روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

وأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار ، قيل : فتكون من على هذا للابتداء ، والمراد بالنار هي التي آنسها.

وقرأ الأكثر «جذوة» بكسر الجيم والأعمش وطلحة وأبو حيوة وحمزة بضمها (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون وتتسخنون بها ، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ

٢٨١

عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٥٦)

(فَلَمَّا أَتاها) أي النار التي آنسها.

(نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه‌السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطئ وهو ضد الأيسر ، وجوز أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم ، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطئ أو الوادي ، و (مِنْ) على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير موسى عليه‌السلام المستتر في نودي أي نودي قريبا من شاطئ الوادي ، وجوز على الحالية أن تكون ـ من ـ بمعنى في كما في قوله تعالى : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف : ٤] أي نودي كائنا في شاطئ الوادي ، وقوله تعالى : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) في موضع الحال من الشاطئ أو صلة لنودي ، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس ، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي. ومسلمة ، ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عزوجل وأنواره.

وقيل : لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك ، وقوله سبحانه : (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من قوله تعالى : (مِنْ شاطِئِ) أو الشجرة فيه بدل من شاطئ وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطئ كان مشتملا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه ، و (مِنْ) هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في من الأولى ، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة ، وقيل : يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة ، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابا ، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة ، وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبي ووهب عوسجة. وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم ، وأن في قوله تعالى : (أَنْ يا مُوسى) تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه ، والجار متعلق بنودي ، والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي :

ناديت باسم ربيعة بن مكدم

أن المنوه باسمه الموثوق

والضمير للشأن وفسر الشأن بقوله تعالى : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وقرأت فرقة «أني» بفتح الهمز ،

٢٨٢

واستشكل بأن أن إن كانت تفسيرية ينبغي كسر إن وهو ظاهر وإن كانت مصدرية واسمها ضمير الشأن ، فكذلك إذ على الفتح تسبك مع ما بعدها بمفرد وهو لا يكون خبرا عن ضمير الشأن وخرجت على أن أن تفسيرية وأني إلخ في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف ، والتقدير أي يا موسى اعلم أني أنا الله إلخ ، وجاء في سورة [طه : ١١] (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وفي سورة [النمل : ٨] (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) وما هنا غير ذلك بل ما في كل غير ما في الآخر فاستشكل ذلك.

وأجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة ، وذهب الإمام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما والظاهر أن النداء منه عزوجل من غير توسيط ملك ، وقد سمع موسى عليه‌السلام على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا قيل : خلقه الله تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول ، وقيل : خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه‌السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات ، وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه.

وذهب الشيخ الأشعري ، والإمام الغزالي إلى أنه عليه‌السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف ، وهذا كما ترى ذاته عزوجل بلا كيف ولا كم ، وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عزوجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ، وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة ، فيقول : أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه ، والله تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال.

مرام شط مرمى العقل فيه

ودون مداه بيد لا تبيد

وذكر بعض السلفيين أنه عليه‌السلام إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت منكر الظهور في المظاهر عادّا القول به من أعظم المناكر ، ولابن القيم كلام طويل في تحقيق ذلك ، وقد قدمنا لك في المقدمات ما يتعلق بهذا المقام فتذكر والله تعالى ولي الأفهام ، وقال الحسن : إنه سبحانه نادى موسى عليه‌السلام نداء الوحي لا نداء الكلام ولم يرتض ذلك العلماء الأعلام لما فيه من مخالفة الظاهر وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكليم من بين الأنبياء عليهم‌السلام ، ووجه الاختصاص على القول بأنه سمع كلامه تعالى الأزلي بلا حرف ولا صوت ظاهر ، وكذا على القول بأنه عليه‌السلام سمع صوتا دالا على كلامه تعالى بلا واسطة ملك أو كتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات لما في كل من خرق العادة ، وأما وجهه عند القائلين بأن السماع كان بعد التجلي في المظهر فكذلك أيضا إن قالوا بأن هذا التجلي لم يقع لأحد من الأنبياء عليهم‌السلام سوى موسى ، ثم إن علمه عليه‌السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه سبحانه فيه ؛ وقيل : بالمعجزة ، وأوجب المعتزلة أن يكون حصوله بها فمنهم من عينها ومنهم من لم يعينها زعما منهم أن حصول العلم الضروري ينافي التكليف ، وفيه بحث.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) عطف على أن يا موسى والفاء في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) هي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور ، والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها

٢٨٣

وخفتها لا في هيئتها وجثتها. فلا يقال : إنه عليه‌السلام لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فكيف يصح تشبيهها بالجان ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون المراد تشبيهها بها في الهيئة والجثة ولا ضير في ذلك لأن لها أحوالا مختلفة تدق فيها وتغلظ ، وقيل : الجان يطلق على ما عظم من الحيات فيراد عند تشبيهها بها في ذلك والأولى ما ذكر أولا (وَلَّى مُدْبِراً) منهزما من الخوف (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ولم يرجع (يا مُوسى) أي نودي أو قيل : يا موسى (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من المخاوف فإنه لا يخاف لديّ المرسلون :

