روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة.

ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لامية ابن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يكون نبيا وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما ، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي. وقارب بن الأسود وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان ، وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهانا أو غيرهم للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاما طويلا ، حاصلة أن النفس الإنسانية ذات روحانية ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علما ، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجردا أو في قوالبه فتخبر به انتهى ، ولا يخفى أن فيه ذهابا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى ، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره ، وأنا أقول ولا ينكره إلا جهول : لله عزوجل خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا يبعد بعد انقطاع خبر السماء عن الشياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الإنسانية خاصية التكلم بما يصدق كلا أو بعضا مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بأن ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع.

وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمس سنين وذلك أني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الأطفال فنهتني والدتي رحمها الله تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لأستيقظ صباحا فأذهب إلى الكتاب فقلت لها : غدا يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لا يكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنامتني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر إليها كلاما لم أسمعه فتغير حالها ومنعتني عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فأردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضا فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحدا يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلة منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت إليها مسرعا مسرورا بصدق كلامي وكنت قد أنسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك. وفي اليواقيت والجواهر للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرق بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن ربما توافق وربما تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا والله تعالى أعلم.

والظاهر على ما قيل أن قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) إلخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن

١٤١

يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة ، وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم إلخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين ، وقوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) مسوق لتنزيهه عليه الصلاة والسلام أيضا عن أن يكون وحاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر. والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين : إنهم رموه عليه الصلاة والسلام بكونه آتيا بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بأدنى تصرف كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) [الإسراء : ٣٣] ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل وكقوله سبحانه : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) [القصص : ٧٦] ويكون من (١) المديد ، وكقوله عزوجل : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] ويكون من البسيط ، وقوله تبارك وتعالى : (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود : ٦٠] ويكون من الوافر ، وقوله جل وعلا : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور ، وقد استخرجوا منهما يشبه البيت التام كقوله تعالى : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٤].

وتعقب ذلك بأنهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا يخفى على الأغبياء من العجم فضلا عن بلغاء العرب إن القرآن الذي جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة والسلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم. ولو اعتبر في كون الكلام شعرا إمكان استخراج كلام منظوم منه لكان كثير من الأطفال شعرا. فإن كثيرا من كلامهم يمكن فيه ذلك ، والظاهر أنهم إنما قصدوا رميه صلّى الله تعالى عليه وسلّم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لا حقيقة له ، ولما كان ذلك غالبا في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة والسلام بشاعر وعما جاء به بالشعر ، ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون ولا يستمرون على وتيرة واحدة في الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه ، والحصر مستفاد من بناء (يَتَّبِعُهُمُ) إلخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وقوله سبحانه : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [المزمل : ٢٠] ومن لا يرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغواية جعلت علة للاتباع فإذا انتفت انتفى وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له. والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء. وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والنسيب بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) من الأفاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة

__________________

(١) قوله من المديد كذا بخطه وهو من الخفيف كما لا يخفى اه.

١٤٢

واتصف بمحاسن الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات السنية الإنسية مستقرا على أقوم منهاج مستمرا على صراط مستقيم لا يرى له العقل السليم من هاج ناطقا بكل أمر رشيد داعيا إلى صراط الله تعالى العزيز الحميد مؤيدا بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الباهرة مستقلة بنظم رائق وأسلوب فائق أعجز كل منطيق ماهر وبكت كل مفلق ساحر ، هذا وقد قيل في تنزيهه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن أن يكون من الشعراء : إن اتباع الشعراء الغاوون واتباعه عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك. وتعقب بأنه لا ريب في أن تعليل عدم كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم منهم بكون اتباعه عليه الصلاة والسلام غير غاوين مما لا يليق بشأنه العالي ، وقيل : ضمير الجمع للغاوين ، وتعقب بأن المحدث عنهم الشعراء ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغاوين هم الرواة الذين يحفظون شعر الشعراء ويروونه عنهم مبتهجين به. وفي رواية أخرى عنه أنهم الذين يستحسنون أشعارهم وإن لم يحفظوها ، وعن مجاهد وقتادة أنهم الشياطين.

وروي عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شعراء المشركين عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي وأمية بن أبي الصلت قالوا : نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وهم الغاوون الذين يتبعونهم.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا أنه قال : تهاجى رجلان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله تعالى (وَالشُّعَراءُ) الآيات وفي القلب من صحة الخبر شيء ، والظاهر من السياق أنها نزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا.

