روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

عليه من الهيئة والشكل ، ولعل المراد التغيير في الجملة. روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك إنه كان بالزيادة فيه والنقص منه ، وقيل : بنزع ما عليه من الجواهر ، وقيل : بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ، ولام (لَها) للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] فيدل على أنها المرادة خاصة بالتنكير (نَنْظُرْ) بالجزم على أنه جواب الأمر.

وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف (أَتَهْتَدِي) إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام. وقيل : إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه‌السلام إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب وحكاه الطبرسي عن الجبائي ، وفيه أنه لا يظهر مدخلية التنكير في الإيمان (أَمْ تَكُونُ) أي بالنسبة إلى علمنا (مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب اللائق بالمقام فإن كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه‌السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار (فَلَمَّا جاءَتْ) شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه‌السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان وقد كان العرش منكرا بين يديه (قِيلَ) أي من جهة سليمان بالذات أو بالواسطة (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي أمثل هذا العرش الذي ترينه عرشك الذي تركتيه ببلادك ، ولم يقل : أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الإشكال والاشتباه حتى يتبين لديه عليه‌السلام حالها وقد ذكرت عنده عليه‌السلام بسخافة العقل.

وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الإنس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة إليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجليها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا للكشف عن ساقيها ، ومن لم يقل بنسبتها إلى الجن : يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه‌السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال ، ومنهم من يقول : ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت الغلمان والجواري وامتحنته عليه‌السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد إحضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة ما لا يخفى ، وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أجابت بما أنبأ عن كمال عقلها حيث لم تجزم بأنه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها.

وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال : الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى (كَأَنَّهُ هُوَ) إن (كَأَنَّهُ هُوَ) عبارة من قوي عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس ، وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل.

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كأنها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها ، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها : (وَأُوتِينَا) إلخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا ، ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة ، ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصلة لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل وهذا كاف في الدلالة على كمال عقلي.

٢٠١

وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه‌السلام أي وأوتينا العلم بإتيانك بالعرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين ، والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر إسلامها وليس ذاك لإرادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) وهو بيان من جهته عزوجل لما كان يمنعها من إظهار ما ادعت من الإسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذي يقتضيه عبادتها القديمة للشمس ، فما مصدرية والمصدر فاعل صد ، وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والإسناد مجازي على الوجهين.

وقوله تعالى : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن حضرت بين يدي سليمان عليه‌السلام. وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة «أنها» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل أي لأنها أو جعل المصدر بدلا من فاعل صد بدل اشتمال. وقيل : قوله تعالى : (وَأُوتِينَا) إلخ من كلام قوم سليمان عليه‌السلام كأنهم لما سمعوها أجابت السؤال بقولها : (كَأَنَّهُ هُوَ) قالوا. قد أصابت في جوابها فطبقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله عزوجل وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها وعطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا العلم بالله تعالى وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده سبحانه قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام ، وكان هذا منهم شكرا لله تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله تعالى والإسلام قبلها ، ويومئ إلى هذا المطوي جعل علمهم وإسلامهم قبلها ، وقوله تعالى : (وَصَدَّها) إلخ على هذا يحتمل أن يكون من تتمة كلام القوم.

ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار من جهته عزوجل. وعن مجاهد وزهير بن محمد أن (وَأُوتِينَا) من كلام سليمان عليه‌السلام ، وفي (وَصَدَّها) إلخ عليه أيضا احتمال ، ولا يخفي ما في جعل (وَأُوتِينَا) إلخ من كلام القوم أو من كلام سليمان عليه‌السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة. وقيل : إن (وَأُوتِينَا) إلخ من تتمة كلامها. وقوله تعالى : (وَصَدَّها) إلخ ابتداء أخبار من جهته تعالى لبيان حسن حالها وسلامة إسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عزوجل أو ضمير سليمان عليه‌السلام.

وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها الله تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون الله أو عن الذي تعبده من دونه تعالى. ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله : وهو ضعيف لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله :

تمرون الديار ولم تعوجوا

وليس من مواضع حذف حرف الجر.

وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لا ينشرح له الصدر ، وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى : (وَصَدَّها) إلخ متصل بقوله سبحانه : (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) والواو فيه للحال وقد مضمرة وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. ولعمري من أنصف رأى أن ما ذكر مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد ، وأنا أقول بعد القيل والقال: إن وجه ربط هذه الجمل مما يحتاج إلى تدقيق النظر فليتأمل والله تعالى الموفق.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) استئناف بياني كأنه قيل فما ذا قيل لها بعد الامتحان المذكور؟ فقيل : (قِيلَ لَهَا

٢٠٢

ادْخُلِي) إلخ ولم يعطف على قوله تعالى : (أَهكَذا عَرْشُكِ) لئلا يفوت هذا المعنى. وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها ، و (الصَّرْحَ) القصر وكل بناء عال. ومنه (ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : ٣٦] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وقال مجاهد (الصَّرْحَ) هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليه‌السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره. وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه ، وهذا أوفق بظاهر الآية ـ ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل ، وقيل : ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين ، وقيل لأن الجن قالوا له عليه‌السلام إنها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك ، وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به ، وهذا غاية الإنصاف منه عليه‌السلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم. واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.

(فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصر (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ظنته ماء كثيرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء ، وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بهمز ألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.

وفي البحر حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد :

أحب المؤقدين إلى مؤسى

وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة. وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق. وأيا ما كان فقول من قال : إن هذه القراءة لا تصح لا يصح (قالَ) أي سليمان عليه‌السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب ، وقيل : القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهر (إِنَّهُ) أي ما حسبته لجة (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئا والمراد المتعري من الخير (مِنْ قَوارِيرَ) من الزجاج وهو جمع قارورة.

(قالَتْ) حين عاينت هذا الأمر العظيم (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بما كنت عليه من عبادة الشمس ، وقيل : بظني السوء بسليمان عليه‌السلام حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد. ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) تابعة له مقيدة به ، وما في قوله تعالى : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من الالتفات إلى الاسم الجليل لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس ، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه ولا كبر أصلا كما لا يخفى. واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليه‌السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له.

٢٠٣

وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه عليه‌السلام أمهرها بعلبك ، وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الإنس فقال : ما يذهب بهذا؟ فقالوا : يا رسول الله المواسي فقال : المواسي تقطع ساقي المرأة. وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال : إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة ، قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة ، وعن عكرمة أن أول من وضع النورة شياطين الإنس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور ، ويروى أن الحمام وضع يومئذ.

وفي تاريخ البخاري عن أبي موسى الأشعري قال : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أول من صنعت له الحمامات سليمان» وأخرج الطبراني. وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا قا : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله تعالى» وروي عن وهب أنه قال : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت : أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال : نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك فقالت : زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال : اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه‌السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان عليه‌السلام. وقال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال انتهى أمرها إلى قولها : (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قيل : يعني لا علم لنا وراء ذلك.

والمشهور أنه عليه‌السلام تزوجها وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال : كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب «بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما‌السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا» والله تعالى أعلم بصحة الخبر ، وكم في هذه القصة من أخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها ، والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة ، ومما يستغرب ولله تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد وقد سخر الله تعالى له من الجن والشياطين والطير والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهما‌السلام بمراتب ، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض ، وهذا وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل ، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عطف على قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) مسوق لما سيق هو له ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أرسلنا (إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) وإنما أقسم على ذلك اعتناء بشأن الحكم ، و (صالِحاً) بدل من (أَخاهُمْ) أو عطف بياني ، وأن في قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مفسرة لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه.

٢٠٤

وجوز كونها مصدرية حذف منها حرف الجر أي بأن ، وقيل لأن ووصلها بالأمر جائز لا ضير فيه كما مر.

وقرئ بضم النون اتباعا لها للباء (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي فاجأ إرسالنا تفرقهم واختصامهم فآمن فريق وكفر فريق وكان ما حكى الله تعالى في محل آخر بقوله سبحانه : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] الآية. فإذا فجائية والعامل فيها مقدر لا (يَخْتَصِمُونَ) خلافا لأبي البقاء لأنه صفة (فَرِيقانِ) كما قال ومعمول الصفة لا يتقدم على الموصوف ، وقيل : هذا حيث لا يكون المعمول ظرفا ، وضمير (يَخْتَصِمُونَ) لمجموع الفريقين ولم يقل يختصمان للفاصلة ، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة خبر ثان وهو كما ترى ، و (هُمْ) راجع إلى ثمود لأنه اسم للقبيلة ، وقيل : إلى هؤلاء المذكورين ليشمل صالحا عليه‌السلام والفريقان حينئذ أحدهما صالح وحده وثانيهما قومه.

