روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

ننزل بأنزلنا ، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه فتأمل.

وقرأ طلحة «فتظل» بفك الإدغام ، والجزم وضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك ، ورجح صاحب الكشف القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفا ، هذا والظاهر أنه لم تحقق إنزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالإيمان من دون إلجاء ، نعم إذا قيل : المراد آية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك ، ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا ، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت ، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه ، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن الحرص على إسلامهم. ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم ، وجوز أن تكون تبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى ، والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر ، وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به.

والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عزوجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول (يَأْتِيهِمْ) بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا.

وقال بعض الفضلاء : أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة ، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحادث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لاقتضائه تقدم الاستهزاء ، وقيل : إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاستهزاء ، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب ، وقيل : من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى ، وعبر عن ذلك بالأنباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء. وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزءون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية ، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله

٦١

تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الإيمان به عزوجل ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الإيمان به تعالى ، وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام : أي أفعلوا ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه انتهى.

وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ) إلخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لا يظهر كونه زاجرا عن التكذيب بكون القرآن منزلا من الله عزوجل وداعيا إلى الإقبال إليه ، وقال ابن كمال : التقدير ألم يتأملوا في عجائب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى.

والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم ، وقيل : هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدإ وكفرهم به عزوجل والعطف على مقدر أيضا ، والتقدير أكذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والأول أولى وأظهر ، وأيا ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير إليه ، وجوز أن يراد من الأرض عجائبها مجازا ؛ وقوله تعالى : (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان.

وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا هو كل صنف على أن من بيانية ، وأيا ما كان فلا تكرار بينهما ، وقد يقال : المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتا لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى : (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها) إلخ يدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ما تقدم واحتياجه إلى ما احتاج إليه من الحذف أو التجوز ، والزوج الصنف كما أشرنا إليه. وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب ، والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده ، ومنه قوله :

حتى يشق الصفوف من كرمه

فإنه أراد من كونه مرضيا في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح ، ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضا ، ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وأيا ما كان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت ، وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الأرض إنبات له كما يشير إليه قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وعن الشعبي التصريح بدخول الإنسان فيه ، فقد روي عنه أنه قال الناس : من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الإنبات أو المنبت (لَآيَةً) عظيمة دالة على ما يجب عليهم الإيمان به من شئونه عزوجل ، وما ألطف ما قيل في صف النرجس :

تأمل في رياض الورد وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

٦٢

عيون من لجين شاخصات

على أهدابها ذهب

سبيك على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : أي وما كان في علم الله تعالى ذلك. واعترض بناء على أنه يفهم من السياق العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس. ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقوعه تابع له ، ونقل عن سيبويه إن (كانَ) صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين فالمراد الإخبار عن حالهم في الواقع لا في علم الله تعالى الأزلي وارتضاه شيخ الإسلام ، وقال : هو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاقد موجبات الإيمان من جهته عزوجل وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر ويحتاج حينئذ إلى تحقيق عدم العذر بما يخفى على العلماء المتقنين ، والمعنى على الزيادة وما أكثرهم مؤمنين مع عظم الآية الموجبة للإيمان لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة. ويجوز على قياس ما مر عن بعض الأجلة في قوله تعالى : (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أن يقال : إن (كانَ) للاستمرار واعتبر بعد النفي فالمراد استمرار نفي إيمان أكثرهم مع عظم الآية الموجبة لإيمانهم ، وفيه من تقبيح حالهم ما فيه.

وهذا المعنى وإن تأتي على تقدير إسقاط (كانَ) بأن يعتبر الاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية بعد النفي أيضا إلا أنه فرق بين الاستمرارين بعد اعتبار كان قوة وضعفا فتدبر ، ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من لم يكن كذلك (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء الكفرة (الرَّحِيمُ) أي البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن أو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لك بأن يقدر من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام والعدة الخفية له صلّى الله تعالى عليه وسلّم ما لا يخفى ، وتقديم العزيز لأن ما قبله أظهر في بيان القدرة أو لأنه أدل على دفع المضار الذي هو أهم من جلب المصالح.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) كلام مستأنف مقرر لسوء حالهم ومسل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا لكن بنوع آخر من أنواع التسلية على ما قيل : و (إِذْ) منصوب على المفعولية بمقدر خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة ، والتقدير عند بعض واذكر في نفسك وقت ندائه تعالى أخاك موسى عليه‌السلام وما جرى له مع قومه من التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات لتعلم أن تكذيب الأمم لأنبيائهم ليس بأول قارورة كسرت ولا بأول صحيفة نشرت فيهون عليك الحال وتستريح نفسك مما أنت فيه من البلبال.