وقرأ عيسى بن عمرو «الشعراء» بالنصب على الاشتغال. وقرأ السلمي والحسن بخلاف عنه «يتبعهم» مخففا. وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «يتّبعهم» بالتشديد وتسكين العين تخفيفا وقد قالوا : عضد بسكون الضاد فغيروا الضمة واقعة بعد الفتحة فلأن يغيروها واقعة بعد الكسرة أولى ، وروى هارون فتح العين عن بعضهم ، واستشكله أبو حيان ، وقيل : إنه للتخفيف أيضا ، واختياره على السكون لحصول الغرض به مع أن فيه مراعاة الأصل في الجملة لما بين الحركتين من المشاركة الجنسية ولا كذلك ما بين الضم والسكون وهو غريب كما لا يخفى.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله عزوجل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله سبحانه وتعالى والحث على الطاعة والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترهيب عن الركون إليها والاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية والترغيب فيما عند الله تعالى ونشر محاسن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدحه وذكر معجزاته ليتغلغل حبه في سويداء قلوب السامعين وتزداد رغباتهم في اتباعه ونشر مدائح آله وأصحابه وصلحاء أمته لنحو ذلك ولو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من غير اعتداء ولا زيادة كما يشير إليه قراءة بعضهم «وانتصروا بمثل ما ظلموا» ، وقيل : المراد بالمستثنين شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكافحون هجاة المشركين ، واستدل لذلك بما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة إن هذه الآية نزلت في رهط من الأنصار هاجوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وعن السدي نحوه ، وبما أخرج جماعة عن أبي حسن سالم البراد أنه قال : لما نزلت (وَالشُّعَراءُ) الآية جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت

١٤٣

وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا : يا رسول الله لقد أنزل الله تعالى هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء هلكنا فأنزل الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلاها عليهم.

وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر الصفات فقال : هم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة ولعله من باب الاقتصار على بعض ما يدل عليه اللفظ فقد جاء عنه في بعض الروايات ما يشعر بالعموم ، هذا واستدل بالآية على ذم الشعر والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم انتصارا كذا قيل. واعلم أن الشعر باب من الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وفي الحديث : «إن من الشعر لحكمة» وقد سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم الشعر وأجاز عليه وقال عليه الصلاة والسلام لحسان رضي الله تعالى عنه : ـ اهجهم ـ يعني المشركين فإن روح القدس سيعينك ، وفي رواية «اهجهم وجبريل معك».

وأخرج ابن سعد عن ابن بريدة أن جبريل عليه‌السلام أعان حسانا على مدحته النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبعين بيتا ، وأخرج أحمد والبخاري في التاريخ وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم إن الله تعالى أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ، وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين «قال : رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم ليلة وهم في سفر أين حسان بن ثابت فقال : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : خذ فجعل ينشده ويصغي إليه حتى فرغ من نشيده فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : لهذا أشد عليهم من وقع النبل» ، ويروى عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم بني لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه الشعر. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار ، وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين الشعر ، وكذا كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فمن شعر أبي بكر رضي الله تعالى عنه :

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث

أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى من لؤي فرقة لا يصدها

عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا

عليه وقالوا لست فينا بماكث

ولما دعوناهم إلى الحق أدبروا

وهروا هرير المجحرات اللواهث

فكم قد مثلنا فيهم بقرابة

وترك التقى شيء لهم غير كارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم

فما طيبات الحل مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم

فليس عذاب الله عنهم بلابث

ونحن أناس من ذؤابة غالب

لنا العز منها في الفروع الأثائث

فأولى برب الراقصات عشية

حراجيج تخدي في السريح الرثائث

كأدم ظباء حول مكة عكف

يردن حياض البئر ذات النبائث

لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم

ولست إذا آليت يوما بحانث

لتبتدرنهم غارة ذات مصدق

تحرم أطهار النساء الطوامث

١٤٤

تغادر قتلى يعصب الطير حولهم

ولا ترأف الكفار رأف ابن

حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة

وكل كفور يبتغي الشر

باحث فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم

فإني من أعراضكم غير شاعث

ومن شعر عمر رضي الله تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة :

توعدني كعب ثلاثا يعدها

ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بي خوف الموت إني لميت

ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب

وقوله ويروى للأعور الثني :

هون عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيها

ولا قاصر عنك مأمورها

ومنه وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه ، ويروى لورقة بن نوفل من أبيات :

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه

والخلد حاوله عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له

والإنس والجن فيما بينها ترد

حوض هنالك مورود بلا كذب

لا بد من ورده يوما كما وردوا

ومن شعر عثمان رضي الله تعالى عنه :

غنى النفس يغني النفس حتى يكفها

وإن عضها حتى يضر بها الفقر

ومن شعر علي كرّم الله تعالى وجهه وكان مجودا حتى قيل : إنه أشعر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين :

ولما رأيت الخيل تزحم بالقنا

نواصيها حمر النحور دوامي

وأعرض نقع في السماء كأنه

عجاجة دجن ملبس بقتام

ونادى ابن هند في الكلاع وحمير

وكندة في لخم وحي جذام

تيممت همدان الذين هم هم

إذا ناب دهر جنتي وسهامي

فجاوبني من خيل همدان عصبة

فوارس من همدان غير لئام

فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها

وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام

فلو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وقد جمعوا ما نسب إليه رضي الله تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصح منه إلا اليسير ، ومن شعر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما ، وقد خرج على أصحابه مختضبا :

نسود أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسود منها هو الأصل

ومن شعر الحسين رضي الله تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي الله تعالى عنه في امرأته :

لعمرك إنني لأحب دارا

تحل بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي

وليس للائمي عندي عتاب

١٤٥

ومن شعر فاطمة رضي الله تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام :

ما ذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا

ومن شعر العباس رضي الله تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم :

ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي

بوادي حنين والأسنة تشرع

وقولي إذا ما النفس جاشت لها قرى

وهام تدهدى والسواعد تقطع

وكيف رددت الخيل وهي مغيرة

بزوراء تعطي باليدين وتمنع

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة

وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا

ومن شعر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما :

إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى

وأعمل فكر الليل والليل عاكر

وباكرني في حاجة لم يجد لها

سواي ولا من نكبة الدهر ناصر

فرجت بمالي همه من مقامه

وزايله هم طروق مسامر

وكان له فضل عليّ بظنه

بي الخير أني للذي ظن شاكر

وهلم جرا إلى حيث شئت ، وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالا ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة والسلام ، ولأجلة التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وفقهاء المسلمين شعر كثير أيضا ، ومن ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه :

ومتعب العيس مرتاح إلى بلد

والموت يطلبه في ذلك البلد

وضاحك والمنايا فوق هامته

لو كان يعلم غيبا مات من كمد

من كان لم يؤت علما في بقاء غد

فما (١) يفكر في رزق لبعد غد

والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية ، وقد مدحه أيضا غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب ، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه الشعر ميزان العقول.

وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : إذا قرأتم شيئا من كتاب الله تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب ، وما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش ، وروي نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروي عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» من الشعر الذي هجيت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلا عن كتاب بستان

__________________

(١) في نسخة ما ذا يفكر ا ه منه.

١٤٦

الزاهدين ، ولا يخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتلئ فإن الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم سواء ، وما أحسن قول الماوردي : الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا جرح ، وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضا ، ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي. وإثم الحاكي على ما قال الرافعي دون إثم المنشد ، وقال الأذرعي : ليس هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فإثمه أشد بلا شك ، واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو لكافر فإن فيه تفصيلا.

وفصل بعضهم ما فيه الهجو لمسلم أيضا وذلك أن كثيرا من العلماء أطلقوا جواز هجو الكافر استدلالا بأمره صلى الله تعالى عليه وسلّم حسانا ونحوه بهجو المشركين ، وقال بعضهم : محل ذلك الكفار على العموم وكذا المعين الحربي ميتا كان أو حيا حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به ، وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي وابن العماد وغيرهما ؛ وقالوا : إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي ، وعلى التنزل فهو ذب عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيكون من القرب فضلا عن المباحات ، وألحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من جهته ، وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن. وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بما تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط.

وقال البلقيني : الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم. ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير مجترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه.

نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبه المسلم أو الذي أو بعد موته إذا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد ، وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وإنشاده ، واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم.

قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدا ، وقال أيضا : يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئا من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءا.

وفي الإحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والأصداغ وسائر أوصاف النساء نظر ، والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت. وعلى المستمع أن (١) ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع ، وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم إنشاؤه قد لا تحرم روايته فإن المغازي روي فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر ذلك

__________________

(١) قوله أن ينزله إلخ كذا بخطه ولعل المناسب أن لا ينزله بحرف النفي ا ه.

١٤٧

أحد ، وقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر ، وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية انتهى ، قال الأذرعي : ولا شك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه ، وقد ذم العلماء جريرا ، والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم اللسان ، ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حراما إذ ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الإحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوئ الأموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق إلا اللعب بالأعراض ، وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه.

وقال آخر : إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره ، والحق إن ذلك أن تضمن غرضا شرعيا فلا بأس به ، وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه ، وحمل الأكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء ، والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لا يتسع لغيره ولا يلتفت إليه. وليس في الخبر ذم إنشائه ولا إنشاده لحاجة شرعية وإلا لوقع التعارض بينه وبين الأخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وأبعد من أن تقبل التأويل كما لا يخفى.

وما روي عن الإمام الشافعي من قوله :

ولو لا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيد

محمول على نحو ما حمل الأكثرون الخبر عليه وإلا فما قاله شعر ، وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده الله تعالى برحمته مخاطبا خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات :

ولو لداعيه يرضى الشعر منقبة

لقمت ما بين منشيه ومنشده

هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام يتعلق بهذا البحث أيضا عند الكلام في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ومن اللطائف أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق :

فبتن بجانبي مصرعات

وبت أفض أغلاق الختام

فقال له قد وجب عليك الحد فقال يا أمير المؤمنين : قد درأ الله تعالى عني الحد بقوله سبحانه : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد لما في (سَيَعْلَمُ) من تهويل متعلقه وفي (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من الإطلاق والتعميم ، وقد كان السلف الصالح يتواعظون بها ، وختم بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصيته حين عهد لعمر رضي الله تعالى عنه وذلك أنه أمر عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب في مرض موته حينئذ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني قد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وأن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ، وتفسير الظلم بالكفر وإن كان شائعا في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أن الأنسب على ما قيل هنا الإطلاق لمكان قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وقال الطيبي : سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وما لقي منهم من الشدائد كما مر من أول السورة يؤيد تفسير الظلم بالكفر.

١٤٨

وروى محيي السنة الذين ظلموا أشركوا وهجوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وقرأ ابن عباس وابن أرقم عن الحسن «أي منفلت ينفلتون» بالفاء والتاء الفوقية من الانفلات بمعنى النجاة ، والمعنى إن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات (وَسَيَعْلَمُ) هنا معلقة وأي استفهام مضاف إلى (مُنْقَلَبٍ) والناصب له (يَنْقَلِبُونَ) ، والجملة سادة مسد المفعولين كذا في البحر.

وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف والعامل (يَنْقَلِبُونَ) أي ينقلبون انقلابا أي منقلب ولا يعمل فيه يعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله : وتعقب بأنه تخليط لأن أيا إذا وصف بها لم تكن استفهاما. وقد صرحوا بأن الموصوف بها قسيم الاستفهامية ، وتحقيق انقسام ـ أي ـ يطلب من كتب النحو والله تعالى أعلم.

ومما قيل في بعض الآيات من باب الإشارة (طسم) قال الجنيد : الطاء طرب التائبين في ميدان الرحمة. والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة والميم مقام المحبين في ميدان القربة ، وقيل : الطاء طهارة القدم من الحدثان والسين سناء صفاته تعالى التي تكشف في مرايا البرهان والميم مجده سبحانه الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان. وقيل : الطاء طهارة قلب نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن تعلقات الكونين والسين سيادته صلّى الله تعالى عليه وسلّم على الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام. والميم مشاهدته عليه الصلاة والسلام جمال رب العالمين ، وقيل : الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل غير ذلك (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) إلخ فيه إشارة إلى كمال شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته وإن الحرص على إيمان الكافر لا يمنع سوابق الحكم (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) إلى آخر القصة فيه إشارة إلى حسن التعاضد في المصالح الدينية والتلطف بالضال في إلزامه بالحجج القطعية وأنه لا ينبغي عدم الاحتفال بمن ربيته صغيرا ثم رأيته وقد منحه الله تعالى ما منحه من فضله كبيرا ، وقال بعضهم : إن فيه إشارة إلى ما في الأنفس وجعل موسى إشارة إلى موسى القلب وفرعون إشارة إلى فرعون النفس وقومه إشارة إلى الصفات النفسانية وبني إسرائيل إشارة إلى الصفات الروحانية والفعلة إشارة إلى قتل قبطي الشهوة والعصا إشارة إلى عصا الذكر أعني لا إله إلا الله واليد إشارة إلى يد القدرة وكونها بيضاء إشارة إلى كونها مؤيدة بالتأييد الإلهي والناظرين إشارة إلى أرباب الكشف الذين ينظرون بنور الله تعالى والسحرة إشارة إلى الأوصاف البشرية والأخلاق الردية والناس إشارة إلى الصفات الناسوتية والأجر إشارة إلى الحظوظ الحيوانية والحبال إشارة إلى حبال الحيل والعصي إشارة إلى عصي التمويهات والمخيلات والمدائن إشارة إلى أطوار النفس وهكذا.

وعلى هذا الطريق سلكوا في الإشارة في سائر القصص. فجعلوا إبراهيم إشارة إلى القلب وأباه وقومه إشارة إلى الروح وما يتولد منها والأصنام إشارة إلى ما يلائم الطباع من العلويات والسفليات وهكذا مما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وللشيخ الأكبر قدس‌سره في هذه القصص كلام عجيب من أراده فليطلبه في كتبه وهو قدس‌سره ممن ذهب إلى أن خطيئة إبراهيم عليه‌السلام التي أرادها بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) كانت إضافة المرض إلى نفسه في قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وقد ذكر قدس‌سره إنه اجتمع مع إبراهيم عليه‌السلام فسأله عن مراده بها فأجابه بما ذكر. وقال في باب أسرار الزكاة من الفتوحات إن قول الرسول (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) لا يقدح في كمال عبوديته فإن قوله : ذلك لأن يعلم أن كل عمل خالص يطلب الأجر بذاته وذلك لا يخرج العبد عن أوصاف العبودية فإن العبد في صورة الأجير وليس بأجير حقيقة إذ لا يستأجر السيد عبده بل يستأجر الأجنبي وإنما العمل نفسه يقتضي الأجرة وهو لا يأخذها العامل وهو العبد فهو قابض الأجرة من الله تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وخالفه بالاستئجار ا ه.

١٤٩

وحقق أيضا ذلك في الباب السادس عشر والثلاثمائة من الفتوحات ، وذكر في الباب السابع عشر والأربعمائة منها أن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) فيه إشارة إلى أنه ليس للشيطان قوة حمل القرآن لأنه خلق من نار وليس لها قوة حمل النور ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمن عليها وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ولنحو ذلك ليس له قوة على سمعه ، وهذا بالنسبة إلى أول مراتب ظهوره فلا يرد أنه يلزم على ما ذكر أن الشياطين لا يسمعون آيات القرآن إذا تلوناها ولا يحفظونها وليس كذلك.

نعم ذكر أنهم لا يقدرون أن يسمعوا آية الكرسي. وآخر البقرة وذلك لخاصية فيهما (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فيه إشارة إلى أن النسب إذا لم ينضم إليه الإيمان لا ينفع شيئا ، ولما كان حجاب القرابة كثيفا أمرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار عشيرته الأقربين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هم أهل النسب المعنوي الذي هو أقرب من النسب الصوري كما أشار إليه ابن الفارض قدس‌سره بقوله :

نسب أقرب في شرع الهوى

بيننا من نسب من أبوي

وأنا أحمد الله تعالى كما هو أهله على أن جعلني من الفائزين بالنسبين حيث وهب لي الإيمان وجعلني من ذرية سيد الكونين صلّى الله تعالى عليه وسلّم فها أنا من جهة أم أبي من ذرية الحسن ومن جهة أبي من ولد الحسين رضي الله تعالى عنهما :

نسب كأن عليه من شمس الضحى

نورا ومن فلق الصباح عمودا

والله عزوجل هو ولي الإحسان المتفضل بصنوف النعم على نوع الإنسان والصلاة والسلام على سيد العالمين وآله وصحبه أجمعين.