والحامل على هذا كما ذكره ابن عادل العطف بالفاء فإنها تؤذن أنهم عقيب الإرسال بلا مهلة صاروا فريقين ولا يصير قومه عليه‌السلام فريقين إلا بعد زمان. وفيه أنه يأباه قوله تعالى : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وتعقيب كل شيء بحسبه على أنه يجوز كون الفاء لمجرد الترتيب. ولعل فريق الكفرة أكثر ولذا ناداهم بقوله يا قوم كما حكي عنه في قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ) لجعله في حكم الكل أي قال عليه‌السلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة إلى أن قالوا له عليه‌السلام يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين متلطفا بهم يا قوم (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالعقوبة التي تسوؤكم (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون إن وقع إبعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما نحن عليه (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي هلا تستغفرونه تعالى قبل نزولها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بقبولها إذ سنة الله تعالى عدم القبول عند النزول. وقد خاطبهم عليه‌السلام على حسب تخمينهم وجهلهم في ذلك بأن ما خمنوه من التوبة إذ ذاك فاسدة وأن استعجالهم ذلك خارج من المعقول. والتقابل بين السيئة والحسنة بالمعنى الذي سمعت حاصل من كون أحدهما حسنا والآخر سيئا ، وقيل : المراد بالسيئة تكذيبهم إياه عليه‌السلام وكفرهم به وبالحسنة تصديقهم وإيمانهم ، والمراد من قوله : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ) إلخ لومهم على المسارعة إلى تكذيبهم إياه وكفرهم به وحضهم على التوبة من ذلك بترك التكذيب والإيمان. وحاصله لومهم على إيقاع التكذيب عند الدعوة دون التصديق وحضهم على تلافي ذلك. وإيهام الكلام انتفاء اللوم على إيقاع التكذيب بعد التصديق مما لا يكاد يلتفت إليه. ولا يخفى بعد طي الكشح عن المناقشة فيما ذكر أن المناسب لما حكى الله تعالى عن القوم في سورة الأعراف ولما جاء في الآثار هو المعنى الأول. ومن هنا ضعف ما روي عن مجاهد من تفسير الحسنة برحمة الله تعالى لتقابل السيئة المفسرة بعقوبته عزوجل ويكون المراد من استعجالهم بالعقوبة قبل الرحمة طلبهم إياها دون الرحمة فتأمل (قالُوا اطَّيَّرْنا) أصله تطيرنا وقرئ به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت همزة الوصل ليتأتى الابتداء ، والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسرة تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا لأنه لا يمكن للمار به كذلك أن يرميه حتى ينحرف فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر الله تعالى وقسمته عزوجل أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة أي تشاءمنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد ـ وقد كانوا قحطوا ـ ولم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم ، وتشاؤمهم يحتمل أن يكون من المجموع وأن يكون من كل من المتعاطفين.

(قالَ طائِرُكُمْ) أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر (عِنْدَ اللهِ) وهو قدره سبحانه أو عملكم

٢٠٥

المكتوب عنده عزوجل (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) إضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه أي بل أنتم قوم تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة ، وجاء (تُفْتَنُونَ) بتاء الخطاب على مراعاة (أَنْتُمْ) وهو الكثير في لسان العرب ، ويجوز في مثل هذا التركيب «يفتنون» بياء الغيبة على مراعاة لفظ (قَوْمٌ) وهو قليل في لسانهم (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) أي مدينة ثمود وقريتهم وهي الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ) هو اسم جمع يطلق على العصابة دون العشرة كما قال الراغب ؛ وفي الكشاف هو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة ، وقيل : بل يقال إلى الأربعين وليس بمقبول ، وأصله على ما نقل عن الكرماني من الترهيط وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل ، وقد أضيف العدد إليه. وقد اختلف في جواز إضافته إلى اسم الجمع فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور ، وقد صرح سيبويه أنه لا يقال ثلاث غنم.

وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجميع للقليل كرهط ونفر وذود فيجوز أن يضاف إليه إجراء له مجرى جمع القلة أو للكثير أو يستعمل لهما فلا يجوز إضافته إليه بل إذا أريد تمييزه به جيء به مقرونا بمن كخمسة من القوم ، وقال تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) [البقرة : ٢٦٠] وهو قول المازني. واختار غير واحد أن إضافة تسعة إلى رهط هاهنا باعتبار أن رهطا لكونه اسم جمع للقليل في حكم أشخاص ونحوه من جموع القلة وهي يضاف إليها العدد كتسعة أشخاص وتسع أنفس وهذا معنى قولهم : إن وقوع رهط تمييزا لتسعة باعتبار المعنى فكأنه قيل تسعة أشخاص ، وقيل : أي تسعة أنفس ، وتأنيث العدد لأنه المذكور في النظم الكريم (رَهْطٍ) وهو مذكر فليس ذاك من غير الفصيح كقوله ثلاثة أنفس وثلاث ذود ، نعم تقدير ما تقدم أسلم من المناقشة ، وأما ما قيل أي تسعة رجال ففيه الغفلة عما أشرنا إليه ، ثم إنه ليس المراد أن الرهط بمعنى الشخص أو بمعنى النفس بل إن التسعة من الأشخاص أو من الأنفس هي الرهط فليس المعدود بالتسعة ما دل عليه الرهط من الجماعة ليكون هناك تسع جماعات لا تسعة أفراد.

وقال الإمام : الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفاتهم وأحوالهم لا لاختلاف النسب ا ه ، وقيل : كان هؤلاء التسعة رؤساء مع كل واحد منهم رهط ، ولذا قيل تسعة رهط وأسماؤهم عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ودباب ابن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخزمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أسماءهم دعمي ودعيم وهرمي وهريم ودواب وصواب ودياب ومسطح وقدار وهو الذي عقر الناقة (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) لا في المدينة فقط إفسادا بحتا لا يخالطه شيء من الصلاح كما ينطق به قوله تعالى : (وَلا يُصْلِحُونَ) أي لا يفعلون شيئا من الإصلاح أو لا يصلحون شيئا من الأشياء ، والمراد أن عادتهم المستمرة ذلك الإفساد كما يؤذن به المضارع ، والجملة في موضع الصفة لرهط أو لتسعة.

(قالُوا) استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه‌السلام. وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب ، وقوله : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] إلخ (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أمر من التقاسم أي التحالف وقع مقول القول وهو قول الجمهور.

وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من (قالُوا) أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها أي قالوا متقاسمين ومقول

٢٠٦

القول (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) إلخ ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون بالله من جملة المقول. والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا وهو غافل ، وأرادوا قتله عليه‌السلام وأهله ليلا وهم غافلون ، وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر.

وقرأ ابن أبي ليلى «تقسموا» بغير ألف وتشديد السين ، والمعنى كما في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وحمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء على خطاب بعضهم لبعض. وقرأ مجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش «ليبيتنه» بياء الغيبة. و (تَقاسَمُوا) على هذه القراءة لا يصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فإنه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا. وذلك لأن الأمر خطاب والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون فأما ياء الغائب فلا وجه له. وإما إذا جعل خبرا فهو على الغائب كما تقول حلف ليفعلن (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي لولي صالح والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل. وقرأ «لتقولن» بالتاء من قرأ «لتبيتنه» كذلك. وقرأ «ليقولن» بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم ، وقرأ حميد بن قيس الأول بياء الغيبة وهذا بالنون ، قيل : والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين بالله ليبيتنه قوم منا ثم لنقولن جميعنا لوليه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي ما حضرنا هلاكهم على أن (مَهْلِكَ) مصدر كمرجع أو مكان هلاكهم على أنه للمكان أو زمان هلاكهم على أنه للزمان. والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه ، واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم قصدا للمبالغة كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى إهلاكهم. ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا عليه‌السلام أيضا لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله ، وقيل في الكلام حذف أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ، واستظهره أبو حيان ثم قال وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد ، وقال الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