وعند شيخ الإسلام واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه‌السلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه عليه‌السلام زاجرا لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بهم حتى يتضح لديك أنهم في غاية العناد والإصرار لا يردعهم أخذ أضرابهم من المكذبين الأشرار ولا يؤثر فيهم الوعظ والإنذار ، وهذا التقدير يناسب صدر القصة الآتية أعني قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩] والأول يناسب القصص المصدرة بكذبت على ما قيل.

٦٣

والأظهر عندي تقدير واذكر لقومك لوضوح اقتضاء (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) له. ولا نسلم اقتضاء تلك القصص المصدرة بكذبت تقدير اذكر في نفسك وأمر المناسبة مشترك وإن سلّم اختصاصها به فهي لا تقاوم الاقتضاء المذكور. نعم الأظهر أن يكون وجه التسلي بما ذكر كونه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل ولا قومه بدعا من الأقوام في التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات وقد تضمن الأمر بذكر ذلك لهم الأمر بالتسلي به على أتم وجه فتدبر. وأيا ما كان فوجه توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه قد مر مرارا. وقيل : إن ذلك المقدر معطوف على مقدر آخر أي خذ الآيات أو ترقب إتيان الأنباء واذكر وهو تكلف لا حاجة إليه. وقيل : (إِذْ) ظرف لقال بعد وليس بذاك ، ومعنى نادى دعا. وقيل : أمر (أَنِ ائْتِ) أي بأن ائت على أن إن مصدرية حذف عنها حرف الجر أو أي ائت على أنها مفسرة.

(الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بالكفر والمعاصي. واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة [طه : ١٢ ـ ١٣] من قوله تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) إلى قوله سبحانه: (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) وسنة القرآن الكريم إيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة لاقتضاء المقام ما يكون فيه من العبارات كما حقق في موضعه.

(قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان للقوم الظالمين جيء به للإيذان بأنهم علم في الظلم كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون ، وقال أبو البقاء : بدل منه ، ورجح أبو حيان الأول بأنه أقضى لحق البلاغة لإيذانه بما سمعت ، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون أولى بما ذكر وقد خص في بعض المواضع للدلالة على ذلك ، وجوز أن يقال قوم فرعون شامل له شمول بني آدم آدم عليه‌السلام (أَلا يَتَّقُونَ) حال بتقدير القول أي ائتهم قائلا لهم ألا يتقون.

وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة بتاء الخطاب ، ويجوز في مثل ذلك الخطاب والغيبة فيقال قل لزيد تعطي عمرا كذا ويعطي عمرا كذا وقرئ بكسر النون مع الخطاب والغيبة والأصل يتقونني فحذفت إحدى النونين لاجتماع المثلين وحذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقول موسى عليه‌السلام ذلك بطريق النيابة عنه عزوجل نظير ما في قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦] فكأنه قيل : ائتهم قائلا قولي لهم ألا تتقونني ، وقال الزمخشري هو كلام مستأنف اتبعه عزوجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه‌السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله عزوجل ، وقراءة الخطاب على طريقة الالتفات إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم ، وإجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه في مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس فلا يضر كونهم غيبا حقيقة في وقت المناجاة ، وفيه مزيد حث على التقوى لمن تدبر وتأمل انتهى ، والاستئناف عليه قيل : بياني بتقدير لم هذا الأمر؟ ، وقيل : هو نحوي إذ لا حاجة إلى هذا السؤال بعد ذكرهم بعنوان الظلم ودفع بالعناية ، ولعل ما ذكرناه أسرع تبادرا إلى الفهم.

وقال أيضا : يحتمل أن يكون (لا يَتَّقُونَ) حالا من الضمير في (الظَّالِمِينَ) أي يظلمون غير متقين الله تعالى وعقابه عزوجل فأدخلت همزة الإنكار على الحال دلالة على إنكار عدم التقوى والتوبيخ عليه ليفيد إنكار الظلم من طريق الأولى فإن فائدة الإتيان بهذه الحال الإشعار بأن عدم التقوى هو الذي جرأهم على الظالم.

٦٤

وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ فاحش لأن فيه مع الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي لزوم أعمال ما قبل : الهمزة فيما بعدها. وأجيب بمنع كون الفاصل أجنبيا وأنه يتوسع في الهمزة وهو كما ترى ، وجوز أيضا في ألا يتقون بالياء التحتية وكسر النون أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون نحو قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا) [النمل : ٢٥] فتكون (أَلا) كلمة واحدة للعرض ويا ندائية سقطت ألفها لالتقاء الساكنين وحذف المنادى وما بعده فعل أمر ويكون إسقاط الألفين مخالفا للقياس ، ولا يخفى أنه تخريج بعيد وأن الظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى في جميع القراءات.

(قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال موسى عليه‌السلام؟ فقيل : قال متضرعا إلى الله عزوجل.

(رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) من أول الأمر (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) معطوفان على خبر إن فيفيد أن فيه عليه‌السلام ثلاث علل. خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان والظاهر ثبوت الأمرين الأخيرين في أنفسهما غير متفرعين على التكذيب ليدخلا تحت الخوف لكن قرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصب الفعلين عطفا على (يُكَذِّبُونِ) فيفيد دخولهما تحت الخوف ولأن الأصل توافق القراءتين قيل إنهما متفرعان على ذلك كأنه قيل : رب إني أخاف تكذيبهم إياي ويضيق صدري انفعالا منه ولا ينطلق لساني من سجن اللكنة وقيد العي بانقباض الروح الحيواني الذي تتحرك به العضلات الحاصل عند ضيق الصدر واغتمام القلب ، والمراد حدوث تلجلج اللسان له عليه‌السلام بسبب ذلك كما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم فإن ألسنتهم تتلجلج حتى لا تكاد تبين عن مقصود ، هذا إن قلنا : إن هذا الكلام كان بعد دعائه عليه‌السلام بحل العقدة واستجابة الله تعالى له بإزالتها بالكلية أو المراد ازدياد ما كان فيه عليه‌السلام إن قلنا : إنه كان قبل الدعاء أو بعده لكن لم تزل العقدة بالكلية وإنما انحل منها ما كان يمنع من أن يفقه قوله عليه‌السلام فصار يفقه قوله مع بقاء يسير لكنة ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى حديث التفرع بل هما داخلان تحت الخوف بالعطف على (يُكَذِّبُونِ) كما في قراءة النصب وذلك بناء على ما جوزه البقاعي من كون (أَخافُ) بمعنى اعلم أو أظن فتكون أن مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد ما يفيد علما أو ظنا ، ويلتزم على هذا كون (أَخافُ) في قراءة النصب على ظاهره لئلا تأبى ذلك ويدعي اتحاد المآل ، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب «يضيق» ورفع (يَنْطَلِقُ) ، والكلام في ذلك يعلم مما ذكر ، وأيا ما كان فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد منه الغم ، ثم هذا الكلام منه عليه‌السلام ليس تشبثا بأذيال العلل والاستعفاء عن امتثال أمره عزوجل وتلقيه بالسمع والطاعة بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه فإن ما ذكره ربما يوجب اختلال الدعوة وانتباذ الحجة وقد تضمن هذا الاستدعاء قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) كأنه قال أرسل جبريل عليه‌السلام إلى هارون واجعله نبيا وآزرني به واشدد به عضدي لأن في الإرسال إليه عليه‌السلام حصول هذه الأغراض كلها لكن بسط في سورة القصص واكتفى هاهنا بالأصل عما في ضمنه.

ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع (فَأَرْسِلْ) معترضا بين الأوائل والرابعة أعني (وَلَهُمْ) إلخ فأذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر وليس أمره بالإتيان مستلزما لما استدعاه عليه‌السلام ، وتقدير مفعول (أرسل) ما أشرنا إليه قد ذهب إليه غير واحد ، وبعضهم قدر ملكا إذ لا جزم في أنه عليه‌السلام كان يعلم إذ ذاك أن جبريل عليه‌السلام رسول الله عزوجل إلى من يستنبئه سبحانه من البشر ، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى إلى هارون وكان هارون بمصر حين بعث الله تعالى موسى نبيا بالشام ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : أقبل موسىعليه‌السلام إلى

٦٥

أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون الطفيشل (١) فنزلت في جانب الدار فجاء هارون عليه‌السلام فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه فلما قعدا تحدثا فسأله هارون من أنت؟ قال : أنا موسى فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى : يا هارون انطلق معي إلى فرعون فإن الله تعالى قد أرسلنا إليه قال هارون : سمعا وطاعة فقامت أمهم فصاحت وقالت : أنشد كما بالله تعالى أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلا الخبر والله تعالى أعلم بصحته (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو سمى باسمه مجازا بعلاقة السببية ، والمراد به قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكزها وقصته مبسوطة في غير موضع ، وتسميته ذنبا بحسب زعمهم بما ينبئ عنه قوله تعالى لهم : (فَأَخافُ) إن آتيتهم وحدي (أَنْ يَقْتُلُونِ) بسبب ذلك ، ومراده عليه‌السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولي العزم من الرسل عليهم‌السلام فإنهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل عليه (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لا ينافي مقامهم.

وفي الكشاف أنه عليه‌السلام فرق أن يقتل قبل أداء الرسالة ، وظاهره أنه وإن كان نبيا غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة وإليه ذهب بعضهم لاحتمال أنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين مع أن له تعالى نسخ ذلك قبله.

