روح المعاني - ج ١٠

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٠

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع ، وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا ، وأما تبعية غير العلم له لا سيما مع تقدم الغير فلا ، وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لا يخفى حاله ، وفي قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) [البقرة : ٢٤٣ ، وغيرها] إلخ قيل : تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه ، ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى. ثم إن الاستدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم ، وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوؤه ، وقوله تعالى : (وَاسْتَوى) أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل : واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة ، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير ، ولعل الأولى على ما قيل : أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه‌السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر :

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن

له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى

وإن جر أسباب الحياة له العمر

وفي قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ما يستأنس به لذلك ، وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل. ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيرا : ولما قوي جسمه ، واعتدل عقله (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة على ما روي عن السدي أو علما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه (وَعِلْماً) بالدين والشريعة. وفي الكشاف العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم‌السلام سنتهم. قال الله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث ، فكان عليه‌السلام لا يفعل فعلا يستجهل فيه ا ه ، ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم ، لأن استنباءه عليه‌السلام بعد وكز القبطي ، والهجرة إلى مدين ، ورجوعه منها ، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون ، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما‌السلام (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم يأبى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل ، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بيانا إجماليا لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه ، وما بعد تفصيل له ، والعطف بالواو لا يقتضي

٢٦١

الترتيب ، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما‌السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب. وقد يقال : إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها ، وهو ما فيه مزيد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم‌السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه ، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا ، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال : يجوز أن يكون المعنى آتيناه رئاسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم ، يرجعون إليه في مهامهم ، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه ، وعلما ينتفع به وينفع به غيره ، وذلك إما بمحض الإلهام ، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم‌السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه‌السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار ، ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف. وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) قال ابن عباس على ما في البحر : هي منف (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي في وقت لا يعتاد دخولها ، أو لا يتوقعونه فيه ، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة ، وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه‌السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق : هي مصر ، كان موسى عليه‌السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فاختفى وغاب ، فدخلها متنكرا. وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له ، وبعد عهدهم به. وقيل : دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم. وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين ، وقيل : المدينة عين شمس ، وقيل : قرية على فرسخين من مصر يقال لها : حابين. وقيل : هي الإسكندرية ، والأشهر أنها مصر ، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن ـ على حين ـ متعلق بدخل ، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] على قول.

وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من المدينة ، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا ا ه ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل ؛ وقيل : إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث.

و (مِنْ أَهْلِها) في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم ، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر ، وقرأ أبو طالب القارئ ـ على حين ـ بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراءات الدال في الحمد لله لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل : على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبني إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وهو كما ترى (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية : في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط ، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان

٢٦٢

بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف ، وقوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان : هو السامري (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الإتقان أيضا قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم.

وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير :

هذا ابن عمي في دمشق خليفة

لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية ، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين ، فقيل : كان أمرا دينيا ، وقيل : كان أمرا دنيويا ، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك ، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازا لفرعون (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أي فطلب غوثه ونصره إياه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ولتضمين الفعل معنى النصر عدي بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد : (اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) ، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرئ فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء ، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه ، عن سيبويه وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني ، وقول ابن عطية إنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه ، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد.

وقال أبو حيان : الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه‌السلام قد ضربه باليد ؛ وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه‌السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه‌السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور ، وفي كتب التفاسير مسطور.

وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع ، وقيل : الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع ، وقيل : الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه‌السلام : لقد هممت أنه أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه‌السلام ، وكان قد أوتي قوة فوكزه (فَقَضى عَلَيْهِ) أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه ، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر ، وقيل : هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم ، وقيل : يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي من تزيينه.

وقيل : من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو ، وقيل : ظاهر العداوة والإضلال ، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو

٢٦٣

ومضل كل يطلبه صفة له وأيا ما كان فمبين من أبان اللازم (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بوكز ترتب عليه القتل (فَاغْفِرْ لِي) ذنبي وإنما قال عليه‌السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الأنبياء عليهم‌السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها ، ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر ، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره ، والخطأ وإن كان لا يخلو عن الإثم ، ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضا بل قيل : لا يشكل أيضا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقا لجواز أن يكون عليه‌السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل ، وإنما وقع مترتبا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لا يخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم‌السلام كما في شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه‌السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعظامهم خلاف الأولى ، ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه‌السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ٢١] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه‌السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كانعليه‌السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل.

وزعم بعضهم أنه عليه‌السلام أراد بقوله : (ظَلَمْتُ نَفْسِي) إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله : (فَاغْفِرْ لِي) فاستر عليّ ذلك ، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور ، ولا يخفى ما فيه ، ويأبى عنه قوله تعالى :

(فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة (إِنَّهُ) إلخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم ، ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه‌السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول ، وأما توسيط قال في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) فوجهه ظاهر ، والباء في بما للقسم ، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل.

وقيل : لأتوبن ، وقوله تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) عطف على الجواب ، ولعل المراد بإنعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك.

وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد ، ومعرفته عليه‌السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بإلهام أو رؤيا ، والظهير المعين ، والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه‌السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للإسناد إلى السبب ، وجوز أن يراد بذلك الكفار وعنى بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم ، وقيل : أراد بالمجرمين فرعون وقومه ، والمعنى أقسم بإنعامك عليّ لأتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم ، وقد كان عليه‌السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم

٢٦٤

أنسب بالمقام ، وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف ، وجملة فلن أكون إلخ متفرعة عليه ، والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلم أكون إلخ أو إن عصمتني فلن أكون إلخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك بالله تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو والله تعالى لأقومن ، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب ، وقيل : القسم الاستعطافي ما كان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم عليّ وهو صادق على ما هنا ، وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك ، وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم ، وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف قسيم له وجعل بعضهم إطلاق القسم على الاستعطافي تجوزا ، ويبعد إرادة الاستعطاف هنا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى عليه‌السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى فابتلى به أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما في قوله تعالى : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ) إلخ لأن الاستثناء لا يناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة الله عزوجل ، وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون إلخ وما موصولة ، والمعنى بسبب الذي أنعمته عليّ من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا وهو إلزام لنفسه بنصرة أوليائه عزوجل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وإن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظر إلى السباق ، و (لن) على جميع الأوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل : إنها للدعاء (١) وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يا رب لا عذبت فلانا ، ويجوز لا عذب الله تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله :

ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال ، ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون إلخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل : في قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا) [الأنبياء : ٨٤] فليتدبر ، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم.

أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له : إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال : لمن يكتب؟ قال : لخالد بن عبد الله القسري قال : ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال : قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال : فلعلك تكتب في دم يسفك قال : لا. قال : فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال : لا. قال : فلعلك تكتب في دار تهدم قال : لا. قال : أسمعت بما قال موسى عليه‌السلام (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) قال : أبلغت إليّ يا أبا عمرو والله عزوجل لا أخط لهم بقلم أبدا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال :

__________________

(١) قوله إنها للدعاء مجيئها للدعاء مذهب جماعة منهم ابن عصفور اه منه.

٢٦٥

اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم فقال اعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه : ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا فقال لا أحب أن أعين الظلمة في شيء من أمرهم وإذا صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه ، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال : أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال : لا. أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم ، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(٢٩)

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) وقوع المكروه به (يَتَرَقَّبُ) يترصد ذلك أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه‌السلام فيما يروى قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل ، وقيل : خائفا وقوع المكروه من فرعون يترقب نصرة ربه عزوجل ، وقيل : يترقب أن يسلمه قومه ، وقيل : يترقب هداية قومه ، وقيل : خائفا من ربه عزوجل يترقب المغفرة ، والكل كما ترى ، والمتبادر على ما قيل : إن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه‌السلام

٢٦٦

وخائفا خبرها وجملة يترقب خبر بعد خبر أو حال من الضمير في خائفا وقال أبو البقاء : يترقب حال مبدلة من الحال الأولى أو تأكيد لها أو حال من الضمير في خائفا ا ه. وفيه احتمال كون أصبح تامة واحتمال كونها ناقصة ، والخبر في المدينة ولا يخفى عليك ما هو الأولى من ذلك (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) وهو الإسرائيلي الذي قتل عليه‌السلام القبطي بسببه (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيثه من قبطي آخر برفع الصوت من الصراخ وهو في الأصل الصياح ثم تجوز به عن الاستغاثة لعدم خلوها منه غالبا وشاع حتى صار حقيقة عرفية ، وقيل : معنى يستصرخه يطلب إزالة صراخه ، وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وجملة يستصرخه الخبر.

وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا والخبر إذا ، والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ ، وفي الحواشي الشهابية ان كان دخوله عليه‌السلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها ، وقد بني معها على سبيل الندرة كما في قوله :

وإني حبست اليوم والأمس قبله

إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب

(قالَ) أي موسى عليه‌السلام (لَهُ مُوسى) أي للإسرائيلي الذي يستصرخه (إِنَّكَ لَغَوِيٌ) ضال (مُبِينٌ) بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر أو لأن عادتك الجدال ، واختار هذا بعض الأجلة قال : إن الأول لا يناسب قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) إلخ لأن تذكر تسببه لما ذكر باعث الاحجام لا الاقدام. ورد بأن التذكر أمر محقق لقوله تعالى : (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) والباعث له على ما ذكر شفقته على من ظلم من قومه وغيرته لنصرة الحق ، وقيل : إن الضمير في له والخطاب في إنك للقبطي ، ودل عليه قوله : (يَسْتَصْرِخُهُ) وهو خلاف الظاهر ، ويبعده الإظهار في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) فإن الظاهر على ذاك به بدل الذي ؛ والبطش الأخذ بصولة وسطوة ، والتنوين في عدو للتفخيم أي عدو عظيم العداوة ولإرادة ذلك لم يضفه ، والمراد بالذي هو عدو لهما القبطي ، وقد كان القبط أعظم الناس عداوة لبني إسرائيل وقيل : عداوته لهما لأنه لم يكن على دينهما ، وقرأ الحسن وأبو جعفر «يبطش» بضم الطاء.

(قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قاله الإسرائيلي الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم إرادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه‌السلام إياه غويا ، وقال الحسن : قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للإسرائيلي إنك لغوي أنه الذي قتل القبطي بالأمس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما إجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك ، والذي في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما هو صريح في أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل ، وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما إسرائيلي والآخر مصري ، ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه‌السلام أن يبطش به كان ظالما لمن استصرخه فيكون عدوا له وعاصيا لله تعالى فيكون عدوا لموسى عليه‌السلام ، ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليا وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك.

