروح و (الْأَمِينُ) أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به (عَلى قَلْبِكَ) متعلق بنزل لا بالأمين. والمراد بالقلب إما الروح وهو أحد إطلاقاته كما قال الراغب : وكون الإنزال عليه على ما قال غير واحد لأنه المدرك والمكلف دون الجسد. وقد يقال : لما كان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهتان جهة ملكية يستفيض بها وجهة بشرية يفيض بها جعل الإنزال على روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين.

وللإشارة إلى ذلك قيل (عَلى قَلْبِكَ) دون عليك الأخصر. وقيل : إن هذا لأن القرآن لم ينزل في الصحف كغيره من الكتب ، وأما العضو المخصوص وهو الإطلاق المشهور. وتخصيصه بالإنزال عليه قيل للإشارة إلى كمال تعقله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمه ذلك المنزل حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث ويشهد له العقل على ما لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد أطال في الانتصار لذلك الإمام في تفسيره.

ورد على من ذهب إلى أن الدماغ محل العقل ، وقيل : للإشارة إلى صلاح قلبه عليه الصلاة والسلام وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم منه حال سائر أجزائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن القلب رئيس جميع الأعضاء وملكها ومتى صلح الملك صلحت الرعية وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ، وقد يقال : يجوز أن يكون التخصيص لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه ويعيه على حد ما قيل وذكره النووي في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] من أن الله عزوجل جعل لفؤاده عليه الصلاة والسلام بصرا فرآه به سبحانه ليلة المعراج. وهذا كله على القول بأن جبرائيل عليه‌السلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد أن نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال أو التي يوحى بها إليه أو التي يسمعها منه سبحانه على ما قاله بعض أجلة السلف عنده فيلقيها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هي عليه من غير تغيير أصلا. وكذا على القول بأن جبرائيل عليه‌السلام ألقى عليه المعاني القرآنية وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ العربية ثم نزل بها كذلك فألقاها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما على القول بأنه عليه‌السلام إنما نزل بالمعاني خاصة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأنه عليه الصلاة والسلام علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب فقيل : إن القلب بمعنى العضو المخصوص لا غير وتخصيصه لأن المعاني إنما تدرك بالقوة المودعة فيه ، وقيل : يجوز أن يراد به الروح وروحه عليه الصلاة والسلام لغاية تقدسها وكمالها في نفسها تدرك المعاني من غير توسط آلة. ومن الناس من ذهب إلى هذا القول وجعل الآية دليلا له وهو قول مرجوح. ومثله القول بأن جبرائيلعليه‌السلام ألقى عليه المعاني فعبر عنها بألفاظ فنزل بما عبر هو به. والقول الراجح أن الألفاظ منه عزوجل كالمعاني لا مدخل لجبرائيل عليه‌السلام فيها أصلا. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية لا كسماع البشر إياها منه عليه الصلاة والسلام وتنفعل عند ذلك قواه البشرية ، ولهذا يظهر على جسده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يظهر ويقال لذلك : برجاء الوحي حتى يظن في بعض الأحايين أنه أغمي عليه عليه الصلاة والسلام. وقد يظن أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أغفي.

وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم عن أنس قال : «بينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم بين أظهرنا إذ أغفى

١١٩

إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال : أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر : ١ ـ ٣] ولا يحتاج من قال : إن الأشبه أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه عليه الصلاة والسلام خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر التي نزلت قبلها في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم ، ثم إنه على ما قيل من أن بعض القرآن نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو نائم استدلالا بهذا الخبر يبقى ما قلناه من سماعه عليه الصلاة والسلام ما ينزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية ونومه عليه الصلاة والسلام لا يمنع من ذلك كيف وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تنام عيني ولا ينام قلبي».

وقد ذكر بعض المتصدرين في محافل الحكمة من المتأخرين في بيان كيفية نزول الكلام وهبوط الوحي من عند الله تعالى بواسطة الملك على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الروح الإنساني إذا تجرد عن البدن ، وخرج عن وثاقة من بيت قالبه وموطن طبعه مهاجرا إلى ربه سبحانه لمشاهدة آياته الكبرى وتطهر عن درن المعاصي واللذات والشهوات والوساوس العادية والمتعلقات لاح له نور المعرفة والإيمان بالله تعالى وملكوته الأعلى وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهرا قدسيا يسمى في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي وبهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض والسماء ويتراءى منه حقائق الأشياء كما يتراءى بالنور الحسي البصري الأشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنع حجاب ، والحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذه الأولى فإذا عريت النفس عن دواعي الطبيعة والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل وتوجهت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سر الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ورأت عجائب آيات الله تعالى الكبرى ، ثم إن هذه الروح إذا كانت قدسية شديدة القوى قوية الآثار لقوة اتصالها بما فوقها فلا يشغلها شأن عن شأن ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها فتضبط الطرفين وتسع قوتها الجانبين لشدة تمكنها في الحد المشترك بين الملك والملكوت كالأرواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر وإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ولا تصرفها نشأة عن نشأة وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلم بشري بل من الله تعالى يتعدى تأثيرها إلى قواها ويتمثل لروحه البشري صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون فتتمثل للحواس الظاهرة سيما السمع والبصر لكونهما أشرف الحواس الظاهرة فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصباحة ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله تعالى الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله تعالى وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله تعالى ، وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيل كما يقوله من لا حظ له من علم الباطن ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب كبعض أتباع المشائين معاذ الله تعالى عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل ثم قال : إنارة قلبية وإشارة عقلية عليك أن تعلم أن للملائكة ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن الكائن في النشأة الآخرة فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه‌السلام وهؤلاء الملائكة اللوحية يأخذون الكلام الإلهي والعلوم اللدنية من الملائكة القلمية ويثبتونها في صحائف ألواحهم القدرية الكتابية ، وإنما كان يلاقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معراجه الصنف الأول من الملائكة ويشاهد روح القدس في اليقظة فإذا اتصلت الروح النبوية بعالمهم عالم الوحي الرباني يسمع كلام الله تعالى

١٢٠