وقال الطيبي : الأقرب أن الأنبياء عليهم‌السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه سبحانه يمكنهم وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت وفيه منع ظاهر ، وفي الكشف أنه على القولين يصح قول الزمخشري فرق إلخ لأن ذلك كان قبل الاستنباء فإن النداء كان مقدمته ولا أظنك تقول به ، وقوله تعالى :

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا) إجابة له عليه‌السلام إلى الطلبتين حيث وعده عزوجل دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف وضم إليه أخاه بقوله : (اذهبا) فكأنه قال له عزوجل : ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا فاذهب أنت وأخوك هارون الذي طلبته ، وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى عليه‌السلام وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هارون ففي الخطاب المذكور تغليب والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه (كَلَّا) كما أشرنا إليه ، وقيل : الفاء فصيحة ، والمراد بالآيات ما بعثهما الله تعالى به من المعجزات وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه ، وقوله عزوجل : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] والخطاب لموسى وهارون ومن يتبعهما من بني إسرائيل فيتضمن الكلام البشارة بالإشارة إلى علو أمرهما واتباع القوم لهما ، وذهب سيبويه إلى أنه لهما عليهما‌السلام ولشرفهما وعظمتهما عند الله تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع ، واعترض بأنه يأباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية ، وقيل : هو لهما عليهما‌السلام ولفرعون واعتبر لكون الموعود بمحضر منه وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضا ، واعترض بأن المعية العامة ـ أعني المعية العلمية ـ لا تختص بأحد لقوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) [المجادلة : ٧] والمعية الخاصة وهي معية الرأفة والنصرة لا تليق بالكافر ولو بطريق التغليب ، وأجيب بأن خصوص المعية لا يلزم أن يكون بما ذكر بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل ، وأيا ما كان فالظرف في موضع الخبر لأن و (مُسْتَمِعُونَ) خبر ثان أو الخبر (مُسْتَمِعُونَ)

__________________

(١) كسميدع نوع من المرق القاموس.

٦٦

والظرف متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره وتقديمه للاهتمام أو الفاصلة أو الاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه عزوجل وهو مجاز عن السمع اختير للمبالغة لأن فيه تسلما للإدراك وهو مما ينزه الله تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة فإن أريد به مطلق الإدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه ، وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد ، وقال بعضهم : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) جملة استعارة تمثيلية مثّل سبحانه حاله عزوجل بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهما ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة وحينئذ لا تجوز في شيء من مفرداته ولا يكون (مُسْتَمِعُونَ) مطلقا عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين إلا أن يقال : إنه في المستعار منه كذلك لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لا يوصل إليه لكنه كما ترى.

وجوز أن يكون (إِنَّا مَعَكُمْ) فقط تمثيلا لحاله عزوجل في نصره وإمداده بحال من ذكر ويكون الاستماع مجازا عن السمع وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع كالقرينة وإن كان مجازا والقرينة في الحقيقة عقلية وهي استحالة حضوره تعالى شأنه في مكان ، ولا بد على هذا من أن يقال : إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في النظم الكريم بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة وفيه بعد. ثم إن ما ذكروه وإن كان مبنيا على جعل الخطاب لموسى وهارون وفرعون يمكن إجراؤه على جعله لهما عليهما‌السلام ولم يتبعهما أو لهما فقط أيضا بأدنى عناية فافهم ولا تغفل.

وزعم بعضهم إن المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل ، والمراد أن ملائكتنا معكم مستمعون وهو مما لا ينبغي أن يستمع ، ولا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة وإلا فبمجرد معية الملائكة عليهم‌السلام واستماعهم لا يطيب قلب موسى عليه‌السلام.

والفاء في قوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم ، وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب.

وأفرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه ، ولا يخفى الأوجه منها ، وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسر ولا أرسلتهم برسول

وأظهر منه قول العباس بن مرداس :

ألا من مبلغ عني خفافا

رسولا بيت أهلك منتهاها (١)

أو لاتحادهما للإخوة أو لوحدة المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى : (إِنَّا) بمعنى إن كان كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك ، وفائدته الإشارة إلى أن كلا منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفردا ، وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين نقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر ، و (أَنْ) في قوله تعالى : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عزوجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك : أرسلت الحجر من

__________________

(١) حيث أنث الضمير باعتبار الرسالة ا ه منه.

٦٧

يدي وأرسل الصقر ، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام ، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه‌السلام ستمائة وثلاثين ألفا على ما ذكره البغوي.

(قالَ) أي فرعون لموسى عليه‌السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به ، ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فأدّيا إليه الرسالة فعرف موسى عليه‌السلام فقال عند ذلك (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلا فقرع الباب ففزع فرعون وقال : من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى : أنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال : إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى ، وأراد اللعين من قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ) إلخ الامتنان ، و (فِينا) على تقدير المضاف أي منازلنا ، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة ، وإن كان على ما قال الراغب : يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنيّ فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم ، وقال بعضهم : كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة ، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه‌السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عزوجل والله تعالى أعلم.