وأنت تعلم أن هذه التوراة لا يلتفت إليها فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه‌السلام مخالف لما قصه الله تعالى منها هنا ، وفي سائر المواضع زيادة ونقصا وهو ظاهر لمن وقف عليها ، ولا يخفى الحكم

٢٦٧

في ذلك ، وقد خلت هنا عن ذكر مجيء مؤمن آل فرعون ونصحه لموسى عليه‌السلام وكذا عن ذكر ما يدل على قوله : (إِنْ تُرِيدُ) أي ما تريد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وهو الذي يفعل كل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ، وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى وأصله على ما قيل : النخلة الطويلة فاستعير لما ذكر إما باعتبار تعاليه المعنوي أو تعظمه.

وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال : من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار ، ثم تلا هذه الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه فهموا بقتل موسى عليه‌السلام فخرج مؤمن من آل فرعون هو ابن عم فرعون ليخبره بذلك وينصحه كما قال عزوجل :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) الآية ، واسمه قيل : شمعان ، وقيل : شمعون بن إسحاق ، وقيل : حزقيل ، وقيل : غير ذلك وكون هذا الرجل الجائي مؤمن آل فرعون هو المشهور ، وقيل : هو غيره ، ويسعى بمعنى يسرع في المشي وإنما أسرع لبعد محله ومزيد اهتمامه بإخبار موسى عليه‌السلام ونصحه ، وقيل : يسعى بمعنى يقصد وجه الله تعالى كما في قوله سبحانه : (وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩] وهو وإن كان مجازا يجوز الحمل عليه لشهرته.

والظاهر أن (مِنْ أَقْصَى) صلة (جاءَ) وجملة (يَسْعى) صفة (رَجُلٌ) ، وجوز أن يكون (مِنْ أَقْصَى) في موضع الصفة لرجل ، وجملة يسعى صفة بعد صفة.

وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من رجل ، أما إذا جعل الجار والمجرور في موضع الصفة منه فظاهر لأنه وإن كان نكرة ملحق بالمعارف فيسوغ أن يكون ذا حال ، وأما إذا كان متعلقا بجاء فمنع ذلك الجمهور وأجازه سيبويه ، وجوز أن يعلق الجار والمجرور بيسعى وهو كما ترى (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) وهم وجوه أهل دولة فرعون (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورن بسببك وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من المدينة قبل أن يظفروا بك (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) اللام للبيان كما في سقيا لك فيتعلق بمحذوف أعني ـ أعني ـ ولم يجوز الجمهور تعلقه بالناصحين لأن أل فيه اسم موصول ومعمول الصلة لا يتقدم الموصول ولا بمحذوف مقدم يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا وعند من جوز تقدم معمول الصلة إذا كان الموصول أل خاصة لكونها على صورة الحرف ، أو إذا كان المتقدم ظرفا للتوسع فيه ، أو قال إن أل هنا حرف تعريف لإرادة الثبوت يجوز أن يكون لك متعلقا بالناصحين أو بمحذوف يفسره ذلك.

واستدل القرطبي وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية (فَخَرَجَ مِنْها) أي من المدينة ممتثلا.

(خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لحوق الطالبين (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَلَمَّا تَوَجَّهَ) أي صرف وجهه (تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي ما يقابل جانبها ، وتلقاء في الأصل مصدر انتصب على الظرفية. ومدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ولم يكن في سلطان فرعون ولذا توجه لقريته ، وقيل توجه إليها لمعرفته به ، وقيل لقرابته منه عليهما‌السلام ، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان.

(قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق المؤدّي إلى النجاة ، وإنما قال عليه‌السلام ذلك توكلا على الله تعالى وثقة بحسن توفيقه عزوجل ، وكان عليه‌السلام لا يعرف الطرق فعن ثلاث طرائق فأخذ في الوسطى وأخذ طالبوه في الأخريين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها فبقي ثماني ليال وهو

٢٦٨

حاف لا يطعم إلا ورق الشجر وعن سعيد بن جبير أنه عليه‌السلام لم يصل حتى سقط خف قدميه ، وروي أنه عليه‌السلام أخذ يمشي من غير معرفة فهداه جبريل عليه‌السلام إلى مدين ، وعن السدي أنه عليه‌السلام أخذ في بنيات الطريق فجاءه ملك على فرس بيده عنزة فلما رآه موسى عليه‌السلام سجد له أي خضع من الفرق ، فقال : لا تسجد لي ولكن اتبعني فتبعه وانطلق حتى انتهى به إلى مدين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي وصل إليه وورد. الورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مرادا والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها ، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي فوق شفيره ومستقاه (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف ، ويشعر بالقيد الأول التنوين ، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره ، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر (يَسْقُونَ) الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلا ومنهم من كان يسقي غنما وهكذا ، وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي في مكان أسفل من مكانهم ، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال : المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة (امْرَأَتَيْنِ) اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا ، واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء ، وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء (تَذُودانِ) كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره ، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكي ذلك عن الزجاج ، وقال قتادة : تمنعان الناس عن غنمهما ، وقال الفراء : تحبسان غنمهما عن أن تتفرق ، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنما ، والظاهر أن ذلك عن توقيف ، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى (قالَ ما خَطْبُكُما) أي ما مخطوبكما ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟. وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول. وفي سؤاله عليه‌السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني.