أي بين الخير وبيني اه وفيه ما لا يخفى. وقيل : الضمير في (أَهْلَهُ) يعود على الولي. والمراد بأهل الولي صالح وأهله. واعترض بأنه لو أريد أهل الولي لقيل أهلك أو أهله. ومنع بأن ذلك غير لازم. فقد قرئ «قل للذين كفروا ستغلبون» بالخطاب والغيبة ووجه ذلك ظاهر. نعم رجوع الضمير إلى الولي خلاف الظاهر كما لا يخفى ، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم وفتح اللام من أهلك وفيه الاحتمالات الثلاث. وقرأ أبو بكر «مهلك» بفتحهما على أنه مصدر (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) عطف على (ما شَهِدْنا) كما ذهب إليه الزجاج ، والمعنى ونحلف وإنا لصادقون ، وجوز أن تكون الواو للحال أي والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن. وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف لأنه لا يقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله وإن كان الحضور لازما للمباشرة فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الإيمان وأوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي فهم صادقون غير حانثين ، وكونهم من أهل التعارف أيضا لا يضر بل يفيد فائدة تامة ، وقال الزمخشري. كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع. ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا بخلاف من حلف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما فإنه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه ، والحق أن تبرئتهم من الكذب فيما ذكر غير لازمة حتى يتكلف لها وهم الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله عليه‌السلام وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر ، ومقصود الزمخشري تأييد

٢٠٧

ما يزعمه وهو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها ولا يكاد يتم له ذلك (وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه المواضعة (وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي أهلكناهم إهلاكا غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لا يحتسبون (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر ، والظاهر أن (كَيْفَ) خبر مقدم لكان و (عاقِبَةُ) الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به ، والجملة في محل نصب على أنها مفعول انظر وهي معلقة لمكان الاستفهام ، والمراد تفكر في ذلك.

وقوله تعالى : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) في تأويل مصدر وقع بدلا من «عاقبة مكرهم» أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة ، والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هو أوهى تدميرنا وإهلاكنا إياهم (وَقَوْمَهُمْ) الذين لم يكونوا منهم في مباشرة التبييت (أَجْمَعِينَ) بحيث لم يشذ منهم شاذ أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلا لما ينبئ عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة. وجوز بعضهم كونه بدلا من (كَيْفَ) ، وقال آخرون : لا يجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض؟.

وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون (كَيْفَ) حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكلام من معنى الفعل ، ويجوز أن تكون كان تامة و (كَيْفَ) عليه حال لا غير والاحتمالات الجائزة في (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) لا تخفى.

وقرأ الأكثر إنا بكسر الهمزة فكيف خبر كان و (عاقِبَةُ) اسمها وجملة (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف لتفسير العاقبة ، وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف. قال الخفاجي : الظاهر أنه الشأن أو ضميره لا شيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد. ولا يرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فإنه غير مسلم ، ويجوز أن تكون (كانَ) تامة و (كَيْفَ) حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) لعدم الرابط ، وقيل : يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه إليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إذا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به ، وغيره من النحاة يأباه ، وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون (كانَ) زائدة و (عاقِبَةُ) مبتدأ و (كَيْفَ) خبر مقدم له.

وقرأ أبي «أن دمرناهم» بأن التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة «أنا» بفتح الهمزة. هذا وفي كيفية التدمير خلاف ، فروى أنه كان لصالح عليه‌السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه ، وقيل : جاءوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل الله تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه‌السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولا يرون راميا وهلك سائر القوم بالصيحة وقيل : إنهم عزموا على تبييته عليه‌السلام وأهله فأخبر الله تعالى بذلك صالحا فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) جملة مقررة لما قبلها. وقوله تعالى : (خاوِيَةً) أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم المذكور حال من (بُيُوتُهُمْ) والعامل فيها معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها و (بُيُوتُهُمْ) بدل وبيوتهم هذه هي التي قال فيها

٢٠٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث. وهي بوادي القرى بين المدينة والشام (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم (لَآيَةً) لعبرة عظيمة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي ما من شأنه أن يعلم من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم ، وقيل : لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء ، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببا لخراب الدور.

وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية ، وفي التوراة ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، قيل وهو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه ، ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سببا لخراب البيوت مما شوهد كثيرا في هذه الأعصار ، وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك. نعم لا يبعد أن يكون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء الله تعالى (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) صالحا ومن معه من المؤمنين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) من الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذا خصوا بالنجاة ، روي أن الذين آمنوا به عليه‌السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر (وَلُوطاً) منصوب بمضمر معطوف على «أرسلنا» في صدر قصة صالح عليه‌السلام داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار اذكر معطوفا على ما تقدم عطف قصة على قصة و (إِذْ) بدل منه بدل اشتمال وليس بذاك. وقيل : هو معطوف على (صالِحاً). وتعقب بأنه غير مستقيم لأن صالحا بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو «إلى ثمود» فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطا عليه‌السلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف ما لو تأخر ، وقيل إن تعينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد لكنه خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لا يليق ، وجوز أن يكون عطفا على الذين آمنوا.

وتعقب بأنه لا يناسب أساليب سرد القصص من عطف إحدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لا يخفى (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة ، والاستفهام إنكاري.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) جملة حالية من فاعل (تَأْتُونَ) مفيدة لتأكيد الإنكار فإن تعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع ، و (تُبْصِرُونَ) من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنتم تعلمون علما يقينيا كونها كذلك. (١) ويجوز أن يكون من بصر العين أي وأنتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس ، وقيل : مفعول (تُبْصِرُونَ) من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو وأنتم ينظر بعضكم بعضا لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم اكتراثكم به ، ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الإنكار أيضا ظاهر ، وقوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) تثنية للإنكار وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ، وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال شناعته ، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربيته التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم ، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محلها ، وفيه إشارة إلى أنهم مخطئون في محلها فعلا ، وفي قوله تعالى : (مِنْ دُونِ

__________________

(١) تم الجزء التاسع عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله فما كان جواب قومه

٢٠٩

النِّساءِ) أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطئون فيه تركا ، ويعلم مما ذكرنا أن (شَهْوَةً) مفعول له للإتيان ، وجوز أن يكون حالا.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون كذا في الكشاف ، وأيا ما كان فلا ينافي قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الإضراب تأباه : ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميما للإنكار بقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة وأشار سبحانه إلى ما أشار ثم أضرب عن الكل بقوله سبحانه : (بَلْ أَنْتُمْ) إلخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فأولى حرف الإضراب ضمير (أَنْتُمْ) وجعلهم قوما جاهلين والتفت في (تَجْهَلُونَ) موبخا معيرا اه وفيه نظر. والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضا وهو التفات من الغيبة التي في (قَوْمٌ) إلى الخطاب في (تَجْهَلُونَ) وتعقبه الفاضل السالكوتي بأنه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا كما هو شرط الالتفات بل معنى كلي حمل على قوم لوط عليه‌السلام.

وقال بعض الأجلة : إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم ـ وهو اسم ظاهر ـ من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع (أَنْتُمْ) لحمله عليه ، وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب ، وأورد عليه أن في التغليب تجوزا ولا تجوز هنا. وأجيب بأن نحو (تَجْهَلُونَ) موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لا يكون فيه تجوز ، وقيل قولهم إن في التغليب تجوزا خارج مخرج الغالب ، وقال الفاضل السالكوتي إن قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ) إلخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في (تَجْهَلُونَ) باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بأنتم فلا يرد أن اللفظ لم يستعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية ولم يسند الفعل إلى غير ما هو له فيكون هناك مجاز فافهم.

٢١٠

الجزء العشرون

٢١١
٢١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٦٨)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي من اتبع دينه وإخراجه عليه‌السلام يعلم من باب أولى. وقال بعض المحققين : المراد بآل لوط هو عليه‌السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه ، وأيا ما كان فلا تدخل امرأته عليه‌السلام فيهم ، وقوله سبحانه : (إِلَّا) إلخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر ، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب ، وفي قوله تعالى : (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) بإضافة القرية إلى ـ كم ـ تهوين لأمر الإخراج ، وقوله جل وعلا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون بإظهار ما ليس فيهم ، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه

٢١٣

السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) أي قدرنا كونها (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب ، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات ، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك ، وهو قوله تعالى : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر : ٦٠].

وقرأ أبو بكر «قدرناها» بتخفيف الدال (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) غير معهود (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس مطر المنذرين مطرهم ، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم ، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى ، وشرح صدره الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلّم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية ، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس ، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦].