١٥٠

سورة النّمل

وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان ، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي ، ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه‌السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [النمل : ٧] إلخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الشعراء : ٢١] وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من الله تعالى وعلى تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غير ذلك ، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(١٢)

(طس) قرئ بالإمالة وعدمها ، والكلام فيه كالكلام في نظائره من الفواتح.

(تِلْكَ) إشارة إلى السورة المذكورة ، وأداة البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الفضل والشرف أو إلى الآيات التي تتلى بعد نظير الإشارة في قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] أو إلى مطلق الآيات ، ومحله الرفع

١٥١

على الابتداء خبره قوله تعالى : (آياتُ الْقُرْآنِ) والجملة مستأنفة أو خبر لقوله تعالى : (طس) وإضافة (آياتُ) إلى (الْقُرْآنِ) لتعظيم شأنها فإن المراد به المنزل المبارك المصدق لما بين يديه الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها ، ويطلق على كل المنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز وعلى بعض منه ، وجوز هنا إرادة كل من المعنيين وإذا أريد الثاني فالمراد بالبعض جميع المنزل عند نزول السورة ، وقوله تعالى : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) عطف على (الْقُرْآنِ) والمراد به القرآن وعطفه عليه مع اتحاده معه في الصدق كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما في قولهم : هذا فعل السخي والجواد الكريم ، وتنوينه للتفخيم ، و «المبين» إما من أبان المتعدي أي مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو سبيل الرشد والغيّ أو نحو ذلك ، والمشهور في أمثال هذا الحذف أنه يفيد العموم. وأما من أبان اللازم بمعنى بأن أي ظاهر الإعجاز أو ظاهر الصحة للإعجاز وهو على الاحتمالين صفة مادحة لكتاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة.

ولما كان في التنكير نوع من الفخامة وفي التعريف نوع آخر وكان الغرض الجمع للاستيعاب الكامل عرف القرآن ونكر الكتاب وعكس في الحجر ، وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ، ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هاهنا قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم للإعجاز كذا في الكشف.

وقال بعض الأجلة : قدم الوصف الأول هاهنا نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية وعكس هنالك لأن المراد تفخيمه من حيث اشتماله على كمال جنس الكتب الإلهية حتى كأنه كلها ومن حيث كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه والإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة ، وفي هذا حمل أل على الجنس في الكتاب.

والظاهر أنها في (الْقُرْآنِ) للعهد فيختلف معناها في الموضعين وإليه يشير ظاهر كلام الكشاف كما قيل ، واعتذر له بأنه إذا رجع المعنيان إلى التفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف ، وجوز أن تكون في الموضعين للعهد وأن تكون فيهما للجنس فتأمل ، وقيل : إن اختصاص كل من الموضعين بما اختص به من تعيين الطريق.

وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو يبينه للناظرين فيه ، وتأخيره هنا عن القرآن باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر عليه باعتبار الوجود الخارجي فإن القرآن بمعنى المقروء لنا مؤخر عن اللوح المحفوظ ولا يخفى أن إرادة غير اللوح من الكتاب أظهر. وقال بعضهم : لا يساعد إرادة اللوح منه هاهنا إضافة الآيات إليه إذ لا عهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذ هما باعتبار إبانته فلا بد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون لا إلى الناظرين فيه.

وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» برفعهما ، وخرج على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب ، وقيل : يجوز عدم اعتبار الحذف والكتاب لكونه مصدرا في الأصل يجوز الإخبار به عن المؤنث ، وقيل : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ألا ترى أنهم حظروا جاءتني زيد وأجازوا جاءتني هند وزيد ، وقوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى) في حيز النصب على الحالية من (آياتُ) على إقامة المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة ، والعامل معنى الإشارة وهو الذي سمته النحاة عاملا معنويا.

١٥٢

وجوز أبو البقاء على قراءة الرفع في (كِتابٍ) كون الحال منه ثم قال : ويضعف أن يكون من المجرور ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (مُبِينٍ) على القراءتين ، وجوز أبو حيان كون النصب على المصدرية أي تهدي هدي وتبشر بشرى أو الرفع على البدلية من (آياتُ) ، واشتراط الكوفيين في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ وأن تكون النكرة موصوفة نحو قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٥ ، ١٦] غير صحيح كما في شرح التسهيل لشهادة السماع بخلافه أو على أنه خبر بعد خبر لتلك أو خبر لمبتدإ محذوف أي هي هدى وبشرى (لِلْمُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون قيدا للهدى والبشرى معا ، ومعنى هداية الآيات لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة : ١٢٤] وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من الله تعالى ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم كذا قيل ، وفي الحواشي الشهابية أن الهدى على هذا الاحتمال ، إما بمعنى الاهتداء أو على ظاهره وتخصيص المؤمنين لأنهم المنتفعون به وإن كانت هدايتها عامة ، وجعل المؤمنين بمعنى الصائرين للإيمان تكلف كحمل هداهم على زيادته ، ويحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والإرشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى للمؤمنين (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة مادحة للمؤمنين ، وكنى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن عمل الصالحات مطلقا ، وخصا لأنهما على ما قيل إما العبادة البدنية والمالية ، والظاهر أنه حمل الزكاة على الزكاة المفروضة.

وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة ، وقيل كان في مكة زكاة مفروضة إلا أنها لم تكن كالزكاة المفروضة بالمدينة فلتحمل في الآية عليها ، وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق وهو خلاف المشهور في الزكاة المقرونة بالصلاة ويبعده تعليق الإيتاء بها ، وقوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على جملة الصلة ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من ضمير الموصول ، ويحتمل أن يكون استئنافا جيء به للقصد إلى تأكيد ما وصف المؤمنون به من حيث إن الإيقان بالآخرة يستلزم الخوف المستلزم لتحمل مشاق التكليف فلا بد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقد أقيم الضمير فيه مقام اسم الإشارة المفيد لاكتساب الخلافة بالحكم باعتبار السوابق فكأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وسمى الزمخشري هذا الاستئناف اعتراضا وكونه لا يكون إلا بين شيئين يتعلق أحدهما بالآخر كالمبتدإ والخبر غير مسلم عنده.

واختار هذا الاحتمال فقال : إنه الوجه ويدل عليه أنه عقد الكلام جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو (هُمْ) حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق انتهى. وأنكر ابن المنير إفادة نحو هذا التركيب الاختصاص وادعى أن تكرار الضمير للنظرية لمكان الفصل بين الضميرين بالجار والمجرور ، والحق أنه يفيد ذلك كما صرحوا به في نحو هو عرف ، وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير.

وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال ، ولا يخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الإشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الإيقان ، ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين. وأنت تعلم أن القول بما اختاره في الآية لا يتوقف على القول المذكور ؛ وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لا يخفى ، وتقديم (بِالْآخِرَةِ) في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة ، وجوز أن يكون للحصر الإضافي كما في الحواشي الشهابية (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بيان لأحوال

١٥٣

الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها. والفاء لترتيب المسبب على السبب. ونسبة التزيين إليه عزوجل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه ، وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة وإسناده إليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى : (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨].

والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم. والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الأصلح عليه عزوجل. ونسب إلى الحسن أن المراد بالأعمال الأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الأعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والإعراض عنها.

والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك : وعظته فلم يتعظ ، وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور ، وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) [البقرة : ٢١٢] (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٣٧] إلخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] ويبعد حمل الأعمال على الأعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا. وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها ، وإيجابها عليهم لا يدفع البعد.

وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله سبحانه : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) كقوله جل وعلا : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].

وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وإن التركيب من باب تحقيق الخبر وإن المعنى استمرارهم على الكفر وإنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعة فساعة أمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وأنه تعالى زين لهم سوء أعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون ، ودل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قوله تعالى : (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) بالفاء عليه ، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول

وفي الأخبار الصحيحة ما ينصر هذا التأويل أيضا (أُوْلئِكَ) إشارة إلى المذكورين الموصوفين بالكفر والعمه وهو مبتدأ خبره (الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) يحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدنيا بأن يقتلوا أو يؤسروا أو تشدد عليهم سكرات الموت لقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ويحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدارين وهو الذي استظهره أبو حيان ويكون قوله تعالى : (وَهُمْ) إلخ لبيان أن ما في الآخرة أعظم العذابين بناء على أن «الأخسرين» أفعل تفضيل ، والتفضيل باعتبار حاليهم في الدارين أي هم في الآخرة أخسر منهم في الدنيا لا غيرهم كما يدل عليه تعريف الجزأين على معنى أن خسرانهم في الآخرة أعظم من خسرانهم في الدنيا من حيث إن عذابهم في الآخرة غير منقطع أصلا وعذابهم في الدنيا منقطع ولا كذلك غيرهم من عصاة المؤمنين لأن خسرانهم في الآخرة

١٥٤

ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فإن عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لا يخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل.

وقال بعضهم : إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لا غيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين ، ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان ، وقال الكرماني : إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، قال أبو حيان : كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه. وكأنه يسلم أن ليس للمؤمن خسران البتة وفيه بحث لا يخفى ، وتقديم (فِي الْآخِرَةِ) إما للفاصلة أو للحصر ، وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص ، وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه وبنى الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه‌السلام للدلالة عليه في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٤٣] ولقي المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لاثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن ، والمراد وإنك لتعطي القرآن تلقنه (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي أي حكيم وأي عليم ، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة والسلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق ، والحكمة كما قال الراغب من الله عزوجل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينها وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على أحكام العمل وإتقانه وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لدنه عزوجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليه‌السلام لأهله ، وجوز أن تكون (إِذْ) ظرفا لعليم. وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول ، وقال في الكشف : ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كأنه قيل : ما أعلمه حيث فعل بموسىعليه‌السلام ما فعل ، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير ا ه. ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليه‌السلام (إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليه‌السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار ، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ؛ ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليه‌السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر ، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش.

ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد ، لا يقال : إنه عليه‌السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول : ما

١٥٥

المانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه‌السلام بهذه الألفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته بما يؤدي ذلك ولا بد ، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه عليه‌السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية الله تعالى شأنه امرأة موسى عليه‌السلام بالأهل مع أنه جماعة الأتباع (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه ، وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب ، وقرأ باقي السبعة والحسن «بشهاب قبس» بالإضافة واختارها أبو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فإن الشهاب يكون قبسا وغير قبس ، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك ، والترديد للدلالة على أنه عليه‌السلام إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله عزوجل أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبد.

وقيل : يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه‌السلام إلى أحدهما لا لهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد أحدا يهدي إلى الطريق فيستمر في سفره فإن لم يجده يقتبس نارا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الإقامة.

وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه‌السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معا لكنه تحرى عليه‌السلام الصدق فأتى بأو (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي رجاء أو لأجل أن تستدفئوا بها ، والصلاة بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفء ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفء وبالفتح النار (فَلَمَّا جاءَها) أي النار التي قال فيها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) وقيل : الضمير للشجرة وهو كما ترى ، وما ظنه داعيا ليس بداع لما أشرنا إليه (نُودِيَ) أي موسى عليه‌السلام من جانب الطور (أَنْ بُورِكَ) معناه أي بورك على أن أن مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه.

وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لا بد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل. وأجيب بأن ما ذكر ليس على إطلاقه. فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع ، منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة هاهنا جعل (بُورِكَ) دعاء على أنه يجوز أن يدعي أن الفصل بإحدى المذكورات في غير ما استثنى أغلبي لقوله :

علموا أن يؤملون فجادوا

قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

وجوز أن تكون المصدرية الناصبة للأفعال و (بُورِكَ) حينئذ إما خبر أو إنشاء للدعاء. وادعى الرضي أن بورك إذا جعل دعاء فإن مفسرة لا غير لأن المخففة لا يقع بعدها فعل إنشائي إجماعا وكذا المصدرية وهو مخلف لما ذكره النحاة ، ودعوى الإجماع ليست بصحيحة ، والقول بأن يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه ، وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن (بُورِكَ) إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا : إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه‌السلام بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان (بُورِكَ) تفسيرا للشأن ا ه وفيه نظر ، وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن إلخ ، والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه‌السلام ، وقيل : هو نائب الفاعل ولا ضمير.

١٥٦

وقال بعضهم في الوجه الأول أيضا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه‌السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء ، وفسر النداء بما بعده ، والأظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي (بُورِكَ) أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها ، وقيل : هنا المعنى قدس وطهر وزيد خيرا (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا : ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص : ٣٠] وتدل على ذلك قراءة أبي «تباركت الأرض ومن حولها» واستظهر عموم من لكل (مَنْ) في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم‌السلام وكفاتهم أحياء وأمواتا ولا ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه‌السلام فيها.

وقيل : من في النار موسى عليه‌السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم‌السلام ، وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة «ومن حولها من الملائكة» وهي عند كثير تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه ، وقيل : الأول الملائكة والثاني موسى عليهم‌السلام ، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام ، وذهب إلى القول الثاني في المراد بالموصولين ، وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى عليه‌السلام ، والمراد بقوله تعالى على ما قيل : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعجيب له عليه‌السلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشئون ، ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه‌السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه‌السلام لذلك.

وجوز أن يكون تعجبا صادرا منه عليه‌السلام بتقدير القول أي وقال سبحان الله إلخ ، وقال السدي : هو من كلام موسى عليه‌السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين ، وكأنه على تقدير القول أيضا ، وجعل المقدر عطفا على (نُودِيَ). وقال ابن شجرة : هو من كلام الله تعالى ومعناه وبورك من سبح الله تعالى رب العالمين ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدا ، وقيل : هو خطاب لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراد به التنزيه وجعل معترضا بين ما تقدم وقوله تعالى : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإنه متصل معنى بذلك والضمير للشأن ، وقوله سبحانه : (أَنَا اللهُ) مبتدأ وخبر و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نعتان للاسم الجليل ممهران لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا الله القوي القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين ، والجملة خبر إن مفسرة لضمير الشأن.

وجوز أن يكون الضمير راجعا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادي و (أَنَا) خبر أي إن مكلمك المنادي لك أنا ، والاسم الجليل عطف بيان لأنا ، وتجوز البدلية عند من جوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل ، ويجوز أن يكون (أَنَا) توكيدا للضمير و (اللهُ) الخبر. وتعقب أبو حيان إرجاع الضمير للمكلم المنادى بأنه إذا حذف الفاعل وبنى فعله للمفعول لا يجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لا يكون محدثا عنه ، وفيه أنه لم يقل أحد إنه عائد على الفاعل المحذوف بل على ما دل عليه الكلام ولو سلّم فلا امتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى ؛ وأيضا قوله والعزم على أن لا يكون محدثا عنه غير صحيح لأنه قد يكون محدثا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره ، ثم إن الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه‌السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكأنه رآه عزوجل ، هذا وفي قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) إلخ أقوال أخر ، الأول

١٥٧

أن المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم‌السلام وروي ذلك عن قتادة. والزجاج.