وقرأ شمر «ما خطبكما» بكسر الخاء ، قال في البحر : أي من زوجكما؟. ولم لا يسقي هو؟. وهذه قراءة شاذة نادرة اه. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم : الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة ، ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف «لا نسقي» بضم النون من الاسقاء ، وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والحسن وقتادة ، والعربيان : ابن عامر ، وأبو عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم. وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب ، وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرئ بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي ، وقرئ الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور ، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ ، وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر ، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى ، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية ، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله :

٢٦٩

ما سمعنا كلما غير ثمان

هي جمع وهي في الوزن فعال (١)

فرباب وفرار وتؤام

وعرام وعراق ورخال وظؤار (٢)

جمع ظئر وبساط ، جمع بسط هكذا فيما يقال.

وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضا قال : لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس ، وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) إبداء منهما للعذر له عليه‌السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا : إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء ، وذكر بعضهم أنه عليه‌السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدا لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك ، وقيل : ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه ، ولعل الأولى أن يقال : إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء ، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير إليه لمن له قلب ، ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر ، وجوز أن تكون حالا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه‌السلام.

فإن قيل كيف ساغ لنبي الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم؟ فالجواب : أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة ، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه‌السلام فاخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه‌السلام أثرون ابن أخي شعيب النبي عليه‌السلام ، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضا إلا أنه ذكر هارون بدل أثرون وحكاه أيضا عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان ، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الامرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه‌السلام يثرب صاحب مدين ، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيبعليه‌السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن

__________________

(١) الرباب جمع ربي الشاة الحديثة العهد بالنتاج. والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية ، والتؤام جمع توأم المولود مع قرينه. والعرام بالعين والراء المهملتين بمعنى العراق وهو جمع عرق العظم الذي عليه بقية لحم. والرخال جمع رخلة بالكسر وبهاء ، وككتف الأنثى من أولاد الضأن ا ه منه.

(٢) والظؤار جمع ظئر المرضع ، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها ا ه منه.

٢٧٠

أخيه ويحتمل أنه رجل أجنبي عنه فقد قيل : إن أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه‌السلام وإنما هو رجل صالح ، وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضا إلا أنه قال هو عندنا يثرو بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاني من توراتهم ما ترجمته ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لإمام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطردوهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن إلى رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم إلخ ، وفي أول الفصل الثالث منه ما ترجمته وكان موسى يرعى غنم يثرو حمية أمام مدين إلخ فلا تغفل ، وفي البحر عند الكلام في تفسير (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) قيل : كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان بمثابته والظاهر أن هذا القائل يقول : إنهما عنتا بالأب هنا العم ، وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيما بينها وكأني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه‌السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه والظاهر من قوله تعالى : (فَسَقى لَهُما) أنه عليه‌السلام سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الأمة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون وتذودان للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال : إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إذ لو قيل : أو قدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الأخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الأفعال المذكورة في هذه الآية ، واختاره العلامة الثاني فقال : إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين : إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة إليه هو الإبل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الإضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما إلخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف إليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس إلا مطلق الإبل والغنم فلو قدر المفعول لأدّى إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلا لهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي ، والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما والمواشي المضافة إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرا وأصح معنى انتهى ، وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوتي بقوله : وفيه بحث لأن عدم التقدير إن قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر ، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى ، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض

٢٧١

الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين وتحقق طبيعة الذود من امرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم.

وقال بعض الأجلة : ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه‌السلام وما زاد على المقصود لكنة وفضول ، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه‌السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع ، وقولهما : (لا نَسْقِي) إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص ، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه‌السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها ، وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره ، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض ، ثم قال : وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما ، وقال بقولهما غير واحد.

واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون ، والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما ، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام ، والله تعالى أعلم ، هذا والظاهر أنه عليه‌السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما روي أنه عليه‌السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إن موسى عليه‌السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثناه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه‌السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورود فإنه يقال : لما ورد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه‌السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثناه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر.

وقيل : إنه عليه‌السلام سقى لهما من بئر أخرى ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه‌السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال : فهل قربكما ماء؟ قالتا : لا إلا بئر عليها

٢٧٢

صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر. قال : فانطلقا فأريانيها. فانطلقا معه فقال بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل : كانت سمرة ، وقيل : هو ظل جدار لا سقف له.

وقيل : إنه عليه‌السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس ، وهو المراد بقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) وهو كما ترى (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إليّ.

(مِنْ خَيْرٍ) جل أو قل (فَقِيرٌ) أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما ، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام ، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا ، و (ما) على جميع الأوجه نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، والرابط محذوف ، ومن خير بيان لها ، والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع ؛ والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب ، وتأكيد الجملة للاعتناء ، ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما سقى موسى عليه‌السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر».

وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : «لقد قال موسى عليه‌السلام رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع» وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه‌السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه‌السلام قد ورد ماء مدين» وأنه كما روى أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضا لذلك ذهب مجاهد ؛ وابن جبير ، وأكثر المفسرين ؛ وكان علي كرّم الله تعالى وجهه يقول : والله ما سأل إلا خبزا يأكله ، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم ، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه‌السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك ، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.

وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور ، ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه‌السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد. وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما : انطلقي فادعيه (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) قيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار. وقرأ ابن محيصن «حداهما» بحذف الهمزة تخفيفا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه (تَمْشِي) حال من فاعل جاءت. وقوله تعالى : (عَلَى اسْتِحْياءٍ) متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنها كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط ، وتنكير استحياء للتفخيم. ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها (قالَتْ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه‌السلام كأنه قيل : فما ذا قالت له عليه‌السلام؟ فقيل قالت :

٢٧٣

(إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة. وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى. روي أنه عليه‌السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت. وفي رواية أن قال لها كوني ورائي فإني رجل لا انظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا ، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه‌السلام.

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص ، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يريد فرعون وقومه ، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه ، ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه ، واختلف في الداعي له عليه‌السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه‌السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر ، ألا ترى إلى ما أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب عليهما‌السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب : كل. قال موسى. أعوذ بالله تعالى. قال : ولم ألست بجائع؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال : لا والله ، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه‌السلام فأكل ، وقيل : الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه‌السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة.

فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد ، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه‌السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه‌السلام رفع صوته بقوله : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ليسمعهما ، ولذلك قيل له ليجزيك إلخ ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر ، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه‌السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته ، ولا أقول إن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها ، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه‌السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء ، وعمله عليه‌السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية ، ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى إذا كان كذلك ، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع (قالَتْ إِحْداهُما) وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما‌السلام (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها ، وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالأجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا. وكذا في قوله سبحانه : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه‌السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره ، وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب ، وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك ، وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل اسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها. وفي الكشاف فإن قيل : كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا؟ قلت : هو مثل قوله :

٢٧٤

ألا إن خير الناس حيّا وهالكا

أسير ثقيف عندهم في السلاسل

في أن العناية هي سبب التقديم وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق أن يكون خبرا اسما وأراد بذلك على ما قيل : أحقية كون خير خبرا من حيث الصناعة ، ووجه بأن خيرا مضاف إلى من وهي نكرة فكذا هو والإخبار عن النكرة بالمعرفة خلاف الظاهر ، وإن جوزوه في اسمي التفضيل والاستفهام ، ولو جعلت موصولة فإضافة أفعل التفضيل لفظية لا تفيد تعريفا كما هو أحد قولين للنحاة فيها ، وعلى القول بإفادتها التعريف يقال : المعرف باللام أعرف من الموصول وما أضيف إليه. وتعقب بأن تعريف القوي الأمين للجنس وما فيه تعريف الجنس قد ينزل منزلة النكرة ، وأجيب بأن الموصول إذا أريد به الجنس كذلك وهنا تصح هذه الإرادة ليجيء التعدد الذي يقتضيه خير ، وحيث كان المضاف إلى شيء دونه يكون القوي الأمين أحق بالاسمية وخير أحق بالخبرية. وإذ قلت بأن أحقية الخبرية لأن سوق التعليل يقتضيها إلا أنه عدل إلى الاسمية للاهتمام خلصت من كثير من المناقشات. وقال لي الشيخ خليل أفندي الآمدي يوم اجتمعت به وأنا شاب عند وروده إلى بغداد فجرى بحث في هذه الآية الكريمة : إن القياس المأخوذ منها من الشكل الثاني هكذا موسى القوي الأمين وخير من استأجرت القوي الأمين ينتج موسى خير من استأجرت. فقلت : أظهر ما يرد على هذا أن شرط إنتاج الشكل الثاني بحسب الكيفية اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وهو منتف فيما ذكرت فسكت وأعرض عن البحث حذرا من الفضيحة.

وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها ، وما ذكر من أن جعل خير اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد ، وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة ، والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه‌السلام وهو وجه الاستدلال. وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه‌السلام فكأنها قالت : إن خير من استأجرت موسى ، والأول أولى. ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول : استأجره لقوته وأمانته ، ولعمري إن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه ، ومعرفتها قوته عليه‌السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما ، ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها. وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها : ما أعلمك بقوته؟ فذكرت له أنه عليه‌السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ؛ والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثره مائة ، وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال ، وذكرت أنه نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلا أربعون. وقال : ما أعلمك بأمانته؟ فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة ، وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه‌السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الأمانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم ، واستدل بقولها استأجره على مشروعية الإجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والأصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا ما انعقد عليه الإجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت إليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لا يجيزان الإجارة مطلقا ، ورأيت في الإكليل أن في قوله تعالى : (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) إلخ رد على من منع الإجارة المتعلقة

٢٧٥

بالحيوان عشر سنين لأنه يتغير غالبا فلعل الإجارة التي لا يجيزانها نحو هذه الإجارة والأمر في ذلك أهون من عدم إجارة الإجارة مطلقا كما لا يخفى.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) استئناف بياني كأنه قيل : فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها؟ فقيل : قال إني. وفي تأكيد الجملة إظهار لمزيد الرغبة فيما تضمنته الجملة ، وفي قوله : (هاتَيْنِ) إيماء إلى أنه كانت له بنات أخر غيرهما ، وقد أخرج ابن المنذر عن مجاهد أن لهما أربع أخوات صغار ، وقال البقاعي : إن له سبع بنات كما في التوراة وقد قدمنا نقل ذلك. وفي الكشاف فيه دليل على ذلك.