أمر صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم‌السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين ، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم‌السلام لدلالة المقام ، وقوله تعالى في آية أخرى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨١] ، وقيل : هذا أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلّى الله تعالى عليهم وسلم ، والسلام على غير الأنبياء عليهم‌السلام إذا لم يكن استقلالا مما لا خلاف في جوازه ، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقا ، وقيل : أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب ، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.

فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة ، وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم : هم أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في (وَسَلامٌ) إلخ : نزلت في أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله ، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة مبتدأة حيث قال : أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه : (آللهُ) إلخ ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع ، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المتراسلون فآجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها

٢١٤

شأن انتهى ، ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم‌السلام إلى ما جرى له صلى الله تعالى عليه وسلّم مع المشركين أولى ، وأبعد الأقوال باتصاله بما قبله ، وجعل ذلك أمرا للوط عليه‌السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه ، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له ، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء ، والظاهر أن (سَلامٌ) مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة معطوفة على (الْحَمْدُ لِلَّهِ) داخلة معه في حيز القول.

وقرأ أبو السمال «الحمد لله» بفتح اللام (آللهُ) بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أالله. (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي (الله) الذي ذكرت شئونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام ، و (خَيْرٌ) أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عزوجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض ، وقيل : (خَيْرٌ) ليست للتفضيل مثلها في قولك : الصلاة خير تعني خيرا من الخيور ، والمختار الأول ، واستظهره أبو حيان ، وقال : كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك ، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر ، واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات ، وقيل : الخيرية فيما يتعلق بها ، وفي الكلام حذف في موضعين ، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون ، وقيل : (ما) مصدرية والحذف في موضع واحد ، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك ، وأيا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين ، وقيل : لأولئك المهلكين وليس بشيء ، وقرأ الأكثرون ـ تشركون ـ بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به ، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا) إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عزوجل بالذات ، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] ، تعسف ظاهر من غير داع إليه ، وفي بعض الآثار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ، و (أم) في قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) منقطعة لا متصلة كالسابقة ، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد ، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية ، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به ، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا ـ أن تشركون ـ المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا ، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية ، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأول لتشديد التبكيت والإلزام ، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم (مِنَ السَّماءِ ماءً) أي نوعا منه وهو المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا ، وقيل : أي أنبتنا عنده (حَدائِقَ) جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا ، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد ، وقال الزمخشري : هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة ، وهو مروي عن الضحاك ، وقال الراغب : هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها ، ولعل الأظهر ما في

٢١٥

البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر (ما كانَ لَكُمْ) أي ما صح وما أمكن لكم (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون ، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره.

وقال ابن عطية : يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى ، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له : ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه ، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق ، وكذلك يقدر في أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] انتهى ، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.

وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام ، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر ، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عزوجل ؛ ورشح ذلك بقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ) إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا أو استئنافا ، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة ، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى: (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥ ، النساء : ٥٧ ، آل عمران : ١٥] وكذا الحال في ضمير شجرها.

وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة ، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عزوجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عزوجل ، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية ، وقيل : المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق ، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل : أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة ، وقيل : المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين ، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [المؤمنون : ٩١] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.

وقرأ هشام عن ابن عامر «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين ، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم و (يَعْدِلُونَ) من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن

٢١٦

الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك ، وقيل : من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم ، وروي ذلك عن ابن زيد ، والأول أنسب بما قبله ، وقيل : الكلام عليه خال عن الفائدة.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم ـ فقرارا ـ بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم ، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة ، وجملة قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ) إلخ على ما قيل : بدل من قوله سبحانه : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد ، وقال بعض الأجلة : الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات ، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف ، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه (وَجَعَلَ خِلالَها) أي أوساطها جمع خلل ، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى : (أَنْهاراً) وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني ـ لجعل ـ و (أَنْهاراً) هو المفعول الأول ، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها (وَجَعَلَ لَها) أي لصلاح أمرها (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها ؛ وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك ، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان ، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا ، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها ، وذكر (لَها) دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل.