(اسْلُكْ يَدَكَ) أي أدخلها (فِي جَيْبِكَ) هو فتح الجبة من حيث يخرج الرأس (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي عيب (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي من أجل المخافة ، قال مجاهد وابن زيد أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه ، وقال الثوري : خاف موسى عليه‌السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءا بل آية من الله عزوجل ؛ وقريب منه ما قيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها إليك يسكن خوفك. وفي الكشاف فيه معنيان : أحدهما أن موسى عليه‌السلام لما قلب الله تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه ، والثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه ، ومعنى (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) وقوله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرعب ا ه ، وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله :

اشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيك

وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف ، وهو في الأصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلا فيه وكناية عنه ، وعليه يكون تتميما لمعنى (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي فإنه قال : هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه. وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري. ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي : من أنه أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف. وأراد بأحد التفسيرين الوجه الأول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى ، وقال بعضهم : إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب. وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحان ، وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال : إنه قد جاء المفرد مرادا به التثنية كما في قوله :

يداك يد إحداهما الجود كله

وراحتك اليسرى طعان تغامره

٢٨٤

فإن المعنى يداك يدان بدلالة قوله إحداهما. وفي الكشاف أيضا من بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني ما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضى عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه‌السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها ا ه. وما أشار إليه من أن ذاك لا يطابق بلاغة التنزيل مما لا ريب فيه فإن الذاهبين إليه قالوا : المعنى عليه واضمم إليك يدك مخرجة من الكم لأن يده كانت في الكم ؛ وهو معنى كما ترى ولفظه أقصر منه في الإفادة. وأما أمر سماعه عن الأثبات فقد تعقبه في البحر بأنه مروي عن الأصمعي وهو ثقة ثبت. وقال الطيبي : قال محيي السنة : قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول : أعطني ما في رهبك أي ما في كمك ، وزعم بعضهم أن استعمال الرهب في الكم لغة بني حنيفة أيضا وهو عندهم وكذا عند حمير بفتح الراء والهاء والحزم عندي عدم الجزم بثبوت هذه اللغة. وعلى تقدير الثبوت لا ينبغي حمل ما في التنزيل الكريم عليها. والظاهر أن من الرهب متعلق باضمم وقال أبو البقاء : هو متعلق بولي ، وقيل بمدبرا ، وقيل بمحذوف : أي تسكن من الرهب ، وقيل باضمم ، ولا يخفى ما في تعلقه بسوى اضمم وإن أشار إلى تعلقه بولي أو مدبرا كلام ابن جريج على ما أخرجه عنه ابن المنذر حيث جعل الآية من التقديم والتأخير. والمراد ولى مدبرا من الرهب وقرأ الحرميان : «من الرّهب» بفتح الراء والهاء ، وأكثر السبعة بضم الراء وإسكان الهاء وقرأ قتادة ، والحسن ، وعيسى ، والجحدري بضمهما والكل لغات (فَذانِكَ) أي العصا واليد والتذكير لمراعاة الخبر وهو قوله تعالى : (بُرْهانانِ) وقيل : الإشارة إلى انقلاب العصا حية بعد إلقائها وخروج اليد بيضاء بعد إدخالها في الجيب فأمر التذكير ظاهر ، والبرهان الحجة النيرة وهو فعلان لقولهم : أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من بره الرجل إذا ابيض ويقال للمرأة البيضاء : برهاء وبرهرهة.

وقال بعضهم : هو فعلان من البرة بمعنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة ، وقيل : هو فعلان لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فذانّك» بتشديد النون وهي لغة فيه ، فقيل : إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وأدغمت ، وقال المبرد : إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية ، ثم قلبت اللام نونا لقرب المخرج وأدغمت وكان القياس قلب الأولى لكنه حوفظ على علامة التثنية ، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل. «فذانيك» بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل ، وقيل : بل لغة تميم ، ورواها شبل عن ابن كثير ، وعنه أيضا «فذانيك» بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله :

على أحوذيين استقلت عشية

فما هي إلا لمحة وتغيب

وعن ابن مسعود أنه قرأ بتشديد النون مكسورة بعدها ياء ، قيل وهي لغة هذيل ، وقال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بمحذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان من ربك و (إِلى) في قوله سبحانه : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) متعلق بمحذوف أيضا هو على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم صفة بعد صفة له أي واصلان إليهم ، وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه أي مرسلا أنت بهما إليهم.

وفي البحر أنه متعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره اذهب إلى فرعون (إِنَّهُمْ) أي فرعون وملأه (كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين إليهم ، والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ) لذلك (أَنْ يَقْتُلُونِ) بمقابلتها ، والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء من الإرسال ، وزعمت اليهود أنه عليه‌السلام استعفى ربه سبحانه من ذلك. وفي التوراة التي بأيديهم اليوم أنه قال يا رب ابعث من أنت باعثه

٢٨٥

وأكد طلب التأييد بقوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي عونا كما روي عن قتادة وإليه ذهب أبو عبيدة وقال : يقال ردأته على عدوه أعنته. وقال أبو حيان : الردء المعين الذي يشتد به الأمر فعل بمعنى مفعول فهو اسم لما يعان به كما أن الدفء اسم لما يتدفأ به قال سلامة بن جندل :