واعترض بأنه لا دلالة فيه على ما ذكر إذ يكفي في الحاجة إلى الإشارة عدم علم المخاطب بأنه ما كانت له غيرهما. وتعقب بأنه على هذا تكفي الإضافة العهدية ولا يحتاج إلى الإشارة فهذا يقتضي أن يكون للمخاطب علم بغيرهما معهود عنده أيضا ، وإنما الإشارة لدفع إرادة غيرهما من ابنتيه الأخريين المعلومتين له من بينهن ؛ ونعم ما قال الخفاجي لا وجه للمشاحة في ذلك فإن مثله زهرة لا يحتمل الفرك.

وقرأ ورش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو «أنكحك احدى» بحذف الهمزة ، وقوله تعالى : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) في موضع الحال من مفعول (أُنْكِحَكَ) أي مشروطا عليك أو واجبا أو نحو ذلك ، ويجوز أن يكون حالا من فاعله قاله أبو البقاء ، وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا ، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى مفعول واحد ، وقوله تعالى : (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف له ، ويجوز أن يكون تأجرني بمعنى تثيبني من أجره الله تعالى على ما فعل أي أثابه فيتعدى إلى اثنين ثانيهما هنا ثماني حجج. والكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي تثيبني رعية ثماني حجج أي تجعلها ثوابي وأجري على الإنكاح ويعني بذلك المهر.

وجوز على هذا المعنى أن يكون ظرفا لتأجرني أيضا بحذف المفعول أي تعوضني خدمتك أو عملك في ثماني حجج ، ونقل عن المبرد أنه يقال : أجرت داري ومملوكي غير ممدود وآجرت ممدودا ، والأول أكثر فعلى هذا يتعدى إلى مفعولين ، والمفعول الثاني محذوف ، والمعنى على أن تأجرني نفسك ، وقد يتعدى إلى واحد بنفسه ، والثاني بمن فيقال : أجرت الدار من عمرو ، وظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق بين آجر بالمد وأجر بدونه ، وقال الراغب : يقال أجرت زيدا إذا اعتبر فعل أحدهما ، ويقال : آجرته إذا اعتبر فعلاهما وكلاهما يرجعان إلى معنى ، ويقال كما في القاموس أجرته أجرا وآجرته إيجارا ومؤاجرة.

وفي تحفة المحتاج آجره بالمد إيجارا وبالقصر يأجره بكسر الجيم وضمها أجرا ، وفيها أن الإجارة بتثليث الهمزة والكسر أفصح لغة اسم للأجرة ثم اشتهرت في العقد ، والحجج جمع حجة بالكسر السنة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) في الخدمة والعمل (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فهو من عندك من طريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام إتمام العشر والمناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال ، واشتقاق المشقة وهي ما يصعب تحمله من الشق بفتح الشين وهو فصل الشيء إلى شقين فإن ما يصعب عليك يشق عليك رأيك في أمره لتردده في تحمله وعدمه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراد شعيب عليه‌السلام بالاستثناء التبرك به وتفويض أمره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته سبحانه بمعنى أنه إن شاء الله تعالى استعمل الصلاح وإن شاء عزوجل استعمل خلافه لأنه لا يناسب المقام.

وقيل : لأن صلاحه عليه‌السلام متحقق فلا معنى للتعليق ، ونحوه قول الشافعي : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى

٢٧٦

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) مبتدأ وخبر أي ذلك الذي قلت وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك ، وقوله سبحانه : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أي أطولهما أو أقصرهما (قَضَيْتُ) أي وفيتك بأداء الخدمة فيه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) تصريح بالمراد وتقرير لأمر الخيار أي لا عدوان كائن عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين وتعميم انتفاء العدوان بكلا الأجلين بصدد المشارطة مع تحقق عدم العدوان في أطولهما رأسا للقصد إلى التسوية بينهما في الانتفاء أي كما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو أيما الأجلين قضيت فلا إثم كائن عليّ كما لا إثم عليّ في قضاء الأطول لا إثم عليّ في قضاء الأقصر فقط.

وقرأ عبد الله «أي الأجلين ما قضيت» فما مزيدة لتأكيد القضاء أي أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له كما أنها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد إبهام أي وشياعها ، وجعلها نافية لا يخفى ما فيه ؛ وقرأ الحسن ، والعباس عن أبي عمرو «أيما» بتسكين الياء من غير تشديد كما في قول الفرزدق :

تنظرت نصرا والسماكين أيهما

عليّ من الغيث استهلت مواطره

وأصلها المشددة وحذفت الياء تخفيفا وهي مما عينه واو ولامه ياء ، ونص ابن جني على أنها من باب أويت قياسا واشتقاقا وقد نقل كلامه في بيان ذلك العلامة الطيبي في شرح الكشاف فليرجع إليه من شاء.