والثاني أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها الله محلا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم‌السلام أيضا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق (مَنْ) على غير العالم.

والثالث ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس. قال في قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم‌السلام ، واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضا عن الحسن وابن جبير وغيرهما كما في البحر. وتعقب ذلك الإمام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة.

وقال أبو حيان : إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار ، وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول إلى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلول المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلول في شيء فإن كون الشيء مجلى لشيء ليس كونه محلا له فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه. ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أو نحو ذلك من تجلى وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه‌السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم‌السلام ، وقوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ) دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر.

ولهذا ورد في الحديث الصحيح «سبحانك حيث كنت» فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك «يا موسى» إنه أي المنادي المتجلي في النار (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ) فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه. وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى ، وكأني بك تقول : هذا طور ما وراء طور العقول. ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها الله عزوجل أيضا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار ، ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك. والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال : المراد أن بورك من ظهر نوره في النار.

ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه. وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته ، وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول : إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عزوجل الذاتية وهو أيضا منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل.

(وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على (بُورِكَ) منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق عصاك.

١٥٨

ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) بعد قوله سبحانه : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى : (يا مُوسى) إلخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور ، وقيل : لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث ، واعترض أيضا بأن (بُورِكَ) إخبار (وَأَلْقِ) إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الإخبار ، ومن هنا قيل : إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له : ألق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك وألق ، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف.

ولا يرد هذا أصلا على من يجعل «بورك» إنشاء ، ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء ، واختار أبو حيان كون العطف على جملة (إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يبال باختلاف الجملتين اسمية وفعلية وإخبارية وإنشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه ، والفاء في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقه بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل : فألقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطرب ، وجملة (تَهْتَزُّ) في موضع الحال من مفعول رأى فإنها بصرية كما أشرنا إليه لا علمية كما قيل.

وقوله تعالى : (كَأَنَّها جَانٌ) في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير (تَهْتَزُّ) على طريقة التداخل ، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٧ ، الشعراء : ٣٢].

وقيل : يجوز أن يكون الإخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها ، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد : «جأن» بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل : دأبة وشأبة.

(وَلَّى مُدْبِراً) أي انهزم (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر :

فما عقبوا إذ قيل هل من معقب

ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا

وهذا مروي عن مجاهد ، وقريب منه قول قتادة : أي لم يلتفت وهو الذي ذكره الراغب ، وكان ذلك منهعليه‌السلام لخوف لحقه ، قيل : لمقتضى البشرية فإن الإنسان إذ رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا عليّ أو لا تخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم ، وهذا إما لمجرد الإيناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته ، وقوله تعالى :

(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) تعليل للنهي عن الخوف ، وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد (لا تَخَفْ) مطلقا ، والمراد من (لَدَيَ) في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي.

والمعنى أن الشأن لا ينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي إليهم بل لا يخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أرواحهم إلى عالم الملكوت ، والتقييد بلديّ لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من الله عزوجل فقد قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ولا أعلم منهم بالله تعالى شأنه ، وقيل : المعنى لا تخف من غيري أو لا تخف مطلقا فإن الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك

١٥٩

المرسلون إنما هو سوء العاقبة وأن الشأن لا يكون للمرسلين عندي سوء عاقبة ليخافوا منه.

والمراد بسوء العاقبة ما في الآخرة لا ما في الدنيا لئلا يرد قتل بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام ، والمراد بلديّ على ما قال الخفاجي : عند لقائي وفي حكمي على ما قال ابن الشيخ ، وأيا ما كان يلزم مما ذكر أن المرسلين عليهم‌السلام لا يخافون سوء العاقبة لأن الله تعالى آمنهم من ذلك فلو خافوا لزم أن لا يكونوا واثقين به عزوجل وهذا هو الصحيح كما في الحواشي الشهابية عند الأشعري ، وظاهر الآثار يقتضي أنهم عليهم‌السلام كانوا يخافون ذلك ، فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها يوما : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم : وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده» وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صرح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة ، ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة ، ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عزوجل لأنه لاحتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الإلهية ، وإن أريد به ما كان بصريح آمنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه ويحصل الخوف من ذلك ، وإن أريد به ما اقتضاه جعله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم‌السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون.

ففي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما‌السلام فقال الله عزوجل لهما : ما يبكيكما؟ قالا : يا رب ما نأمن مكرك فقال تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري ، ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لا يخلق الله تعالى في الشخص ذنبا ، وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لا تقتضي استحالة الذنب ، أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر ، وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لا يحصل الأمن بمجرد حصول الملكة ، نعم قال قوم : العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه ، وقد يستند إليه من يقول بالأمن ، ولا يخفى أنه لو سلّم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح.

ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة والسلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار ، وأيضا فالإجماع على أن الأنبياء عليهم‌السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك ، وأيضا فقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠] يدل على مماثلتهم عليهم‌السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لا يمتنع صدوره عن سائر البشر ا ه ، وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير : العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها

١٦٠