وردئي كل أبيض مشرفي

شديد الحد عضب ذي فلول

ويقال : ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وفي قوله : (أَفْصَحُ مِنِّي) دلالة على أن فيه عليه‌السلام فصاحة ولكن فصاحة أخيه أزيد من فصاحته ، وقرأ أبو جعفر ونافع والمدنيان ردا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال ، والمشهور عن أبي جعفر أنه قرأ بالنقل ولا همز ولا تنوين. ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وجوز في ردا على قراءة التخفيف كونه منقوصا بمعنى زيادة من رديت عليه إذا زدت (يُصَدِّقُنِي) أي يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار ، فالتصديق مجاز عن التلخيص المذكور الجالب للتصديق لأنه كالشاهد لقوله ، وإسناده إلى هارون حقيقة ، ويرشد إلى ذلك وأخي هارون إلخ لأن فضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لمثل ما ذكر لا لقوله صدقت أو أخي موسى صادق فإن سحبان وباقلا فيه سواء ، أو يصل جناح كلامي بالبيان حتى يصدقني القوم الذين أخاف تكذيبهم فالتصديق على حقيقته وإنما أسند إلى هارون عليه‌السلام لأنه ببيانه جلب تصديق القوم ، ويؤيد هذا قوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لدلالته على أن التصديق على الحقيقة ، وقيل : تصديق الغير بمعنى إظهار صدقه ، وهو كما يكون بقول هو صادق يكون بتأييده بالحجج ونحوها كتصديق الله تعالى للأنبياء عليهم‌السلام بالمعجزات ، والمراد به هنا ما يكون بالتأييد بالحجج ، فالمعنى يظهر صدقي بتقرير الحجج وتزييف الشبه إني أخاف أن يكذبون ولساني لا يطاوعني عند المحاجة ، وعليه لا حاجة إلى ادعاء التجوز في الطرف أو في الإسناد. وتعقب بأنه لا يخفى أن صدقه معناه إما قال : إنه صادق أو قال له : صدقت ، فإطلاقه على غيره الظاهر أنه مجاز ، وجملة يصدقني تحتمل أن تكون صفة لردءا ، وأن تكون حالا ، وأن تكون استئنافا. وقرأ أكثر السبعة «يصدقني» بالجزم على أنه جواب الأمر.

وزعم بعضهم أن الجواب على قراءة الرفع محذوف ، ويرد عليه أن الأمر لا يلزم أن يكون له جواب فلا حاجة إلى دعوى الحذف ، وقرأ أبي ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «يصدقوني» بضمير الجمع وهو عائد على فرعون وملئه لا على هارون والجمع للتعظيم كما قيل ، والفعل على ما نقل عن ابن خالويه مجزوم فقد جعل هذه القراءة شاهدا لمن جزم من السبعة يصدقني وقال لأنه لو كان رفعا لقيل يصدقونني ، وذكر أبو حيان بعد نقله أن الجزم على جواب الأمر والمعنى في يصدقون أرج تصديقهم إياي فتأمل (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) إجابة لمطلوبه وهو على ما قيل راجع لقوله (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) إلخ والمعنى سنقويك به ونعينك على أن شد عضده كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشتد بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف والجملة تشتد بشدة اليد ولا مانع من الحقيقة لعدم دخول بأخيك فيما جعل كناية أو على أن ذلك خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبه حال موسى عليه‌السلام في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد ، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به ثم سنؤيدك ثم سنشد عضدك به ، وقرأ زيد بن علي ، والحسن عضدك بضمتين ، وعن الحسن أنه قرأ بضم العين وإسكان الضاد ، وقرأ عيسى بفتحهما ، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد ، ويقال فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد ولم أعلم أحدا قرأ بذلك ، وقوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي تسلطا عظيما وغلبة راجع على ما قيل أيضا لقوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) وقوله سبحانه : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) تفريع على ما حصل من مراده أي لا يصلون إليكما باستيلاء أو محاجة (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر أي اذهبا بآياتنا أو