وقرأ أبو حيوة وابن قطيب «فلا عدوان» بكسر العين (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من الشروط الجارية بيننا (وَكِيلٌ) أي شهيد على ما روي عن ابن عباس ، وقال قتادة : حفيظ ، وفي البحر الوكيل الذي وكل إليه الأمر ولما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى ومن هنا قيل : أي شاهد حفيظ ، والمراد توثيق العهد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلا ، وهذا بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه إجمالا من غير تعرض لبيان مواجب عقدي النكاح والإجارة في تلك الشريعة تفصيلا ، وقول شعيب عليه‌السلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) إلخ ظاهر في أنه عرض لرأيه على موسى عليه‌السلام واستدعاء منه للعقد لا إنشاء وتحقيق له بالفعل ، ولم يجزم القائلون باتفاق الشريعتين في ذلك بكيفية ما وقع ، فقيل لعل النكاح جرى على معينة بمهر غير الخدمة المذكورة وهي إنما ذكرت على طريق المعاهدة لا المعاقدة فكأنه قال : أريد أن أنكحك إحدى ابنتي بمهر معين إذا أجرتني ثماني حجج بأجرة معلومة فما تقول في ذلك فرضي فعقد له على معينة منهما ، فلا يرد أن الإبهام في المرأة المزوجة غير صحيح ، وعلى الخدمة ومنافع الحر عندنا أيضا خصوصا إذا قيل : إن مدتها غير معينة وهي أيضا ليست للزوجة بل لأبيها فكيف صح كونها مهرا ، وقيل : يجوز أن يكون جرى على معينة بمهر الخدمة المذكورة ولا فساد في جعل الرعية مهرا فإنه جائز عند الشافعي عليه الرحمة وكذا عند الحنفية كما يفهم من الهداية ونقل عن صاحب المدارك أنه قال : التزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه قيام بأمر الزوجية لا خدمة صرفة ، وفي دعوى الإجماع ظن أريد به إجماع الأئمة مطلقا بحث ، ففي المحيط البرهاني لو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز في الرعي ، وفي الانتصاف مذهب مالك في ذلك على ثلاثة أقوال المنع والكراهة والجواز ، ويقال على الجواز كانت الغنم للمزوجة لا لأبيها وليس في المدة إبهام إذ هي الحجج الثمان والزائدة قد وعد موسى عليه‌السلام الوفاء به إن تيسر له على أن الإبهام في المهر يجوز كما هو مبين في الفروع ، وقال بعضهم : يجوز أن تكون الشرائع مختلفة في أمر الإنكاح فلعل إنكاح المبهمة جائز في شريعة شعيب عليه‌السلام ويكون التعيين للولي أو للزوج ، وكذا جعل خدمة الولي صداقا ونحو ذلك مما لا يجوز في شريعتنا.

٢٧٧

ولا يرد أن ما قص من الشرائع السالفة من غير إنكار فهو شرع لنا لأنه على الإطلاق غير مسلم. وفي الإكليل عن مكي أنه قال : في الآية خصائص في النكاح. منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حد أول المدة ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينفذ شيئا. والذي يميل إليه القلب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح وربما يستأنس له بما في الفصل التاسع والعشرين من السفر الأول من التوراة أن يعقوب عليه‌السلام مضى إلى بلد أهل الشرق فإذا بئر في الصحراء على فمها صخرة عظيمة وعندها ثلاثة قطعان من الغنم فقال لرعاتها : من أين أنتم يا إخوة؟ قالوا من حران. فقال لهم : أتعرفون لابان بن ناحور؟ فقالوا : نعم. فقال : أحي هو؟ قالوا : نعم وهذه راحيل ابنته مع الغنم. ثم قال : ليس هذا وقت انضمام الماشية فاسقوا الغنم وامضوا بها فارعوها. قالوا : لا نطيق ذلك إلى أن تجتمع الرعاة ويدحرجوا الصخرة عن فم البئر فبينما هو يخاطبهم جاءت راحيل مع غنم أبيها فلما رأى ذلك تقدم ودحرج الصخرة وسقى غنم خاله لابان ثم قبل راحيل وبكى وأخبرها أنه ابن عمتها ربقا فأخبرت أباها فخرج للقائه فعانقه وقبله وأدخله إلى منزله ثم قال لابان له : أما أنت فعظمي ولحمي ومكث عنده شهرا فقال له لابان : أنت وإن كنت ذا قرابة مني لا أستحسن أن تخدمني مجانا فأخبرني بما تريد من الأجرة؟ وكان له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وعينا ليا حسنتان وراحيل حسنة الحلية والمنظر فأحبها يعقوب فقال : أخدمك سبع سنين براحيل فقال : لابان : إعطائي إياها لك أصلح من إعطائي إياها لرجل آخر فأقم عندي فخدمه براحيل سبع سنين ثم قال : أعطني زوجتي فقد كملت أيامي فجمع لابان أهل الموضع وصنع لهم مجلسا فلما كان العشاء أخذ ليا بنته فزفها إليه ودخل عليها فأعطاها لابان أمته زلفا لتكون لها أمة فلما كانت الغداة فإذا هي ليا فقال للابان : ما ذا صنعت بي أليس براحيل خدمتك؟ قال : نعم لكن لا تزوج الصغرى قبل الكبرى في بلدنا فأكمل أسبوع هذه وأعطيك أختها راحيل أيضا بالخدمة التي تخدمها عندي سبع سنين أخر فكمل يعقوب أسبوع ليا ثم أعطاه ابنته راحيل زوجة وأعطاها أمته بلها لتكون لها أمة ، فلما دخل عليها يعقوب أحبها أكثر من حبه ليا ثم خدمه سبع سنين أخر ا ه.