وإرجاع ضمير (لَها) للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي العذب والملح ـ عن الضحاك ـ أو بحري فارس والروم ـ عن الحسن ـ أو بحري العراق والشام ـ عن السدي ـ أو بحري السماء والأرض ـ عن مجاهد ـ (حاجِزاً) فاصلا يمنع من الممازجة ، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عزوجل ، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة ، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود ، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له ، وقيل : المراد بذلك المذنب إذا استغفر ، واللام فيه على ما قيل : للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.

وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١] ، ومع هذا كره النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص : اللهم اغفر لي إن شئت ؛ وقال عليه الصلاة والسلام : «إنه سبحانه لا مكره له» ، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا ، وقال صاحب الفرائد : ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في

٢١٧

الآخرة ، وذلك أن الدعاء طلب شيء. فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده ا ه.

وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة ، ولا يخفى أنه إذا فسرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سواء كان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره ، وقال العلامة الطيبي : التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ) والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجئون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام ، ويدل على التنبيه قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قال صاحب المفتاح : كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم ، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك ، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] الآية ا ه.

وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد ، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية فافهم (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوءه ، وقيل : الكشف أعم من الدفع والرفع ، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص ، وقيل : المعنى ويكشف سوءه أي المضطر ، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى.

(وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم ، وقيل : المراد بالخلافة الملك والتسلط ، وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الذي هذه شئونه ونعمه تعالى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا تتذكرون ـ فقليلا ـ نصب على المصدرية ، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر ، و ـ ما ـ مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم ، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى ، ومفعول (تَذَكَّرُونَ) محذوف للفاصلة ، فقيل : التقدير تذكرون نعمه ، وقيل : تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام ، وقيل : تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور ، ولعل الأولى نعمه المذكورة ، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر ، وقرأ الحسن والأعمش وأبو عمرو ـ يذكرون ـ بياء الغيبة ، وقرأ أبو حيوة ـ «تتذكرون» ـ بتاءين (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات ، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما ، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة.

(وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر ، وقوله تعالى : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقرير وتحقيق له ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال ، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى ، أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم ، وقرئ «عما تشركون» بتاء الخطاب.

٢١٨

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي يوجده مبتدئا له (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يكرر إيجاده ويرجعه كما كان ، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده ، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت ، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع ، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين ، وتفصيله في محله.

واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار ؛ وقيل : إن منهم من اعترف بها ، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك ، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها ، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لا يخفى (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين (أَإِلهٌ) آخر موجود (مَعَ اللهِ) حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة ، وقوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عزوجل إلها ، وقيل : أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عزوجل ، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له ، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك ، وقيل : إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل : نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك ، ومع هذا أنتم عاجزون عن الإتيان به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في تلك الدعوى ، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان.

هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى ، فأجمل أولا بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى : (آللهُ) ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السماوات والأرض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير ، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا) كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل.

ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق ، والأول أظهر ، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه ، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الإنبات ، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور ، وأسوأ منه وأسوأ ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار ، وعم بكشف السوء والمضار ، هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا ، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعا وأهم ، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات ، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر ، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم.

ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة ، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها ، وعقبه بإجمال

٢١٩

يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض ، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين ، ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس (١) وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي ، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي ، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب ا ه.

وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده ، وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف ، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه ، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث ، وفي البحر قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة ـ التي وعدوها ـ الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ) الآية ، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أتم مناسبة ، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف ، والغيب مفعوله ، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من (مَنْ) والاستثناء على ما قيل : منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حدّ ما في قول الراجز :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

بناء على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السماوات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل : إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم ، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله :

تحية بينهم ضرب وجيع

وقيل : هو منقطع على حد الاستثناء في قوله :

عشية ما تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، وقد ذكرهما سيبويه ، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما : ما أتاني أحد إلا عمرو ، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم ، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة ، ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به ، فذكر تأكيدا ، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السماوات والأرض ، والبعض الآخر من ليس فيهما ، ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج ، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عزوجل ، وليس في السماوات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة ، وقال : إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي. والحجازي كما في قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣] ، فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف ، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب

__________________

(١) قوله : فيما ليس ، وسجل إلخ هكذا في نسخة المؤلف ا ه.

٢٢٠