٢٨٦

بنجعل أي نسلطكما بآياتنا أو بسلطانا لما فيه من معنى التسلط والغلبة أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعون منهم بها أو بحرف النفي على قول بعضهم بجواز تعلق الجار به ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون قسما جوابه لا يصلون مقدما عليه أو هو من القسم الذي يتوسط الكلام ويقحم فيه لمجرد التأكيد فلا يحتاج إلى جواب أصلا ، ويرد على الأول أن جواب القسم لا يتقدمه ولا يقترن بالفاء أيضا فلعله أراد أن ذلك دال على الجواب وأما هو فمحذوف إلا أنه تساهل في التعبير ، وجوز أن يكون صلة لمحذوف يفسره الغالبون في قوله سبحانه : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) أو صلة له واللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي أو بمعناه على رأي من يجوز تقديم ما في حيز الصلة على الموصول إما مطلقا أو إذا كان المقدم ظرفا وتقديمه إما للفاصلة أو للحصر (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) أي واضحات الدلالة على صحة رسالته عليه‌السلام منه عزوجل ، والظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد إذ هما اللتان أظهرهما موسى عليه‌السلام إذ ذاك وقد تقدم في سورة طه سر التعبير عنهما بصيغة الجمع (قالُوا ما هذا) الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي سحر تختلقه لم يفعل قبله مثله فالافتراء بمعنى الاختلاق لا بمعنى الكذب أو سحر تتعلمه من غيرك ثم تنسبه إلى الله تعالى كذبا فالافتراء بمعنى الكذب لا بمعنى الاختلاق والصفة على هذين الوجهين مخصصة ، وقيل : المراد بالافتراء التمويه أي هو سحر مموه لا حقيقة له كسائر أنواع السحر. وعليه تكون الصفة مؤكدة والافتراء ليس على حقيقته كما في الوجه الأول. والحق أن من أنواع السحر ما له حقيقة فتكون الصفة مخصصة أيضا (وَما سَمِعْنا بِهذا) أي نوع السحر أو ما صدر من موسى عليه‌السلام على أن الكلام على تقدير مضاف أي بمثل هذا أو الإشارة إلى ادعاء النبوة ونفيهم السماع بذلك تعمد للكذب فقد جاءهم يوسف عليه‌السلام من قبل بالبينات وما بالعهد من قدم. ويحتمل أنهم أرادوا نفي سماع ادعاء النبوة على وجه الصدق عندهم وكانوا ينكرون أصل النبوات ولا يقولون بصحة شيء منها كالبراهمة وككثير من الإفرنج ومن لحس من فضلاتهم اليوم. والباء كما في مجمع البيان إما على أصلها أو زائدة أي ما سمعنا هذا (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي واقعا في أيامهم ، فالجار والمجرور في موضع الحال من هذا بتقدير مضاف والعامل فيه سمعنا.

وجوز أن يكون بهذا على تقدير بوقوع هذا ، ويكون الجار متعلقا بذلك المقدر ، وأشاروا بوصف آبائهم بالأولين إلى انتفاء ذلك منذ زمان طويل (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) يريد عليه‌السلام بالموصول نفسه ، وقرأ ابن كثير «قال» يغيروا ولأنه جواب لقولهم : إنه سحر والجواب لا يعطف بواو ولا غيرها ، ووجه العطف في قراءة باقي السبعة أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر المحكي له بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا ، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها بما يفضي به إلى الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ؛ ووجه إرادة العاقبة المحمودة من مطلق العاقبة انها هي التي دعا الله تعالى إليها عباده ، وركب فيهم عقولا لا ترشدهم إليها ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم وحضهم عليها فكأنها لذلك هي المرادة من جميع العباد والغرض من خلقهم ، وهذا ما اختاره ابن المنير موافقا لما عليه الجماعة ، وحكى أن بعضهم قال له : ما يمنعك أن تقول فهم عاقبة الخير من إضافة العاقبة إلى ذويها باللام كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٤٢] ، وقوله سبحانه : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨ ، القصص : ٨٣] إذ عاقبة الخير هي التي تكون لهم ، وأما عاقبة السوء فعليهم لا لهم فقال له : لقد كان لي في ذلك مقال لو لا وروده مثل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ، ولم يقل وعليهم فاستعمال اللام مكان على دليل على إلغاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير ، وقد يقال : إن اللام ظاهرة في النفع ويكفي ذلك في انفهام كون المراد بالعاقبة عاقبة الخير ، ويلتزم في

٢٨٧

نحو الآية التي أوردها ابن المنير كونها من باب التهكم ، وهذا نظير ما قالوا : إن البشارة في الخير ، وبشرهم بعذاب أليم من باب التهكم.

وقال الطيبي انتصارا للبعض أيضا : قلت : الآية غير مانعة عن ذلك فإن قرينة اللعنة والسوء مانعة عن إرادة الخير وإنما أتى بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم ، ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة ، والكسائي. «يكون» بالياء التحتية ، لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور ، وحاصل كلام موسى عليه‌السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى ، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبئ الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة ، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه ، ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب ، لأن ظاهر قول موسى عليه‌السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره ، وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه‌السلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى ، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك.

(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اصنع لي آجرا (فَاجْعَلْ لِي) منه (صَرْحاً) أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) أي أطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره.

(إِلى إِلهِ مُوسى) الذي ذكر أنه إلهه وإله العالمين ، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه‌السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك ، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عزوجل أعلم به ، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر ، ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول ، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم : صعدت إلى إله موسى وحققت أن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى ، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح ، وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان. ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة.

٢٨٨

وكان قول اللعين لموسى عليه‌السلام لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين بعد هذا القول المحكي هاهنا بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره ، ثم هدد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه ، وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء وفيها أوجه أخر. الأول أنه أراد بقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) نفي العلم دون الوجود كما في ذلك الوجه إلا أنه لم ينف الوجود لأنه لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بالعدم وأراد بقوله إني لأظنه من الكاذبين إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة من الله تعالى ، وأراد بقوله : يا هامان أوقد لي على الطين إلخ إعلام الناس بفساد دعواه تلك بناء على توهمه أنه تعالى إن كان كان في السماء بأنه لو كان رسولا منه تعالى فهو ممن يصل إليه ، وذلك بالصعود إليه وهو مما لا يقوى عليه الإنسان فيكون من نوع المحال بالنسبة إليه فما بنى عليه وهي الرسالة منه تعالى مثله ، فقوله : (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) لإظهار عدم إمكان الصعود الموقوف عليه صحة دعوى الرسالة في زعمه ولعل للتهكم.