وأخبرني بعض أهل الكتاب أنه يجوز أن تكون خدمة الأب مهرا لابنته ويلزم الأب إرضاؤها بشيء إذا كانت كبيرة وأن ما التزم من الخدمة لا يجب فعله قبل الدخول ويكفي الالتزام والتعهد ، وأن المهر عندهم كل شيء له قيمة أو ما في حكمها ، وأن تسليم المرأة نفسها للزوج راضية بما يحصل لها منه من قضاء الوطر والانتفاع بدلا عن المهر قد يقوم مقام المهر ، وأن حل الجمع بين الأختين كان ليعقوب عليه‌السلام خاصة ، وهذا الأخير مما ذكره علماء الإسلام والله تعالى أعلم بصحة غيره مما ذكر من الكلام ، هذا وللعلماء في الآية استدلالات. قال في الإكليل : فيها استحباب عرض الرجل مولاته على أهل الخير والفضل أن ينكحوها ، واعتبار الولي في النكاح ، وأن العمى لا يقدح في الولاية فإنه عليه‌السلام كان أعمى ، واعتبار الإيجاب والقبول في النكاح وقال ابن الغرس : استدل مالك بهذه الآية على إنكاح الأب البكر البالغة بغير استئمار لأنه لم يذكر فيها استئمار. قال : واحتج بعضهم على جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها خلافا لمن اختار أنكحها إياه قائلا لأنه إنما يملك النكاح عليها لا عليه. وقال ابن العربي : استدل بها أصحاب الشافعي على أن النكاح موقوف على لفظ الإنكاح والتزويج. قال : واستدل بها قوم على جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة فعدوه إلى كل صفقة تجمع عقدين وقالوا بصحتها. قال : واستدل بها علماؤنا على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة فإن موسى عليه‌السلام لم يكن حينئذ موسرا. قال : وفي قوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) اكتفاء بشهادة الله عزوجل إذ لم يشهد أحدا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح ا ه. واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بألف نقدا أو ألفين نسيئة ا ه ما في الإكليل مع حذف قليل.

٢٧٨

ولا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المقالات والمنازعات. ثم إن ما تقدم عن مكي من أنه عليه‌السلام دخل ولم ينفذ شيئا مما قاله غيره أيضا. وقد روي أيضا من طريق الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل : إنه عليه‌السلام لم يدخل حتى أتم الأجل ، وجاء في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما‌السلام : ادخل ذلك البيت فخذ عصا من العصي التي فيه وكان عنده عصي الأنبياء عليهم‌السلام فدخل وأخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء عليهم‌السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فقال له شعيب : خذ غير هذه فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا ، وعن عكرمة أنه قال. خرج آدم عليه‌السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه‌السلام بعد موته وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه. وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه‌السلام لما توجه تلقاء مدين. وقال السدي : كانت تلك العصا قد أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع : فأتاهما الملك فقال ألقياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه‌السلام. وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا ، وعن الكلبي الشجرة التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه.

وروي أنه لما شرع عليه‌السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم ، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه‌السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه‌السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال ، وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام في المنام أن ألق عصاك في الماء الذي تسقي منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها ، وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعا «أنه عليه‌السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غزور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لا يدرك الكف» وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه‌السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما‌السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه‌السلام؟ فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل ، وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال : لا أدري حتى أسأل رسول الله صلّى الله تعالى

٢٧٩

عليه وسلم فسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : لا أدري حتى أسأل جبريل عليه‌السلام فسأل جبريل فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه‌السلام فسأل ميكائيل فقال : لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال : لا أدري حتى أسأل إسرافيل عليه‌السلام فسأل إسرافيل فقال : لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الأشد يا ذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال : «أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين» قال علي بن عاصم : فكان أبو هارون إذا حدث بهذا الحديث يقول : حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى «أن موسى قضى أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين» والفاء قيل : فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل (وَسارَ بِأَهْلِهِ) قيل: نحو مصر بإذن من شعيب عليه‌السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه‌السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجناية وغلبة ظنه خفاء أمره ، وقيل : سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال.

(آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر ، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار ، وقال الزمخشري : هو الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم ، وقيل : هو إبصار ما يؤنس به ، (ناراً) استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارا لاعتقاد موسى عليه‌السلام ، وقال بعض العارفين : كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه‌السلام ظنه النار المعروفة (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه‌السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع ، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جيرشوم واسم الأصغر اليعازر ولدا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه‌السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه ، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه‌السلام مكث بعد ذلك سنين ، وقد قيل به ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى ، وعن وهب أنه عليه‌السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار ، وفي البحر أنه عليه‌السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لا يعرف طرقها فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وقيل : كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق ، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر (أَوْ جَذْوَةٍ) أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله :

وألقى على قيس من النار جذوة

شديدا عليها حرها والتهابها

أو لم تكن كما في قوله :

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها

جزل الجذا غير خوار ولا دعر

ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى : (مِنَ النَّارِ) وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النار بها استحالت نارا ، وقال الراغب : الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب ، وفي معناه قول أبي حيان : عود فيه نار بلا لهب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : هي عود من حطب فيه النار.

٢٨٠