وقرأ أبو عمرو في رواية «من عمرك» بإسكان الميم ، والجار والمجرور في موضع الحال من (سِنِينَ) كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي. وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول ، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه‌السلام. وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز ، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي ، وهذا الحكم منه بناء على ما عرفه من ظاهر حاله عليه‌السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم‌السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ، وقيل : كان ذلك افتراء منه عليه‌السلام ، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولا لسجنه أو قتله ، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التاءين في الفعلين السابقين.

وجوز أن يكون ذلك حكما مبتدأ عليه عليه‌السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه ، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها ، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه‌السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولا ما وبخه به قدحا في نبوته أعني قوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) إلخ اعتناء بذلك واهتماما به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا : (قالَ فَعَلْتُها) أي تلك الفعلة (إِذاً) أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي الله تعالى ثراه من أن (إِذاً) ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور ، وأقر عليه‌السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له ، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحا في النبوة وهو

٦٨

جملة (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال : ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مروية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأراد عليه‌السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه‌السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى ، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه وقيل : المعنى فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وهذا مما يحسن على بعض الأوجه في تقرير الجواب المذكور ، قيل : إن الضلال هاهنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف : ٩٥] وعني عليه‌السلام أنه قتل القبطي غيرة لله تعالى حيث كان عليه‌السلام من المحبين له عزوجل وهو كما ترى ، ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع ، وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] ، وقال أبو عبيدة : من الناسين ، وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢] وعليه قيل المراد فعلتها ناسيا حرمتها ، وقيل : ناسيا أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة ؛ والذي أميل إليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام.

وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ «فعلتها إذانا من الضالين» (فَفَرَرْتُ) أي خرجت هاربا (مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) أي حين توقعت مكروها منكم وذلك حين قيل له : «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب ، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي نبوة أو علما وفهما للأشياء على ما هي عليه والأول مروي عن السدي ، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علما هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني ، وقرأ عيسى «حكما» بضم الكاف (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي رب حكما ورسالة أو وجعلني رسولا إعظاما لأمر الرسالة وتنبيها لفرعون على أن رسالته عليه‌السلام ليس أمرا مبتدعا بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه ، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك ، ورد ثانيا امتنانه الذي تضمنه قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) إلخ فقال : (وَتِلْكَ) أي التربية المفهومة من قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ) إلخ (نِعْمَةٌ تَمُنُّها) أي تنعم بها (عَلَيَ) فهو من باب الحذف والإيصال ، وتمن من المنة بمعنى الأنعام والمضارع لاستحضار الصورة ، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها عليّ فليس هناك حذف وإيصال ، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا يقال : عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا. قال الشاعر :

علام يعبدني قومي وقد كثرت

فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان؟

وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من (تِلْكَ) أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في (تَمُنُّها) أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل أن وما بعدها بعد حذف الجار ، والقول الآخر إن محله النصب ، وحاصل الرد إن ما ذكرت نعمة ظاهرا وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب إذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولو لا ذلك لم أحصل بين

٦٩

يديك ولم أكن في مهد تربيتك ، وقيل : (تِلْكَ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها و (أَنْ عَبَّدْتَ) عطف بيان لها ، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ ، وحاصل الرد إنكار ما أمتن به أيضا. ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها عليّ» ، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو ، والأصل وأتاك نعمة إلخ ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع. وقال أبو حيان : الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه‌السلام بنعمة فرعون كأنه يقول : وتربيتك إياي نعمة عليّ من حيث إنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا لكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري وليس بذاك.

وأيا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته ، وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم ، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين. هذا وذهب الزمخشري إلى أن (إِذاً) في قوله تعالى : (فَعَلْتُها إِذاً) جواب وجزاء وبين وجه كون الكلام جزاء بقوله : قول «وفعلت فعلتك» فيه معنى إنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه‌السلام : نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.

واعترض بأن هذا لا يلائم قوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلا أو ناسيا. وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريا كأنه قال : إن كان ذلك كفرانا بنعمتك فقد فعلته جزاء ، ولكن الوصف أي كونه كفرانا غير مسلم. وأمده بقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها) وفيه القول بالموجب أيضا. وقوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام ، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافرا ، فأجاب عليه‌السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافرا بك فإنه عين الهدى بل ضالا في الإقدام على الفعل وما كنت كافرا لنعمة منعم أصلا ولكن كنت فاعلا لذلك خطأ ، ومنه ظهر أن قوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه.

ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله : فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون (إِذاً) هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب ، وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك ، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف ، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما ، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط ، ومن العجيب قول ابن عطية : إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله : وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل ، والله تعالى أعلم.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ

٧٠

الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ(٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ(٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ(٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(٧٤)

(قالَ فِرْعَوْنُ) مستفهما عن المرسل سبحانه (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي. إنه عزوجل لما أمرهما بقوله سبحانه : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) فلا بد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) إلى آخره وثانيا بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال : أأنت الرسول وما رب العالمين؟ وقال الزمخشري : إن اللعين لما قال له بوابه : إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله : وما رب العالمين؟ واعترض بأنه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار إليه هو في سابق كلامه. وانتصر له صاحب الكشف فقال : أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا إنّا رسولا ربك أن أرسل وأخرى (فَقُولا

٧١

إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب من لسانه عليه‌السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه‌السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وإن مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لا يرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه ؛ وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء ، ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لا يدل على اختلال النظم الذي أشار إليه انتهى.

وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) وسأل ثانيا بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) وقد قص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء ، فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء ، وقال آخر : يحتمل أنهما إنما قالا : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود ، وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل : إن فرعون سأل في المرة الأولى بقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما) طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال : أبشر هو أم ملك أم جني؟ والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك إلى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد ، و (ما) يسأل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أو لا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين؟ حتى يوجه بأنه لإنكار اللعين له عزوجل عبر بما ، ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا.

(قالَ) عليه‌السلام عادلا عن جوابه إلى ذكر صفاته عزوجل على نهج الأسلوب الحكيم إشارة إلى تعذر بيان الحقيقة (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر ، ورفع (رَبُ) على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما من العناصر والعنصريات (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله فإن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لا بد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ، وجواب أن محذوف كما أشرنا إليه.

(قالَ) فرعون عند سماع جوابه عليه‌السلام خوفا من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة (أَلا تَسْتَمِعُونَ) جوابه يريد التعجيب منه والإزراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث لم يبين فيه الحقيقة المسئول عنها وكونه في زعمه نظرا لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بإمكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله ، وكان موسى عليه‌السلام لما استشعر ذلك من اللعين (قالَ) عدولا إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق ؛ ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه (قالَ) مبالغا في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجيء به.

٧٢

(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) حيث يسأل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه ، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء ، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف ، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعا بأنفسهم عن أن يكونوا أهلا لأن يرسل إليهم مجنون.

وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «أرسل» على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم ، وكأنه عليه‌السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه‌السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة (قالَ) عليه‌السلام تفسيرا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمي به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضا بالإصرار على الجواب بالصفات (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السماوات وما فيهما وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى ، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبئ عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السماوات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليم حكيم ، وارتكب عليه‌السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه‌السلام من الجنون.

وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش «رب المشارق والمغارب» على الجمع فيهما ، ولما سمع اللعين منه عليه‌السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجارى في حلبة المحاورة (قالَ) ضاربا صفحا عن المقاولة إلى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه‌السلام بترك دعواها وعدم التعرض له ، وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه‌السلام متخذ له إلها في ذلك الوقت وإن اتخاذه غيره إلها بعد مشكوك ، وبالغ في الأبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال : لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني ، وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل : عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا.

هذا وقال بعضهم : السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات ، وبهذا ينحل إشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق ، ثم إن العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو الله عزوجل أولا ، فقال بعضهم : كان يعلم ذلك بدليل (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٢] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف بأصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] إنما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسىعليهما‌السلام : لما جاءه في مدين (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥].

٧٣

وقال بعضهم : إنه كان جاهلا بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للأفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعه استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] و (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، وجوز أن يكون من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عزوجل فيه ولذلك سمى نفسه إلها ، وقيل : كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عزوجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] وهو وكذا ما قبله بعيد ، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عزوجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فأظهر لقومه خلاف علمه فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله ، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات ، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر : ما هذا؟ فقال له : لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدا صدق ذلك الهذيان : سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه ، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفا مما يتوهمونه من البلية ، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدا كزعم الحلول ونحوه ، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فرعون في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] وسؤال اللعين لموسى عليه‌السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله : (ما رَبُّ الْعالَمِينَ) كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه ، وجواب موسى عليه‌السلام له لم يكن إلا لإبطال ما يدعيه ظاهرا وإرشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه ، والتعجيب المفهوم من قوله : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) لزعمه ظاهرا أنه عليه‌السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه ، ولما داخله من خوف إذعان قومه لما قاله موسى عليه‌السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه‌السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ولعل أجوبته عليه‌السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير ، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم : إنه عليه اللعنة كان دهريا إلى آخر ما سمعته آنفا ، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه‌السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم ، ولما رأى عليه‌السلام فظاظة فرعون (قالَ) على جهة التلطف به والطمع في إيمانه (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده ، والتعبير عنها بشيء للتهويل ، والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة ، ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال ، و (لَوْ) للبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي بشيء مبين وحال مجيئي به ، وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون ، وجعل بعضهم

٧٤

الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائيا بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا ، وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للإنكار على معنى لا تقدر على فعل ذلك مع أني نبي بالمعجزة ، والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه‌السلام من المسجونين فكأنه قال : أتجعلني من المسجونين إن اتخذت إلها غيرك ولو جئتك بشيء مبين؟.

وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال : يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفا عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه ، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير ، والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة.

و (لَوْ) بمعنى أن عزيز ، ويؤيد هذا التأويل ما في [الأعراف : ١٠٥] (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) انتهى.

وهو كما ترى. وفيه جعل (مُبِينٍ) من أبان اللازم بمعنى بان ، وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما أشرنا إليه أنسب للمقام ، ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه‌السلام (قالَ) حيث طمع أن يجد موضع معارضة (فَأْتِ بِهِ) أي بشيء مبين (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنت من الصادقين فأت به ، وقدره الزمخشري أتيت به ، والمشهور تقديره من جنس الدليل.

وقال الحوفي : يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا ، وقد بهت الزمخشري عامله الله تعالى بعدله أهل السنة بما هم منه براء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجع إليه إن أردته (فَأَلْقى) موسى بعد أن قال له فرعون ذلك (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة ، والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جريا متسعا ، وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل ، والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعبانا وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعبانا بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعبانا ، وقيل : إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك ، وقد جاء في الأخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز الله تعالى شيء ، وقد مر بيان كيفية الحال.

(وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضا نورانيا. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : هل لك غيرها؟ فأخرج عليه‌السلام يده فقال : ما هذه قال : يدي فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق (قالَ لِلْمَلَإِ) أشراف قومه (حَوْلَهُ) منصوب لفظا على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالا أي مستقرين حوله

وجوز أن يكون في موضع الصفة للملإ على حد :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

والأول أسهل وأنسب.

ومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول و (حَوْلَهُ) متعلق بمحذوف وقع

٧٥

صلة له كأنه قيل : قال للذين استقروا حوله (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فائق في علم السحر (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) قسرا (مِنْ أَرْضِكُمْ) التي نشأتم فيها وتوطنتموها (بِسِحْرِهِ) وفي هذا غاية التنفير عنه عليه‌السلام وابتغاء الغوائل له إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لا سيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي أمر تأمرون فمحل ما (ذا) النصب على المصدرية و (تَأْمُرُونَ) من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني ، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعار الخوف من استيلائه عليه‌السلام على ملكه.

وجوز أن يكون ما (ذا) في محل النصب على المفعولية وأن يكون «تأمرون» من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رأيه ولعل ما تقدم أولى.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخّر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون : لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

وقرأ أهل المدينة والكسائي وخلف «أرجه» بكسر الهاء ، وعاصم وحمزة «أرجه» بغير همز وسكون الهاء ، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم الهاء ، وقال أبو علي : لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره ، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو ، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح ، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال : أرجهي كما يقال مررت بهي ، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحوها ، (أَرْجِهْ) أعني هاء الإضمار ، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي : وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطئ.

وقال بعض الأجلة : الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقيل : المعنى احبسه ، ولعلهم قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلدا ومداهنة لفرعون وإلا فكيف يمكنه أن يحبسه مع شاهد منه من الآيات (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) شرطا يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك (يَأْتُوكَ) مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك (بِكُلِّ سَحَّارٍ) كثير العمل بالسحر (عَلِيمٍ) فائق في علمه ، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه ، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية «بكل ساحر عليم» (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ) أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي ، وقال الفاضل المحقق : إن المعهود قد يكون عاما مستغرقا كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل.

(لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان ، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام (وَقِيلَ لِلنَّاسِ) استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد رب أخا عون بن مخراق (١)

__________________

(١) دينار اسم رجل وعبد رب منصوب بالعطف على محله وهو اسم رجل أيضا وأخا عون منادى لا نعت ، ويجوز أن يكون عطف بيان لعبد رب ا ه منه.

٧٦

فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعا ولا تبطئ به (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لا موسى عليه‌السلام ، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه‌السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة ، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريد فرعون من الدين.

والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين ، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعي الإلهية السحرة ، وجوزه آخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه‌السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك ، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي لأجرا عظيما (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لا موسى عليه‌السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع في كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم.

(قالَ) فرعون لهم (نَعَمْ) لكم ذلك (وَإِنَّكُمْ) مع ذلك (إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عندي ، قيل: قال لهم : تكونون أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج عني. و (إِذاً) عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء ، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من (إِذاً) التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع. وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعنى لها. والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم الغالبين لمن المقربين. وقرئ «نعم» بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في (نَعَمْ).

(قالَ لَهُمْ مُوسى) أي بعد ما قال له السحرة : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) [طه : ٦٥] (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لم يرد عليه‌السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفرا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بإلهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال : (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ليتوصل بذلك إلى إبطاله.

وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع ، ومما اشتهر من قولهم : الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا) أي وقد قالوا عند الإلقاء (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم. أرض عزاز أي صلبة (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) لا موسى عليه‌السلام ، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. وفي ذلك إرهاب لموسى عليه‌السلام بزعمهم ، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) تعظيما له ، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية ، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عزوجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه ، ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك ، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم ، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم : والأحرى أن

٧٧

يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي تبتلع بسرعة ، وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة «تلّقّف» بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين. والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار (ما يَأْفِكُونَ) أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فما موصولة حذف عائدها للفاصلة ، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه‌السلام لتصديقه ، وعبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة ، وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الإلقاء فلا حاجة إلى التجوز.

وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو الله عزوجل بما خولهم من التوفيق ، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال : ولك أن لا تقدر فاعلا لأن (ألقي) بمعنى خروا وسقطوا. وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب ، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأنه فاعل الإلقاء ألا ترى أنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح. والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي.

وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب. وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان ، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه‌السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل. والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك.

وقول القزويني : إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبدا لا يخلو عن مجازفة ، واستدل بذلك أيضا على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه‌السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر.

وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئيا كما لا يخفى ، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه‌السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثرا ، وقالوا : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا ؛ ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانقطاع تعلق الإرادة بوجودها. وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات : إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات

٧٨

من الحبال والعصي وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) [طه : ٦٩] وهم لم يصنعوا إلا الصور ولو لا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه‌السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصا فتأمل (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل اشتمال من (ألقي) لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه ، ويحتمل أن يكون استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللإشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة. ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما.

وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه‌السلام : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) [الشعراء : ٢٤] وقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦] وقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) [الشعراء : ٢٨] فكأنهم قالوا : آمنا برب العالمين الذي وصفه موسى وهارون ، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن (قالَ) فرعون للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] إلا أن الإذن منه ممكن أو متوقع (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) [الأعراف : ١٢٣] إلخ أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل ، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا ، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق.

وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم. واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلأنتم سوف تعلمون. وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة. وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وإن تأخر لداع ، وقيل : هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : ١٥٨] وقال أبو علي : هي اللام التي في لأقومن ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قيل : فلتعلمن ، وقوله تعالى حكاية عنه : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) بيان لمفعول (تَعْلَمُونَ) المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر ، وقد مر معنى (مِنْ خِلافٍ قالُوا) أي السحرة (لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه ، والضير مصدر ضار وجاء مصدره أيضا ضورا ، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير ، وقوله تعالى : (إِنَّا إِلى رَبِّنا) أي الذي آمنا به (مُنْقَلِبُونَ) تعليل لنفي الضير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه الله تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عزوجل.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

وحاصله نفي المبالاة بالقتل معللا بأنه لا بد من الموت ، ونظير ذلك قول علي كرّم الله تعالى وجهه : لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ ، أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك ، وفي معنى ذلك قوله :

٧٩

إلى ديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل ، وقوله تعالى : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا) أي لأن كنا (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف إيذانا بأنه مما يستقل بالعلية ، وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلا للعلة والأول أظهر أي لا ضير علينا في ذلك إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين ، والطمع إما على بابه كما استظهره أبو حيان لعدم الوجوب على الله عزوجل ، وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه‌السلام (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢] وقولهم : (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من أتباع فرعون أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم ، ولعل الإخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل ، وقيل : أرادوا أول من أظهر الإيمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن آل فرعون. وآسية ، وكذا لا يرد بنو إسرائيل لأنهم ـ كما في البحر ـ كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الإيمان بالله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل.

وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ «إن كنا» بكسر همزة «إن» وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع ، وجعل صاحب اللوامح الجواب (إِنَّا نَطْمَعُ) المتقدم وقال : جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط ، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين ، وقيل : كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تلميحا وتضرعا لله تعالى ، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع (نَطْمَعُ) على ما هو الظاهر فيه ، وجوز أبو حيان أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي ، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث : «إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل» ، وقال الشاعر :

ونحن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم. واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أو لا والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران وملكوت السماوات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون ، وظواهر الآيات تكذب أمر الموت في السجود ، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة [الأعراف : ١٣٠] بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) الآيات. وقرئ «أن أسر» بكسر النون ووصل الألف من سرى. وقرأ اليماني «أن سر» أمرا من سار يسير (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلا بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) الفاء فصيحة أي فأسرى بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل (فِي الْمَدائِنِ) أي مدائن مصر (حاشِرِينَ) جامعين للعساكر ليتبعوهم (إِنَّ هؤُلاءِ) يريد بني إسرائيل والكلام على إرادة القول ، والظاهر أنه حال أي قائلا إن

٨٠