الثاني أنه أراد أيضا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسا على قومه كاذبا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلها غيره هو إله الخلق أجمعين ، وهو الله عزوجل وأراد بقوله : (وَإِنِّي) إلخ إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة كما في سابقه ، وأراد بقوله يا هامان إلخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة ، وذلك بأن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه.

وتعقب بأنه لا يناسب قوله : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى بأوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا؟ فيكون الكلام على تقدير مضاف و (إِلى) فيه بمعنى على ، وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد بإله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فأنظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى ، وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. الثالث أنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبا ظنه كاذبا في إثباته إلها غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد

فإثبات الظن المذكور لا يدفع إرادة ذلك النفي ، وجوز بعضهم إبقاءه على ظاهره ، وقال في دفع المنافاة: يمكن أن يقال : الظاهر أن كلامه الأول كان تمويها وتلبيسا على القوم ، والثاني كان مواضعة مع صاحب سره هامان فإثبات الظن في الثاني لا يدفع أن يكون العلم في الأول لنفي المعلوم ، وفيه أنه يأبى ذلك سوق الآية ، والفاء في فأوقد لي وطلبه بناء الصرح راجيا الصعود إلى إله موسى عليه‌السلام أراد به التهكم كأنه نسب إلى موسى عليه‌السلام القول بأن إلهه في السماء فقال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : ٣٦] لأصعد إلى إله موسى متهكما به ، وهذا نظير ما إذا أخبرك شخص بحياة زيد وأنه في داره ، وأنت تعلم خلاف ذلك فتقول لغلامك بعد أن تذكر علمك بما يخالف قوله متهكما به يا غلام أسرج لي الدابة لعلي أذهب إلى فلان وأستأنس به بل ما قاله فرعون أظهر في التهكم مما ذكر فطلبه بناء الصرح بناء على هذا لا يكون منافيا لما ادعاه أولا وآخرا من العلم واليقين.

وقال بعضهم في دفع ما قيل : من المنافاة : إنها إنما تكون لو لم يكن قوله : لعلي أطلع إلخ على طريق التسليم والتنزل ، وقال آخر في ذلك : إن اللعين كان مشركا يعتقد أن من ملك قطرا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله :

٢٨٩

(لَعَلِّي أَطَّلِعُ) إلخ الإله لغير مملكته وما نفاه إلهها كما يشير إليه قوله لكم ولا يخلو عن بحث.

وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم أو لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز إبقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض ، والأولى عندي السعي في دفع التناقض فإذا لم يمكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو سفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك ، واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق : وذكره غيره أيضا إنه غير سديد فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لا سيما عدم علم شخص واحد. وقال القاضي البيضاوي : هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي : إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف ، وكان المخذول يدعي الإلهية ، ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز ، وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الأوجه مفوض إلى ذهنك والله تعالى الموفق.

واستدل بعض من يقول : إن الله تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عزوجل : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] حسبما يقول السلف بهذه الآية ، ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه‌السلام أن إلهه في السماء لما قال : فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للأجسام ، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وإثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول : أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرا إشارة إلى أنه لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم ، وفي الآثار ما يؤيد ذلك ، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: فرعون أول من أمر بصنعة الآجر وبنائه ، وأخرج هو وجماعة عن قتادة قال بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الإيقاد على الطين مناديا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ) أي رأوا كل من سواهم حقيرا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد (فِي الْأَرْضِ) الأكثرون على أن المراد في أرض مصر ، وقيل : المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء ، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الأجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقا إلا من الله عزوجل ، ومن هنا قال الزمخشري : الاستكبار بالحق إنما هو الله تعالى وكل مستكبر سواه عزوجل فاستكباره بغير الحق ، وفي الحديث القدسي : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا

٢٩٠

يُرْجَعُونَ) بالبعث للجزاء ، والظن قيل : إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرا لهم وتمهيلا ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع (لا يُرْجَعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه ، وقد مر تفصيل ذلك ، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر :

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا من نعالك باليا

استحقار لهم ، وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في أظفار المنية نشبت بفلان ، وقال بعضهم : الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر ، والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله ، وفي البحر أنه كناية عن إدخالهم فيه والأولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عزوجل فيما فعل بهم أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقى الأخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في فاستجبنا له فنجيناه ونحوه (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وبينها للناس ليعتبروا بها (وَجَعَلْناهُمْ) أي خلقناهم (أَئِمَّةً) قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى : (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى : (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عزوجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار ، وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأول محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي ، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا) التي فتنتهم (لَعْنَةً) طردا وإبعادا أو لعنا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم‌السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) من المطرودين المبعدين يقال : قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث ، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل : لأن معناها الطرد أيضا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن من المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص ، وقال أبو عبيدة والأخفش من المقبوحين أي من المهلكين ، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر ، وقد يقال : إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضا ، وجوز أن يكون ذلك تفسيرا بما هو لازم في الجملة ، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفا في نظيره ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروي عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور ، والظاهر ما سمعته أولا.

٢٩١

وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود ، وفي الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي ، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافر».

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار ، ومن غفل عن هذا قال : الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه‌السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه‌السلام ، وقيل : المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل ، وليس بذاك ، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر ، والمراد بالناس قيل أمّته عليه‌السلام ، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم ، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام ، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها ، وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلّى الله تعالى عليه وسلّم حتى عرف في وجهه ثم قال : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك.

وأجيب بأن غضبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلم ، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.

وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل ، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه (وَهُدىً) أي إلى الشرائع التي

٢٩٢

هي الطرق الموصلة إلى الله عزوجل (وَرَحْمَةً) حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى : بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم ، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر إلخ ، وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كي يتذكروا بناء على أن لعل للتعليل ؛ فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء : ١٢٩] (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) وحكى الواقدي عن البغويّ أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلّا (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فإنها فيه للتشبيه ، والمشهور أنها للترجي. ولما كان محالا عليه عزوجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير ، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى ، وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع ، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل ، وأنت تعلم أن الإرادة عند المعتزلة قسمان : تفويضية ، وهي قد يتخلف المراد عنها ، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلا ، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضا واقع زمان مساس الحاجة إليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنا تحقيق كونه وحيا صادقا من عند الله تعالى ببيان أن الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل : ولا يخفى أن تعين كونه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلّم كما قال المشركون : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هو أظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران (١) دونه على أنه عزوجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا : إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدا ، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر ، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه‌السلام ، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع ، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول.

(إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.

(وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه‌السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس ، فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولا في قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) وكذا إرادة المعنى الثاني بلزوم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى ، ومن هنا قيل : المراد من الأول نفي كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرا بنفسه لغرض من الأغراض ،

__________________

(١) هكذا الأصل تنبه.

٢٩٣

ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه‌السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك.

وقيل : المراد بالشاهدين الملائكة عليهم‌السلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل : ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم‌السلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه‌السلام فتخبر به الناس.

وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى ، وقيل : وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه‌السلام فكان عموما بعد خصوص ، وقيل : المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره ، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي.

وقيل : المراد (وَما كُنْتَ) إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور.

ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال ، وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك ، والله تعالى يتولى هداك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد ؛ وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء ، وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهم شعيب عليه‌السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك ، وقوله سبحانه : (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه (آياتِنا) الناطقة بما كان لموسى عليه‌السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس.

وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى ، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس

٢٩٤

وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار ، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع.

وقرأ عيسى ، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور ، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) صفة لقوما و (مِنْ) الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب ، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه‌السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه‌السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة (١) بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل : ذلك ، وقيل : إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه‌السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية : من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه‌السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه‌السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته ا ه ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه‌السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه‌السلام ، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال : «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة ا ه. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول ، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك ، وقيل : إن موسى ، وعيسى عليهما‌السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام ، ومنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة ، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم : إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان ، وقيل : غير ذلك ، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ هم الذين

__________________

(١) قوله أكثر من ألفي سنة إلخ في الحاوي للسيوطي ما يدل على أن بينهما نحوا من ثلاثة آلاف سنة ا ه منه.

٢٩٥

يتصور إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم دون أسلافهم الماضين ولعله الأظهر ، وعدم إتيان نذير إياهم من قبله صلى الله تعالى عليه وسلم على القول بانتهاء حكم رسالة الرسول سوى نبينا عليه الصلاة والسلام بموته ظاهر ، وأما إذا قيل : بعدم انتهائه بذلك وبقائه حكما لرسالة الرسول يجب على من علمه من ذراري المرسل إليهم الأخذ به من حيث إنه حكم من أحكام ذلك الرسول إلى أن يأتي رسول آخر فيؤخذ به من حيث إنه حكم من أحكامه أو على الوجه الذي يأمر به فيه من النسبة إليه أو من نسبته إلى من قبله أو يترك إن جاء الثاني ناسخا له فالمراد بعدم إتيان النذير إياهم عدم وصول ما أتى به على الحقيقة إليهم ولا يمكن أن يراد بهؤلاء القوم العرب مطلقا ويقال : بأنهم لم يرسل إليهم قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أصلا لظهور بطلانه ومنافاته لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] بناء على أن ـ ما ـ فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين ، ولا يكاد يجوز في ما هاهنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير ، وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب الله تعالى ؛ والنذير بمعنى المنذر ، واحتمال كونه مصدرا بمعنى الإنذار مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر بمعنى أحكام أمر نبوة موسى عليه‌السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه‌السلام في أهل مدين المشار إليه بقوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) والنداء للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي ، ونفى أولا الثواء في أهل مدين ونفى ثانيا الحضور عند النداء ونفى ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة ، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى : (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢] رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع ، وقد وسط في النظم الكريم بينهما ، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك ، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه‌السلام لما أعطى التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي ، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم‌السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه‌السلام وكذا قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] في قول ، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) إلخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه‌السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع ا ه ، ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولو لا ذلك ما علمت ، وقال الضحاك : يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء ا ه. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار. وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى: (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك.

أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في

٢٩٦

الدلائل عن أبي هريرة قال في ذلك نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا ، وأخرج هو أيضا وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.

وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال : أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال : نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ منك. قال : فإن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال : نعم. أمة محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ من بني إسرائيل. قال : إلهي أرنيهم. قال : إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال : نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم. قال : فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال : صدقتم أنا ربكم حقا وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة». قال ابن عباس فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته فقال : يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ، واستشكل ذلك بأنه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه ، ولا بد لصحة هذه الأخبار من دليل ، وتصحيح الحاكم لا يخفى حاله.

وقال بعض : يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه‌السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس ، والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة والسلام فيما يعود إليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوة من الكفر به عليه الصلاة والسلام والإباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩] وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهرا فتأمل (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي عقوبة وهي على ما نقل عن أبي مسلم عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الاستئصال (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما اقترفوا من الكفر والمعاصي ويعبر عن كل الأعمال وإن لم تصدر عن الأيدي باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي لما أن أكثر الأعمال تزاول بها (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) الظاهرة على يده (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بما جاء به ، ولو لا الثانية تحضيضية كما أشرنا إليه ، وقوله تعالى : (فَنَتَّبِعَ) جوابها ولكون التحضيض طلبا كالأمر أجيبت على نحو ما يجاب ، وأما الأولى فامتناعية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الحال عليه ، والتقدير لما أرسلناك ، والفاء في (فَيَقُولُوا) عاطفة ليقول على تصيبهم ، والمقصود بالسببية لانتفاء الجواب والركن الأصيل فيها قولهم ذلك إذا أصابتهم مصيبة ، فالمعنى لو لا قولهم إذا عوقبوا بما اقترفوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه ونكون من المؤمنين لما أرسلناك إليهم ، وحاصله سببية القول المذكور لإرساله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم قطعا

٢٩٧

لمعاذيرهم بالكلية ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليا لو لا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ونكتة إيثار هذا الأسلوب وعدم جعل العقوبة قيدا مجردا أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين لم يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم ، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى كقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] هذا ما أراده صاحب الكشاف ، وليس في الكلام عليه تقدير مضاف كما هو الظاهر.

وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم إلخ ، فالسبب للإرسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة ولله تعالى الحجة البالغة ، وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لو لا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الإصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الإرسال كما هو مقتضى لو لا ، وفي ذلك ما فيه ، وقال ابن المنير : التحقيق عندي أن لو لا ليست كما قال النحاة تدل على أن ما بعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو ، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا إشكال فيها ، واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل إليه رسول أن عذب : ربي لو لا أرسلت إليّ رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للإرسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول ، والبحث في ذلك شهير ، والكلام فيه كثير (فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي أولئك القوم ، والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة إليهم. (الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة والسلام (قالُوا) تعنتا واقتراحا (لَوْ لا أُوتِيَ) يعنونه عليه الصلاة والسلام (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) عليه‌السلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق و (مِنْ قَبْلُ) متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه‌السلام من قبل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة. نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليه‌السلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى : (قالُوا) استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى : (سِحْرانِ) خبر لمبتدإ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران (تَظاهَرا) أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه ، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة والسلام فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك. وقوله تعالى : (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) أي بكل واحد من الكتابين (كافِرُونَ) تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرأ الأكثرون «ساحران» وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام.

وقرأ طلحة والأعمش «اظّاهرا» بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا هي في حرف عبد الله وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن ، وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء. قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح : لا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له. وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب أو جازم ، وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام

٢٩٨

وفي الشعر ، و «ساحران» خبر لمبتدإ محذوف ، وأصل الكلام أنتما ساحران تتظاهران فحذف أنتما وأدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي الخطاب ولو قرئ يظاهرا بالياء حملا على مراعاة ساحران أو على تقديرهما لكان له وجه وكأنهم خاطبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وأرادوه وموسى عليهما الصلاة والسلام بأنتما على سبيل التغليب ، هذا وتفسير الآية بما ذكر مما لا تكلف فيه ولعله هو الذي يستدعيه جزالة النظم الجليل ويقتضيه اقتضاء ظاهر قوله تعالى :

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي مما أوتياه من القرآن والتوراة (أَتَّبِعْهُ) أي إن تأتوا به أتبعه فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإلزام وإيراد كلمة (إِنْ) في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في أنهما سحران مختلقان مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم ، وقرأ زيد بن علي أتبعه بالرفع على الاستئناف أي أنا أتبعه. وقال الزمخشري : الحق الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات يعني أن المقام مقام أن يقال فلما جاءهم أي الرسول أو فلما جاءهم الرسول لكن عدل عن ذلك لإفادة تلك المعاني وما أوتي موسى بما هو أعم من الكتاب المنزل جملة واحدة واليد والعصا وغيرهما من آياته عليه‌السلام ، وتعقب بأنه لا تعلق للمعجزات من اليد ونحوها بالمقام وكذا لا تعلق لغير القرآن من معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ويرشد إلى ذلك ظاهر قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا) إلخ.

وجوز أن يكون ضميرا (جاءَهُمُ) و (قالُوا) راجعين إلى أهل مكة الموجودين وضمير (يَكْفُرُوا) وكذا ضمير (قالُوا) في الموضعين راجع إلى جنس الكفرة المعلوم من السياق والمراد بهم الكفرة الذين كانوا في عهد موسى عليه‌السلام و (مِنْ قَبْلُ) متعلق بيكفروا لا بأوتي لعدم ظهور الفائدة والمراد بسحرين أو ساحران موسى وهارون عليهما‌السلام كما روي عن مجاهد ، وإطلاق سحرين عليهما للمبالغة أو هو بتقدير ذوا سحرين ، والمعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم من قبلهم بما أوتي موسى عليه‌السلام كما كفروا هم بما أوتيته وقال أولئك الكفرة هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا ، وقيل : يجوز أن تكون الضمائر راجعة إلى الموجودين والكفر والقول المذكور لأولئك السابقين حقيقة وإسنادهما إلى الموجودين مجازي لما بين الطائفتين من الملابسة.

وقيل بناء على ما روي عن الحسن : من أنه كان للعرب أصل في أيام موسى عليه‌السلام إن المعنى أو لم يكفر آباؤهم من قبل أن يرسل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما أوتي موسى قالوا هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا فهو على أسلوب (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] ونحوه ويفيد الكلام عليه أن قدمهم في الكفر من الرسوخ بمكان ، ولهم في العناد عرق أصيل وكون العرب لهم أصل في أيام موسى عليه‌السلام مما لا شبهة فيه حتى قيل : إن فرعون كان عربيا من أولاد عاد لكن في حسن تخريج الآية على ذلك كلام ، وأنت تعلم أن كل هذه الأوجه ليست مما ينشرح له الصدر وفيها من التكلف ما فيها.

وادعى أبو حيان ظهور رجوع ضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا إلى قريش الذين قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى وأن نسبة ذلك إليهم لما أن تكذيبهم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم تكذيب لموسى عليه‌السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبتهم إياه لموسى وهارون عليهما‌السلام إذ الأنبياء عليهم‌السلام من واد واحد فمن نسب إلى أحد منهم ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميعهم فلا يحتاج إلى توسيط حكاية الرهط في أمر النسبة ، وعليه يجوز أن يراد بكل كل واحد من الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا يخفى أن ما ادعاه من ظهور رجوع الضمير إلى ما ذكر أمر مقبول عند منصفي ذوي العقول ، لكن توجيه نسبة الكفر والقول المبين لكيفيته مما ذكر مما يبعد قبوله ، وكأنه إنما احتاج إليه لعدم

٢٩٩

ثبوت حكاية الرهط عنده ، وعن قتادة أنه فسر السحران بالقرآن والإنجيل ؛ والساحران بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وجعل ذلك القول قول أعداء الله تعالى اليهود ، وتفسير الساحرين بذلك مروي عن الحسن ، وروي عنه أيضا أنه فسرهما بموسى وعيسى عليهما‌السلام والكل كما ترى ، وتفسيرهما بمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام مما رواه البخاري في تاريخه وجماعة عن ابن عباس.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ سحران ويقول هما كتابان الفرقان والتوراة ألا تراه سبحانه يقول : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما ، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمن من أمره ، كان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه.

وقيل : المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الإجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) [يوسف : ٣٤] ، وقوله سبحانه : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) [الأنبياء : ٧٦ ، ٨٤ ، ٨٨ ، ٩٠] وبنفسها كما في بيت الكتاب :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام وبحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب الله تعالى دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه ، وقوله في البيت فلم يستجبه على حذف مضاف أي فلم يستجب دعاءه انتهى ، ولو جعل ضمير يستجبه للدعاء المفهوم من داع لم يحتج إلى تقدير ، وجعل المفعول هنا محذوفا لذكر الداعي ، ووجهه على ما قيل : إنه مع ذكر الداعي والاستجابة يتعين أن المفعول الدعاء فيصير ذكره عبثا ، وجوز كون الحذف للعلم به من فعله لا لأنه ذكر الداعي ، وهذا حكم الاستجابة دون الإجابة لقوله تعالى : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [الأحقاف : ٣١] (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) استفهام إنكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفي الأضل لا لنفي المساوي كما مر في نظائره مرارا ، وقوله تعالى : (بِغَيْرِ هُدىً) في موضع الحال من فاعل اتبع ، وتقييد الاتباع بذلك لزيادة التقرير والإشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة ، وقيل : للاحتراز عما يكون فيه هدى منه تعالى فإن الإنسان قد يتبع هواه ويوافق الحق ، وفيه بحث (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم فانهمكوا في اتباع الهوى والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) الضمير لأهل مكة ، وأصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر :

فقل لبني مروان ما نال ذمتي

بحبل ضعيف لا يزال يوصل

والمعنى ولقد أنزلنا القرآن عليهم متواصلا بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة أو متتابعا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ونصائح ، وقيل : جعلناه أوصالا أي أنواعا مختلفة وعدا ووعيدا إلخ ، وقيل : المعنى وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا حتى كأنهم عاينوا الآخرة وعن الأخفش أتممنا لهم القول ، وقرأ الحسن (وَصَّلْنا) بتخفيف الصاد والتضعيف في قراءة الجمهور للتكثير ومن هنا قال الراغب في تفسير ما في الآية عليها أي أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيؤمنون بما فيه.

٣٠٠